علاء الدين الخطيب
“ماذا يريدون منا؟” “لماذا هذا الصراع في سوريا؟” أسئلة كثيرة ضمن هذا المنحى طرحها السوريون، وشاركهم فيها كثير من شعوب العالم الذين تابعوا ما حصل في سوريا خلال السنين الثماني الماضية. الأجوبة كانت متقاربة أحياناً، ومتناقضة أحياناً، بحسب منطلق المجيب ومرجعيته.
ستحاول هذه الورقة الإجابة عن هذا السؤال، من خلال تحليل الحقائق في عمقها وليس بحسب شكلها، أي ليس بحسب ما يقوله السياسيون أو الإعلام، وبناء نظرية متسقة مع ذاتها ومع ما حصل في سوريا والمنطقة والعالم، فأي جواب يهمل التغيرات العالمية الضخمة التي حصلت خلال العقود الماضية، لن يصل إلى الجواب الصحيح ضمن عالم أصبح قرية عالمية بكل معنى الكلمة؛ ثم بالاعتماد على تحليل تلك الأسباب تنتقل الورقة إلى الإجابة عن السؤال الثاني “هل انتهى الصراع الدولي فوق سوريا؟”.
محركات الصراع الدولي وطبيعته في القرن 21
لقد شهد العالم تغيرات ضخمة منذ تسعينات القرن الماضي، تتجاوز سقوط الكتلة السوفياتية الشيوعية بوصفها قطباً عالمياً متصارعاً مع القطب الغربي الرأسمالي؛ فالثورة العلمية التقنية وثورة الاتصالات وثورة حركة الأموال والتجارة في ما بين الدول، غيرت طبيعة الصراع البشري وأدواته واتجاهاته؛ وربما تكون من حيث التأثير والتغيير الذي أحدثته عالمياً، توازي اكتشاف النار واختراع الكتابة والثورة الصناعية.
يمكن ملاحظة التغيير في طبيعة الصراع من خلال تغيرات عدة:
التغير الأول[1] والأهم هو تغير طبيعة السوق العالمية، من سوق مرسومة وفق حدود الدول والتحالفات الاقتصادية والسياسية، إلى سوق تتجاوز الحدود وأحياناً سيادة الدول. فقد سارعت الولايات المتحدة والدول الغربية بعد سقوط السوفيات مباشرة إلى تأسيس منظمة التجارة العالمية، التي تهدف بشكل رئيسي إلى فتح الحدود أمام المال والتجارة وفق قواعد حددها المعسكر الغربي؛ مما ضمنته منظمة التجارة العالمية أن عصر المضاربات الاقتصادية انتهى، ولا عودة إلى نمط العلاقات المتعسكرة الذي ساد بين حلف وارسو وحلف الناتو، يتجلى ذلك من خلال مؤشرات عدة منها: تضاعفت الاستثمارات الأجنبية المباشرة[2] الواردة السنوية عالمياً بحوالى 50 مرة ما بين عامي 1980 و2016، من 51 إلى 2449 مليار دولار[3] خلال هذه المدّة، هذه الزيادة ليست فقط في القيمة المطلقة للاستثمارات[4] بل أيضا مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، فقد ارتفعت نسبة هذه الاستثمارات من 0.5 في المئة إلى 2.4 في المئة من الناتج العالمي الإجمالي خلال المدة نفسها. كذلك ارتفع مجمل التجارة العالمية ما بين عامي 1980 و2017 من 2790 إلى 27000 مليار دولار، أي تضاعف سبع مرات، بالتوازي مع ذلك فإن الناتج الإجمالي العالمي تضاعف أيضاً بأكثر من 7 مرات خلال المدّة نفسها. قد يكون من المفاجئ لكثيرين أن المصروفات العسكرية عالمياً لم تتزايد بالمقدار نفسه الذي تزايدت به المؤشرات السابقة، فالمصروفات العسكرية الإجمالية ازدادت فقط أربع مرات ونصف خلال هذه المدّة نفسها[5].
التغير الثاني وهو الصعود الهائل لبعض الدول التي توصف بالصاعدة اقتصادياً وعلى رأسها الصين، فبعد أن كانت الصين تحظى بحوالى 2 في المئة من مجمل الاستثمارات في نهاية الثمانينات[6]، وتصدِّر فقط حوالى 1 في المئة من المجمل العالمي، مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تستحوذ على حوالى 25 في المئة من الاستثمارات وتسيطر على 13 في المئة من الصادرات العالمية خلال المدّة نفسها؛ ارتفعت حصة الصين إلى حوالى 9 في المئة من الاستثمارات وإلى 10 في المئة من التصدير العالمي، بينما انخفضت حصة الولايات المتحدة إلى 18 في المئة من الاستثمارات، وبقيت حصتها من التصدير العالمي تتأرجح حول نسبة 12 في المئة. هذا التطور الاقتصادي كان أيضاً من نصيب دول عدة مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وماليزيا وتركيا وفيتنام.
من ناحية ثانية أطلقت الصين متحالفةً مع الاقتصادات العالمية الصاعدة أكبر مشروعين يهددان السيطرة الغربية: الأول هو مشروع “حزام واحد، طريق واحد One Belt and One Road ” الذي سيربط الصين بوسط آسيا وصولاً إلى أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا الذي تصل تكلفته التقديرية إلى 900 مليار دولار[7]، وهو من ثم سيكون أكبر استثمار شهده العالم عبر التاريخ في مشروع واحد. الثاني هو بنك آسيا للاستثمار في البنية التحتية Asian Infrastructure Investment Bank الذي من خلاله ستحاول الصين الوقوف أمام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي اللذين تسيطر عليهما الولايات المتحدة والدول الغربية. على الرغم من ذلك فإن حجم التبادل التجاري الصيني الأمريكي هو أكبر حجم تبادل تجاري بين دولتين في العالم، وكذلك حجم الاستثمارات المتبادلة.
التغير الثالث هو تنوع المصادر، والمقصود أنه لم يعد ممكناً لدولة أو إقليم احتكار إنتاج المصادر الطبيعية الأساسية. فمثلا من المعروف والثابت أن مصادر الطاقة، بالذات النفط والغاز الطبيعي، كانت حتى الثمانينيات من أهم مسببات الصراعات الدولية لأنهما يشكلان شرايين الإنتاج الاقتصادي في العالم كله، فالسيطرة على مصادرهما بشكل مباشر أو غير مباشر من ضرورات الأمن القومي للدول كلها، كما أعلن جيمي كارتر في ما يعرف باسم شريعة كارتر في السبعينيات التي أكدها جورج بوش الأب في حرب تحرير الكويت عام 1991. لكن مع التطور التقني وارتفاع أسعار النفط ازدادت الاحتياطات العالمية المؤكدة من النفط ما بين 1980 و2016 من 683 إلى 1707 مليار[8] برميل نفط، ومن دون احتساب دول الشرق الأوسط من 321 إلى 893 مليار برميل نفط، أي تضاعف الاحتياطي العالمي المؤكد مرتين ونصف تقريباً. ضمن المدّة نفسها ارتفع الاحتياطي العالمي المؤكد من الغاز الطبيعي من 72 إلى 187 تريليون[9] متر مكعب، ومن دون احتساب دول الشرق الأوسط من 47 إلى 107 تريليون متر مكعب[10] أي تضاعف مرتين ونصف. إذاً على الرغم من أن الشرق الأوسط ما زال صاحب أكبر حصة بين مناطق العالم، لكن هذه الزيادة الكبيرة في الاحتياطي العالمي المؤكد منحت سوق الطاقة مرونة أكبر، من حيث توزع المصادر. هذا لا يعني أن الشرق الأوسط فقد أهميته بوصفه أكبر مصدر للنفط والغاز الطبيعي، لكن يؤكد أن الشرق الأوسط بمنابعه النفطية والغازية لم يعد يستطيع تجميد حركة الاقتصاد العالمي كما كان الحال حتى ثمانينيات القرن الماضي.
من نتائج هذه التغييرات العالمية، ونظراً إلى جمود السلطة السياسية، تراجعت أهمية منطقة الشرق الأوسط نسبياً، فمجمل النمو الاقتصادي من حيث الناتج الإجمالي المحلي وحركة الاستيراد والتصدير بقيت تتأرجح حول المتوسط العالمي، وهذا نمو ضعيف مقارنة بالدول الصاعدة اقتصادياً التي انتقلت لتصبح من أقطاب السوق العالمية: فالصادرات من الدول العربية تضاعفت تقريبا 3 مرات ما بين عامي 1990 و2017، لكنها تضاعفت 44 مرة في الصين، و22 مرة في الهند، و7 مرات في البرازيل، و9 مرات في سنغافورة، و10 مرات في تركيا. أما مجموع الاستثمارات ما بين عامي 2000 و2017 في الدول العربية فهي تمثل فقط 2.4 في المئة من المجمل العالمي، بينما تحوز البرازيل على 2.9 في المئة، والصين على 8.9 في المئة، وسنغافورة على 2.2 في المئة، وتركيا على 0.6 في المئة[11].
الصراع فوق سوريا
إنه صراع فوق سوريا وليس على سوريا، بمعنى أن الصراع الدولي فوق سوريا ليس بسبب ما تملكه سوريا من موارد طبيعية أو سكانية، مثلما يمكن القول حول الصراع على العراق إبان حربي الخليج. الصراع يعود بأسبابه الأولى إلى موقع سوريا الجغرافي وسياسة الطاغية الأسد الأب وابنه اللذين مَرْكَزا سوريا بوصفها حليفاً استراتيجياً للنظام الإيراني والروسي. وبما أن النظام الإيراني هو حليف الضرورة الاستراتيجي للصين وروسيا في وسط آسيا، فيوم تصادمت المصالح الإيرانية مع المصالح السعودية والقطرية في سوريا، واختارت تركيا صف الدول الخليجية، تضخم الصراع لتتورط فيه الدول الكبرى وبخاصة روسيا والصين لحفظ التوازن ما بين وسط آسيا والشرق الأوسط، وكان الدور الإداري المراقب الأمريكي قائماً في الأوقات كلها، فتحولت سوريا إلى ساحة لأكبر صراع شهده بلد بحجم سوريا خلال القرن الماضي.
المصالح الإيرانية
بعد الثورة الإيرانية على الشاه الإيراني عام 1979، واستيلاء الخميني وتياره الكهنوتي الإسلامي الشيعي على السلطة، دخلت إيران في حالة عزلة خانقة قادتها الولايات المتحدة الأمريكية مع حلفائها العرب في الخليج، ثم كانت حرب العراق وإيران التي أرهقت البلدين واستنزفت مقدراتهما، لكنها في الوقت نفسه منحت السلطة الخمينية ما تحتاج إليه من حجج لفرض سيطرتها المطلقة على الشارع الإيراني. هذه العزلة والحرب طورت لدى السلطة الإيرانية استراتيجية فتح قنوات بديلة دولية للخروج من العزلة، فتوجهت نحو وسط آسيا للعبور إلى الصين والهند، ونحو روسيا العدو التاريخي للغرب ومن ثم الحليف المحتمل. كذلك وبسبب كابوس الحرب العراقية والدعم الاستراتيجي الذي تلقته من حافظ الأسد فقد أصبح الممر الغربي عبر العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان والبحر المتوسط ضرورة أمن قومي إيراني.
لذلك كان القرار الإيراني واضحاً عام 2011، لا يمكن لإيران التخلي عن كون سوريا حليفاً استراتيجياً تابعاً أو متعاوناً. فضياع سوريا من السيطرة الإيرانية يعني حكماً أن إيران أصبحت معزولة من جهة الغرب، حتى لو كان العراق تحت سيطرتها جزئياً.
ما أشيع حول أن دافع إيران في سوريا هو كون الطاغية السوري من الطائفة العلوية، أو أن طمعها في سوريا هو لتشكيل هلال شيعي، يقع ضمن التفسيرات التقليدية في أي حرب أو صراع بين الدول التي رد عليها النظام الإيراني بدعاية إعلامية مقابلة تقول إنه يقف ضد المشروع الوهابي التكفيري الذي يريد السيطرة على المنطقة، وفي واقع الحال الادعاءان كلاهما يملكان الحجج والأدلة نفسها من حيث التركيب وإن اختلفا من حيث الشكل. فضمن عملية الصراع الطويلة هذه على جبهة الخليج العربي، وجبهة السوق الدولية في مواجهة العقوبات الغربية، استخدم النظام الإيراني الأداة الدينية الشيعية، مثلما استخدم الآخرون الأداة الدينية السنية، لكن الطرفين كليهما مستعدان لرمي أي معيار ديني عند تعارضه مع المصلحة المباشرة. للتدليل على ذلك، لننظر إلى وضع أذربيجان: هي ثاني أكبر دولة من حيث نسبة الشيعة فيها بعد إيران (تصل نسبتهم إلى 80 في المئة)، إلا أن علاقات إيران بهذه الدولة كانت دائماً متوترة وأقرب إلى العدائية، في مقابل علاقات ممتازة مع أرمينيا، التي تُعد عدو أذربيجان الأخطر. أضف إلى ذلك أن علاقات أذربيجان ممتازة بالسعودية التي تُعد عدو إيران الأقوى في الخليج العربي، وأيضاً على علاقة ممتازة بتركيا، مقابل علاقة تركية أرمينية متوترة. من ناحية ثانية فإن أكبر شريك تجاري لإيران هو تركيا بين الدول العربية والإسلامية، وكانت تركيا دائماً هي النفق الخلفي الذي استخدمته إيران للتهرب من العقوبات الاقتصادية الغربية، على الرغم من أن تركيا هي أكبر دولة سنية في المنطقة، بل إن زعيمها أردوغان يحمل مشروعاً إسلامياً سنياً حتى لو لم يستطع تطبيقه في تركيا حتى الآن.
المصالح الروسية
إن دخول روسيا القرن الواحد والعشرين بوصفها وارثاً للاتحاد السوفيتي شابه كثير من التعقيدات بسبب الحمل التاريخي. فالمعسكر الغربي لا يمكنه الاستكانة أبداً إلى أن خطر الروس العسكري قد زال، ولا روسيا استطاعت التخلص من الشك المقيم في نيات الغرب تجاهها. في بداية الألفية الثالثة بدأت روسيا تتعافى من زلزال انهيار الاتحاد السوفياتي، لتجد نفسها أمام اقتحام سريع لدول أوروبا الشرقية من قبل حلف الناتو؛ كذلك أمام توسع أمريكي عسكري في أفغانستان والعراق، مع محاولات أمريكية حثيثة لدخول دول وسط آسيا وبحر قزوين. أما داخليا، فقد استطاع بوتين، بصعوبة بالغة وبثمن فادح، إنهاء أزمة الشيشان التي أظهرت أزمة روسيا الاتحادية الناتجة من تركيبة سكانها العرقية والدينية القابلة للانفجار أو على الأقل هز الاستقرار الداخلي.
من الناحية الاقتصادية كان على روسيا اللحاق بقطار منظمة التجارة العالمية المُدارة أمريكياً لتضمن وجوداً في السوق العالمية، وتوجهت السياسة الروسية نحو أوروبا لأسباب اقتصادية وسياسية، فأوروبا تاريخياً وجغرافياً هي الأهم بالنسبة إلى روسيا، فالسوق الأوروبية هي أكبر سوق استهلاكية في العالم، وتمثل أكبر زبون مضمون للغاز الطبيعي والنفط الروسي، في الوقت نفسه توجه بوتين نحو الجنوب والشرق، فحرص على ربط دول السوفيات المستقلة بروسيا بشتى الروابط السياسية والاقتصادية والعسكرية، وفي الوقت نفسه بدأ مع القادة الصينيين بناء علاقة استراتيجية تتجاوز خلافات الماضي، فالبلدان بحاجة إلى بعضهما استراتيجياً في مواجهة الغرب في السوق العالمية، وأيضا يشتركان في مصالح الأمن القومي الحساسة في وسط آسيا ومنطقة بحر قزوين[12].
بعد تجربتي أفغانستان والشيشان الصعبتين والمكلفتين، أدركت روسيا أهمية التعامل بحذر مع دول وسط آسيا وبحر قزوين، كي لا تدخل أزمات هذه الدول إلى الداخل الروسي، وبخاصة أن المنطقة ممتلئة بالأزمات داخل هذه الدول وبينها، ومن أزماتها الخطرة تزايد خطر الحركات الإسلامية الجهادية هناك. لذلك كان التوجه الروسي إلى التحالف مع إيران وتركيا اللتين تملكان نفوذاً تاريخياً معنوياً في دول وسط آسيا، إضافة طبعاً إلى أهمية البلدين من حيث الحجم الاقتصادي والسكاني.
خلال مرحلة الصعود الروسي من بداية الألفية الثالثة، لم تتحسن علاقات روسيا بدول الخليج العربي عموماً، وبخاصة بالسعودية المحسوبة تاريخياً ضمن أعداء روسيا لدورها في حرب أفغانستان والشيشان وتأثيرها بين الحركات الإسلامية الجهادية؛ من ناحية ثانية يعتمد الاقتصاد الروسي اعتماداً كبيراً على تصدير النفط والغاز الطبيعي، ومن ثم فالخليج العربي يعد المنافس الأكبر في سوق الطاقة العالمية.
لذلك يوم قامت الثورة السورية عام 2011، كان الموقف الروسي واضحاً جداً، لا يمكن لروسيا القبول بقلب نظام الحكم السوري وإحلال بديل له متحالف مع السعودية وقطر وتركيا والغرب، ومعادٍ لإيران وغير متحالف مع روسيا. فهذا يعني بوضوح أن حليف روسيا الأهم بعد الصين في آسيا أي إيران أصبح في خطر حقيقي. وبحسب ما كانت الحال في 2011، كان سقوط نظام الأسد يعني أيضاً زيادة قوة تأثير تركيا في المنطقة، فعلى الرغم من أن تركيا شريك اقتصادي استراتيجي لروسيا، إلا أنها ما زالت عضواً في حلف الناتو، وتاريخ العلاقات بين البلدين لا يسمح بالمغامرة بزيادة قوة تركيا أمام تراجع القوة الإيرانية. في الواقع إن التوازن التركي الإيراني استراتيجية روسية أساسية ليس من مصلحتها انقلابه لمصلحة أي من البلدين.
إضافة إلى ذلك أتت أزمة انخفاض أسعار النفط عام 2015 لتزيد من أهمية الوجود الروسي في المنطقة عبر حليف موثوق تاريخيا مثل النظام السوري. ويسود رأي في روسيا أن الانخفاض غير المسبوق تاريخياً الذي أصاب أسعار النفط، كان نتيجة مؤامرة أمريكية سعودية لضرب الاقتصاد الروسي والإيراني.
لا بد من الإشارة إلى أن ما قيل وأشيع حول مخزونات النفط والغاز الطبيعي في سوريا وحول أنابيب الغاز الطبيعي من قطر أو من إيران، لا تعدو أن تكون تقارير صحافية بناء على تسريبات سياسية مقصودة، من دون أسانيد علمية أو تقنية أو مسوّغات اقتصادية[13]. أما طموح روسيا في إبقاء موضع قدم لها في المياه الدافئة فهو عامل مهم طبعاً من الناحية العسكرية الاستراتيجية، لكنه لا يسوّغ وحده التكلفة الضخمة التي تكبدتها في دعمها للنظام السوري. بقي أن أشير إلى أن تصدير السلاح من روسيا ما بين عامي 2007 و2017 يمثل أقل من 2 في المئة من مجموع الصادرات الروسية[14]، أي إن إشاعة أن روسيا تريد “استعراض” قدرة أسلحتها العسكرية لا يعدو كونه وهماً إعلامياً.
المصالح الصينية
استخدمت الصين حق النقض الفيتو في مجلس الأمن الدولي منذ عام 1968 إلى عام 2010 خمس مرات فقط، فالصين كانت وما زالت ليست دولة صدامات مباشرة حامية، إلا ما خص موضوع تايوان، لكنها عام 2011 استخدمت الفيتو 3 مرات متتالية وبالتشارك مع روسيا لمصلحة النظام السوري. هذا الموقف الصيني الواضح في دعم النظام السوري يمكن فهم بعض دوافعه من خلال المناقشة السابقة، فالصين تشارك روسيا في عدد من مصادر الاهتمام والقلق، وبالذات يتشارك البلدان في الهم الجغرافي المتمثل بخاصرتهما الضعيفة الممتدة من منطقة وسط آسيا وبحر قزوين وصولاً إلى إيران التي يعتبرانها مجال نفوذهما الحيوي الطبيعي. لذلك فإن نجاح الثورة في 2011 في قلب النظام السوري كان سيؤدي إلى انتشار عدوى الثورات الشعبية لا لتصيب النظام الإيراني وحده، وهو حليف الصين المهم، بل سيصل إلى دول وسط آسيا، المحكومة كلها بأنظمة دكتاتورية فاسدة، ومن ثم خطر الوصول إلى مقاطعات الصين الغربية، الأقرب عرقياً ودينياً إلى دول وسط آسيا وتركيا التي ما زال تحديثها وتحسين أوضاعها الاقتصادية مقارنة بالشرق الصيني أحد أكبر الهموم الصينية، في سعيها الحثيث لتكون أكبر اقتصاد عالمي.
إذاً فالمصالح الروسية والصينية متشابكة ومتشابهة في سوريا إلى حد كبير، تتلخص في توافقهما على صد النفوذ الغربي المباشر أو غير المباشر في وسط آسيا وصولاً إلى إيران، والمحافظة على النظم الحاكمة القائمة في هذه الدول، لأن سقوط أحدها سيكون له أثر الدومينو في المنطقة، ما يشكل أكبر خطر يمكن أن يواجه البلدين داخل حدودهما، في غرب الصين وجنوب روسيا (انظر الخريطة المرفقة)، فتمسكهما بالنظام السوري يأتي من باب تمسكهما بمصلحة استراتيجية وأمن قومي يريانه ممتداً جغرافياً من حدودهما وصولاً إلى سوريا، والنظام الإيراني مرتبطاً بسوريا يمثل قاعدة استقرار أساسية ضمن هذا المجال، وهذا ما وضحه بشار الأسد في 2016 في لقائه مع صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” الروسية[15].
المصالح الخليجية
كان الموقف الخليجي مترددا في بداية اندلاع الثورة في سوريا، وبخاصة الموقف السعودي الذي كان ميالاً أكثر إلى بقاء الوضع كما هو خصوصاً بعد سقوط نظام مبارك في مصر. لكن بعد أن تبيَّن أن النظام السوري لن يتراجع عن استخدام العنف المفرط في مواجهة الشارع ولن يتنازل عن أي من سلطاته، ولأن الموقف الغربي كان ميالاً إلى معارضة النظام الأسدي، انتقل الموقف السعودي والقطري والخليجي عموماً إلى الوقوف ضد النظام السوري. أما السبب الأهم فهو الفرصة التي رأتها دول الخليج في سحب سوريا من السيطرة أو الحلف الإيراني. لكن الوقوف ضد النظام الأسدي لم يعنِ للدول الخليجية الوقوف غير المشروط مع الثورة الشعبية السورية، لأن هدفها الأول كان إخراج إيران من سوريا، وليس دعم دولة ديمقراطية مدنية تقوم على أساس المواطنة قرب حدودهم، لذلك قررت الحكومتان التحكم في حركة الثورة ونتائجها بالتنسيق مع تركيا، وذلك من خلال التحكم في قيادات المعارضة السياسية وأمراء الفصائل المسلحة الإسلامية وشيوخها، وكذلك التحكم في الإعلام بأنواعه كلها؛ أما إسقاط النظام السوري الحاكم أو تغييره فقد رأت الحكومات الخليجية تركه للأوضاع.
بعد اندلاع التمرد الحوثي في اليمن زادت أهمية الصراع فوق سوريا بالنسبة إلى السعودية خصوصاً، إذ إنها رأت في حركة الحوثيين ضربة إيرانية من الخلف بعد سلسلة انهزامات النظام الأسدي العسكرية حتى عام 2016.
المصالح التركية
كانت علاقات تركيا – أردوغان مع سوريا والنظام الحاكم ممتازة قبل الثورة، لكنها لم تصل إلى مرحلة الحلف الاستراتيجي مثل علاقة سوريا بإيران؛ مع اندلاع الثورة ولأن الحكومة التركية توصلت إلى قناعة أن عنف النظام المفرط لن يكون في مصلحتها، وقياساً بنجاح ثورة مصر ووضوح ميلان الكفة إلى الإخوان المسلمين في صيف 2011، قررت تركيا الانتقال بشكل كامل إلى العمل ضد النظام الأسدي، بالتحالف مع قطر والتنسيق مع السعودية، إضافة إلى تلقيها تشجيعا من المعسكر الغربي.
مع تطور الأحداث بشكل لم يتوقعه أحد من الفرقاء، والتدخل الأمريكي والروسي المباشر، وصعود إشكالية القضية الكردية في الشمال السوري، ازدادت قناعة الحكومة التركية بضرورة استمرارها لاعباً أساسياً في سوريا لضمان عدم قيام دولة كردية مستقلة أو شبه مستقلة على حدودها على الجنوبية.
لم يتضح إلى الآن كيف ترى القيادة التركية استمرار مصالحها في سوريا، فمن ناحية زادت علاقاتها قوة بروسيا وإيران وبخاصة بعد محاولة الانقلاب العسكري الذي تصر الحكومة التركية على أنه مكيدة أمريكية غربية، ومن ناحية ثانية تجد صعوبة كبيرة في الانتقال من خندق العداء الكامل للنظام الأسدي إلى خندق القبول به. كما أن وجود ما يزيد على ثلاثة ملايين ونصف سوري في تركيا يزيد من تعقيد الموقف التركي.
المصالح الغربية والإسرائيلية
لا توجد مصالح أمريكية مباشرة في سوريا، باستثناء تلك المرتبطة بحماية الأمن الإسرائيلي؛ لذلك فإن الولايات المتحدة والدول الغربية وكذلك إسرائيل قرروا منذ 2011 متابعة تطورات الأزمة السورية وإدارتها. فالأزمة السورية بالنسبة إلى السياسة الأمريكية هي بؤرة استنزاف للأعداء في المنطقة، واحتفاظها بدور المدير والمراقب يعطيها أوراق قوة ضد الجميع، بما في ذلك حلفاؤها الخليجيين والأتراك[16].
أما ما يقال من تبادل اتهامات ما بين النظام الأسدي وعدد من قيادات المعارضة، حول من تفضله إسرائيل في سوريا، لإدانة الطرف الآخر، فهي محض حرب إعلامية لا تخرج عن كونها حكايات مثيرة تقدم تعويضاً للفشل. فإسرائيل تملك أقوى جيش في المنطقة مجهز بأفضل الأسلحة الموجودة في العالم، وتمتلك حوالى 200 رأس نووي، والأهم تتمتع بحماية مطلقة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية؛ ومن ثم لا نظاماً دكتاتورياً فاسداً دموياً مثل نظام الأسد سيخيفها، ولا مليشيات إسلاموية شعبوية متاجرة بالدين والطوائف ستهز أمنها واستقرارها. إسرائيل باختصار تسير بهدوء وقرب مع السياسة الأمريكية في إدارة الصراع.
حصان طروادة “داعش”
لن أتوسع هنا في موضوع داعش، لكن من الثابت أن الدول المتصارعة فوق سوريا كلها جنت فائدة أساسية من داعش: لقد تخلصت هذه الدول كلها من بضعة آلاف من الشباب المهووس دينياً والمتعصب درجة العنف المجنون فأرسلتهم إلى سوريا ليقاتلوا ويقتلوا ومن ثم يُقتلوا. فمن المعروف أن حصص هذه الدول كلها وغيرها من دول العالم ليست قليلة في عداد مقاتلي داعش، وهذه الدول كلها سهلت وصول المقاتلين والأموال إلى داعش، سواء معسكر النظام الأسدي وإيران وروسيا، أم معسكر الخليج العربي وتركيا والغرب. وقتال داعش هو الراية المرفوعة نفسها منذ 2001 وحرب أفغانستان ثم حرب العراق ثم حرب سوريا، وقبل ذلك حرب الصومال، راية جاهزة للبيع والقفز بين الجبهات ووديان الجغرافية السياسية.
كرة النار
ربما يكون الصراع الذي حصل فوق سوريا وما زال، من الحالات القليلة تاريخياً التي تبرز كيف تتورط دول عدة في صراع لا تعرف نهايته. فهذه الدول كلها مع المصالح التي ذكرناها كلها، لو أنها رأت عام 2011 وبداية 2012، أن هذا الصراع سيستمر بهذه الوتيرة وهذه التكاليف لكانت غيرت سياستها كاملة، ولربما فضلت التراجع أو التهاون في مواقفها والبحث عن حلول أقل تكلفة. لكن ما حصل أن الدول الإقليمية كلها إضافة إلى روسيا لم تمتلك في البداية تلك الخبرة وبعد النظر لترى إلى أين ستسير الأزمة السورية، لقد تورطوا منذ البداية في التدخل الحذر البسيط، سواء مع النظام الأسدي أم ضده، لكنهم بالتدريج رؤوا أنفسهم يغوصون أكثر وأكثر في مستنقع الحرب والصراع، وكلما مرّ الزمن أصبح التراجع أصعب، إلى أن وصل الصراع إلى حافة اللاعودة في 2015، حينها قررت روسيا التدخل المباشر في سوريا[17].
ما حصل مع الدول الإقليمية كلها وروسيا أنهم ساهموا في إشعال كرة نار حسبوها صغيرة ويستطيعون التحكم فيها، لكنها تحولت إلى كرة نار ضخمة تزداد استعاراً، والمنتصر النهائي، إن كان هناك واحد، هو من يستطيع إبعاد نيران هذه الكرة المتضخمة.
هل انتهى الصراع فوق سوريا؟
من الناحية الشكلية والموازين العسكرية، يبدو أن الكفة قد مالت بقوة إلى النظام الأسدي، بفضل دعم إيران وروسيا معاً، وبسبب ما يمكن تسميته قصر نظر الدور الخليجي والتركي في سوريا[18]. ما حرض هذا الانزياح السريع نسبياً في موازين القوى كان سياسة ترامب التي قلبت كامل الاستراتيجيات الأمريكية في ما هو أهم وأكبر من النزاع فوق سوريا[19]، وهذا ما لم يكن محسوباً عند أي طرف من الأطراف. لكن هل هذا الانزياح يعني انتصاراً نهائياً للنظام الأسدي؟
على الرغم من عشق ترامب الواضح لروسيا وسياستها، وتأييد حزبه الجمهوري له، وعلى الرغم من أن ترامب قلب المؤسسة الأمريكية صانعة القرار رأساً على عقب، إلا أن سياسة ترامب ما زالت غير قابلة للتنبؤ، فقد طبقت الإدارة الأمريكية مؤخراً قرارها السابق بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، ما أدى إلى انخفاض الروبل إلى أدنى مستوى منذ عام 2016، ضمن صمت كامل من ترامب[20]. قد تكون مسألة وقت حتى تستطيع الولايات المتحدة استعادة توازنها وتبدأ في إصلاح ما فعله ترامب؛ أما في حال لم تستعد الولايات المتحدة ذاتها واستمرت المنهجية الترامبية فلن تكون الأسئلة هي نفسها[21].
إضافة إلى ذلك لا يوجد ترحيب أوروبي حقيقي بالسيطرة الروسية عبر النظام الأسدي على سوريا، فالأوروبيون خير من يعلم أن القيادة الروسية لا تملك إمكانات القيام بمثل هذه المهمات الضخمة، ومشكلة أوكرانيا ما زالت مشتعلة وواضحة حول العجز الروسي.
الأهم في هذه المعادلة أن إيران وروسيا تعانيان الأمرين اقتصادياً وسياسياً وأعجز من أن ينهضا ببلديهما ليستطيعا النهوض بنظام متأكل داخلياً مثل النظام الأسدي في سوريا.
في ما يبدو أن السعودية وقطر قررا الانسحاب مؤقتا من المشهد السوري، لكن من الصعب تخيل أن الانسحاب السعودي سيكون نهائياً، وما زالت حرب اليمن كابوساً قائما، وبحسب الرؤية السعودية فهذه الحرب هي اعتداء إيراني على السعودية، فمن الصعب حالياً الحكم على الموقف السعودي. أما الموقف التركي فما زال غير واضح المعالم، ولن يتضح حتى يجري حسم مصير إدلب، هل سينتقل نهائياً إلى الصف الإيراني الروسي في سوريا، أم سينتهج سياسة مختلفة، أم أن تزايد الأزمة الاقتصادية سيؤدي إلى تعديلات حقيقية في السياسة التركية، وإعادة الانزياح نحو الغرب.
من الناحية الداخلية، النظام الأسدي عاجز بنيوياً ومادياً وبشرياً عن السيطرة على كامل سوريا، حتى مع دعم روسيا وإيران. وستتضح خلال الأشهر المقبلة هشاشة تحكمه في المليشيات السورية التي ركبّها، والمليشيات الإيرانية، وكرتونية بنية مؤسساته[22].
المؤسف أن لا مكان هنا لحساب موقف وتأثير قيادات المعارضة السورية وإعلامها، في ما ستجلبه الأشهر والسنين المقبلة، فهذه القيادات بأغلبها معلقة بمصالح الحكومات التي تدعمها، وبمصالحها الشخصية والأيديولوجية الضيقة، وهي جزء من أسباب الأزمة لكنها ليست بشكلها الحالي جزءاً من الحل.
الصراع فوق سوريا لم ينته، لكنه دخل في مرحلة هدنة قد تمتد أشهرا، أو سنيناً، بحسب ما تأتي به نتائج انتخابات الكونغرس الأمريكي.
المراجع
[1] بنك المعلومات التابع للبنك الدولي، آخر تحديث 25/07/2018
[2] الاستثمارات الأجنبية المباشرة Foreign direct investment هي الاستثمارات الدائمة أو طويلة الأمد التي تمتلك حصة في المشروعات والشركات خارج دولة المُستثمِر؛ المُستثمِر قد يكون شخصاً أو شركة أو مجموعة اقتصادية. كلمة مباشرة تعني أن المستثمر يسعى للتحكم أو إدارة أو إحداث تأثير واضح في الشركة الأجنبية المُستثمَر بها؛ وهي تختلف عن الاستثمارات في المحافظ الأجنبية التي تعني الاستثمار في الأصول المالية في بلد أجنبي.
[3] الدولار بالأسعار الجارية في كل ما يأتي من أرقام.
[4] سأستخدم كلمة “استثمارات” ضمن هذه الورقة في ما يأتي من فقرات للدلالة على الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
[5] معطيات معهد Stockholm International Peace Research Institute (SIPRI).
[6] المصدر (1).
[7] لإدراك حجم المبلغ يمكن مقارنته بالناتج المحلي الإجمالي للسعودية الذي بلغ حوالى 700 مليار دولار في 2017
[8] المليار هو ألف مليون، في الإنكليزية بليون.
[9] تريليون هو مليون مليون.
[10] المعطيات الإحصائية لشركة BP البريطانية لعام 2017.
[11] المصدر (1).
[12] دول وسط آسيا تضم: أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجكستان وقيرغيزستان.
دول بحر قزوين تضم أذربيجان وجورجيا وأرمينيا، إضافة إلى إيران وروسيا.
[13] دراسة بعنوان ” سوق الغاز الطبيعي وعلاقته بالمسألة السورية”، مرصد مينا
http://mena-monitor.org/ar/page236
[14] المصدر (1).
[15] مقال بعنوان “بشار الأسد: سوريا هي خط الدفاع الأول عن إيران وروسيا”، موقع بيت السلام.
[16] دراسة “السياسة الأميركية ليست بحاجة إلى حسم الأزمة السورية”، مركز حرمون، موقع بيت السلام.
[17] مقال ” المنتصرون والمهزومون في سورية”، موقع بيت السلام.
[18] المرجع (17).
[19] دراسة “الظاهرة الترامبية والردة الأصولية العالمية”، موقع بيت السلام
[20] رئيس الحكومة الروسية يعتبر أن العقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد روسيا “إعلان حرب اقتصادية”.
http://time.com/5363719/russia-banking-sanctions-skripal-medvedev/
[21] المرجع (19)
[22] دراسة “هل سورية بين خيارين فقط: النظام أم الإسلاميون؟”، مركز حرمون، موقع بيت السلام.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.