في 11 أيلول/ سبتمبر 2018 جددت المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري اتهامها للنظام السوري وحليفه “حزب الله” بارتكاب عملية الاغتيال بحق الحريري في 14 شباط/ فبراير 2005، بانتظار النطق بالحكم النهائي في مطلع عام 2019.
ذكر الادعاء أمام المحكمة الدولية في لاهاي: “أن عملية اغتيال الحريري جرت في أجواء رافضة للوجود السوري في لبنان، وأن النظام السوري في صلب مؤامرة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري”، معتبرًا أن “الأدلة التي تدين المتهمين باغتيال الحريري دامغة”.
وقال المحامي العام لدى المحكمة: “الأدلة مقنعة وقوية وموضوعية بالنظر إلى الاتصالات وحجمها، وهواتف المتهمين التي توقفت عن التشغيل في وقت واحد تعكس التخطيط لتنفيذ المخطط، وعلى الرغم من محاولات حجب اتصالات المجرمين إلا أننا تمكنا من تحليلها”، واعتبر أن: “لبنان دخل في مرحلة من الظلم والرعب والعنف منذ اغتيال الحريري(1)”.
نعم لقد دخل لبنان في نفق مظلم ومخيف بعد اغتيال الرئيس الحريري نتيجة هيمنة “حزب الله” وإيران على الساحة اللبنانية خلال الثلاث عشرة سنة الأخيرة، ولكن هل كانت عملية الاغتيال تلك هي الوحيدة التي عاناها اللبنانيون خلال مراحل الأنظمة السورية المتعاقبة التي سبقت النظام الحالي؟
لا شك في أن حوادث الاغتيالات المريرة التي نفّذت خلال حكم الأسد الابن بحق اللبنانيين، كانت وما تزال الأشد قساوة وتأثيراً في المشهد اللبناني منذ منتصف العقد الماضي، إلا أن عمليات الاغتيال التي طالت الرموز الوطنية اللبنانية منذ نهاية خمسينيات القرن المنصرم كان لها وقعها الدامي على تاريخ لبنان والمنطقة، وانعكاسات بعضها ما تزال حاضرة إلى يومنا هذا.
فمتى وكيف بدأ مسلسل الاغتيالات السورية في لبنان؟ وما هي الأسباب التي دفعت النظام السوري إلى ارتكاب جرائم الاغتيالات بحق النخب والشخصيات الوطنية اللبنانية، وكيف كانت انعكاساتها على لبنان والمنطقة؟
الحلقة الأولى
شهدت الأنظمة السورية خلال مرحلة خمسينيات القرن العشرين مرحلة من الاستقرار النسبي، على الرغم من حالة الانقلابات المتسارعة التي مرّت بها، إلا أن تلك التغيرات التي كانت تطرأ على رأس هرم السلطة أو المؤسسة العسكرية السورية نتيجة الانقلابات لم تكن لتؤثّر بشكل مباشر في الحياة السياسية والحزبية والفكرية داخل المجتمع السوري، ولم تكن لها انعكاساتها المباشرة على أنظمة دول الإقليم ومجتمعاتها، إلى أن تنازل “القوتلي” عن رئاسة سوريا لجمال عبد الناصر وأعلنت “الوحدة” بين سوريا ومصر عام 1958، ليبدأ بعدها عصر الاستخبارات وقمع الحريات والتدخل في شؤون الدول المجاورة خصوصاً لبنان، بالتزامن مع عمليات الملاحقات الأمنية والاغتيالات السياسية التي استمرت بعد الانفصال لتبلغ ذروتها خلال سيطرة حزب البعث على السلطة في البلاد منذ آذار/ مارس 1963 حتى اليوم.
- اغتيال “نسيب المتني” وبداية التدخل الأمريكي في المنطقة
أولى حلقات الاغتيال السياسي الذي ارتكبته الاستخبارات السورية في لبنان كانت من نصيب الصحافي ونقيب المحررين “نسيب المتني” مؤسس جريدة (التلغراف) في لبنان، في 8 أيار/ مايو 1958.
اغتيل المتني صباح ذلك اليوم بخمس رصاصات، نتيجة مواقفه المضادة للرئيس اللبناني آنذاك “كميل شمعون” الذي آثر الانحياز إلى المعسكر الغربي في مواجهة المدّ الناصري الذي بدأ يتسرّب إلى لبنان، لا سيما عقب الوحدة، فكان اغتياله فاتحة للحرب الأهلية اللبنانية الأولى، إذ عمّت الاحتجاجات والإضرابات أرجاء البلاد، واندلعت في طرابلس معارك مع الجيش وقوى الأمن الداخلي، ذهب ضحيتها مئات بين قتيل وجريح.
وترددت المعلومات لاحقاً بأن عناصر تابعة لاستخبارات “عبد الحميد السرّاج” يد عبد الناصر الطولى في سوريا كانت وراء اغتيال المتني بهدف إشعال نار الثورة ضد شمعون، وكان العقيد “السراج” يدير جهاز استخبارات عسكري في سوريا اسمه “المكتب الثاني”، يتكل على مجموعة نشيطة وموثوقة من ضباط الجيش أبرزهم الضابط “عبد الوهاب الخطيب” و”برهان أدهم” و”نعسان زكار” و”عبدو حكيم”.
كان السراج مسؤولاً مباشرة أمام جمال عبد الناصر، يزوده بالتقارير الدورية والمعلومات ويطلعه على التطورات العسكرية ويأخذ منه التوجيهات اللازمة. وكان للمكتب الثاني (الخاص) صلاحيات واسعة في التصرف، وعلاقات واسعة مع أطراف لبنانية كثيرة من أنحاء لبنان كافة، وكان المكتب يتمتع بخبرة كبيرة في الشأن الذي يتعاطى به(2).
شارك السراج بشكل رئيس ومباشر في تأجيج الصراع خلال أحداث 1958 في لبنان التي قامت في نهاية حكم الرئيس كميل شمعون ودعم الجبهة الوطنية بالمال والسلاح، ويذكر الصحافي غسان زكريا (عديل السراج) في كتابه “السلطان الأحمر” أن المسؤول الأول عن اغتيال الصحافي نسيب المتني هو السراج نفسه(3) من خلال أذرعه الموجودة في لبنان لاتهام أنصار شمعون باغتياله وإذكاء نار الفتنة.
كان نتيجة الاغتيال والصراع الذي نجم عنه أول غزو وتدخّل عسكري أمريكي في الشرق الأوسط، بعد أن طلب شمعون من الأمريكان التدخل؛ فكانت عملية (بلو بات- الخفاش الأزرق) التي مكنت القوات الأمريكية واللبنانية من احتلال الميناء ومطار بيروت.
شكّلت تلك العملية أول تطبيق لمبدأ (آيزنهاور) في “ملء الفراغ في الشرق الأوسط” إذ أعلنت الولايات المتحدة بموجبه أنها ستتدخل لحماية الأنظمة التي تعتبرها مهددة من قبل الشيوعية الدولية، وكان الهدف من العملية تعزيز الحكومة اللبنانية الموالية للغرب التي يقودها الرئيس كميل شمعون، ضد المعارضة الداخلية والتهديدات من سوريا ومصر(4).
- اغتيال الحلو، صعود البكداش
فقط لأنه أبدى أسفه لموافقة الاتحاد السوفياتي آنذاك على قرار تقسيم فلسطين 1947 وضع اسمه ضمن اللائحة السوداء للحزب الشيوعي المُدار من موسكو وأداته التنفيذية في دمشق المتمثلة في “خالد بكداش” والمخابرات السورية.
وهنا بدأت محنة فرج الله مع عبادة الفرد في الحزب، وتوجّه لائحة الاتهام ضده على اعتبار أنه “مخرب وانتهازي وانهزامي” وتشبيهه بـ(تيتو) الزعيم اليوغسلافي الذي خرج لتوه من التحالف السوفياتي (الكومنترن)، ووجهت إليه أيضاً تهمة “ديمقراطي اشتراكي”، وكانت الديمقراطية الاشتراكية في تلك المرحلة تهمة شنيعة، وتعتبر خروجاً على “الماركسية – اللينينة”.
اعتقل فرج الله الحلو عام 1959 على أيدي المخابرات التي كان يقف على رأسها -كما ذكرنا- عبد الحميد السراج، وفور اعتقاله أخضع فرج الله الحلو للتعذيب الوحشي، على يد الضابط “عبد الوهاب الخطيب” الذي سبق وذكرنا اسمه في قضية اغتيال “نسيب المتني”، ومات تحت التعذيب بعد بضع ساعات فقط؛ ولإخفاء معالم الجريمة دفنت الجثة سرًا في البداية في غوطة دمشق الشرقية قريباً من قرية “مرج السلطان”، ووضعت المقبرة تحت الحراسة ولكن في ما بعد وبعد أن شك حراسها في سيارة تحوم بشكل مريب في المكان، وخوفًا من سرقة الجثة وانفضاح الجريمة، نُبش القبر من جديد وجرى تذويب الجثة.
بعد انهيار الوحدة بين مصر وسوريا، تشير جريدة الأخبار التابعة للحزب الشيوعي إلى أن عناصر المخابرات الذين اعتقلوا الحلو من البيت الذي توجه إليه في دمشق استقبلوه مرحبين: (أهلاً أبو فياض) كان هذا لقبه الحزبي حينذاك، أي إن الذين اعتقلوه والمسؤولين المباشرين الذين أرسلوهم لاعتقاله كانوا يعرفون من هو “الضحية” قبل -أو على الأقل من- لحظة اعتقاله بالذات.
ويستبعد تماماً أن يكون الحلو قد ذهب إلى سوريا بقرار ذاتي، حتى ولو كان حينذاك هو المسؤول عن الساحة السورية، وقرر ذاتياً الذهاب إليها لمتابعة الوضع ميدانيًا على الأرض، فهذا القرار المتعلق بشخص مثله ينبغي أولاً أن يبحث مع الأمين العام وأن ينال موافقته، وكان حينذاك خالد بكداش الذي لم تكن تسقط شعرة من رأس إنسان شيوعي في الساحة السورية بالأخص من دون رأيه وموافقته، وينبغي ثانياً أن يبحث في الهيئة القيادية المعنية المسؤولة مباشرة عن الساحة السورية.
وللوصول إلى الحقيقة المحضة يكفينا أن نذكر شهادة بعض الشيوعيين الذين التقوا ببكداش خلال أحد الاجتماعات حين سمعوا ذلك الأخير يردد: “إذا خلص فرج الله من إيد عبد الناصر، ما رح يخلص من إيدنا”.
من جهة أخرى في مقابلة له على العربية عام 2006 تحدث “أحمد أبو صالح” رئيس الاتحاد القومي في حلب أيام الوحدة، عن ملف مقتل فرج الله الحلو في تلك المرحلة مشددًا على أن رئيس الاستخبارات آنذاك اعترف بالمسؤولية، ولكن 4 ضباط “بعثيين” هم الذين قاموا بتذويب الحلو بمادة الأسيد(5).
اغتيالات نظام الأسد الأب إبان الحرب الأهلية
نشبت الحرب الأهلية اللبنانية الثانية، فحملت معها استمرار الصراع واستهداف فئة أخرى من السياسيين والإعلاميين، لا سيما عقب دخول جيش الأسد إلى العاصمة بيروت 1976 بحجة مواجهة الجيش الإسرائيلي وطرده.
ومن أبرز الزعماء والقادة السياسيين الذين طالتهم عمليات الاغتيال آنذاك كان الزعيم والمفكّر ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي “كمال جنبلاط” مع ثلاثة من مرافقيه في 16 آذار/ مارس1977.
وكان جنبلاط على خلاف سياسي حاد مع نظام حافظ الأسد بسبب مواقف الأخير المعادية للوجود الفلسطيني في لبنان وفرض نظام الوصاية على الدولة اللبنانية.
دعا جنبلاط إلى مشروع إصلاحي إداري لكنه تعرض لضغوط من جانب محور أميركي – سوري – إسرائيلي وقيل له: لا يمكنك السير في الإصلاح الإداري إلاّ في حال تخليك عن القضية الفلسطينية وقد رفض ذلك، وهذا الحدث معروف وكتب عنه في وصيته حين قال: “إذا وافقت على التخلي عن القضية الفلسطينية فسيلعنني التاريخ ألف مرة”.
أما مشروعه حول إلغاء الطائفية السياسية فقد عمل عليه طوال تجربته السياسية، وأشار جنبلاط في كتابه “في سبيل لبنان” إلى أن الأنظمة العسكرية -ومن بينها سوريا- تتخوف من الحرية في لبنان، ورأى جنبلاط أن الحرية في لبنان تتعرض إلى القمع من بلد مساحة الحرية فيه ضيقة جداً، فكان من الطبيعي أن يتخوف على الديمقرطية في وسط الأنظمة العسكرية، خصوصاً أن اللاعب السوري آنذاك كان له دور كبير في الملف اللبناني(6).
“أراد نظام الأسد معاملة جنبلاط بفوقية ولكنه لم يقبل الهيمنة ولا السطوة، كان يبحث عن معاملةٍ ندية، واستدرك الموقف وتصرف بكرامة وشجاعة وهذا ما أدى إلى اغتياله”. بهذه العبارات يختصر “إدمون رزق” أيام كمال جنبلاط الأخيرة(7).
بدأ المخطط لاغتيال جنبلاط بمضايقته على الحواجز السورية التي انتشرت في أرجاء لبنان، إذ كان الضباط السوريون يعترضون على وجود مرافقي جنبلاط في سيارة أخرى تواكبه، وعندما كان جنبلاط يؤكد لهم حيازته رخصة لستة عشر عنصراً كان الجواب: “يجب أن تكون العناصر معك وليس في سيارة أخرى”، وكان جنبلاط يسألهم “وأين أضع هذا العدد في سيارتي؟” حتى ملّ جنبلاط من هذا الوضع وقرر ألا يصحب أحداً معه؛ هذا الأسلوب يشابه تماماً ما حصل من سحب عناصر الحماية من الرئيس “رفيق الحريري”(8).
وفي ظهيرة يوم الاغتيال كان جنبلاط في طريقه إلى مقرّه في منطقة “المختارة” بمرافقة الحرّاس الثلاثة حين داهمتهم سيارة كانت تتمركز قرب حاجز للجيش السوري عند مثلث “بعقلين”، يركب فيها أربعة مسلحين نفّذوا عملية الاغتيال ولاذوا بالفرار.
وفي آذار/ مارس من عام 1980، اغتيل الصحافي “سليم اللوزي”، الذي كان معروفاً بموقفه المناوئ للنظام السوريّ بعدَ احتلاله لبنان.
اللوزي مؤسس “جريدة الحوادث”، عمل بداية كاتباً للتمثيليات الإذاعية في إذاعة الشرق الأدنى عام 1944، ثمّ في مجلة “روز اليوسف” في مصر، قبل أن يعود إلى لبنان ويتابع عمله في الصحافة المكتوبة في جريدة “الصياد”، وبعدها في جريدة “الجمهور الجديد”، وعمل مراسلاً لمجلّتي “المصوّر” و”الكواكب”، وخلال الحرب الأهلية انتقل اللوزي إلى لندن هرباً من تهديدات متكررة من النظام السوري طالته وأسرته(9)، وبدأ بكتابة مقالات ضد النظام السوري واتهم مخابراته بقتل شقيقه “مصطفى” فكتب مقالاً ذكر فيه: “وغداً إذا نجحت المخابرات العسكرية في تنفيذ الحكم الذي أصدرته باغتيالي وهي قادرة على ذلك بوسائلها المختلفة فإني أكون قد استحققت هذا المصير وعزاء زوجتي وبناتي وأولاد مصطفى التسعة أنني أحببت بلدي وأخلصت لمهنتي” ويعني ذلك أنه كان يتوقع مصيره.
بعد نشر مقاله هذا نصحه “صلاح الدين البيطار” أحد مؤسسي حزب البعث والمعارض لحكم الأسد بأن يكف عن تعريض نفسه وعائلته للهلاك(10) إلا أنه لم يكترث.
ثمّ قرر اللوزي العودة إلى لبنان ليشارك في تشييع والدته، على الرغم من نصيحة أصحابه له بالتراجع عن قراره حرصاً على حياته، فما كان منه سوى القول: “ولو.. ألا يحترمون حرمة الموت؟ أنا ذاهب لدفن والدتي”.
وعندما وصل اللوزي إلى بيروت اتصل به الزعيم الفلسطيني “ياسر عرفات” وطلب تخصيص حراسة له ولكنه رفض(11)، ولدى عودته إلى المطار بعيد انقضاء طقوس الدفن، اختُطف على طريق المطار وعُثر على جثّته مشوّهة بشكل فظيع بعد ذلك بأيام.
أما عام 1982 فقد رفع نظام الأسد سقف عمليات اغتياله لتطال هذه المرة رئيس الجمهورية اللبنانية “بشير جميّل”، عندما أوعز إلى أعضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي بتنفيذ العملية من خلال الشاب “حبيب الشرتوني” بوساطة عبوة ناسفة أدت الى تدمير مقر حزب الكتائب في الأشرفية وسقوط 32 قتيلاً و95 جريحاً يوم 14 أيلول/ سبتمبر من ذلك العام.
قبل ذلك الاغتيال بأربع سنوات استطاع بشير تحرير “الأشرفية” مقر “بيت الكتائب” من جيش حافظ الأسد بعد حرب الـ100 يوم في 1978، وانسحب جيش النظام في إثرها من العاصمة بيروت.
إلا أن ذلك لم يكن السبب الرئيس والمباشر في الاغتيال، فقد كان السبب المباشر يتمحور حول الخلاف الذي نشب بين بشير من جهة ورئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحيم بيغين” وقائد القوات الإسرائيلية في لبنان “شارون” آنذاك من الجهة الأخرى، وذلك بعد اجتماعهم في “نهاريا” في شمال إسرائيل، حين رفض الجميّل طرح بيغين بعقد معاهدة سلام مع إسرائيل إلا بعد دخول الأخيرة والقضاء على “الاحتلال” السوري والوجود الفلسطيني في لبنان.
ومن هنا ذهب كثيرون -ومن بينهم شقيق بشير- “أمين الجميّل” إلى اتهام إسرائيل بتدبير عملية الاغتيال بعد 21 يوماً عاشها بشير رئيسًا للبنان، جمع بالقوة القوى السياسية المتناحرة كلها على طاولة واحدة، وطالبهم بتشكيل جيش لبناني واحد وإنهاء وجود الفرق العسكرية غير اللبنانية كافة، كالسورية والفلسطينية واللبنانية غير الشرعية، والميليشيات الحزبية والطائفية، إلا أن سير الأحداث التالية أكّد ضلوع النظام السوري المباشر في عملية الاغتيال ليضرب عصفورين بحجر واحد؛ إنقاذ حكومة إسرائيل من حرج المطالبة بإخراج جيش الأسد من لبنان، والدفع إلى إخراج الفصائل الفلسطينية من لبنان عقب مذبحة “صبرا وشاتيلا” التي ارتكبتها قوات الكتائب اللبنانية بالتعاون مع شارون.
فبعد الاغتيال بساعات قليلة قُبض على منفّذ العملية (الشرتوني) وأودع في سجن رومية الشهير حتى عام 1990 ليتمكن بعد ذلك من الفرار بمساعدة حزبه والنظام السوري بالتزامن مع محاصرة العماد “ميشال عون” من قبل الجيش السوري لإسقاط رئاسته، فدخل الشرتوني بعدها إلى سوريا وعاش فيها باسم جديد.
اليوم يتناقل الناس أخباره وتنقلاته، بعضهم يؤكد وجوده في الجنوب اللبناني بحماية حزب الله، وبعض آخر يجزم بتنقله بين دمشق وبيروت بهوية مزيفة، وآخرون يقولون إن النظام السوري يحتجزه داخل أحد منازله في دمشق(12).
وبعد مضي ما يقارب 35 عامًا على الاغتيال، أعيد فتح الملف مرة أخرى عام 2017 ليجري تجريم الشرتوني من قبل القضاء اللبناني، والحكم عليه غيابياً بالإعدام.
يرى بعض أن نظام الأسد الابن قد قرر بالاتفاق مع ميشال عون إسقاط ورقة حبيب الشرتوني من خلال إصدار قرار المحكمة الأخير، لا سيما وأن السلطة المطلقة في لبنان الآن بيد حزب الله؛ معيداً بذلك خطته التي اتّبعها في تصفية قتلة الرئيس الحريري وشهود اغتياله من كبار ضباط النظام السوري، كغازي كنعان وجامع جامع ورستم غزالة، للتهرب من المساءلة والعقاب.
اغتيالات النظام عقب توقيع اتفاق “الطائف”
عُقد اتفاق “الطائف” في 30 أيلول/ سبتمبر 1989 لتوقيع وثيقة “الوفاق الوطني” ووضع حدٍ بين الأطراف اللبنانية المتنازعة وإنهاء حالة الحرب الأهلية التي استمرت ما يقارب 15 سنة.
إلا أن هذا الاتفاق قام بتكريس احتلال نظام الأسد للبنان بشكل صريح ومباشر من خلال الفقرة الرابعة من المادة الثانية في بنود الميثاق(13)، إذ ورد فيها: “تقوم القوات السورية مشكورة بمساعدة قوات الشرعية اللبنانية لبسط سلطة الدولة اللبنانية في مدّة زمنية محددة أقصاها سنتان تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وانتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني، وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية، وفي نهاية هذه المدّة تقرر الحكومتان، الحكومة السورية وحكومة الوفاق الوطني اللبنانية إعادة تمركز القوات السورية في منطقة البقاع ومدخل البقاع الغربي في ضهر البيدر حتى خط حمانا المديرج عين داره.
وإذا دعت الضرورة في نقاط أخرى يجري تحديدها بوساطة لجنة عسكرية لبنانية سورية مشتركة، ويجري اتفاق بين الحكومتين يُحدد بموجبه حجم وجود القوات السورية في المناطق المذكورة أعلاه ومدته وتحدد علاقة هذه القوات مع سلطات الدولة اللبنانية في أماكن وجودها”.
وبذلك حرص النظام السوري على ممارسة ما أمكن من الأساليب الاستخباراتية والأمنية للحؤول دون استقرار الوضع في لبنان ليبقى صاحب القرار الأوحد فيه.
إلا أن الصفعة الأولى التي تلقاها الأسد بعيد الطائف -وكادت تنهي احتلاله المباشر- تجسّدت في انتخاب “رينيه معوّض” رئيساً للبنان في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، إذ كان معوض موضع ثقة مختلف التيارات والفاعليات من القائمين على مقاليد الحكم في لبنان، وكان معتدلاً ومتفهماً لعمق اللعبة السياسية وأبعادها وأصولها في منطقة الشرق الأوسط عمومًا وفي لبنان خصوصًا؛ وهذا ما أقلق النظام السوري الذي شعر بأن البساط بدأ يُسحب من تحت قدميه.
وعند انتخاب الرئيس معوض رئيساً للجمهورية، قام رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية يومذاك العميد “غازي كنعان” بتكليف الرائد في المخابرات السورية “جامع جامع” بتولي مسؤولية الاستطلاع وحماية الرئيس معوّض من قبل الدولة السورية، وأن يكون من الفريق الأمني التابع للرئيس، وأن يسكن في القصر الجمهوري. إلا أن معوّض رفض فكرة سكن ضابط سوري داخل القصر الجمهوري، وهذه الخطوة لم ترق للقيادة السورية(14).
وبعد 17 يوماً من انتخابه، وبعد انتهائه من مراسم احتفال عيد الاستقلال في قصر السرايا في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر دوى انفجار ضخم استهدف موكب الرئيس معوض ليشطر سيارته (المصفّحة) إلى نصفين ويلقى حتفه على الفور، بطريقة تشابه إلى حدّ كبير ما حصل في عملية اغتيال الرئيس الحريري لاحقاً. وكانت السيارة من نوع مرسيدس 500 “كان قد أهداه إياها الرئيس الحريري(15)” عقب تسلمه مهمات رئاسة الجمهورية.
وقع الانفجار في منطقة تابعة لمركز المخابرات السورية – مفرزة الحمراء، كان النقيب السوري “جهاد صفتلي” من عناصر هذا المركز وكان الرائد جامع جامع في طليعة الموكب متقدماً 150 متراً عنه، وهو نفسه من كان يوجه الموكب عند وقوع الانفجار الذي استهدف موكب الرئيس معوض قرب ثانوية رمل الظريف؛ كان جامع جامع قد وصل إلى محاذاة منزل الرئيس سليم الحص، فتابع سيره وكأن شيئاً لم يكن على الرغم من ضخامة الانفجار إلى أن وصل الى المقر الرئاسي، سُئل عن مصير الرئيس معوض فأجاب الرائد جامع جامع: “ما بعرف”.
أما النقيب صفتلي التابع للمخابرات السورية فهو من نفذ عملية الاغتيال إذ وضع المتفجرة (250 كغ) وفجّرها بأمر من غازي كنعان وبمساعدة رستم غزالة والرائد جامع جامع.
بعد ذلك روّجت الاستخبارات السورية معلومات بقصد التضليل تشير إلى أن الضابط صفتلي قُتل في ضهر البيدر، إلا أنه وبعد اغتيال الرئيس رينيه معوض رُقي إلى رتبة رائد، ثم شوهد لاحقاً يتنقل ما بين المطار وعنجر(16).
اغتيالات الأسد الابن تطغى على الأب
بعد موت الأسد الأب وتسلّم ابنه بشار رئاسة النظام في سوريا في منتصف عام 2000، علت الأصوات المطالبة بانسحاب جيش النظام من لبنان من قبل الأطراف اللبنانية المناوئة، إضافة إلى بعض أطراف المعارضة السورية على حدّ سواء، وخصوصاً عقب الغزو الأمريكي للعراق.
وردّاً على ذلك، راح بشار الأسد يعمل على دعم “حزب الله” في لبنان بشكل غير مسبوق، فاق أضعاف ما قدّمه أبوه للحزب منذ تأسيسه في بداية الثمانينيات، وذلك بغرض تمكين دوره السياسي في المجتمع اللبناني إضافة إلى العسكري، ما يعزّز وجود النظام وتحكمه في مفاصل البلد بصورة أقوى من السابق.
ولم يكن بإمكان النظام السوري بسط سيطرته الكاملة بوساطة حزب الله ورئيسه “حسن نصر الله” على لبنان، في ظل وجود الشخصية الأقوى في الساحة اللبنانية آنذاك، رئيس الحكومة “رفيق الحريري”، صاحب القاعدة الشعبية الأوسع في لبنان، ورجل التوافقات العربية الخليجية والغرب عموماً، فما كان منه –النظام السوري- سوى تدبير عملية الاغتيال الأقسى في تاريخ لبنان والشرق الأوسط التي ما يزال صداها مدوياً منذ عام 2005 حتى هذا اليوم، لتغدو انعكاساتها السياسية والأمنية والطائفية على لبنان أشدّ مما كانت عليه أيام الحرب الأهلية، فعلى الرغم مما تمخّض عنها من إجبار للنظام السوري على سحب قواته من لبنان، إلا أنه أحلّ محله أجهزة حزب الله وإيران الطائفية لتصبح القوة المسيطرة والمتحكمة في مصير لبنان من دون منازع.
كان اغتيال الحريري من أشدّ العمليات التي نفّذها نظام الأسد الابن في لبنان وأقذرها، لكنه لم يكن الوحيد فقد طال الاغتيال عدداً من السياسيين والإعلاميين اللبنانيين خلال ذلك العام، نذكر منهم: “جورج حاوي” الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي اللبناني في 21 حزيران/ يونيو 2005 بوساطة تفجير لاسلكي لقنبلة وضعت تحت مقعده في سيارته في العاصمة بيروت.
كان حاوي قد استقال من رئاسة الحزب الشيوعي سنة 1993، وجعل لنفسه مسافة من النظام السوري، متابعًا مواقفه التي بدأها مع الحركة الوطنية اللبنانية التي كان أحد أركانها مع زعيمها كمال جنبلاط قبل اغتياله عام 1976، ووقف ضد دخول الجيش والأمن السورييْن إلى لبنان في سبعينيات القرن الماضي(17)، بيد أن نظام الأسد الابن لم ينسَ مواقف حاوي وبقي قلقاً منه حتى نفّذ بحقه عملية الاغتيال، ووجه رفاق جورج أصابع الاتهام إلى حزب الله ورئيسه حسن نصر الله(18).
قبل اغتيال حاوي بأيام في 2 حزيران/ يونيو 2005 انفجرت سيّارة أخرى في حي الأشرفية البيروتي بعبوة ناسفة زرعت أسفلها، فأودت بحياة الصحافيّ والكاتب اللبناني “سمير قصير” الذي كان ينتقد كل ما كان يعتبره مسيئاً إلى الوطنية والحرية مباشرة بكلمات واضحة تتناول صلب القضايا الساخنة، وتحدى الأجهزة الأمنية والرقابية في مقالاته، ولم يقتصر مفعول تحريضه على لبنان، وإنما طاول المثقفين في دول عربية عدة، لا سيما مثقفي المعارضة السورية الذين فتح لهم قصير صفحات “النهار” وملحقها الثقافي(19). وقد هاجم قصير النظام السوري من خلال مقالة في صحيفة (ليبراسيون) الفرنسية متهماً إياه بعرقلة مسيرة السلام الفلسطينية- الإسرائيلية، وذلك قبيل اغتياله بمدة قصيرة.
وكذلك في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2005، اغتيل الصحافي والنائب “جبران تويني”، رئيس تحرير صحيفة النهار، بتفجير سيارة مفخخة أثناء مرور سيارته، ويعتبر جبران أحد أهمّ الأسماء التي ناهضت عهد الوصاية السورية على لبنان.
أضف إلى ذلك عدداً من محاولات الاغتيال التي لم تنجح، منها على سبيل المثال محاولة اغتيال الوزير والنائب “مروان حمادة” والإعلامية “مي شدياق”.
ختاماً
على الرغم من حجم الجرائم والانتهاكات المرتكبة من قبل النظام السوري “الأخير” بحق كثير من الشخصيات اللبنانية الوطنية خلال العقود الأربعة الماضية، إلا أن المجتمع الدولي لم يتحرك يوماً لمحاسبته على الاغتيالات التي نفّذها على أرض دولة ثانية ذات سيادة.
جاء توجيه الاتهام إلى النظام السوري -في قضية اغتيال الحريري بعد أكثر من عشر سنوات على مباشرة عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان- متأخراً جداً بعد أن استطاع نظام الأسد تصفية الضباط الضالعين في عملية الاغتيال، وكان آخرهم رستم غزالة، فما الذي سيضمن محاسبة النظام مستقبلاً على عملية الاغتيال في ظل غياب الشهود؟
وإن افترضنا جدلاً ثبوت إدانة النظام بالدلائل القاطعة في المحكمة الدولية، بغض النظر عن الشهود، فكيف لنظام ارتكب آلاف المجازر بحق السوريين -على مرأى المجتمع الدولي ومسمعه- أن يذعن لحكم تلك المحكمة وينفّذ حكمها؟
وبعيداً عن مهمة المحكمة الدولية، فإن ما يدعو إلى الدهشة حقيقةً هو موقف الحكومة اللبنانية المتخاذل والضعيف في تبنّيها لسياسة “النأي بالنفس” بدل أن تنصّب نفسها مدّعياً شخصياً ضد نظام الأسد المتهالك، والمطالبة بمحاسبته على كل عملية اغتيال طالت رمزاً من رموزها الوطنية؛ فحجم الاغتيالات التي ارتكبها نظام الأسد بحق اللبنانيين لم يسجّل التاريخ مثيلاً لها في دول العالم كلها، وهي كفيلة بإطاحته وإيقاف نزيف الدم مستقبلاً، إضافة إلى إنهاء دور أذرعه الشيطانية داخل لبنان.
المراجع:
- قناة RT، خبر بعنوان “الادعاء يجدد اتهام دمشق وحزب الله باغتيال الحريري”، 11/9/2018: http://soo.gd/yFpk
- صحيفة البيان اللبنانية، مقال بعنوان “شاب صغير لعب دوراً كبيراً في أحداث ثورة 1958” للكاتب محمد ولي الدين، العدد 512- 14/9/2018: http://soo.gd/9rg6
- صحيفة الأفكار، تقرير بعنوان “التدخلات الخارجية، وممارسات السراج” 3/10/2014
- موقع مرسال، مقال بعنوان “ماذا تعرف عن أزمة لبنان 1958” أسماء سعد الدين، 4/7/2017: http://soo.gd/dMBh
- من مقالتي “فرج الله الحلو سحقته شراسة النظام الرسمي العربي” في صحيفة العرب اللندنية، 2014/11/23، http://soo.gd/UNHN
- صحيفة الرأي الكويتية، حوار مع الباحثة المتخصصة بتراث جنبلاط الدكتورة “سوسن نصر” بعنوان “لماذا اغتيل كمال جنبلاط؟”، 23/3/2011: http://soo.gd/fdtw
- النهار، مقال بعنوان “من قتل كمال جنبلاط: رفعت الاسد أم ابرهيم الحويجة” للكاتب مجد بو مجاهد، 18/3/2017: http://soo.gd/RXZB
- موقع الأنباء (نقلاً عن صحيفة الجمهورية) مقال بعنوان “أبو زكي: هؤلاء اغتالوا كمال جنبلاط، وهكذا اغتيل” لصبحي منذر ياغي، 16/3/2012: http://soo.gd/ayNC
- موقع رصيف 22، مقالة بعنوان “عن الصحافة والاستبداد، في ذكرى اغتيال سمير قصير” للكاتب تمام هنيدي 3/6/ 2015: http://soo.gd/q56C
- موقع إيلاف، مقالة بعنوان ” قصة سليم اللوزي بعد ربع قرن” للكاتب أسامة العيسة، 22/10/2004: http://soo.gd/h145
- إيلاف، المرجع السابق.
- اعتمدت في كتابة معظم ما جاء في هذه الفقرة على ما أوردته في مقالتي في جريدة العرب اللندنية “حبيب الشرتوني لبناني غامض يدعي أنه نفذ حكم الشعب” في 2017/10/28: http://soo.gd/OUgm
- موقع المعرفة، اتفاق الطائف 1989: http://soo.gd/yPQF
- موقع الأفكار، مقالة بعنوان “من الذي اغتال شهيد الاستقلال الرئيس رينيه معوض؟”، http://soo.gd/UtMg
- موقع الأفكار، المصدر السابق.
- المصدر السابق نفسه، يعتمد الكاتب “ياغي” في مقالته تلك على مصادر خاصة لموقع (أخبار زغرتا – الزاوية الالكتروني).
- حافظ قرقوط، مقالة بعنوان “ذكرى اغتيال جورج حاوي، مواقف ثمنها دم”، شبكة جيرون، http://soo.gd/jmk4
- مسعود محمد، الحوار المتمدن، مقالة بعنوان “من قتل جورج حاوي أحقاً لا تعلمون”، العدد: 5558 – 2017 / 6 / 21، http://soo.gd/AXLT
- صحيفة الشرق الأوسط، مقال بعنوان “ولا يزال اغتيال الصحافيين مستمراً”، سناء الجاك، العدد 9692، 11/6/2005
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.