ملف يتم نشره على مدار ثلاث حلقات، وهذه الثالثة منها.
أردوغان من مراقب لخفض التصعيد إلى المواجهة العسكرية مع الأسد! ( 3 ــ 3 )
على الرغم من أن عملية غصن الزيتون 2018، كانت أول عملية عسكرية تركية معلنة تشن داخل الأراضي السورية، إلا أن نشر تركيا لما سمي بـ “نقاط المراقبة”، في مناطق من ريفي إدلب وحماة، في أيار عام 2018، وفقاً لتفاهمات سوتشي مع الروس والإيرانيين، مهدت للسيطرة العسكرية التركية المباشرة والمعلنة على مدينة إدلب، إذ بلغ عدد تلك النقاط حينها 12 نقطة مراقبة، قيل إنها تهدف لمراقبة سير اتفاقية خفض التصعيد المنبثقة عن اتفاق سوتشي. ومع دخول الجيش التركي الفعلي على امتداد الحدود السورية الشمالية والشمالية الغربية، بقيت عمليات الجيش التركي وعدد من الفصائل الموالية له، محصورة ضد ميليشيات سوريا الديمقراطية الكردية، دون تسجيل أي مواجهات مباشرة مع قوات نظام بشار الأسد حتى مطلع العام 2020، الذي شهد تقدماً كبيراً للنظام في أرياف إدلب داخل منطقة خفض التصعيد وسيطرته على العديد من المدن والبلدات الاستراتيجية، كخان شيخون والنيرب وسراقب والمعرة والطريق الدولي، واقتراب النظام من نقاط التماس مع الجيش التركي.
بدأت ملامح الصدام بين النظام وتركيا في كانون الأول/ ديسمبر 2019، بعد حصار قوات نظام “بشار الأسد” لنقطة المراقبة التركية في مدينة مورك بريف حماة الشمالي، لتشتد معالم الصدام بين الجانبين في شباط 2020، بعد تهديدات الرئيس التركي ” أردوغان” بشن عملية عسكرية واسعة في إدلب في حال لم ينسحب النظام من المناطق التي سيطر عليها ضمن منطقة خفض التصعيد، ليرد نظام “الأسد”، باستهداف مواقع لجنود أتراك في إدلب ويقتل ستة منهم، ما دفع بتركيا إلى الإعلان عن عملية “درع الربيع” في شباط/ فبراير ذاته، التي تمكنت خلالها قوات المعارضة من استعادة السيطرة على بعض المناطق في ريف إدلب.
ولم تفلح جهود الوساطة الروسية، والدعوات الدولية في خفض التوتر بإدلب، الذي أخذ منحاً أكثر خطورة وتصعيداً، بعد إعلان وزارة الدفاع التركية عن مقتل 34 جندي تركي بقصف للنظام السوري على مواقعهم في إدلب، نهاية شباط/ فبراير الماضي، ليدخل سلاح الجو التركي على خط المواجهات من خلال الطائرات المسيرة، واستهداف الطيران الحربي التابع للنظام وإسقاط ثلاث طائرات على الأقل خلال الأسبوع الأول من شهر آذار 2020.
الصراع خارج الحدود بين الأسد وأردوغان؟
تفاصيل الدور التركي في سوريا لم يقتصر فقط على الحدود الجغرافية للبلاد، وإنما امتد إلى خارجها من خلال قضيتي، اللاجئين وتصدير المقاتلين السوريين إلى ليبيا، دعماً لحكومة الوفاق، المقربة من تنظيم الإخوان المسلمين.
في قضية اللاجئين، ظهر استخدام تركيا للاجئين السوريين على أراضيها منذ العام 2014، بعد أن سهلت عمليات التهريب عبر البحر إلى الجزر اليونانية، والذي بلغ ذروته عام 2015، قبل أن تعقد تركيا اتفاقاً مع الاتحاد الأوروبي تقاضت بموجبه 3 مليارات دولار مقابل منع عمليات الهجرة عام 2016، التي تحول بموجبها اللاجئين إلى ورقة ابتزاز سياسي تركي ضد دول الاتحاد الأوروبي، من خلال تصريحات الرئيس التركي المتكررة حول إعادة فتح الحدود أمام اللاجئين.
وتزامناً مع اشتداد العمليات القتالية بين النظام وتركيا في مدينة إدلب، أعلن أردوغان مطلع شهر آذار 2020، صراحةً أن بلاده لن تمنع أي لاجئ يرغب بعبور الحدود إلى أوروبا، لتفجر قضية اللاجئين، بعد أن ساهمت الحكومة التركية بنقل مئات المهاجرين من مدنها إلى نقاط العبور الحدودية البرية والبحرية ليصلوا إلى اليونان.
ما يلفت الانتباه في هذه القضية وبحسب معلومات حصلنا عليها أن أردوغان كان يضغط بهذه الورقة على الاتحاد الأوربي من أجل تمويل حملته العسكرية على نظام الأسد بإدلب إلا أن تلك الضغوط باءت بالفشل وتعاملت اليونان بأوامر من الاتحاد الأوربي بصرامة مع آلاف المهاجرين الذين وصلوا حدودها براً بمساعدة الحكومة التركية مما جعل أردوغان يفشل بهذا الضغط؛ ليعود ويعلن عن إغلاق حدوده بوجه المهاجرين من تركيا إلى أوروبا عبر اليونان.
أما في المسألة الليبية، فقد اتجهت الحكومة التركية، في شهر كانون الثاني/ يناير من العام 2020، إلى إرسال مئات المقاتلين السوريين المنضمين لما سمي بـ “الجيش الوطني”، المدعوم من أنقرة إلى القتال في ليبيا، بعد تقدم الجيش الوطني الليبي باتجاه العاصمة طرابلس، لمواجهة الميليشيات الداعمة لحكومة الوفاق الليبية.
كما ارتبط إرسال المقاتلين السوريين إلى ليبيا، مع إقرار البرلمان التركي، طلب الرئيس “أردوغان”، السماح بإرسال قوات عسكرية تركية إلى ليبيا لمواجهة الجيش الليبي، في كانون الأول/ ديسمبر 2019، وذلك على خلفية الاتفاقية الأمنية – البحرية، التي وقعتها مع حكومة الوفاق، التي أثارت جدلاً واسعاً على المستوى الليبي المحلي والإقليمي.
ماذا يريد أردوغان من دخوله العسكري في إدلب؟
بقراءة هذا الدخول العسكري التركي، وبهذه الأعداد الضخمة من الأفراد والميلشيات واستخدام الطائرات المسيرة التي أوجعت كثيراً النظام الأسدي؛ باعتراف بوتين نفسه في لقائه الأخير بموسكو مع أردوغان؛ نحن أما ثلاث قراءات له:
الأولى: ابعاد النظام إلى ما خلف خط الأوتوستراد جنوب مدينة إدلب؛ التي كانت قاب قوسين أو أدنى من السقوط عسكرياً؛ بعد أن قضم النظام في حملته الأخيرة قرابة نصف المساحة الجنوبية للمحافظة؟! وهذا أمر متفق عليه دولياً بأن لا يكون هناك حسم عسكري لأي طرف من أطراف النزاع السوري؛ حيث تكون مرجعية الحل هي القرارات الأممية؛ للوصول إلى تسوية سياسية بين أطراف النزاع. وهذا يعني عدم إعادة انتاج وتدوير نظام الأسد؛ إلا أن أردوغان طالب الأوروبيين بتمويل هذه الحملة الضخمة، وفشل في الحصول على التمويل المطلوب كما ذكرنا آنفاً.
الثانية: هناك قراء لهذه الخطوة بأن نتيجة الخلفات التركية/ الأوربية والتركية الأمريكية التي أدت إلى تدهور وضعف غير مسبوق بالاقتصاد التركي؛ ظهر جلياً على سعر صرف الليرة التركية مما انعكس سلباً على المواطن؛ مما دفعه لمعاقبة حزب أردوغان (حزب العدالة والتنمية) بالانتخابات الأخيرة، فجعل ذلك أردوغان بذريعة تقدم قوات الأسد لاقتحام إدلب لزج أكثر من (25) ألف جندياً إضافة للعتاد العسكري؛ ليضع الاتحاد الأوربي أمام خيارات ضيقة تجبره على دعم هذه الحملة بذرائع مختلفة؛ فيحسن من اقتصاده المتعب؛ بذريعة أن هناك أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ، سيقتحمون الحدود التركية إنْ سقطت إدلب بيد الأسد، وأن ذلك سيعيد ظاهرة اللاجئين؛ مما يؤدي إلى فتح باب هجرتهم إلى أوروبا كالتي حدثت في العام 2015، والاتحاد الأوربي هنا سيضطر للخضوع لابتزاز أردوغان ويمول الحملة؛ ولكن ذلك المسعى فشل، فعاد أردوغان وأغلق حدوده بوجه المهاجرين من تركيا إلى اليونان بعد أسبوع من فتحها.
الثالثة: أن يعقد نتيجة هذا الدخول اتفاقاً مع الروس (وهذا ما حصل) من خلال فكرة الحلف الأوراسي الذي ذكرناه آنفاً يُضاف إليه إيران؛ ويفرضان (أردوغان وبوتين) حلاً على أطراف النزاع السوري؛ ثم يقدمانه للعالم على أنهما أنجزا ما فشلت به الأمم المتحدة، وهنا تقوى فكرة المشروع الأوراسي؛ ويتم تطويق أوروبا به؛ ولكن الإدارة الأمريكية ترفض الحل بهذه الطريقة؟ رغم أن الاتفاق الروسي التركي الأخير يقول بأن أردوغان وبوتين سيمضيان به؛ وهو محاولة لتسوية الحالة السورية وتعويم للأسد ولكن بطريقة أخرى.
الخلاصة
سوريا اليوم وصلت إلى حالة غير مسبوقة بتاريخها؛ تنذر بمزيد من الفوضى والكوارث، التي سيكون لها امتداداتها على مختلف دول القارة الأوروبية، خصوصاً من خلال أزمات اللاجئين، ناهيك عن بؤر التطرف القابلة للانفجار في كل وقت وفي أكثر من مكان، ويرجع ذلك إلى وجود حالة سياسية معقدة، الأولى هي نظام مستبد يرتكز على نخبة فاسدة من مثقفين وسياسيين ورجال أعمال، يرتبط وجودهم وترتبط مصالحهم بالفساد ذاته، وهو مشروع انتفض عليه الشعب السوري ولا يستطيع التعايش معه رغم هذا الكم الكبير من القتل والقمع، وبمقابل ذلك لدينا مشروع الإسلام السياسي ترعاه تركيا الأردوغانية، وهو مشروع يريد التمسك بالحياة رغم أنه غير قابل للاستمرار، لأن الشعوب العربية غير راغبة بالعودة تحت إمرة خليفة واحد، وشاهدنا ما يحدث من انتفاضة في العراق ضد المشروع الديني الذي يريد إبقاء المجتمعات العربية المتنورة تحت وطأة حكم ديني أو ما شابه.
بالتالي إن سوريا هي ساحة الصراع الأكثر خطورة ودموية، وما وجود البؤر المتطرفة هنا وهناك إلا شكلاً من اشكال التعبير عن فكرة الإسلام السياسي، والذي بدروه يشكل المأساة الثانية التي تعيشها سوريا بعد كارثة الاستبداد في دمشق.