تشهد تونس منذ صيف 2021 أزمة سياسية تلاها أزمة اقتصادية خلال الأشهر الأخيرة، ما جعل هذا البلد الذي يعد منطلقا لـ”الربيع العربي” يعيش أزمات متتالية بعد حالة الاستقرار النسبية التي تلت سقوط نظام الرئيس التونسي الراحل علي زين العابدين.
ورغم أن تونس لاتزال وفق مؤشر الحريات العالمي في مقدمة الدول العربية على هذا المؤشر وكذلك “الديمقراطية” إلا أن هذا تونس تعيش منذ يوليو/ تموز 2021 أزمة سياسية مستمرة وزادها أزمة اقتصادية وارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات قياسية، ما جعل الكثير من الفئات في الشعب التونسي تفكر في ركوب البحر المتوسط في رحلة محفوفة بالكثير من المخاطر نحو “الحلم الأوروبي”.
ومنذ الربيع العربي الذي بدأ في تونس قبل نحو 12 عاما، ارتفع معدل محاولات الهجرة نحو أوروبا، وذلك بسبب الأزمة الأزمة السياسية والاقتصادية المستعرة في البلاد، لكن بدا واضحا خلال الفترة الماضية نزوحا جماعيا للشباب الفارين إلى أوروبا؛ لترتفع محاولات الهجرة إلى مستويات غير مسبوقة.
تضاعف أعداد المهاجرين التونسيين نحو أوروبا
هذه الأزمة المستمرة دون وجود حل في الأفق، دفع بعشرات الآلاف للهجرة نحو القارة العجوز حيث تمثل إيطاليا المقر الأول لهؤلاء، فضلا عن طريق البلقان البري.
وبحسب “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” غير الحكومي، فقد حاول أكثر من 45 ألف تونسي عبور البحر المتوسط نحو أوروبا بالقوارب أو نجحوا في ذلك منذ مطلع العام حتى 26 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في حين بلغ العدد 36424 مهاجرا عام 2011 في أعقاب الثورة التي أطاحت بزين العابدين.
الأرقام وصفت بالمقلقة، ذلك أن تونس كانت أفضل أمل في المنطقة العربية للديمقراطية، وتأتي الزيادة في الوقت الذي عادت فيه عمليات عبور اللاجئين والمهاجرين إلى بؤرة الاهتمام في أوروبا.
وبينما تتجه الغالبية عبر البحر المتوسط إلى إيطاليا، فإن رئيسة الوزراء اليمينية المتطرفة الجديدة، جورجيا ميلوني، وعدت ببذل مزيد من الجهد لإبعاد المهاجرين.
وبحسب السلطات التونسية فقد تم اعتراض ثلثي المهاجرين منذ بداية العام، ورغم ذلك فقد تمكن 16292 مهاجرا من الوصول إلى إيطاليا ( الدولة الوحيدة التي قُدِّمَت بيانات عنها لعام 2022) منذ بداية هذا العام ولغاية نهاية أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
علما أن المنتدى التونسي -ومقره تونس- يجمع الشهادات والأرقام من عدة مصادر، منها السلطات التونسية ووكالة الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فضلا عن وحكومات الاتحاد الأوروبي.
رحلة الموت
الرحلة عبر البحر المتوسط لاسيما بعد انقضاء فصل الصيف يمكن وصفها بـ”رحلة الموت”، لاسيما أنه تم توثيق وفاة أكثر من 540 مهاجرا منذ بداية العام خلال الرحلة نحو أوروبا. ويعد هذا الرقم (540 حالة وفاة) ارتفاع من 440 مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي 2021
لكن هذا الرقم قد يتضاعف في حال استمرار هذه الرحلات في فصل الشتاء وأمواج البحر العاتية ورفض الحكومة الإيطالية الجديدة استقبالة المهاجرين الذين يتم انقاذهم من خلال السفن الإنسانية.
إضافة لذلك، فإن احتجاجات كانت قد اندلعت ولعدة أيام في مدينة جرجيس في الجنوب الشرقي لتونس استمرت أياما في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بسبب ما قال السكان المحليون إنها عمليات دفن سرية تجريها السلطات التونسية لمن ماتوا في البحر.
إيضا، فإنه في الأسابيع الأخيرة، سلّطت تقارير صحافية إيطالية وأوروبية الضوء على وصول طفلة تونسية غير مصحوبة بذويها تبلغ من العمر أربع سنوات إلى إيطاليا.
هذه الحادثة سلطت الضوء كذلك على الهجرة الجماعية من تونس إلى أوروبا. في هذا السياق يقول المنتدى التونسي إن المغادرين يشملون الآن عددا أكبر من الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما مقارنة بالسنوات السابقة.
وفي أماكن أخرى من القارة، كانت صربيا تقدم تأشيرات دخول للتونسيين حتى نهاية الشهر الماضي، ما دفع بآلاف التونسيين للقدوم لهذه الدولة الواقعة في منطقة البلقان والانطلاق برا نحو دور الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل دول الاتحاد الأوروبي تزيد الضغوط على بلغراد لوقف منح التأشيرات للتونسيين للحد من تدفق المهاجرين نحو دول التكتل، وهو ما حصل بالفعل حيث سيدخل القرار حيز التنفيذ في الـ 20 من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري.
دخليا، يقول”علاء طالبي” الرئيس التنفيذي للمنتدى بأن السلطات التونسية ترد على موجات اللجوء بموجات من الاعتقالات و”عسكرة” المناطق الحدودية.
وتساءل “طالبي”: “بصراحة، ما الذي يمكن أن يحفز الشباب والنساء التونسيين على البقاء في تونس؟ كل تونسي هو مهاجر قيد الإعداد”.
وكان المنتدى التونسي قال في بيان مطلع الشهر الجاري، بأن عدد التونسيين الواصلين إلى السواحل الإيطالية بشكل غير نظامي منذ بداية العام الجاري ارتفع إلى أكثر من 16 ألف مهاجر، بعد وصول 1592 مهاجرا خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
وأشار إلى أن ظاهرة الهجرة عبر المتوسط نحو أوروبا لم تعد تقتصر على الشبان العاطلين عن العمل، بل شملت شرائح أوسع من بينها القصر والعائلات والفتيات، موضحا في هذا الصدد بالقول إنه تم توثيق وصول 828 امرأة وأكثر من 3430 قاصرا إلى السواحل الإيطالية خلال العام 2022.
بيان المنتدى أشار إلى أن السلطات الأمنية في تونس منعت أكثر من 29 ألف مهاجر (تونسيين وأجانب) من الإبحار نحو أوروبا خلال الأشهر العشرة الأولى من العام الجاري.
أزمة اقتصادية
تتوالى الأزمات في تونس فبعد الأزمة السياسية المستمرة، شهدت البلاد خلال الأشهرة الأخيرة أزمة اقتصادية تمثلت في نقص بالوقود والخبز وغيرها من المواد الأساسية، في وقت بدأت البلاد تسير على الطريق الصحيح للحصول على مساعدة صندوق النقد الدولي، لكن هذا يكاد لا يفعل أي شيء يذكر لتهدئة القلق العام في البلاد.
وفي طريقها نحو النقد الدولي، فإن الحكومة التونسية تستعد لسن تخفيضات في الدعم بداية من العام المقبل 2023، حيث حذر الاتحاد العمالي الرئيسي هذا الأسبوع من “معركة اجتماعية” إذا كانت هناك أي تغييرات كبيرة تؤثر على مستويات المعيشة بين السكان البالغ عددهم حوالي 12 مليون نسمة.
ومع استمرار معاناة تونس من “نقص في المواد الغذائية الأساسية”ووجود رفوف فارغة في محلات السوبر ماركت والمخابز ، فإن هذا الوضع زاد من السخط الشعبي، لدى العديد من التونسيين الذين يقضون ساعات في البحث عن السكر والحليب والزبدة والأرز والزيت، حيث خرجت خلال الفترة الماضية العديد من المظاهرات ضد الأوضاع المعيشية المتردية.
وتكافح تونس لإنعاش ماليتها العامة مع تزايد الاستياء من التضخم الذي بلغ 8.6 %، ونقص العديد من المواد الغذائية في المتاجر، مع عدم قدرة البلد على تحمل تكاليف ما يكفي من بعض الواردات الحيوية.
هذا الأمر أثار مخاوف من اتساع نطاق التوتر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في البلد، الذي يعاني أزمات حادة أثرت بدورها على تدفق غير مسبوق للمهاجرين نحو أوروبا.
وتؤكد تقارير صحافية غربية أن تونس تمر حاليا بأزمة اقتصادية “خطيرة” أبرز ملامحها انخفاض النمو الاقتصادي (أقل من 3% )، وارتفاع معدلات البطالة (ما يقرب من 40% لدى الشباب)، وزيادة الفقر (نحو أربعة ملايين شخص)، وهو ما أثر على الجانب الشمالي من البحر المتوسط.
وبحسب التقارير فإن الحكومة الأوروبية باتت ترفض قدوم المزيد من المهاجرين مع ارتفاع التضخم وزيادة الانفاق إثر أزمة الطاقة بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، حيث أن شعوب الشمال نفسها باتت تعاني من ضائقة معيشية حتى أن العديد من المظاهرات خرجت في إيطاليا خلال الأيام الماضي، في حين شهدت فرنسا اضرابا واسعا الخميس شل الحركة في العاصمة باريس.
لكن وفي ظل عدم وجود أي أفق لحل سياسي واقتصادي في تونس، فإن مزيد من المهاجرين سيخاطرون بحياتهم نحو الطرف الشمالي للمتوسط، في محاولة منهم لتحسين وضعهم المعاشي، وهو ما قد بنبئ بمزيد الضحايا والمأسي خلال الفترة المقبلة.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.