الملخص التنفيذي:
لا يحتاج المرء اليوم للتأمل كثيراً؛ حتى يلاحظ أن المجتمعات الديمقراطية؛ تعيش أزمة خافتة تظهر ملامحها تظهر رويداً رويداً، وظهورها هذا ناجم عن تقدمها وتطورها بما يجعلها ماثلة للعيان، ما يدفعنا لوضعها تحت مجهر التشريح المعرفي والفكري؛ لمحاولة قراءة الأسباب الظاهرة والعميقة المولدة لهذه الأزمة، التي سيكون لمسارها (سواء تفاقمت أم تراجعت) دور كبير في رسم معالم مستقبل الديمقراطية.
ولكن قبل الدخول في مناقشة الأسباب الموّلدة لهذه الظاهرة، لابد من التعريج أولاً على الظواهر الدالة على الأزمة، والتي تشير إلى الفرضية التي سنناقشها في هذه الورقة هذه: هل الديمقراطية في أزمة؟ ما دليلنا إلى/ على ذلك؟ نناقش ذلك من خلال المحاور التالية:
- أزمات العالم الغربي الديمقراطي!
- ما أسباب أزمة الديمقراطية اليوم؟
- أولاً: فشل مشروع نشر الديمقراطية خارج أوروبا!
- ثانياً: الديمقراطية في شرقنا البائس وعقبة المصالح الغربية!
- ثالثاً: عدم جدية الغرب في نشر الديمقراطية في بلادنا؟
- رابعاً: احتكار الديمقراطية غربياً!
- خامساً: الديمقراطية مسيحية برؤية الغرب!
- الخلاصة
أزمات العالم الغربي الديمقراطي!
حين نقول الديمقراطية، فإننا نعني بذلك العالم الديمقراطي الغربي المحتكم من قبل انتخابات ديمقراطية حقيقية؛ تحتل الحريات وحقوق الإنسان وتداول السلطة بشكل سلمي موقعاً بارزاً فيه، وحقيقة ينطبق ذلك على البلدان التي تقود عالم اليوم؛ أو تسيطر على القدر الأكبر من القرار فيه، ونقصد دول حلف الناتو والاتحاد الأوروبي؛ أي ما متعارف عليه اليوم في الأدبيات السياسية باسم “الغرب”.
هذا الغرب الذي تعيش ديمقراطيته اليوم في أزمة حقيقية؛ ندلل عليها من خلال ظواهرها التي تشكل هزيمة الجيش الأمريكي وقوات الناتو في أفغانستان عنوانا بارزاً لها اليوم، دون أن تكون الوحيدة في هذا السياق، إذ تعاني القوات إياها في العراق نفس المسألة (فهل نشهد انسحاباً أميركياً وغربياً من العراق قريبا؟).
إضافة إلى فشل الغرب حتى اللحظة في إيجاد حل لمسألة الاتفاق النووي الإيراني، وتقدم الصين وروسيا وإيران وتركيا على المسرح الدولي لملئ الفراغ الحاصل، سواء بفعل الانسحاب الغربي من المنطقة! أو بفعل تداعيات الربيع العربي التي تشكل فشلاً آخر للديمقراطية الغربية من جهة! ولمسألة الديمقراطية عموماً، خاصة وأن الأنموذج العربي الوحيد (الناجح) بينها، ونعني بذلك تونس، قد تعرّض لهزة كبيرة بعد انقلاب الرئيس التونسي قيس سعيد على العملية الديمقراطية، الأمر الذي أخرج المنطقة العربية بأسرها من مسار التحول نحو الديمقراطية؛ وأعادها نحو مسار “الانسداد التاريخي” أو “الاستعصاء أمام الحداثة” أو “الاستثناء” وغيرها من المفردات التي طالما حاول بعض المستشرقين وضعها في إطارها.
وإذا كانت بعض الأمثلة التي ذُكرتْ أعلاه كمظاهر تدل على أزمة الديمقراطية، تأتي من الإطار السياسي أو السلوك السياسي للدول الديمقراطية، فإن مظاهر أخرى مثل تحول روسيا وتركيا (وهي من البلدان التي كانت مرشحة للتحول الديمقراطي) إلى مزيد من الشمولية، وفشل الربيع العربي في تقديم أنموذج جيد خاصة بعد عودة العسكر وصعود الجهادية الإرهابية (داعش والنصرة) وفشل الإسلاموية السياسية (الإخوان المسلمين والسلفيين) وتراجع ما بعد الإسلاموية (حركة النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب)، إضافة إلى الأزمات الدورية في العالم الغربي نفسه، والتي تشير إلى تحولات عاصفة داخل البيت الديمقراطي كالسترات الصفراء في فرنسا، وترهل الأحزاب السياسية التقليدية التي طالما شكلت العصب الأساسي للديمقراطية، وإعادة النظر بالأنظمة الانتخابية كما في الولايات المتحدة الأميركية، وصعود اليمين الأوروبي، إضافة إلى مسألة المناخ وأثرها على الرأسمالية الصناعية التي تشكل أحد حوامل الديمقراطية، وتعالي الأصوات الناقدة داخل الغرب نفسه للأنموذج السائد، وأخيراً توقف الامتداد الديمقراطي إلى العالم الذي بشر فيه “فرانسيس فوكوياما” في كتابه “نهاية التاريخ” معلنا انتصار الديمقراطية الغربية وسيادتها على العالم، هذه “الديمقراطية الليبرالية” التي أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أحد مؤتمرات ميونيخ للأمن أفول أنموذجها، فهل كان على حق؟
ما أسباب أزمة الديمقراطية اليوم؟
لا شك أن مسألة معقدة ومتشابكة كمسألة أزمة الديمقراطية في العالم، يصعب معالجتها في دراسة سريعة كهذه، إلا أننا سنحاول وضع اليد على أهم الأسباب التي لم يسبق دراستها أو الإشارة إليها أو إعطاءها حقها، وسيتم التركيز حصرياً على الأسباب التي تبدو لنا جديدة، والتي ظهرت مؤخراً؛ ويمكن استنباطها من الظواهر الجديدة الدالة على أزمة الديمقراطية اليوم.
أولاً: فشل مشروع نشر الديمقراطية خارج أوروبا
يشير الانسحاب الأميركي وقوات الناتو من أفغانستان وأزمة القوات الأميركية في العراق إلى فشل ما بات يعرف في الأدبيات الأميركية بمشروع “نشر الديمقراطية”، فيما يعرف في الأدبيات الجنوبية “ديمقراطية الدبابة الأميركية”، فكل محاولة لتبيئة الديمقراطية عبر العمل العسكري، سواء كان عبر الدبابة الأميركية الغربية أو عبر الدعم العسكري الغربي لقوات تطالب بالديمقراطية (سوريا، ليبيا، اليمن) قد باءت بالفشل الذريع.
هذا انعكس سلباً على مسألة الديمقراطية وإمكانية نشرها، حيث ترافق الحصول على الديمقراطية أو المطالبة بها في هذه النماذج مع الحرب الأهلية من جهة؛ وتدمير اقتصاديات والبنى التحتية لتلك البلدان من جهة أخرى، إضافة إلى ترك هذه البلدان لمصيرها في نهاية المطاف بعد استيلاء الإسلاموية الجهادية عليها! أو بعد احتلالها مواقع متقدمة فيها، الأمر الذي دفع العديد من الناس لتفضيل الاستقرار السلطوي على هذه التجارب الفاشلة من جهة، والأهم فقدان الثقة بالدول الديمقراطية الساعية لنشر الديمقراطية عالمياً، وهذا يوصلنا إلى سبب آخر من أسباب تراجع الديمقراطية.
ثانياً: الديمقراطية في شرقنا البائس وعقبة المصالح الغربية!
ثمة سردية قوية وسائدة في دول الجنوب اليوم، تقول بأن الغرب الديمقراطي نفسه، لم يكن يسعى سواء من خلال تجاربه في العراق وأفغانستان أو في الضغط على الحكومات المستبدة في قضايا حقوق الإنسان والإصلاح إلى فرض الديمقراطية، بقدر ما أنه يريد من خلال ذلك تحقيق مصالحه عبر تحويل دول الجنوب إلى وقود وأرض معارك لتحقيق مصالحه، بحيث تبقى النيران بعيدة عن الشمال.
وبالتالي، فإن مسألة نقل الديمقراطية عبر الدبابة الأميركية والدعم العسكري لبعض القوى هي استراتيجية غربية متعمدة لإفشال أي تجربة ديمقراطية ممكنة، أي خلف شعار “نشر الديمقراطية” يكمن الهدف الحقيقي القائم بعدم نشرها.
ويستدل أصحاب هذه السردية بفشل كل التجارب من هذا النوع كالتي تحدثنا عنها سابقاً، والتي يقدمون من خلالها وجهة نظر معقولة؛ إذ لم تستثمر هذه القوات “الغازية باسم الديمقراطية” في التعليم والصحة والبنية التحتية أبداً، في حين تم الاستثمار في عملية سياسية فاشلة؛ انتهت بمجرد خروج القوات الأميركية من أي بلد دخلته؛ وحاولت فرض الديمقراطية فيه، ولعل في تصريح الرئيس الأميركي مؤخراً “جو بايدن” ما يشير إلى هذه الحقيقة، حين اعترف بأن كلفة الحرب الأميركية في أفغانستان كانت حوالي ٣٠٠ مليون دولار يومياً، فلنتخيل لو تم تحويل هذه الأموال إلى مشاريع البنية التحتية أو التعليم أو الصحة داخل أميركا نفسها التي تعاني اليوم من وطأة فيروس كورونا؟ وإذا أخذنا الأمور أبعد من ذلك، يمكن أن نتساءل كم من الأموال أنفقت على القوات العسكرية الأميركية وقوات الناتو المتواجدة في بلدان أخرى، في حين لم يقدم أي دعم يذكر للتجربة التونسية؛ أو غيرها من تجارب الانتقال الناجحة في العالم، وتركت تفشل أمام أنظار العالم؟
وفي حقيقة الأمر، سواء كان هذا الفشل الغربي في نشر الديمقراطية، عائد إلى نية حقيقية بذلك كما يؤمن أصحاب هذه السردية أو إلى سوء تقدير في المواقف والقراءة، فإن النتيجة هي نفسها، ونعني بها تراجع إيمان الناس في الجنوب؛ بأن الشمال يريد أو يسعى لنشر الديمقراطية في دول الجنوب! وهذا ما يمكن نقاشه من وجهة نظر أخرى أيضاً.
ثالثاً: عدم جدية الغرب في نشر الديمقراطية في بلادنا؟
عندما نتأمل السياسات الغربية في مسألة نشر الديمقراطية في العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في بعدها الظاهري لنا على الأقل، تشير إلى إقدام قليل وتردد كبير يتبعه انسحاب أو مراقبة للمشهد من بعيد، خاصة فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي.
فعند انهيار الاتحاد السوفياتي؛ جرى التمدد غرباً نحو الدول الاشتراكية التي كانت تسعى للديمقراطية؛ وتريدها لإعادة بناء دولها مجدداً؛ والعودة إلى حضن العالم، لكن السياسة الغربية التي أعطت أولويات الأمن على أولويات التمدد الديمقراطي؛ ساهمت في استفزاز الدب الروسي المجروح ومخاوف التنين الصيني، فبدأت المواجهة الخفية التي لم يقودها الغرب من مبدأ من يسعى لتحقيق الديمقراطية للجميع بقدر ما أدارها من مبدأ المنتصر، الأمر الذي شكل رد فعل قومية روسية؛ شهدنا آثارها الكارثية في جورجيا وأوكرانيا وسورية أيضاً، دون أن يتقدم الغرب لمواجهة هذا التقدم الروسي، تاركاً تلك التجارب الديمقراطية الوليدة لمصائرها الذاتية، وذلك بعد أن حرّضها في البداية.
أيضاً يمكن أن نأخذ أنموذجاً آخر يتعلق بمسألة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي وموقع تركيا ضمن حلف الناتو، حيث كانت تركيا في بداية استلام حزب العدالة والتنمية للسلطة تسعى نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتعميق وجودها ضمن حلف الناتو وأيضاً تسير نحو تعميق ديمقراطيتها التي حققت قفزات نوعية؛ شكلت ما كان يعرف بالنموذج التركي.
لكن سياسات الاتحاد الأوروبي المماطلة في هذا السياق، وأيضاً سياسات حلف الناتو التي تتعامل وتعاملت مع تركيا كخط متقدم لحماية الحدود الأوروبية/ الغربية أكثر مما هي دولة حقيقية ضمن الحلف؛ لها حقوق كما لها واجبات، إذ لم يقدم لها الحلف أية مساعدة تذكر في السياق السوري مثلاً، وقد أدى هذا الرفض والممانعة الأوربية/ الغربية ضد أنقرة مع الزمن إلى تعزيز القومية التركية ذات الثوب الإسلامي، وبدأت تركيا عملية التوجه شرقاً بالتوازي مع تراجع الديمقراطية التركية وارتدادها في الداخل، ومرة أخرى دون أن يتحرك الغرب أو يسعى لإعادة تصويب سياسته تجاه تركيا، بل ترك المركب التركي يغرق نحو مزيد من الشمولية، لتعود وتسود النظرية الأمنية على حساب الديمقراطية كما نرى بوضوح فيما يتعلق بمسألة اللاجئين.
والأمر ذاته فيما يتعلق بالشراكة المتوسطية التي تم الحديث عنها في زمن مضى بين دول الشمال والجنوب، إذ تم التقدم بها خطوات نحو الأمام ثم التراجع عنها أو إيقافها.
رابعاً: احتكار الديمقراطية غربياً!
إن تحويل أوروبا/ الغرب إلى معسكر مغلق للديمقراطية، والربط بين الديمقراطية والمسيحية (ولو بشكل غير معلن ومن تحت حجاب) أدى مع الزمن إلى نقل المعركة ضد الديمقراطية من الخارج إلى الداخل الأوروبي، فتراجع الديمقراطية في دول الجوار سيقود عاجلاً أم آجلاً إلى تراجع الديمقراطية في الداخل؛ وهو ما شهدناه في صعود اليمين؛ وترهل الأحزاب التقليدية والتراجع عن حقوق الإنسان في بعض دول أوروبا الشرقية، وهو ما نلمحه بوضوح في كيفية التعاطي مع ملف الهجرة واللجوء، ما يعني أن سيادة النزعة الانعزالية في التعاطي مع مسألة الديمقراطية خارجاً كان له أثره السلبي في سيادة النزعات الانعزالية داخلياً عبر صعود الحس القومي! وهو ما تجلى بوضوح في خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
بعبارة أخرى، إن فشل الغرب في تعميم الديمقراطية خارجًا؛ وفي ضم دول أخرى إلى نادي الديمقراطيات؛ يدفع ثمنه اليوم من خلال صعود اليمين داخل الغرب نفسه ـــ محاولة الانقلاب في ألمانيا مؤخراً من قبل اليمين مثالاً ــ ومن خلال تقدم الصين وروسيا وإيران وتركيا على مسرح العالم، إضافة إلى عودة الإسلاموية الجهادية على حساب الإسلاموية السياسية؛ وما بعد الإسلاموية التي كان من الممكن أن تشكل انتقالاً داخلياً نحو إسلام متصالح مع مفردات الحداثة والديمقراطية، إي إن الغرب يدفع اليوم ثمن تردده وإحجامه عن دعم ديمقراطيات الجنوب الوليدة حين كان ذلك متاحاً له.
خامساً: الديمقراطية مسيحية برؤية الغرب!
إن تأمل تلك التجارب الفاشلة أو المجهضة يجعلنا نمسك عدة ملامح/ صفات تميّز السياسات الأوربية/ الغربية تجاه مسألة الديمقراطية، أولاً ترددها، وثانياً زئبقيتها عبر إيلائها الأمن على أي اعتبار آخر، وأخيراً، وهو الأهم، سياسة استحواذية/ تملكية على مسألة الديمقراطية، فهي مزيج من الانغلاق والمركزية الأوروبية والشك بإمكانية نجاح الديمقراطية خارج الغرب، بما يساوي بين الديمقراطية والمسيحيّة على المستوى الديني أحياناً، وذلك عبر الشك بأن البلدان المحكومة أو التي يؤمن سكانها بأديان أخرى غير المسيحيّة تعاني من استعصاء ديمقراطي، بالتوازي مع رؤية تقول بأن أوروبا/ الغرب في العمق هي كيان مسيحي ويجب المحافظة عليه كذلك، وذلك لأجل حماية الديمقراطية مما يهددها من ثقافات “غير ديمقراطية” أو غير قابلة للدمقرطة في نهاية المطاف.
إن هذه المسألة لا تظهر بوضوح بارز، ولا يتحدث بها السياسيون، إلا أننا نلمحها من تحت حجاب في بعض السياسات والتصريحات هنا وهناك، كما أنها بارزة بوضوح في السجال الثقافي والمعرفي والفكري في الغرب، وهو الذي يشكل الأساس التحتي للسياسة في الغرب.
هذا يعني أن العمق الفكري والنظري والثقافي للسياسة في الغرب تجاه الجنوب يصدر عن رؤية تقول بأن أوروبا هي كيان مسيحي ديمقراطي، وإن لم يتم الاعتراف بذلك على المستوى السياسي. وبناء على هذه الرؤية يمكن فهم المماطلة الأوربية تجاه تركيا ودول الجنوب.
ولكن هذه السياسة وحدها لا تفسر السياسة الأوربية تجاه أوكرانيا ودول المحيط الروسي، حيث السياسات الأمنية والصراعات الجيوسياسية مع الصين وروسيا هي التي تفسر هذا الأمر، لنكون في نهاية المطاف أمام عوامل أدت إلى حدوث تردد غربي في مسألة دعم الديمقراطية، وهو ما انعكس سلباً على مسألة الديمقراطية عالمياً أيضاً؛ إلا أن لهذا الأمر أيضاً أثراً آخر داخل أوروبا نفسها.
الخلاصة
اليوم، وبالتوازي مع الأزمة التي تشهدها الديمقراطية، نلاحظ عودة مناخات الحرب الباردة إلى العالم، حيث الحرب أصبحت معلنة رسمياً بين الصين والعالم الغربي الديمقراطي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية التي تعيد تموضعها في أكثر من ملف ومكان في العالم استعداداً للمعركة الجديدة التي تجهز لها الصين أدواتها هي الأخرى، بما يعني أننا اليوم أمام إيديولوجيتين جديدتين متناحرتين على سطح هذا الكوكب، الأولى الاشتراكية الصينية القائمة على رأسمالية الدولة بكل مناخاتها الشمولية، والديمقراطية الغربية الميكافيلية القائمة على رأسمالية السوق.
وجاءت الحرب في أوكرانيا التي أعادت العالم بشكل ما نحو الحرب الباردة؛ والتي بدأت آثارها واضحة جداً على الغرب الأوروبي المحتار فعلاً كيف يواجه عنجهية ودكتاتورية بوتين؛ ويوفق ما بين مصالحه ومصالح الإدارة الأمريكية التي تقود العالم الغربي!
وضمن هذا السياق، يجرى الصراع بين الطرفين اليوم على دول العالم، حيث يعمل كل طرف على ضم الدول الأخرى إلى معسكره، وفي صراع كهذا تكون الديمقراطية هي الخاسر الأكبر، لأن آخر ما يهم الغرب في هذا الصراع أن تكون الدول التي ستقف إلى جانبه في مواجهة الصين وروسيا وإيران (وربما تركيا) ديمقراطية، بل همّه الوحيد ألا تكون في صف خصمها، بما يعني القبول بالاستبدادات، بل ودعمها لتحصين مواقعها في معركتها الجديدة، لأن أي سياسة أخرى غير هذه تعني ذهاب هؤلاء نحو المعسكر الخصم، الذي لا يطالب تلك الدول بأية إصلاحات بالأساس، بل يسعى لتعميم أنموذجه الشمولي الذي سبق فشله في الاتحاد السوفياتي، فهل يعيد التاريخ نفسه للمرة الثانية؟ وهل يكون الأمر على شكل مهزلة كما قال كارل ماركس؟ أم سيكون للتاريخ قول آخر هذه المرة؟
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.