في سياق التصعيد المستمر بين شركاء الحكم في السودان بدأ العسكريون، من جهة، والمدنيون من جهة أخرى، بتحشيد أنصارهم في الشارع، حيث شهد محيط القصر الجمهوري في العاصمة الخرطوم، أمس السبت، تظاهرة للآلاف دعماً للجيش وطالبوا بإسقاط الحكومة المكلفة إدارة البلاد لحين إجراء انتخابات حرة، واتهموها بـ”الفشل” في إنهاء الأزمتين السياسية والاقتصادية.
بالتزامن مع ذلك دعت “مجموعة الميثاق الوطني”، التي تضم حركات مسلحة وبعض الأحزاب السياسية، المنشقة من قوى الحرية والتغيير، الكتلة الأكبر في التحالف الحاكم بالبلاد، أنصارها أمس لمسيرة في الخرطوم، تحت شعار توحيد قوى “التغيير”، الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية، كما دعت إلى توسيع قاعدة المشاركة في الحكومة، أسوة بالدعوات التي أطلقها رئيس مجلس السيادة الانتقالي “عبد الفتاح البرهان”، ونائبه “محمد حمدان دقلو”، فيما تخللت المظاهرات هتافات سياسية، وأخرى تنادي بحل الحكومة الانتقالية، برئاسة “عبد الله حمدوك”، ولافتات أخرى تطالب بتفويض الجيش لتسلم السلطة لإكمال الفترة الانتقالية، ما عزز المخاوف من أن تؤثر الانقسامات على مستقبل الانتقال السياسي والديمقراطي في البلاد.
أسوأ أزمة سياسية..
رئيس الوزراء السوداني “عبد الله حمدوك”، اعتبر أن البلاد تمر “بأسوأ أزمة سياسية” منذ اطاحة الرئيس “عمر البشير” عام 2019 بسبب الخلافات بين أطراف تحالف المدنيين والعسكريين الذي يتولى السلطة لمرحلة انتقالية تستمر حتى 2023، وقال في خطاب نقله التلفزيون الرسمي “لن أبالغ اذا قلت إنها أسوأ وأخطر أزمة تواجه الانتقال بل وتهدد بلادنا كلها وتنذر بشرر مستطير”، مشيرا إلى “انقسامات عميقة وسط المدنيين وبين المدنيين والعسكريين” ومعتبرا أن ” الصراع بين معسكر الانتقال المدني الديموقراطي ومعسكر الانقلاب على الثورة، وليس بين المدنيين والعسكر”.
يشار إلى أن الخلافات بين العسكريين والمدنيين، عطلت الاجتماعات المشتركة لأجهزة السلطة الانتقالية، فيما لا تزال الأزمة تراوح مكانها، رغم المساعي التي يبذلها رئيس الوزراء “حمدوك” لتجاوزها.
المحلل السياسي، “عبدالله عبد الرحمن”، يرى أن الخلاف بين القيادات العسكرية والسياسية “قديم وتراكمي”، سببه رغبة المكون العسكري والانفراد بالسلطة والتنصل من الالتزامات الواردة في الوثيقة الدستورية.
ويشير “عبد الرحمن” إلى أن ذلك يظهر في رفض العسكريين نقل رئاسة المجلس السيادي إلى المكون المدني في نوفمبر القادم، كما هو مقرر في الوثيقة، معتبرا أن ذلك أدى إلى انسداد الموقف السياسي في البلاد، وهو ما أثر سلبا على استقرار الفترة الانتقالية.
ويقول “عبد الرحمن”، إن استمرار الوضع الراهن بات “مستحيلًا”، لافتًا إلى ضرورة توافق شركاء الحكم على مرحلة جديدة يكون عنوانها “التوافق الوطني”، محذرا من أنه في حال عدم حصول التوافق بين الفرقاء السياسيين، فإنه “من الممكن أن ينزلق السودان إلى نزاع أوسع”، مشيرًا في الوقت ذاته إلى الانقسام الحاصل في الشارع السوداني”.
الصحفي “منعم زين الدين”، يخالف “عبد الرحمن” في رؤيته حول أسباب الخلاف بين العسكر والمدنيين، معتبرا أن هذا الخلاف، ما جاء إلا نتيجة لرغبة الحاضنة السياسية في الاستئثار بالسلطة، للحفاظ على مناصبها والاستمرار في الحكم.
ويشير “زين الدين” إلى أن هذه الحاضنة السياسية مكونة من 4 أحزاب فقط، وهي لا تمثل سوى 20 بالمئة من القوى المدنية بالدولة، معتبرا أنها استأثرت بالوزارات ضمن محاصصة وهو ما يعد خرقا للوثيقة الدستورية، على حد وصفه.
صراع على الجيش
بالإضافة إلى ذلك، يرجع “زين الدين” تصاعد الخلاف إلى ضغط المدنيين من أجل الرقابة على الجيش وإعادة هيكلته، من خلال دمج قوات الدعم السريع شبه العسكرية القوية، وهو الأمر الذي يعارضه القادة العسكريون.
ويعتبر “زين الدين” أن إعادة هيكلة الجيش تشمل الشركة التجارية التابعة له، وبالتالي نقل إدارتها وملكيتها إلى وزارة المالية، وهو ما يرفضه المكون العسكري.
من جهته، يرى المحلل السياسي ” عبدالله عبد الرحمن” أن إعادة الهيكلة تعني توحيد جميع القوى المسلحة في البلاد، مما قد يتسبب في إبعاد عدد من الضباط الإسلاميين الموالين للنظام السابق، كما أنها تعني إعادة تغير العقيدة القتالية للجيش من العقيدة الدينية إلى العقيدة الوطنية، وهو ما يرفضه العسكريون.
يشار إلى أن النائب الأول لرئيس مجلس السيادة الانتقالي “محمد حمدان دقلو”، “حميدتي”، أعلن رفضه تسليم جهازي الشرطة والمخابرات العامة للمكون المدني باعتبارهما جهازين عسكريين، قائلا إن “هذه أجهزة عسكرية لن نسلمها إلا لرئيس منتخب”.
وفي رده على “حميدتي”، رفض وزير شؤون مجلس الوزراء، “خالد عمر يوسف”، هذه التصريحات، وقال في تغريدة على تويتر: “تصريحات السيد النائب الأول لرئيس مجلس السيادة حول تبعية جهاز الأمن والشرطة للعسكريين، فيها خرق واضح للوثيقة الدستورية التي نصت بوضوح في المادة ٣٦ على خضوع الشرطة للسلطة التنفيذية وفي المادة ٣٧ على خضوع جهاز المخابرات السلطتين السيادية والتنفيذية”.
مُعيقات التوصل لتفاهم..
يرى الباحث والمختص في الشأن السوداني، “نبيل محمود” أن التوصل لتفاهم بين المؤسستين العسكرية والمدنية، أصبح شبه مستحيل، معتبرا أن لجنة التمكين وحل الحكومة يشكلان الآن أكبر المعيقات أمام التوصل لحل ينقذ البلاد من مستقبل أكثر سوء، على حد تعبيره.
ويضيف، “تحمل الاختلافات بين المكون العسكري والمدني للسلطة في السودان أوجها عديدة، أبرزها آليات استرجاع الأموال المنهوبة، وعمل الحكومة، وإصلاح المؤسسة العسكرية والتداول على الحكم”.
يشار إلى أن موقع صحيفة “سودان تريبيون”، كشف يوم الجمعة الماضي، أن رئيس الوزراء السوداني، “عبد الله حمدوك”، رفض طلبا من رئيس مجلس السيادة بحل حكومته المكونة من قوى الحرية والتغيير وتعيين حكومة جديدة بدلا عنها.
جاء ذلك، بحسب الموقع ذاته، بعد يوم من اجتماعه مع رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو “حميدتي” لمناقشة الأزمة السياسية في البلاد، حيث أعاد “البرهان” التأكيد على ضرورة تجميد نشاط لجنة إزالة التمكين.
يشار إلى أن لجنة إزالة التمكين، آلية أقرت بعد سقوط نظام البشير هدفها استرداد الأموال من رموز النظام السابق، لكنها أصبحت تشكل نقطة خلاف بين العسكر والمدنيين.
ويقول “محمود” إن اللجنة انحرفت عن مسارها، وأصبحت تسير في نهج تصفية الحسابات وليس استرجاع الأموال المنهوبة.
رهان على الموقف الأمريكي
يرى مراقبون أن الولايات المتحدة الأميركية تقف إلى جانب السودان الذي يسعى إلى الانتقال السياسي المرن عقب سنوات من الديكتاتورية، مشددين على أن على واشنطن أن تقدم يد المساعدة للسودان حتى يخرج قريبا من دوامة الخلافات.
المحلل السياسي، بلال حسين، يرى أنه من الضروري أن “تفعل واشنطن ذلك بطريقة محايدة” دون الميل إلى أي طرف، محذرا من الرجوع إلى المربع الأول، خاصة أن الخلافات وصلت إلى مرحلة معقدة “يمكن وصفها بمرحلة اللاعودة” وفق تعبيره.
كما يشدد “حسين” على ضرورة أن يساهم دور الولايات المتحدة، في تقريب وجهات النظر للخروج بالسودان من هذه الأزمة، معتبرا أن “الوقوف على مسافة واحدة من الجميع يشجع التوازن بين القوى السياسية خلال المرحلة المقبلة”.
وأكد على أن الأيام القليلة القادمة من شأنها أن تحدد مصير السودان، وهي وفقه “أيام فاصلة في تاريخ السودان” لضرورة أن تكون هنالك خطوات تعيد التوازن للبلاد وتشكيل مشهد سياسي سوداني جديد وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية.
يشار إلى أن مستشار الأمن القومي الأميركي، “جيك سوليفان”، كان قال قبل أيام، إن إدارة الرئيس، “جو بايدن”، تدعم الانتقال الديمقراطي، الذي يقوده المدنيون في السودان.
وفي اتصال هاتفي مع حمدوك، أعرب “سوليفان” معارضة واشنطن لأي محاولة لعرقلة أو تعطيل إرادة الشعب السوداني.
وأكد سوليفان، وفق بيان للبيت الأبيض، أن أي محاولة من قبل الجهات العسكرية لتقويض الروح والمعايير المتفق عليها للإعلان الدستوري السوداني سيكون لها عواقب وخيمة على العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والسودان والمساعدات التي تخطط واشنطن لتقديمها إلى الخرطوم.
والخميس أجرى المبعوث الأميركي الخاص للقرن الإفريقي، جيفري فيلتمان اتصالين هاتفيين برئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك ورئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، دعاهما إلى تجنب الصراعات السياسية التي قد ترهن عملية الانتقال السياسي السلس.
يذكر أن الاتفاق السياسي في 2019 نص على أن تكون الفترة الانتقالية لمدة ثلاث سنوات، وجُدد الاتفاق عقب توقيع اتفاق السلام مع فصائل متمردة في تشرين أكتوبر 2020.
كما نص على أن يترأس العسكريون مجلس السيادة الانتقالي ثمانية عشر شهرا ومن ثم تنتقل الرئاسة إلى المدنيين.
ويفترض أن يتم تسليم الحكم لسلطة مدنية إثر انتخابات حرة في نهاية المرحلة الانتقالية، ولكن الخلافات تتزايد بين المدنيين ما أضعف الدعم الذي يحظى به رئيس الوزراء عبد الله حمدوك المنبثق من ائتلاف الحرية والتغيير الذي أضحى محل انتقاد الرأي العام بسبب إصلاحات اقتصادية غير شعبية.