لطالما شكلت لبنان عمقاً استراتيجياً لسورية وأنظمتها المتعاقبة بحيث تداخلت سياسة البلدين وتشابكت مختلف الملفات والمفاصل المهمة لكل من بيروت ودمشق مع ثقل وسيطرة أكبر وتأثير أهم لدمشق مقارنة مع التأثير العكسي اللبناني على سورية، نظرًا لعوامل تتعلق بالبنية الجيو سياسية والوزن الإقليمي.. وبات من مقتضى هذا التداخل أن من يريد فهم ما يجري في لبنان يجب عليه متابعة الوضع السوري، والعكس بالعكس.
وتعتبر سيطرة النظام السوري على مفاصل صنع القرار اللبناني، وكواليس المشهد السياسي، أمرًا واضح الدلالة والمؤشرات بعد بقاء سوري طويل في لبنان عبر قوات الجيش وأفرع الأمن، ليضاف لها لاحقًا النفوذ المرتبط بالميليشيات “خصوصاً الشيعية” كحزب الله وحركة أمل وبعض القوى والأحزاب الأخرى بناء على سياسة المصالح وتشبيك الملفات.
وفي ضوء ذلك يمكن فهم التصريحات الأخيرة التي أطلقها وزير الثقافة والزراعة اللبناني، عباس مرتضى، حول مناقشة العلاقة اللبنانية السورية في جلسات الحكومة الجديدة القادمة، متنبئًا بعودة العلاقات لما أسماه وضع متميز سابق.
وقال الوزير مرتضى في لقاء خاص أجرته معه وكالة ” سبوتنيك ” الروسية اليوم الخميس، إن “العلاقة مع سوريا تتحدد في جلسات الحكومة المقبلة، على أمل أن يكون هناك علاقات مميزة بعد التشاور في مجلس الوزراء”.
وأكد وزير الزراعة “والثقافة” أن النية الحالية في كواليس المشهد اللبناني، إعادة الوضع لسابق عهده مع سورية، وتحمل التوجهات الرسمية وفقاً له، رغبة فعلية بذلك على عكس سياسة النأي بالنفس التي انهجتها الحكومات اللبنانية السابقة.
وعلل الوزير المحسوب على رئيس البرلمان اللبناني ” حركة أمل والقوى الشيعية ” نبيه بري، أن لبنان يستفيد من إعادة تطبيع العلاقات لوجود خط نقل “ترانزيت” للدول العربية خاصة بالمنتجات الزراعية، ومن شأن عودة العلاقات أن تفتح الباب واسعاً على عودة التصدير من لبنان بشكل يدخل العملة الصعبة للبلاد التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، مما يسهم – وفقاً لمرتضى – في تقدم الاقتصاد اللبناني وتطوير الحياة الاقتصادية هناك (نشير هنا أن سورية هي الحدود الوحيدة المتوفرة للجانب اللبناني باستثناء إسرائيل) مما يوضح الغايات والذرائع التي يحاول الوزير تمريرها عبر ربط الاقتصاد وتراجعه بدعوى تطبيع العلقات مع نظام الأسد، الذي يعاني هو أصلا من حصار متزايد وتهالك في اقتصاده الذي كان يستند إلى المصارف والسوق اللبنانية قبل الأزمة الأخيرة في لبنان.
ومع تذرع الوزير المحسوب على قوى موالية لنظام دمشق، وربطه موضوع المنتجات الزراعية – اختصاص وزارته – بالوضع الاقتصادي المتردي بضرورة عودة العلاقات مع دمشق، يؤكد مرتضى ” وبتصريحات متكررة” أن الحاجة ماسة لعودة العلاقات مع سورية وسيكون ذلك على رأس الأمور المطروحة.. وهنا يمكن القول عن بدايات تعقيد تواجه حكومة حسان دياب الجديدة.
فالرئيس المكلف ” حسان دياب ” أكد سابقًا وأمام وفود اقتصادية على تشدد حكومته في قضية وسياسة النأي بالنفس التي انتهجتها الحكومات السابقة، ملمحاً لاستمراره فيها، بشكل يتناقض مع تصريحات وزير الزراعة لديه، مما يعكس عمق الأزمة التي تواجه الحكومة الحالية وما يعترضها من قنابل موقوتة ترتبط بحساسية التوقيت الذي استغله الوزير ” مرتضى والقوى التي تحركه، لطرح تلك المسألة الشائكة.
وفي محاولة فهم محركات ودلالة التوقيت في تصريحات مرتضى فتح ملف إعادة التطبيع، يتوجب الإشارة لنقطتين، تتعلق الأولى بمحاولة حزب الله والقوى الشيعية والقوى الأخرى الموالية لسورية “نظام الأسد” الاستفادة من اختلال التوازن في المشهد السياسي لصالح محورهم ضد بقية المحاور، فيما ترتبط النقطة الثانية باختلال التوازن نفسه، فحكومة “حسان دياب” تشهد غياباً فعليّاً لأغلب القوى المناهضة للنظام السوري ومحورها الإقليمي (حزبي الكتائب والقوات وتيار المستقبل وحزب جنبلاط الاشتراكي) مما يعني غيابها عن صنع القرار وبمقتضاها مبعدة عن تحديد توجهات السياسة الخراجية للحكومة الجديدة، مما يعني احتمالية تغيير في توجه بيروت نحو نظام الأسد ” الذي يرفضه قسم كبير من اللبنانيين” لوقوفه وراء جرائم هزت الشارع اللبناني لعقود وفرضه لنظام الوصايا وتحكمه بمسار الدولة والشعب؛ ما يعني احتمال تصعيد وغضب سياسي – سياسي – شعبي داخلي.
الحكومة الحالية حكومة محسوبة على محور حزب الله – دمشق – إيران، ومع ابتعاد المحور المناهض، وغياب الرضا السني ” الفعلي ” عن حكومة “دياب ” السنّي لمؤشرات عديدة أبرزها في الشمال السني، وتجنب كثير من الكتل البرلمانية السنية التصويت لحكومة دياب ومنحها الثقة، لكنها من جهة ثانية تحوي أشباه مختصين “تكنوقراط” محسوبين على مسؤولي تلك التيارات وليسوا نوابًا (في نقلة هي الأولى – ربما – لبنانيّاً) لكنها حكومة حملت رسائل داخلية بتكليف نساء بوزارات جديدة ورسائل خارجية للمانحين والداعمين “لعل أهمها التأكيد على سياسة النأي بالنفس” وهو المطلب الغربي الأمريكي من مختلف الدول ومن لبنان تحديداً – بالإضافة لشروط أخرى – لاستجلاب الدعم، ليبقى السؤال حول قدرة دياب وحكومته الجديدة على إدارة هذه التوازنات المعقدة مع محاولات ايران وحلفائها اختطاف الحكومة ولبنان كله.