اعداد وحدة الرصد والمتابعة في مرصد مينا
الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتزايدة أثرت في المجتمع السوري واستطاعت أن تغير من تركيبة الأسرة السورية تغييراً ظاهراً، إذ فقدت المعيل ولم يعد لديها من يحمل أعباءها؛ فوجد بعض الأطفال أنفسهم وجهاً لوجه مع الحياة، ليتحول كثيرون منهم إلى أسواق العمل في سني عمرهم المبكرة ليعيلوا ما بقي من عائلاتهم أو ليعملوا مقابل ما يسد رمقهم ويضمن لهم شيئاً من حياة كريمة؛ فأصبحت عمالة الأطفال أكبر المآسي التي يعيشها أطفال سوريا، وتحولت إلى واحدة من أكبر المشكلات التي تلقي بظلالها على المجتمع بأكمله منذرة بمستقبل مخيف ينتظر الطفولة:
- عمالة الأطفال وأسبابها.
- عمالة الأطفال وآثارها النفسية والصحية.
- استمرار الفقر والجهل من نتائج عمالة الأطفال.
- الحلول المقترحة للحد من عمالة الأطفال.
تمهيد
الموت والدمار وما تخلفه الحرب من انعدام لفرص العمل وتراجع في الواقع الاقتصادي والمعيشي يدفع بعشرات الأسر إلى الاعتماد على الأطفال في الأعمال المحلية من أجل تأمين حاجات الأسرة في ظل توقف مصادر الدخل، بينما استشهد الأب أو اعتقل أو غيب في أوضاع أخرى ما يدفع الأسرة إلى الزج بأطفالها في سوق العمل لتأدية ما كان يقع على عاتق الآباء متحدين في تلك الأوضاع العصيبة التي تواجه العامل في مجالات عمله المختلفة، وما يتبعها من استغلال للأطفال وعائلاتهم من عمل بأجور قليلة أو بما يسد الرمق، وغيرها من الانتهاكات التي تشهدها عمالة الأطفال في المناطق والدول كافة، وما يترتب عليها من ترك الأطفال لمدارسهم وما يتبعها من انحراف ومشاكل سلوكية وأخلاقية يدفع المجتمع ثمنها بأكمله.
عمالة الأطفال وأسبابها
دخول الحرب عامها الثامن في سوريا خلف دماراً كبيراً في بنية الاقتصاد السوري وتراجعاً كبيراً في مصادر الدخل الأمر الذي دفعت ثمنه آلاف العائلات السورية التي لم تعد قادرة على تأمين حاجاتها الأساسية من طعام وشراب، ولا سيما في ظل موجات النزوح الداخلية التي دفعت بآلاف الأسر إلى هجرة مدنها وقراها لينتهي المطاف بها في مخيمات النزوح في أوضاع إنسانية صعبة، وساهم ضعف الدخل وانخفاض أجور العمل مقابل الغلاء الفاحش الذي طال البضائع والمواد الغذائية كافة في السوق السورية ولم يعد بمقدور الأب الذي يعيل عائلة كبيرة وأن يؤمن لها ولو الحد الأدنى من متطلباتها الأساسية الأمر الذي أجبر الأغلبية العظمى على إشراك الأطفال في أعمالهم التي يقومون بها، إذ إن معدل الصرف الشهري للأسرة السورية وصل إلى 10 آلاف ليرة سورية بمعدل وسطي، في حين إن معدل الأجور لا يتجاوز ألفي ليرة سورية الأمر الذي يتطلب أن يعمل ثلاثة أشخاص في العائلة حتى يتمكنوا بذلك من تأمين حاجاتهم الأساسية من الطعام والشراب، بينما تبقى حاجات الأطفال الأخرى غائبة عن الأسر السورية معظمها، وتأتي حالة النزوح وترك العائلات مدنهم وبلداتهم وبقاء الأطفال من دون مدارس عاملاً مهماً في تنامي عمالة الأطفال انطلاقاً من قناعة العائلات بحاجة أطفالها إلى أن يتعلموا مهناً تكفيهم حاجة السؤال في المستقبل وتكون معيناً لهم على تأمين حاجاتهم في قابل الأيام.
عمالة الأطفال وأثرها في الطفل والمجتمع
أغلب الأعمال التي يمارسها الأطفال هي أعمال شاقة ولا تتلاءم مع أجسادهم الضعيفة من نقل وتحميل البضائع إلى العمل في محل صيانة السيارات والآليات الثقيلة وأعمال البناء وغيرها لتتربت عليها آثار جسدية كبيرة من أمراض تصيب عدداً كبيراً من الأطفال، إلى فقد شيء من أطرافهم نتيجة خطأ يطرأ معهم أثناء العمل وغيرها من التبعات الصحية والأمراض التي يعانيها الأطفال دائماً نظراً إلى عدم تحمل أجسادهم الصغيرة للأعمال الشاقة والطويلة التي فرضت عليهم في ظل عدم مراعاة كثير من أرباب العمل صغر سن هؤلاء الأطفال والتعامل معهم انطلاقاً من عدم مقدرتهم على إنجاز كثير من الأعمال الصعبة، ويتبع ذلك آثار نفسية كثيرة ولا سيما عندما يدرك الأطفال أن هذه الحياة فرضت عليهم بشكل كامل، في حين إن أقرانهم على مقاعد الدراسة في أوضاع إنسانية جيدة.
مجد طفل في الثالثة عشر من العمر يعمل في محل لصيانة السيارات ويباشر عمله من الساعة الثامنة صباحاً حتى الساعة السادسة مساء وبأجر يومي لا يزيد على 400 ليرة سورية وهي بالكاد تكفي مجد وعائلته ثمن الخبز اليومي الذي يحتاجون إليه، مجد مجبر على هذا العمل الذي لم يعتد عليه حتى الآن ولم يحتمل مشقته يوماً واحداً، غير أنه طفل صغير يحمد الله على أنه وجد عملاً واستطاع أن يكسب أجراً يسد رمق عائلته، أمه المريضة وإخوته الصغار بعد أن استشهد والده معيلهم الوحيد، وما يجعله مواظباً على العمل على الرغم مما فيه من بؤس ومشقه أن رب العمل يتعاطف معه كثيراً ولا يحاول استغلاله بطريقة تفوق مقدرته على التحمل.
بعد ساعات العمل الطويلة يحاول مجد خلق فسحة من الفرح ليتذكر شيئاً من طفولته، ولكن يأتيه عمل من نوع آخر وهو شراء ما يلزم للأسرة والمنزل ليأتي الليل وساعاته الأولى على جسده الصغير وقد فقد كل مقدرة على الحياة مستسلماً لنوم لا ينتبه منه إلا صباح اليوم التالي بملابس العمل متجهاً إلى رحلة كفاح وتعب يعجز الرجال عن المضي فيها.
خالد أب لأسرة مؤلفة من خمسة أطفال اضطرته الحرب إلى النزوح مع أسرته من ريف حماه إلى ريف إدلب، يعمل خالد في البناء وساعده في بداية نزوحهم ابنه الكبير سعد الذي طالما حلم أن يراه مهندساً متفوقاً، غير أن النزوح والتشرد والفقر الشديد حالَ بينه وبين حلمه في أبنائه، لينتهي بهم المطاف إلى عمال يسعون وراء لقمة عيشهم في ريف إدلب الشمالي.
ارتفاع تكاليف الحياة دفع بخالد إلى إشراك ابنه الثاني حسن الذي لم يتجاوز عمر 10 سنوات، يقول خالد: أجبرت على دفع أولادي إلى العمل مثلي مثل السوريين جميعهم الذين يعملون ليل نهار لتأمين القليل من الغذاء ودفع ثمن تشغيل الكهرباء ساعات محدودة، وشراء ما نحتاج إليه من ماء، ليس هناك أقسى من منظر أولادي وهم منهكون يرتدون ثياب العمل بدلاً من ثياب المدارس، أرى مستقبلهم يضيع أمام عيني ولكن لا حول لي ولا قوة.
لا تنتهي معاناة الأطفال بتعبهم الجسدي فقط ففي أغلب الأحيان يكون رب العمل قاسياً وظالماً فيتعرض الأطفال إلى عنف لفظي يشعرهم بالدونية، ويظل عامل الخوف والقلق يسيطر عليهم حتى بعد وصولهم مرحلة الشباب، وقد يتحول إلى أمراض نفسية كما تقول المرشدة النفسية إيمان كناص: ففي أحيان كثيرة يتعرض الأطفال إلى تحرشات جنسية من أرباب العمل قد ترافقها انعكاسات نفسية مدى الحياة، وفي الشارع حيث يعمل أغلب الأطفال هم لقمة سائغة للشواذ وأصحاب الأنفس الضعيفة، إذ إن من بين كل أربعة أطفال يعملون في الشارع هناك طفل يتعرض للتحرش الجنسي، وفي أحيان كثيرة يدفع لهم المال مقابل هذا الفعل المشين ليتحول هؤلاء الأطفال إلى شواذ ولا سيما الفتيات منهم، وهناك أيضاً ما يتعرض له الأطفال من مخاطر أثناء تعاملهم مع الآليات الثقيلة أو عملهم في البناء قد تسبب لهم الإعاقة.
استمرار الفقر والجهل من نتائج عمالة الاطفال
هناك دراسات كثيرة أجراها المهتمون بواقع عمالة الأطفال تشير إلى ازدياد حالات الفقر في المستقبل وارتفاع نسبة الجهل بسبب عدم إكمال الأطفال تعليمهم، إذ ستصبح قدرتهم على تطوير أعمالهم وواقعهم شبه معدومة، وإذا لم يكن هناك معالجة حقيقة لعمالة الأطفال من خلال منظمات المجتمع المدني فإن ذلك سينعكس على المجتمع بشكل كامل وليس فقط على الأطفال وذويهم.
الموقف الدولي من عمالة الأطفال:
كثير من الدراسات والاحصاءات المحلية والدولية أشارت إلى أن مشكلة عمالة الأطفال هي من أكثر المشكلات خطراً في مستوى العالم، إذ إن مفهوم عمالة الأطفال يشمل تشغيلهم في المجالات كلها، سواء كانت الخدمية أم الإنتاجية مقابل أجر يومي أو مالي بعيداً عن أسرهم ما يعتبر تهديداً على سلامتهم وصحتهم، وسبباً لعدم إتمام تحصيلهم العلمي وأخذ فرصتهم في اكتساب مهارات علمية تغير من مستقبلهم، وقد تصنع العمالة منهم مجرمين أو أشخاص غير قادرين على إدارة حياتهم بالشكل الصحيح، وقد ذكر في مؤتمر جنيف لحقوق الطفل عام 1924 وفي إعلان حقوق الطفل الذي اعتمدته الجمعية العامة في تشرين الثاني 1950 والمعترف به في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن الطفل بسبب عدم نضجه الجسدي والعقلي يحتاج إلى رعاية واهتمام خاص وإلى رعاية قانونية، وجاء ذلك في إعلان حقوق الطفل لكن هذا القانون لم يستفد منه الطفل السوري في واقعه المأسوي وليس هناك أي رعاية دولية للأطفال السوريين، وهناك بعض المبادرات الفردية التي جرى العمل عليها لتغيير واقع عمالة الأطفال السوريين من خلال تأمين دخل بديل لعملهم وإعادتهم إلى مدارسهم إلا أن هذه الحلول كانت جزئية ودون المستوى المطلوب ولم تتمكن من الوصول إلى جزء قليل من الأعداد المتزايدة من الأطفال الذي وقعوا ضحية العمل في سنواتهم المبكرة، ولا يمكن لهذه المبادرات أن تعطي حلولاً جذرية من دون وقوف منظمات دولية تتعامل مع الطفل السوري بطريقة إنسانية مطبقة اتفاقية حقوق الطفل التي ترعى للأطفال حقهم في التعليم والصحة.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي©.