محمود إبراهيم: خبير أمني واستراتيجي، رئيس وحدة دراسات مركز برق الاستشاري.
التصنيف: ورقة سياسات تستهدف تفكيك النواة الصلبة لِـ نظام الحكم في سوريا، وتقدم رؤية لاستعادة القطاعات المتوحشّة المتمثلة في الأمن والدفاع عن سلطة القانون والعدالة الإنسانيّة، وتحتوي على الفقرات الآتية:
- تمهيد: الحالة السوريّة، والتموضع الإقليمي والدولي.
- سوريا أمنيّاً قبل الحراك الشعبي.
- النواة الصلبة لِـنظام الحكم (الدولة الموازيّة).
- نقاط التشابه بين النظام السوري وأنظمة المنطقة.
- أولويات إصلاح القطاع الأمني في سوريا.
- منظومة “الحكم الرشيد” ضمن قطاع الأمن المحوكم.
تمهيد
تعاني العاصمة السوريّة دمشق هشاشة أمنيّة غير مسبوقة، واحتمالات انهيار منظومة التحكّم متزايدة، وخصوصاً بعد اتساع مساحات سيطرة المليشيات الطائفيّة غير المنضبطة في نطاق دمشق، وعليه نقدّم في هذه الورقة، رؤية في تشكيل الأجهزة الأمنيّة السوريّة، على أمل أن تساهم في توضيح الصورة لدى صنّاع القرار، وعموم الرأي العام المؤثِّر، والمُتأثِّر بِـ الحالة السوريّة كَـ حالة عابرة لِـحدود الدولة المشتعلة والإقليم، لتصل إلى حدود العالميّة وهذا بناءً على ما جرّت هذه الحالة مِن تورط دول كبرى في ملفات حربها الدمويّة التي يدفع فيها الشعب السوري وحده فاتورة الدم والتهجير، والعنف الطائفي الممارس بصورة رئيسة مِن النظام الحاكم، ومنظومة دعمه الإقليمية والدوليّة التي ستتأثّر كما باقي دول الإقليم في حال حدوث الانهيار من دون أن يكون هناك استعداد مقابل لامتصاص الهزات الارتدادية.
سوريا أمنيّاً قبل الحراك الشعبي آذار2011 م
لا يمكن التغافل عن حالة فرض الأمن التي تميز بها المجتمع السوري في ظل حكم النظام الشمولي، ولكن في الوقت ذاته يجب التفريق بين حالة فرض الأمن والسلام المجتمعي الذي فشلت الأجهزة الأمنية إلى الوصول إليه أو أنها لم تسعَ له في ظل حالة رُهاب شديدة صنعتها بينها وبين الشعب، وبين فئات الشعب وطوائفه وذواتها.
ما هي النواة الصلبة للنظام السوريّ؟ (الشكل العام للدولة الأمنية السوريّة في حكم آل الأسد)
استطاع النظام السوري في مدى سنين حكمه الممتدّة منذ استلام حزب البعث السلطة في ستينيات القرن الماضي إثر انقلاب آذار 1963م، وما نفذته بعدها عناصر داخله مِن حركة تطهير ضد قيادات الصفّ الأوّل وتسلمت الحكم في شباط 1966، لينتهي المطاف بمنفذي حركة شباط في السجون إبّان الانقلاب الذي قام به حافظ الأسد وشقيقه رفعت على القيادة القوميّة والسكرتارية العسكرية للحزب في 1970م، ليستقر بعدها شكل الحكم الذي تحول من شمولي أيديولوجي، إلى أيديولوجي معتمد على طائفة، ثم طائفي عائلي.
وبهذا بنى حافظ الأسد منظومة أمنية متطورة عن منظومة العقيد السراج قائد الشعبة الثانية ومؤسسها (الاستخبارات) التي اعتمدت على الأيدلوجية القومية الناصرية، بينما رسم حافظ الأسد (المؤسس الحقيقي لدولة الاستخبارات في سوريا) طريقة حكمه بالاعتماد على ثلاث دوائر ضيقة أسس مجموعها الدولة الموازية التي سيّرت نظام الحكم في سوريا حتى اندلاع الحراك الشعبي وخروج مناطق واسعة على سيطرة النظام في أواسط 2012م.
- شخص القائد: من خلال تأليه الشخص (القائد) كمهمة رديفة تقوم بها أجهزة استخبارات تشرف على عمل منظومة الدولة الإعلاميّة والاقتصاديّة والسياسية بشقيها الداخلي والخارجي.
- حكم العائلة: من خلال فرض أقرباء آل الأسد في المناصب السيادية غير الظاهرية في الاستخبارات والحرس الرئاسي ومفاصل الاقتصاد النفطية تحديداً.
- منظومة الاستخبارات “الأمن القومي”: التي اعتمدت على ستة أجهزة رئيسية تتفرع منها شبكات السيطرة والضبط الأمني ومنها مكتب الأمن القومي التابع للسكرتارية العامة لحزب البعث السوري، إدارة الاستخبارات العامة (أمن الدولة)، الاستخبارات العسكريّة، الاستخبارات الجويّة، شعبة الأمن السياسي التابعة اسميّاً لوزارة الداخلية، تشكيلات رديفة[1].
بالاعتماد على النواة الصلبة تمكّن النظام الانتقال من حكم الأب إلى حكم الوارث، ولكنه فقد كاريزما القائد بسبب شخصية بشار المختلفة عن والده ليستبدلها بتوسيع صلاحيات الدائرتين الثانية والثالثة من النظام (حكم العائلة، ومنظومة الاستخبارات) التي أخرجت البلاد عن سيطرة النظام، وهذا ما تجلّى في عدم قدرة رأس النظام على معاقبة ابن خالته المسؤول في شعبة الأمن السياسي عاطف نجيب[2]، وعاقب بدلاُ منه الشعب بأن حرك الجيش خارج الثكنات وأغرقه في حرب فككت البلاد وحولت الجيش إلى مليشيات وفلول استخباراتيّة تهدد سلام المدنيين وأمنهم.
لم يكن الوضع في سوريا مختلفاً عن باقي الدول المحكومة بأنظمة السبعينيات التي استطاعت المحافظة على تماسك نواتها الصلبة في مدى أكثر من أربعين سنة تخللتها أحداث دولية كبرى ومنها سقوط جدار برلين، وانهيار مجلس السوفيات الأعلى، ومعه الفكر الشمولي الممثل بالشيوعيّة أو أيديولوجية القبضة الحديدية.
نقاط التشابه بين النظام السوري وباقي أنظمة المنطقة
سيطرة التجييش العقائدي والتفكير الأيديولوجي على العقل الجمعي للمجتمع من خلال الترويج المبرمج لنظرية الاستهداف الإمبريالي (الشرير) لكيان الأمّة ووجودها، وهو شيء يشابه نظرية التأطير التي أنتجها العقل الدعائي النازي بإشراف جوبلز[3].
- اختزل النظام الشمولي وجود الأمّة والشعب في شخص القائد الذي يعمل على تأليهه جهاز استخباراتي كانت مهمته الرئيسة رسم صورة شخص نصف آلهة يحكم شعباً من الموتى، لهذا كان أيّ استهداف لشخص الحاكم، هو استهداف لوجود الشعب ويقتضي بموجبه تدخل المجتمع الأمني[4] كاملاً للقضاء على أيّ ظاهرة لِلتمرد.
- بناء على عقلية التأطير والتأليه والمجتمع الأمني استطاع النظام العربي الاستمرار، وبنى بموجب سيطرته على الركائز الثلاثة كياناً يفكّر بعقلية واحدة داخل نُظم متعددة، كان هذا واضحاً من خلال التطابق في طريقة الردّ على الحراك المدني الديمقراطي لِلشعوب العربية في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، مع وجود فوراق في التنفيذ لعمليات القمع العشوائي وإطلاق اليد الحديدية.
- الآن وبعد تفكك المنظومة الأمنية وانهيارها في الدول المذكورة أعلاه _عدا تونس التي ما يزال فيها إمكان لانتقال ديمقراطي بتكلفة أقل_ ظهر نظام جديد هو العسكرة المبنية على عقلية ضباط الأمن غير المقيدين بدستور، ولا يوجد ضابط أو محدد لتصرفاتهم فازداد الأمر سوءاً عن سابقه بحيث تحول الجيش إلى قوّة منفلتة غير منضبطة ولا نظامية تسعى لفرض هيبتها ووجودها بعمليات تطهير واسعة ومن دون محاكمات وهذا تماماً ما كان يمارسه الجهاز الأمني في الدول العربية كلها، فَـ “الأُطُر الدستورية في هذه الدول مفكّكة والميدان السياسي يشهد استقطاباً حادّا، الأمر الذي يمنع بروز الحوكمة الفاعلة لقطاعات الأمن[5]“.
- ولهذا يبدأ إصلاح القطاع الأمني فيها بفرض حالة استقرار مجتمعي _ولو جزئياً_ يسمح بعودة الحياة إلى مؤسسات الدولة التي تشكل أحد أوجه المجتمع الأمني السابق وهي المنظمات غير المفوضة بِاستخدام القوّة، كهیئات الإدارة المدنية والرقابة؛ والمؤسسات العدلية الخاصة بتطبيق القانون، مستندة إلى وجود محدود قابل للزيادة مع مرور الوقت لجهاز ناشئ من الشرطة المجتمعية ذات الوجه الأقرب إلى بيئة المجتمع الذي توجد فيه.
- إنّ الوصول إلى ما بعد حالة العسكرة والاستقطاب المطلق ضرورة أولى في إعادة هيكلة الجهاز الأمني وتنظيمه بوصفه جزءاً من منظومة مجتمعية تميل إلى التخلّص مِن فكرة الاستبداد والقتل والفلتان التي أسست لها ورعتها أنظمة بنت وجودها على تخويف المجتمع من ذاته وتحريض المكونات على بعضها باعتبار أن هذا السبيل هو الضامن الوحيد لبقائها في سدّة السلطة المطلقة.
أولويات إصلاح القطاع الأمني في سوريا
ما ينطبق على بلدان النزاعات الدموية كلها ينطبق على سوريا بوصفها بلداً شهد نزاعاً مسلحاً فرضته ممارسات أمنية وحشية وصلت إلى حد سمل أعين ونزع أظافر وشوي بالنار، وهذا يحتاج إلى مرحلة من إعادة التأهيل الذاتي في داخل الذاكرة الجمعية للمجتمعات المتضررة من ممارسات هذا القطاع في مرحلة من المراحل، ويمكن أن نضرب على هذا مثالاً ألمانيا التي عانت جهاز الشرطة السريّة في عهد النازية، واحتاجت إلى سنوات بعد محاكم نورمبرغ لإنشاء أوّل جهاز أمني بمسمى “وكالة الاستخبارات العسكرية الاتحادية” في مطلع عام 1956م[6].
“تتطلّب إعادة تأهيل قطاعات الأمن وإصلاحها مقاربة غير متحزِّبة، وتعتمد على التوصّل إلى توافق معقول حول مكوّنات النظام الاجتماعي وحول مبادئ الاقتصاد العادل المقبول. في غياب ذلك، لن يكون للمساعدة التقنية والتدريب اللذين يُطرحان روتينياً في برامج الإصلاح من قيمة تُذكر[7]“، وهنا تكمن ضرورة عمل الدولة على تلافي الأخطاء أثناء ترميم أجهزتها الأمنيّة، والدفاعيّة وعند تطوير منظومتها الوقائيّة الداخليّة، والخارجيّة.
تبقى خصوصيّة الحالة السوريّة التي تحتاج إلى معايير خاصة لإصلاح القطاع الأمني في ظل بيئة مجتمعيّة مهشمة، وتكوين إثني وطائفي شديد التعقيد
- تفكيك الدولة الموازية بإزالة نواتها الصلبة (رأس النظام، وحكم العائلة) وتوحيد الأجهزة الأمنية ضمن قطاع خدمة وطنية خاضع لِـلعدالة الدولية والمحاسبة الدستوريّة وحقوق الإنسان.
- تهيئة المجتمع لإعادة تقبّل وجود جهاز أمني/ استخباراتي تشكل نواته قوات منضبطة.
- إصلاح القطاع القانوني بمفاصله كلها؛ التشريعية والتنفيذية ضمن دستور ذي معطيات تراعي الواقع الذي فرضته الحرب الداخلية، والعدوان الخارجي الممارس على الشعب السوري.
- تطهير الأجهزة الأمنية، وعموم المجتمع العسكري من الذين لوثت أيديهم بالدماء.
- إجراء فصل كامل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، وإخضاع الجميع لرقابة دولية مشددة ضمن مرحلة انتقالية تهدف إلى وقف نزيف الدم وتسعى لإعادة السلاح كاملاً إلى سلطة شرعية خاضعة للقانون والمحاسبة.
وبهذا يمكن أن نصل إلى منظومة “الحكم الرشيد ضمن قطاع الأمن المحكوم بمبادئ الديمقراطية، وتتحكم فيه السلطات المدنية، ويعمل وفقاً لنهج بناء السلام نحو الأمن”[8]، وعليه لا يمكن عزل أمان سوريا واستقرارها كَنقطة ارتكاز، وثقل عالمي عن محيطها الإقليمي، وكذلك مسرحها الدولي العميق، بما تحمله سوريا من إرث تاريخي، وحضاري، وكذلك موقع حيوستراتيجي، يجعلها ممرّاً إجبارياً ثقافياً يحمل بعداً روحياً قداسياً، واقتصادياً وتنموياً استثمارياً وخصوصاً في خطوط نقل الطاقة، وأنابيب الإنتاج شرق الأوسطي للثروات الباطنيّة.
إنّ فشل العالم في فرض الاستقرار وبنائه نتيجة اختلاف الرؤى الدوليّة حول شرعيّة، أو عدم شرعيّة، أو ضرورة أو عدم ضرورة وجود نظامٍ هَرِمٍ هشٍ، كان طائفياً منذ نشأته السوداء القمعيّة، فاعلاً سلبياً في ملفات الاضطراب الدوليّة كلها، وهذا ما يقتضي ويحتم إقرار حقوق الشعب السوري في اختيار قياداته وإدارته وممثليه الشرعيين، وكذلك ملاحقة المتورطين كلهم في ابتلاع الدولة السوريّة وتهديمها، ومعها الاستقرار الدولي الذي تضرر بموجات الهجرة غير المقننة، وكذلك بروز الحركات والتنظيمات الإرهابيّة وعلى رأسها التنظيمات التي ترعاها إيران، ويحتويها النظام القمعي القائم في العاصمة المستباحة دمشق.
المراجع:
[1]– https://goo.gl/UBFD11 // عمران للدراسات الاستراتيجيّة، الأجهزة الأمنية السورية وضرورات التغيير البنيوي والوظيفي. شوهد 16/8/1017م.
[2]– https://goo.gl/oUizkJ // زمان الوصل، بيانات رسمية عن عاطف نجيب وأديب ميالة ووليد المعلم. نشر 7/10/2015م.
[3]– https://goo.gl/BBBRYU // راديو بيتنا، التأطير وخطف العقول العربية. 27/1/2016م.
[4]– المجتمع الأمني بحسب تعريف نيكول بول في مقال الحوكمة الديمقراطية في قطاع الأمن هو: “مجموع الجهات الفاعلة صاحبة التأثير في أمن الدولة وشعبها، وتتضمن الجهات الفاعلة الرسمية ضمن المجتمع الأمني قطاع الأمن”.
[5] – يزيد الصايغ مقال “معضلات ضبط الأمن في الدول العربية التي تخوض مراحل انتقالية”.
[6]– https://goo.gl/ziDjd6 // المركز الأوروبي لدراسة الإرهاب والاستخبارات/ الاستخبارات الألمانية. نشر 19/7/2017م.
[7]– يزيد الصايغ مقال “معضلات ضبط الأمن في الدول العربية التي تخوض مراحل انتقالية”.
[8]– نيكول بول في مقال الحوكمة الديمقراطية في قطاع الأمن.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.