عساكر بعث العراق، وشقيقه السوري يجيبان عن سؤالنا.
مراجعات نقدية
يعمل مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مينا) من خلال مركز التنمية الثقافية والفكرية والسياسية التابع له وبوساطة باحثين وكتّاب ومتخصصين على نشر مجموعة دراسات تتعلق بمراجعات نقدية للتجارب الأيديولوجية المتعددة في المجتمع السوري خصوصاً والعربي عموماً، لعلنا نتجاوز أخطاءنا ومآسينا التي نعيشها اليوم، ونستفيد من تجارب السابقين للوصول إلى مجتمع يجمع النقاط البيضاء من كل طرف حتى تنهض مجتمعاتنا من تخلفها وتدخل معترك الحضارة.
نقدم هنا تجربة البعث العربي من خلال رجل عاش أحداثه وشخصياته وعاصر مراحله كلها؛ وكتب هذه المراجعة النقدية من خلال المحاور الآتية:
- القوميون وضرورة مراجعة أفكارهم.
- البعث: المسار وما حمل.
- البنية الفكرية للبعث ودورها.
- البعث والجانب التطبيقي لأيديولوجيته.
- خلافات قادة البعث: عفلق والبيطار والحوراني.
- اللجنة العسكرية ودورها في حكم البعث.
- فجوات بين النظرية والتطبيق.
- إشكالات البعث النظرية والتطبيقية.
- ما الرسالة الخالدة للبعث؟.
- أمة عربية واحدة.
التمهيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــد
يصعب على بحث، مهما كان كبيراً، أن يستوفي تجربة طويلة قبل الحكم وبعده، وما عرفته من تحولات، وسقوط سلطة، بل سقوط كثير من المفهومات والأفكار الرئيسة، علاوة على الممارسة، مع ذلك فالنقد ضرورة، والنقد نهج يجب اعتماده لكشف جوانب القصور، والفجوات ومعرفة العوامل الكثيرة التي قادت إلى ما نحن فيه.
لقد جرت بعض المراجعات من (البعث الديمقراطي) وكتبت كثيراً في نقد التجربة، وقبل الثورة بثلاثة أعوام كتبت بعنوان (إشكاليات الحركات القومية، والبعث مثال) مجموعة أبحاث تصلح لكتاب تناولت نقد الأفكار الرئيسة للبعث كـ: القومية، العروبة، الوحدة، العروبة والإسلام، فلسطين، الإثنيات القومية والموقف منها وكان مقرراً أن تصدر في كتاب، وبخاصة أن الصديق ( د. ح. ح) تحمّس لمشاركتي الكتاب بإضافات منه، ولم يحصل ذلك، فظلت تلك الكتابات التي نشرتها في بعض المواقع ضمن أرشيفي الكبير.
القوميون وضرورة مراجعة أفكارهم
القوميون معنيون، قبل غيرهم، بالقيام بمراجعات حقيقية إن أرادوا أن يكون لهم دور في مستقبل سوريا والوطن العربي، وعدم الاكتفاء بإلقاء اللوم على الآخر، وعلى العوامل الخارجية، أو مواصلة مبادرات لم تثمر كثيراً ما دامت لم تبدأ البداية الصحيحة (المراجعة الشجاعة). وبالنسبة إلي وقبل سنوات من قيام الثورة كتبت سلسلة مقالات دعيت فيها إلى إنشاء تيارات عريضة، بديلاً للأحزاب العقائدية، قناعة مني بأن مسار التطورات قد تجاوز الأدلجة وموقعها، وأحزاب المركزية الديمقراطية، وأن مرحلة التعددية، والديمقراطية تستلزم ولادة تيارات عريضة يمكن أن تتعايش داخلها اتجاهات متعددة، وكان مشروع (الكتلة الوطنية الديمقراطية السورية) الذي ساهمت في التأسيس له، وترأست تلك الكتلة بضع سنوات محاولة للتجسيد ما زالت تواجه المتغيرات والتحديات.
بالنسبة إلى موقفي من البعث فقد غادرت صفوفه مقتنعاً، وإن كنت لا أتنكر لتأثيره في، وحياتي داخله عمري معظمه، واحترامي لمناضليه الوطنيين، وصمودهم في المعتقلات.
لذلك هي محاولة نقدية تتناول جانبين رئيسين
- المسار وما حمل
- البنية الفكرية ودورها
ولأن تجربة البعث تعددت بين مرحلة ما قبل الانقلاب عام 1970، ثم وضع البعث في ظل انقلاب الأسد، وفي الجانب الآخر الذي حاول بناء بديل مختلف، ودخل في رهانات صعبة لتحويل البعث إلى (حزب ثوري) وتعرّض لموجات كثيرة من الاعتقالات، ولتشرذمات وانقسامات فيه. مقابل وجود بعث آخر(البعث القومي) الذي حكم العراق من عام 1968 وحتى الغزو الأمريكي واحتلال العراق. نيسان 2003.
لذلك انقسم البحث إلى جزئين، يتناول الأول مرحلة البعث حتى (الحركة التصحيحية)، ثم أوضاع البعث لجهة الجانب الحاكم، والآخر السري، ومرور موجز على حكم البعث في العراق.
المسار والوقائع
بعض البعثيين الذين ما زالوا متمسكين بمبادئه، وينخرط قسم منهم في تنظيمات معارضة تابعة لاسمه، وإن كانت مختلفة، يعتبرون أن مشكل البعث، أو إشكاله الرئيس في نظام حافظ الأسد الذي دمّر البعث عن سابق إصرار وتصميم، وهناك من يُرجع ما جرى إلى مؤامرة كونية قادتها دول كبيرة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، والصهيونية العالمية، بالنظر إلى ما شكله البعث من مخاطر عليهما، ومن محاولات لتوحيد الأمة، وحمله لمشروع نهضوي، حداثي.
هناك من يعترف ببعض الإشكالات البنيوية من منطلق الحاجة إلى المراجعة والتطوير، وهناك، أيضاً، من يقرّ بالدور السلبي للمؤسسة العسكرية التي استخدمته واجهة، أو تركت بصماتها الخاصة فيه، فأبعدته عن المبادئ والأهداف، وحتى الوسائل التي كان يؤمن بها لتحقيق المراد، وهناك قسم يعيد بعض المشكلات إلى غزو الانتهازية، والطائفية، وإلى إشكالات الحكم.
الحقيقة أن أزمة البعث، شأن الأحزاب جميعها التي انتمت إلى هذه المسافة أو تلك، لحركات التحرر الوطني والقومي، أزمة بنيوية وتطبيقية مختلطة، وقد برزت جلية عبر الحكم، بغض النظر، هنا، عن طريقة الوصول، وعن المضامين التي انتُهجت باغتيال الديمقراطية، واجتثاث الآخر، والتفرّد، والأحادية والشمولية.
الجانب التطبيقي للأيديولوجيا
سأرجئ الحديث عن الإشكالات البنيوية إلى قسم آخر، وأتوقف عند الجانب التطبيقي، الممارسة، قبل انقلاب الأسد، ثم ما فعله بشكل كلّي به.
في سوريا، ومن خلال قرار حل الحزب بناء على شروط عبد الناصر لإقامة الوحدة، عانى الحزب التمزق، والتشتت والتيه، وخسر عدداً كبيراً من قياداته وأعضائه في المدن الذين تحوّل عدد مهم منهم إلى صفوف الناصرية، هو الذي كان يعاني أصلاً ضعف وجوده المديني، وبخاصة دمشق وحلب، وغلبة أبناء الريف فيه، ومنهم عدد كبير من (أبناء الأقليات الإسلامية) الذين وجدوا فيه تعبيراً عن أوضاعهم وطموحاتهم، ومجالاً لتحقيق الاندماج في مجتمع متنوّع الديانات والمذاهب.
ويجب الاعتراف أن التوحيد الذي حصل بين البعث العربي، والعربي الاشتراكي عام 1953 على الرغم من أنه وسّع القاعدة الفلاحية، الشعبوية في الحزب، إلا أنه أثقل أبناء الريف فيه، والأهم أنه أدخل بقوة التوجّه نحو المؤسسة العسكرية درجة الانغماس أحياناً في مسلسل الانقلابات العسكرية، وفي الاعتماد على الضباط البعثيين لإحداث تغييرات ما في الحكم، أو إنجاز الوحدة بفعل ضغط مجموعة الضباط الذين بادروا، من دون العودة إلى قياداتهم وإلى الحكومة بالسفر إلى مصر وإعلان الاستعداد بالموافقة على شروط عبد الناصر جميعها لقيام وحدة اندماجية، هو الذي لم يكن متحمّساً لوحدة اندماجية ومفضّلاً عليها شكلاً اتحادياً ما، وكان من بين تلك الشروط الموافقة على حلّ الحزب، والأحزاب جميعها في سوريا، وفرض الأمر الواقع على قيادة البعث، وهو القرار الذي شكّل منعطفاً للخلخلة في تنظيم البعث عموماً، وفي سوريا خصوصاً، وعمّق الفجوة بين (الأساتذة الثلاثة) وعموم الإطارات البعثية التي رفض واستنكر كثيرها ذلك القرار، ووجدوا فيه تخليّاً عن الأهداف والمبررات التي قام البعث لتحقيقها.
خلافات قادة البعث: عفلق والبيطار والحوراني
البعث قبل الوحدة كان يعاني أزمات داخلية، وخلافات واضحة بين الأساتذة الثلاثة: عفلق والبيطار والحوارني، وبخاصة مع الحوراني بعد عملية الاندماج التي حصلت بين البعث العربي والاشتراكي العربي، حين كان البعث العربي أقرب إلى النخبوية وبعيداً عن القاعدة الشعبية، وعن الشعبوية، وحتى التعامل مع العسكر والانقلابات التي عرفتها سوريا بالتتابع، وكان أقرب إلى حالة ثقافية، دعوية وديمقراطية اختلاطية وردت في دستور التأسيس، وتحديد مفهوم الانقلاب، والقبول بالانتخابات والبرلمان.
بينما كان الأستاذ الحوراني يعتمد على قاعدة شعبية عريضة فيها نسبة كبيرة من أبناء الأقليات على العموم، ومن الطائفة العلوية بوجه الخصوص لانتشاره في محافظة حماه وريفها التي توجد فيها أعداد كبيرة من الأقليات غير السنية، وكان على علاقة وثيقة بمجموعة واسعة من الضباط وبخاصة (الحمويين) الذين كان لعدد منهم دور بارز في قيام الانقلابات العسكرية والقضاء على بعضها، عدا عن مسائل خلافية متعددة برزت في الممارسة، وأثناء قيام الوحدة مع مصر التي أرست لانفكاك تلك العلاقة نهائياً مع حدوث الانفصال وتأييده من قبل الحوراني، ومشاركته فيه، بينما رفضه عفلق، والحزب القومي، وتردد البيطار ثم عاد إلى الحزب.
اللجنة العسكرية ودورها
قيل وكتب كثير عن اللجنة العسكرية وتركيبها الذي غلب عليه أبناء الأقليات الإسلامية، لكن تشكيل تلك اللجنة مرّ بأطوار متعددة، إذ إنه عام 1959، وعبر نقل عدد من الضباط البعثيين إلى القاهرة الذي بدا عملية إبعاد لهم، وارتفاع وتيرة الخلاف بين البعثيين وعبد الناصر، وعبد الحكيم عامر المفوّض بسوريا، ومعه السرّاج بصلاحياته الكبيرة، لجأ عدد من الضباط البعثيين إلى تشكيل اللجنة العسكرية بهدف تجميع صفوفهم، ومواجهة التطورات، وتولى رئاسة اللجنة الأولى بشير صادق الأعلى رتبة، وعضوية كل من مزيد هنيدي وعبد الغني عياش وممدوح الشاغوري ومحمد كنعان، ومحمد عمران، ولم تواصل عملها طويلاً بسبب نقل معظمها إلى السلك الخارجي، فبادر محمد عمران العضو الوحيد المتبقي من اللجنة السابقة. إلى تشكيل لجنة جديدة هي التي عُرفت واشتهرت، ويظن كثيرون أنها خماسية وليست سباعية، وأنها اقتصرت على أبناء الأقليات (محمد عمران رئيساً، صلاح جديد، حافظ الأسد، عبد الكريم الجندي، أحمد المير) وكان في عضويتها عثمان كنعان ومنير الجيرودي (من السنة) وكان يندر ذكر اسميهما.
بعث العراق
إن ضعف تنظيم البعث في سوريا وتشتته، ووجوده قوياً في العراق أدّى باللجنة العسكرية إلى قبول تغطية ما تخطط له من قبل القيادة القومية، وبخاصة أن تنظيم العراق هو الذي كلف برعاية التنظيم في سوريا، الذي كان هزيلاً، ومشتتاً وبأعداد لا تتجاوز 500 عضو عند قيام حركة 8 آذار 1963، والأهم من ذلك عدم وجود برنامج للعمل ما بعد الحكم، وبروز فراغات كبيرة في أمهات القضايا التي وضعها أهدافاً رئيسة، كالوحدة، والعروبة، والأمة ومفهومها، ومضمونها فأصبح الاعتماد على المؤسسة العسكرية رئيساً لمواجهة الأطراف الأخرى التي شاركت في الانقلاب في ما يشبه الجبهة المؤقتة، بخاصة بين البعثيين العسكر والناصريين، واللجوء إلى عدد من المستقلين لتقديمهم في الواجهة نظراً إلى الحاجة إلى رتبهم، ودورهم في الأيام الأولى للانقلاب.
سيتعزز دور المؤسسة العسكرية مع مواجهة الناصرين الذين قاموا بمحاولة انقلابية صبيحة 18 تموز وفشلت، بل سحقت، واشتعال الخلاف مع عبد الناصر، ثم سقوط الحكم في العراق في 13 تشرين 1963 على يد العسكر الذين اقتحموا المؤتمر القطري وسيطروا عليه وطردوا القيادة القطرية المنتخبة، وسفّروا بعض رموزها القوية إلى الخارج، واللجوء إلى عبد السلام عارف، غير البعثي. ليكون الرئيس الذي نجح بعد زمن قصير في طرد البعثيين وإبعادهم والتفرّد بالحكم. وسيعود دور اللجنة العسكرية البارز في مختلف الصراعات الداخلية التي كان أعنفها، واشدّها تأثيراً ما يعرف بـ(الصراع بين اليسار واليمين) الذي حُسم لمصلحة القيادة القطرية المتحصنة بالعسكر، وعبر تدخل عسكري عنيف، وحدوث انقسام كبير في البعث، ظهرت أخطاره ونتائجه بعد وصول (البعث القومي) في العراق إلى الحكم (18. 30 تموز 1968) ودعوة (القيادة التاريخية) لتكون الغطاء الشرعي لذلك الانقلاب، واشتعال الحرب الطاحنة بين الجناحين والنظامين سنوات عدة، بالآثار المدمّرة كلها التي تركها ذلك الخلاف على وحدة البعث وسمعته، وما استهلكه من استنزاف واتهامات خطرة متبادلة.
فجوات بين النظرية والتطبيق
الفجوات الكبيرة التي ظهرت مع الحكم في النظرية والتطبيق، ووهج الاتحاد السوفياتي وشدة تأثيره في مجموع حركات التحرر الوطني والنظم المحسوبة عليها ضمن انقسام العالم إلى معسكرين (على الرغم من محاولات إقامة ما يعرف بعدم الانحياز لبناء طريق ثالث) أدّى ذلك إلى نمو ما يعرف بالتوجه اليساري الذي نجح في المؤتمر القومي السادس 1964 من صوغ ما يعرف ب(بعض المنطلقات النظرية) تمهيداً لإنشاء نظرية ثورية للبعث التي اعتبرت لدى بعضهم خروجاً على المبادئ، وتمايزات البعث العروبية، واقتراباً وتقرّباً من الماركسية والسوفيات بشكل استنساخي، وباتفاق بين القيادة القومية واللجنة العسكرية جرت تصفية ذلك الاتجاه الذي اتهم بالطفولة اليسارية، في حين ظلّت بعض المنطلقات موجودة، وإن سعت المقدمة التي كتبها الأمين العام ميشيل عفلق لنسفها، وقد اعتبرها اليساريون اللاحقون إنجازاً مهماً، وتحولاً نوعياً باتجاه الفكر الثوري، والنظرية الماركسية، وهي الوثيقة الوحيدة التي لم ينجز غيرها على الرغم من تشكيل لجان لصوغ ما يعرف بالتقرير العقائدي، ووجود بعض المحاولات التي كان بعضهم يعتبرها تراجعاً كبيراً عنها، وأقرب إلى الفكر اليميني الغيبي.
لقد اندمجت خصائص البنية العسكرية بالسائد في المنظومة الاشتراكية لإنتاج تركيبة أحادية تتصف بالحكم الشمولي، وبتعظيم دور الحزب، ونفي الآخر السياسي، واستبدال الحريات الفردية والعامة بما يعرف بالديمقراطية الشعبية التي هي نوع من تعليب المجتمع في منظمات يقودها الحزب الحاكم ويسيطر عليها، ويحدّ من استقلاليتها ومهنيتها، وكرهان على قولبة المجتمع وفق مشيئة الحزب، واستخدام القرارات الفوقية بديلاً للتشاركية الشعبية. وهي التركيبة التي كانت تنوخ بالتناقضات والتعقيدات الناجمة عن الحكم والمسافات بين النظرية والتطبيق، وبين المبادئ ومقتضيات السلطة.
وحين وقعت الهزيمة الحزيرانية بتلك الطريقة تهاوت معها الأفكار والشعارات عن الحزب القائد، والجيش العقائدي، وتحرير فلسطين، والأحادية في الحكم.. وعلى الرغم من أن المعطيات كلها كانت تؤكد وجوب المراجعة الجذرية باتجاه اعتبار المرحلة بعد احتلال إسرائيل لكامل فلسطين وللجولان السوري، مرحلة تحرر وطني وقومي تقتضي توسيع قاعدة المشاركة الشعبية والسياسية، وإقامة جبهة مع القوى السياسية.. فإن العقل الأقلوي السائد بتركيبته رفض ذلك في ما يعرف بالهرب إلى الأمام، وبطرح مزيد من الشعارات النارية، الثورية كـ(الكفاح المسلح) و(حرب التحرير الشعبية) والعمل الفدائي الذي لا شكّ في أنه دُعم بقوة، وشارك فيه عدد كبير من البعثيين عبر إجبار البعثيين على اتباع ما يعرف ب(دورات الممارسة الفدائية)، ثم إنشاء تنظيم خاص تابع للحكم(الصاعقة) الذي نُظر إليه بوصفه عملاً موازياً لبقية المنظمات الفدائية، ولمنظمة التحرير الفلسطينية.
هذه الشعارات بدت بعيدة عن الواقع، ولا يمكن تحقيقها، وبخاصة مع بروز التكتل العسكري، الطائفي بقيادة وزير الدفاع، ونجاحه في استنزاف تلك الشعارات، وفي تشكيل مركز قوة رئيس كان يقود الحكم عملياً، وصولاً إلى الانقلاب الشامل في ما يعرف بـ(الحركة التصحيحية) الذي سنتناوله لاحقاً.
إشكالات البعث النظرية والتطبيقية
كانت ولادة البعث وسط موج نهضوي عربي عام، وعلى خلفية منتجات وآثار (الثورة العربية) والحلم بالاستقلال والوحدة، وصعود الاتجاهات القومية في العالم. فتأثرت بها ثورات البرجوازية الأوروبية التي نجحت في تحقيق وحدتها القومية، وتطعيم تلك الأفكار بشيء من العدالة الاجتماعية، والاشتراكية الأقرب إلى الاشتراكية الفرنسية المثالية.
كانت فكرة الإحياء العربي رداً على قرون الانحطاط، والاحتلال، والتجزية، والتخلف تجد مؤيدين لها في مشرق الوطن العربي ومغربه، وكانت بلاد الشام موطناً وركيزة رئيسة، والشيء الطبيعي أن تتصف الدعوات القومية بالاندفاع والحماس وردّة الفعل لأنها انطلقت من موقع الدفاع ضد واقع مفروض، ومن صناعة قوى خارجية بالأساس، وهذا الوضع وسم الدعوات القومية جلّها، وحتى المشروعات النهضوية التي تبلورت بحدود ما، بصفتين سلبيتين:
- الانطلاق من ردةّ الفعل على واقع مصنّع، أو مركّب، وليس عبر إنشاء مشروع خاص أو صوغه من وضع طبيعي، والفرق كبير بين أفكار واتجاهات تؤثر فيها ردات الفعل، وخلافها، إذ إن السلبية هي السمة العامة، والغالبة، والسلبية عامة هنا، إن كان في الانفعال والتشدد، أو تجاوز الواقع، او في تضخيم العامل الخارجي، وموقع المؤامرة ودورها، أو في النظرة إلى الآخر المخالف، حتى لو كان وطنياً لكن يحمل أفكاراً مغايرة.
- هذا الأمر قاد إلى تغليب الإرادوية، والرغبوية على الوقائع، ومحاولة قسر الأمور وليّ عنق كثير من الحقائق التاريخية تلك التي كانت نتاج قرون الانحطاط والتراجع والاحتلال الخارجي، لتوليف شيء يتناسب وإيمان أؤلئك الرواد، ثم بلورة الحركات والأحزاب السياسية التي كان البعث أبرزها.
وعلى هذا الأساس لم تعترف تلك النخب المؤسسة بالتمايزات القطرية، ولا بوجود مكونات قومية ومذهبية متعددة غير عربية، أصلية أو وافدة من أزمان مختلفة، ولا تشعر أنها من أصول عربية، ويمكن سحب الأمر على المفهوم النظري. الفكري للأمة، والوطن الواحد، والوحدة.
ونجد في صلب هذه الأفكار تغليب الدور الخارجي وإرجاع التجزئة إليه وإلى مؤامرة قام بها، فجزّأ بلدان الوطن العربي وشتتها، في حين إن عوامل داخلية كثيرة كانت فاعلة في صناعة التجزئة وترسيمها، بما فيها المسارات التاريخية وما عرفته من تكوينات أقرب إلى الدول المستقلة، والكيانات المتمايزة في عدد من الأقطار العربية.
ما الرسالة الخالدة للبعث؟
من موقع ردّة الفعل، وبالانتقال من فكرة الإحياء إلى البعث، وللمناسبة هما فكرتان من أصول متقاربة، وفيهما كثير من الغيبية، والإرادوية، والقسر، نلاحظ موقع الماضوية واختلاطاتها بشيء من حداثوية غير واضحة المعالم والحدود، فلا هي علمانية تماماً، مثلاً، ولا هي دينية، أو قومية صرفة. ولربط الماضي بالحاضر، واستحضار دور العرب وتاريخهم، والنفخ به، والرسالة الإسلامية وما قامت به حدثت تلك التوليفة الاختلاطية غير المتجانسة، بل المتناقضة بين مفردات ووقائع ليست منسجمة. هنا تضخيم لدور تاريخي، بل ما فوق تاريخي للعرب قبل الإسلام وبعده، وهنا أيضاً النصّ على رسالة خالدة لأولئك العرب لا تعرف الغياب ولا الضمور ولا الموت عبر مسارات التاريخ والأمم، وهناك تيه بين موقع الإسلام والموقف منه بما يتجاوز النص، والأحزاب السياسية، وحتى الثقافة إلى الجانب العقيدي، وموقع الدين من شعارات فصل الدين عن الدولة، ومن علمانوية لم تتبلور تماماً وكانت حائرة بين محاكاة الحركات الغربية، وبخاصة فرنسا وثورتها، وشيء من الترقيع الذي يحمل ازدواجية متناقضة.
وحين التدقيق في ماهية الرسالة الخالدة، والمقصود منها يحدث الاختلاط بين العروبة والإسلام، وعلى سبيل المثال: هل تلك الرسالة عربية صرفة لا علاقة لها بالأديان عموماً، وبالدين الإسلامي خصوصاً، ومن ثم هي مستمرة، متجددة، حيّة في الزمان والمكان، وهي التي أوجدت الأديان واستخدمتها، وبخاصة الدين الإسلامي. أم إنها خليط عربي إسلامي يركز على الدور القيادي للعرب في إنشاء تلك الحضارة المترامية؟ وأين هي حدود الدين الإسلامي مثلاً، وتمايزاته عن العرب، بل علاقاته بغير العرب، خصوصاً تلك الدول والإمبراطوريات والدول التي قامت باسم الإسلام وحكمت المنطقة قروناً، مثل الإمبراطورية العثمانية؟.
النظرة شبه العلمانية للحياة والدين تتعارض وذاك الموقف من الإسلام وموقعه ودوره، ولإيجاد نوع من التوافق، أو الترقيع حصلت تلك التوليفة التي كانت تغلّب دور العرب عموماً وتتناقض عند الحديث عن الإسلام: بنية ودوراً، والعلاقة بينه وبين الحداثة والعلمانية. ولئن حاول مؤسس البعث، الأستاذ ميشيل عفلق، ولوج تلك الإشكالية بعدد من المقالات لتمجيد الإسلام ودوره، وتبيان علاقته الحميمة، الملتصقة بالعروبة، فإن تلك الكتابات هي توفيقية أولاً، ويغلب عليها الجانب العاطفي ثانياً، ولم تكن مقبولة من عدد مهم من النخب البعثية التي كانت أقرب إلى العلمانية وتحييد الدين أو إبعادهعن السياسة ، ثالثاً.
أمة عربية واحدة
كانت قضية الأمة العربية الواحدة ووحدتها أهم مسوغات قيام البعث وانتشاره قبل تنامي الأفكار والاتجاهات اليسارية والاشتراكية فيه، وتغلبها على غيرها بعد الوصول إلى الحكم درجة الغياب الواقعي لشعار الوحدة العربية الذي كان الإطار الأشمل لبقية الأهداف، أو الذي حاول أن يحتويها، وبخاصة عند التأسيس، وقبل مرحلة دخول رياح يسارية راحت تتناول الأهداف على قاعدة جدلية.
البعث الذي تأثر ولا شك بالنزعات والاتجاهات القومية في أوروبا، خصوصاً في ألمانيا وإيطاليا، وعبر الثورات البرجوازية التي قامت في عدد من دول أوروبا بتحقيق وحدتها القومية، أو وحدة السوق فيها، وتغليبها على الاتجاهات الأخرى، أو احتواء تلك الاتجاهات فيها.. انطلق مما اعتبره بدهيات وحقائق لا تقبل التشكيك.. عن وجود أمة عربية واحدة، وعن الأصول لها وكأنها جميعها من رحم الجزيرة العربية، قبل الإسلام وبعده، ومحاولة إسباغ العروبة على إثنيات أخرى تعتبر أنها سابقة، أو موازية، أو مخالفة للعرب كالبربر، أو الأمازيغ في بلدان المغرب العربي، والأفارقة في عدد من دول الشمال الأفريقي العربي، والأقباط في مصر، وعدد من المكوّنات التاريخية والوافدة في المشرق، كالسريان الآثوريين، والأكراد، والتركمان وغيرهم. يمكن القول إن عملية من المسخ، أو القسر حصلت، مترافقة مع عدم الاعتراف الفعلي بوجودها، وبالتالي بحقوقها القومية.
ويمكن، عبر هذا التموضع الفكري تناول مفهوم الوحدة التي تأسست نظرياً على العقيدة نفسها بأن العرب. جميعم. أمة واحدة، ومن أرومة واحدة وإن اختلفت الأمكنة، وتاريخ الهجرات، فلم تؤخذ بالاعتبار التباينات والتفاوتات بين شعوب الأمة، وهي سابقة، للمناسبة، على الاحتلالات الأجنبية، والتجزئة، وعلى قيام الدولة القطرية التي ساهمت في تعزيز تلك التفاوتات وموضعتها وترسيمها.
وعلى الرغم من التطورات المخالفة لتلك البنية المعرفية، وتكشّف فجوات كبيرة فيها إلا أن البعث لم يستطع عبر مؤسساته الرسمية، ولا من خلال مفكريه أخذها بالاعتبار، وكان الخوف من الزحزحة، والتهم المعلبة سمة عامة، علاوة على وجود المتشديين، والعنصريين العرب الذين كانوا يرفضون أي اعتراف. مثلاً. بوجود شعوب عربية وليس شعباً واحداً، وبالأصول القومية غير العربية لعدد كبير من المواطنين القاطنين في الوطن العربي بشكل تاريخي أو وافد.
هنا يجب التطرق إلى ذلك الخلط الملتبس، والجاهل أحياناً الذي حصل بين مفهوم الأمة والحركة القومية، واعتبار الأخيرة نتاجاً طبيعياً، متلازماً وليس حالة سياسية متحولة، وخاضعة للمتغيرات. وبما أن الحركة القومية قد تعاملت مع الحكم ووصلت إليه فقد حاولت امتطاء الأمة بذلك المفهوم، وإعدام الحياة الديمقراطية الفردية والعامة، وبالتالي الحقوق الطبيعية للجميع: العرب وغير العرب، وممارسة سياسة اتصفت، في الأحيان معظمها، بالعنصرية والتشدد تحت رايات الحزب الواحد القائد، وحرق المراحل، والعنف الثوري.. في حين إن الإخفاق في حل الإشكالات الداخلية، والخارجية. مواجهة الاغتصاب الصهيوني لفلسطين. ومواجهة بنى التخلف، بما فيها الطائفية السياسية وتوظيفها.. والعجز عن تحقيق أي خطوات وحدوية بعد فشل الوحدة السورية المصرية.. بل عدم القدرة على إنجاز خطوة وحدوية بين العراق وسوريا حين كان البعث في السلطة في العراق أشهراً، وكان له الأثر الأكبر في الضعضعة البنيوية.. وفي غلبة الشعارية على الوقائع، ويمكن سحب ذلك على القضية الفلسطينية التي ظلّت عقوداً بمثابة القضية المركزية الأولى للأمة، والتعبئة لتحريرها بما يفهم على أنها على جدول أعمال الراهن، من دون وعي لطبيعة الكيان الصهيوني ومستويات تقدمه، ولعلاقته العضوية بالغرب عموماً، وبالولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً، فكانت هزيمة حزيران هزيمة شاملة والكاشف الأكبر لمستوى الوعي، وخلل البنية الداخلية، ووعي المتغيرات وموازين القوى، والخلط بين الاستراتيجية والتكتيك.
كما أن حمأة الصراع الداخلي ولبوسه رداء اليمين واليسار، والتوغل فيه درجة الاقتتال وما نجم عنه من صراع داخلي حسم بالقوة العسكرية لمصلحة الاتجاه (اليساري) المدعوم من المؤسسة العسكرية دقّ إسفيناً قوياً في وحدة البعث، وسمعته، وفي استنزافه، وفي تعميق الانقسامات في صفوف القوى المحسوبة على الاتجاهات الوطنية، التحررية.
وعلينا تأكيد حقيقة خطيرة تتمثل في غياب الرؤية البرنامجية لحزب وصل إلى السلطة محمولاً على أكتاف ضباطه العسكريين وهو خالي الوفاض من برنامج يكون مرشده في العمل، ويجنبه الوقوع في التجريبية والعشوائية.
لقد استغل هذه المركّبات جميعها حافظ الأسد من موقعه وزيراً للدفاع وقائداً للطيران، واستثمرها في مشروعه الخاص، الذي لا علاقة له بتاتاً بالبعث الذي وجّه له أكبر الضربات المؤذية. وهو ما سنتناوله في الجزء الثاني.
هذه الدراسة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي©.