يوم الثلاثاء 24 مايو الفائت، أصدرت هيئة محلفين فيدرالية في نيويورك حكمًا بالإدانة ضد مرساد كانديتش، الذي ألقي القبض عليه في سراييفو عاصمة جمهورية البوسنة والهرسك عام 2017، بتهمة تقديم دعم مادي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، بالإضافة إلى خمس تهم أخرى متعلقة أيضاً بعلاقته بهذا التنظيم الإرهابي.
وسبق الحكم محاكمة استمرت ثلاثة أسابيع أمام قاضي المحكمة الجزئية نيكولاس جاروفيس. ويواجه كانديتش اليوم عقوبة بالسجن لمدة 20 عامًا على خلفية أربع تهم مدان بها، بينما يواجه عقوبة السجن مدى الحياة بالتهمتين الأخرتين.
تشكل قصة “كانديتش” نموذجاً حيّاً عن الإرهاب العابر للحدود، وتطبيقاً عملياً لما يمكن أن يقوم به شخص يعتنق الفكر المتطرف في سبيل “قضيته”. كما تلقي هذه القصة الضوء على قضية الجهاديين في دول البلقان، وهي المنطقة التي غالباً ما يتم الإشارة إليها على أنها واحة السلام والتسامح، ربّما لطي صفحة الماضي الدموي الذي عايشته خلال تسعينيات القرن الماضي.
حكاية كانديتش..
كانديتش (41 عامًا) ، أصله من بيتش في كوسوفو، كان لديه تصريح إقامة دائمة في الولايات المتحدة، حيث كان يعيش قبل انضمامه إلى تنظيم “الدولة الإسلامية”. تم القبض عليه في سراييفو في أغسطس 2017 تحت اسم مستعار إدين رادونزيتش.
دخل مرساد البوسنة والهرسك بالطائرة بجواز سفر أوكراني يحمل اسم إيفان بوبوفيتش وعاش في مدينة سراييفو في غربافيتشا لمدة ستة أشهر، بحسب وكالة الأمن في البوسنة والهرسك.
عندما قام أعضاء الوكالة الحكومية للتحقيق والحماية في البوسنة والهرسك، بعد عدة أشهر من البحث، بتحديد مكانه في شقة مستأجرة، كان لدى كانديتش جوازي سفر مزيفين من كوسوفو، أحدهما صدر باسم إيدن رادونزيتش، ثلاث بطاقات مصرفية بأسماء مختلفة وكذلك شرائح SIM التي استخدمها للتواصل مع زملائه.
كانت السلطات الأمريكية تبحث عنه منذ سنوات. منذ عام 2014 ، كان على قائمة المطلوبين من سراييفو. وبعد ذلك بعامين صدر بحقه أمر أحمر دولي. وفي خريف عام 2017 تمّ تسليمه إلى السلطات الأمريكية في مطار “بوتمير” في سراييفو ، وجاءت طائرة خاصة لتقله، مما يثبت أنه شخص مهم للعدالة الأمريكية.
قال بريون بيس، المدعي العام الأمريكي لمنطقة نيويورك، إن كانديتش كان عضوًا رفيع المستوى في تنظيم داعش، كما جنّد مقاتلين آخرين وقدم أسلحة ومعدات لوجستية ومعلومات استخبارية للتنظيم. كما تمّ تقديم أدلة إلى المحكمة حول مشاركة كانديتش في عمليات داعش في ست قارات، بناء على وثائق وشهادات 36 شخصاً في المحكمة.
بينما أكدّ ممثلو الادعاء، وهو ما أكده الحكم الآن، أنّ كانديتش سافر إلى تركيا في ديسمبر 2013 ثم انضم إلى “الدولة الإسلامية” ، لتجنيد الجهاديين. وأنّه تواصل مع المجندين المحتملين من خلال أكثر من مائة حساب على Twitter.
أحد ضحايا كانديتش هو جيك بيلاردي، المراهق الأسترالي الملقب بـ “جيك الجهادي” الذي نفذ هجومًا انتحاريًا في العراق في مارس [1]2015.
ساعد كانديتش بيلاردي في السفر من ملبورن إلى اسطنبول في عام 2014 وأمره شخصيًا بتنفيذ الهجوم. كما ساعد أشخاصًا آخرين في السفر إلى الشرق الأوسط للانضمام إلى داعش.
وينص الحكم أيضًا على أنه في نوفمبر 2013، سافر كانديتش بالحافلة من نيويورك إلى المكسيك، وتنقّل بين البرازيل وبنما والبرتغال وألمانيا وكوسوفو وتركيا من أجل الوصول إلى سوريا في نهاية عام 2013.
في سوريا، انضم الجهادي البوسني إلى معقل داعش في ضواحي حلب، ونظّم حفر أنفاق تحت الحدود التركية السورية بهدف نقل 800 إلى 1000 مقاتل من داعش. كما أدار تدفقات الأموال للمقاتلين في سوريا، بما في ذلك مقاتلين أعطيا كانديتش بطاقاتهم المصرفية لمعاملات بلغ مجموعها أكثر من 40 ألف دولار.
بحسب الوثائق أيضاً، كان كانديتش هو المسؤول عن مجموعة تسمى “سوق الخلافة”، والتي باعت وتاجرت بقذائف الهاون والأحزمة الناسفة والبنادق الهجومية وغيرها من الأسلحة. كان أحد أعضاء المجموعة أبو لقمان ، الذي كان آنذاك والي داعش في الرقة.
عودة إلى بدء..
تعود ظاهرة الجهاديين في منطقة البلقان التي ينتمي إليها كانديتش إلى حقبة النزاع المسلح الذي دارت رحاه في البوسنة والهرسك بين عامي 1992 و1995، نتيجة سلسلة من الاضطرابات والنزاعات شاركت فيها أطراف عدة، وتورطت فيها بشكل مباشر صربيا وكرواتيا.
خلال تلك الحقبة الدموية التي اتخذت طابعاً قومياً ودينياً، بدأ أحد “المجاهدين” في أفغانستان، وهو السعودي أبو عبد العزيز، في نيسان (أبريل) من العام 1992 في نقل المقاتلين من بيشاور إلى البوسنة لتتشكل ما تُعرف باسم “كتيبة المجاهدين” والتي اشتهرت بصبغ أفرادها لشعر رأسهم ولحاهم بالحناء وأطلق البعض عليهم اسم (ذوو اللحى الحمراء)، كان جلّ هؤلاء مدفوعًا بفكرة أنّ المسلمين البشناق بلا حول ولا قوة أمام القوى المعتدية عليهم. وهي سردية أكدها بشكل أو بآخر الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون في مذكراته عن”خطأ إستراتيجية الأمم المتحدة، فحظرها للأسلحة قد حرم الحكومة البوسنية من التكافؤ مع الصرب”.
لاحقاً، في آب (أغسطس) من العام 1992، بعث أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة بجمال أحمد الفضل من الخرطوم وصولاً إلى زغرب في كرواتيا عبر العاصمة المجرية بودابست. وخلال تلك الفترة، أجرى اتصالات مع الأصوليين الإسلامويين الموجودين بالمنطقة وكان من بينهم أبو عبد العزيز.
لم يقتصر الأمر على ذلك، بل إنّ “أسطورة” الجهاد العالمي أسامة بن لادن، حظي آنذاك بغطاء رسمي من قبل السلطات البوسنية، ومن أعلى المستويات [2]. وطبقاً لتقرير نشرته صحيفة (هافنجتون بوست) عام 2011، فإنّ سفارة البوسنة والهرسك في فيينا أصدرت جوازي سفر لكل من بن لادن وذراعه اليمنى أيمن الظواهري اللذين سافرا إلى الأراضي البوسنية لتشكيل وحدة من المجاهدين ببلدة زينيتسا ومهمّتها مهاجمة القرى المجاورة التي تعيش فيها أغلبية سكانية من الصرب. وكان وجود بن لادن بعلم وموافقة الرئيس البوسني وقتها علي عزت بيجوفيتش. وظهر دليل على ذلك عام 1994 حين أكد ريناته فلوتاو مراسل مجلة “دير شبيغل” الألمانية أنّه شاهد بعينيه أسامة بن لادن في قاعة الانتظار تمهيداً للقاء الرئيس البوسني علي عزت بيجوفيتش مرّتين.
وتشير بعض المصادر إلى أنه منذ عام 1992، انتقل أربعة آلاف شخص تقريباً من الأجانب الوافدين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا إلى البوسنة للانخراط في الحرب. قوبل هؤلاء المقاتلون بالترحاب من جانب الحكومة البوسنية التي كانت تحصل بدورها على تبرّعات سخيّة من بعض الدول العربية.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها، نصّت اتفاقات السلام على تفكيك كتائب المجاهدين وعودة أفرادها الأجانب إلى بلدانهم. ورغم ذلك بقي نحو 400 منهم في البوسنة. وأمام الضغط الأمريكي، وطلب مادلين أولبرايت، التي صارت وقتها وزيرة الخارجية في إدارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون، من الرئيس عزت بيجوفيتش طرد المشتبه فيهم بالإرهاب من البوسنة أو على الأقل سحب جوازات السفر البوسنية منهم، كان ردّ بيجوفيتش على الأرجح سلبياً، وادّعى الرجل أنّ الكثير من المجاهدين تزوّجوا في بلاده ما يمنحهم حق المواطنة كاملة الحقوق.
ورغم تنحي علي عزت بيجوفيتش عن الرئاسة عام 2000، فإنّ الإرهابيين المحتملين استمرّوا في مناصبهم يديرون شبكات خاصة بهم خارج نطاق سيادة القانون، وركّزت هذه الشبكات على حماية الجهاديين وتوفيرالدعم المالي واللوجتسي لهم، ناهيك عن التوسع في أنشطة التجنيد والإستقطاب لصالح أجنداتها العابرة للحدود.
شواهد كثيرة!
اتّضح مدى تأثير التيار الجهادي بالبلقان واتجاهه للعالمية في تقرير لجنة الكونغرس التي كُلّفت بالتحقيق في هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وقد أشار التقرير إلى أنّ اثنين من خاطفي الرحلة رقم 77 التابعة لشركة “أميريكان إيرلاينز”، التي ضربت مقرّ وزارة الدفاع الأمريكية “بنتاجون”، سبق لهما السفر عام 1995 إلى البوسنة والهرسك حيث شاركا في العمليات القتالية.[3]
كما اتُّهم البوسني أديس مدونجينين ونجيب الله زازي بالتخطيط لمهاجمة مترو أنفاق نيويورك في سبتمبر / أيلول 2009 ، بأمر من مسؤولي القاعدة في أفغانستان.[4] وفي فبراير 2007 ، دخل سليمان تالوفيتش، وهو جهادي بوسني، إلى مركز التسوق “يونيون ستيشن” في ولاية يوتا غرب الولايات المتحدة وفتح النار وقتل 5 أشخاص قبل أن يتم إيقافه.
فيما بعد، أعاد ظهور تنظيم داعش في العراق والشام إحياء ظاهرة الجهاديين في البوسنة والهرسك. حيث التحق بالتنظيم ما بين 220 – 330 شخص بوسني، وهو ثاني أكبر عدد من المقاتلين الأجانب للفرد الواحد بالنسبة للبلدان الأوروبية بعد بلجيكا.[5]
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 ، أطلقت آلة داعش الدعائية، من خلال شركة إنتاجها “الحياة ميديا” ، النسخة البوسنية من مجلتها رومية (روما)، والتي تم إصدارها بعدة لغات في سبتمبر من نفس العام، وركزت في محتواها على دعوة الجهاديين المفترضين من البوسنة والهرسك مواطنيهم إلى “الهجرة” إلى “أرض الخلافة” أو تنفيذ عمليات ضد الحكومة البوسنية. كما توعدت في أكثر من تسجيل الصرب والكروات الذين قاتلوا ضد مسلمي البوسنة، وهي تهديدات امتدت إلى جميع “الخونة للعقيدة الإسلامية” في البوسنة ومنطقة الصرب في سنجق وألبانيا وكوسوفو ومقدونيا.
ويرى جوران كوفاسفيتش الأستاذ في كلية علوم الإجرام والدراسات الأمنية بجامعة سراييفو أنّ اهتمام “داعش” بالبوسنة والهرسك يُعزي في المقام الأول لكونها دولة ذات أغلبية مسلمة تقع في أوروبا، رغم أنّ تعداد المسلمين يصبح أقلّ إذا ما قورن بكوسوفو أو ألبانيا. كما أنّ إحدى “المميزات” التي كان يراها “داعش” في المرشحين المحتملين من البوسنيين هو التدريب العسكري لا سيما الذي يتمتّع به من سبق لهم المشاركة في النزاع المسلّح بين عامي 1992 و1995. أفراد يحظون بخبرة قتالية ولا يتوفّرون على مصدر دخل قد يعتبرون أنّ انخراطهم في صفوف التنظيم الإرهابي من شأنه أن يضمن لهم تحسين وضعهم الشخصي. وإضافة إلى ذلك لا ينبغي إغفال الشباب الذين يعانون من معدّلات بطالة مرتفعة ما يسهّل تأثرهم بوسائل دعاية “داعش”.[6]
بقايا جهاديي البوسنة في سوريا..
ومع القضاء على آخر جيوب تنظيم داعش عملياً في منطقة الباغوز بريف دير الزور عام 2019، سارعت سراييفو إلى إعادة ما مجموعه 25 شخصًا من معسكرين وسجنين للرجال في سوريا بتاريخ 19 ديسمبر 2019. كانت هذه هي العملية الأولى والأخيرة للسلطات البوسنية، حيث ما تزال كثير من الدول الأوروبية، ترفض استعادة نساء وأطفال عناصر من “تنظيم الدولة” يحملون جنسياتها جرى تجميعهم في مخيمي الهول والروج بريف الحسكة. وبحسب وزارة الأمن لا يزال هناك حوالي 100 امرأة وطفل من البوسنة والهرسك محتجزين في سوريا.
غالباً ما يُتهم الرجال، من مواطني البوسنة والهرسك، عند عودتهم من سوريا، بارتكاب جرائم جنائية تتعلق بالإرهاب، بينما لم تتم مقاضاة النساء حتى الآن، باستثناء قضية واحدة متهمة بتمويل الإرهاب. حتى الآن تمت إدانة 46 شخصًا. ويوجد حاليًا 13 شخصًا يقضون عقوبة السجن بتهمة الإرهاب، وشخصين بتهمة تكوين والانضمام إلى تشكيلات شبه عسكرية أجنبية.
وتقول السلطات البوسنية إنها تولي أهمية خاصة لملف مواطنيها في المخيمات السورية والعراقية. حيث تم إعداد خطة من أجل العودة الآمنة والإنسانية لمواطني البوسنة والهرسك من سوريا والعراق، بالإضافة إلى برنامج لإعادة دمجهم في المجتمع. وقدمت هذه الوثيقة إلى مجلس وزراء البوسنة والهرسك في شباط / فبراير الفائت وهي في انتظار اعتمادها.[7]
وبينما سيقضي كانديتش بقية عمره في أحد سجون الولايات المتحدة، يولد طفل بوسني آخر في مخيم الهول، هناك على بعد آلاف الكيلومترات عن البلاد التي جاء منها والده، وقد يتحول إلى “كانديتش آخر” إذا لم يتم التعامل معه كضحية لأيديولوجيا متطرفة اعتنقها والده ويجري احتواؤه في برامج إعادة تأهيل.. كضرورة إنسانية في المرتبة الأولى.
المراجع
[1] https://www.radiokontaktplus.org/vesti/muskarac-roden-na-kosovu-ziveo-u-sad-proglasen-krivim-za-podrsku-isis-u/36681
[2] https://web.archive.org/web/20211021162909/https://www.deepcapture.com/wp-content/uploads/Al-Qaeda-Albania-Macedonia.pdf
[3] The 9/11 Encyclopedia, 2nd Edition [2 volumes]: Second Edition
[4] https://www.reuters.com/article/us-usa-security-new-york-idUSKCN1S81J3
[5] https://www.ida2at.com/arab-fighters-in-bosnia/
[6] https://observatorioterrorismo.com/terrorismo-internacional/pasado-y-presente-del-fenomeno-yihadista-en-los-balcanes-occidentales/
[7] https://federalna.ba/cikotic-s-predstavnicima-porodica-bh-drzavljana-koji-zive-u-siriji-spreman-plan-repatrijacije-bz9cu