فجر تحقيق قامت به صحيفة ليبراسيون الفرنسية “فضيحة” من العيار الثقيل حين كشفت عن انتهاكات جمة تقوم بها الشركات الفرنسية بحق العمال المهاجرين العاملين في منشآت بطولة الألعاب الأولمبية (باريس 2024).
بحسب التحقيق الذي نشر قبل عدة أيام، فإنه يتم استخدام عمالة المهاجرين غير النظاميين الذين يعملون في ظروف غير إنسانية وبحقوق مهضومة بسبب وضعهم القانوني.
يأتي هذا في وقت تستمر فيه فرنسا ومعظم الدول الغربية الحديث عن الانتهاكات ضد العمال الذين قاموا ببناء منشآت كأس العالم في قطر، لا سيما بشأن مصير بعض العمال المهاجرين الذين ماتوا في مواقع البناء، وفقا لمنظمة العفو الدولية.
والتقت الصحيفة الفرنسية في تحقيقها بعشرة مواطنين ماليين، يتواجدون في فرنسا، بشكل غير قانوني، توظفهم شركة مقاولات تعمل في المشاريع المخصصة لأولمبياد باريس.
وقالت الصحيفة إن هؤلاء العمال يقومون بأعمال شاقة، كحمل أكياس إسمنت تزن عشرات الكيلوغرامات، ويصعدون بها 13 طابقا، والبعض الآخر متخصص في بناء الخرسانة المسلحة، مؤكدة أن هؤلاء العمال الذين لا يحظون بأي ضمان اجتماعي وقانوني، يعملون مقابل ما يزيد قليلا عن 80 يورو في اليوم غير مصرح بها، ودون الاستفادة من يوم عطلة.
استغلال المهاجرين غير النظاميين
تشير الصحيفة إلى أن أول اكتشاف لقضية استغلال العمال المهاجرين غير النظاميين يعود إلى مايو/أيار الماضي حين قررت مجموعة من 12 مهاجرا غير نظامي من مالي التوجه بشكواهم إلى نقابة “الكونفدرالية العامة للشغل” الفرنسية، طالبين منها الوقوف إلى جانبهم والدفاع عنهم ضد مستغِليهم.
وأشارت إلى أن من بينهم “موسى” شاب ثلاثيني، الذي قرر بعد شهور من العمل في ظروف سيئة بأحد ورش البناء الخاصة بالأولمبياد التوجه إلى هيئة تفتيش الشغل، وإخبارهم بأنه يعمل دون عقد.
فيما أتى هذا القرار بعد وقت طويل من التخبط، والمخاوف المريرة بأن يجري ترحيله إلى مالي إن هو كشف عن نفسه للسلطات.
تنقل ليبارسيون في هذا الصدد عن أحدهم ويدعى عبدو، قوله: “ليس لدينا حقوق، ليس لدينا ملابس عمل، ولا أحذية أمان متوفرة، ولا نتقاضى بدلا مقابل بطاقة النقل، وليس لدينا فحص طبي ولا حتى عقد. إذا مرضت أو أصبت، فسيعوضك المدير بعامل آخر في اليوم التالي”.
يضيف زميله موسى قائلا : “الفرنسيون لا يريدون القيام بهذا العمل. في الموقع، هناك أجانب فقط. باكستانيون للكهرباء، وعرب للسباكة، وأفغان للبناء… والبيض في المكاتب”.
وبحسب الصحيفة فإن “استقطاب هؤلاء العمال يحدث غالبا سرا عبر عمال مثلهم، حيث يستغل أرباب العمل حاجتهم للعمل ووضعهم الذي يجردهم من كل الحقوق، ما يجعل منهم يدا عاملة رخيصة ويعفي المشغلين من دفع كل الالتزامات القانونية إزاءهم”، وفق شهادة هؤلاء العمال.
تورد الصحيفة عن “موسى” قوله حول وسائل التلاعب التي يستخدمها أرباب العمل :”بعد أن طفح الكيل، هددنا بالإضراب. طبعا هذا لم يرق للمدير المباشر لنا، لكنه كان مرغما على الاستجابة. في النهاية وقعنا عقود عمل دائمة معهم، لكننا اكتشفنا لاحقا أنها بلا قيمة، هي مجرد أوراق تقدمها الشركة للضمان الاجتماعي”.
يضيف تحقيق الصحيفة في كشف تلك التلاعبات نقلا عن “جان ألبرت غيدو” الأمين العام المحلي لـ”الكونفدرالية العامة للشغل” في منطقة بوبيني، قوله إن”الشخص الذي يدفع ليس بالضرورة هو الشخص الموجود على الموقع.. لدرجة أنه من المستحيل التأكد من هوية المسؤول الذي يوظفهم حقا”.
الشركات تمر عبر الثغرات !
يبرر “برنارد تيبو” عضو اللجنة المنظمة لأولمبياد باريس 2024، في رده على سؤال من ليبارسيون :”الألعاب الأولمبية في فرنسا ليست منظمة مثل كأس العالم في قطر”.
وأضاف:”ندرك أن الشركات يمكن أن تمر عبر الثغرات. لكن لدينا نظام مراقبة أكثر تطورا قليلا، مع وجود لجنة في مواقع البناء، مع موظفين دائمين. وهذا يسمح لنا بتحديد الحالات”.
وعلى الرغم من الكلمات الجميلة، إلا أن موسى يشعر بالاشمئزاز ويقول في هذا السياق: “نحن غير موثقين لأن فرنسا لا تريد تنظيمنا، لكن الألعاب الأولمبية لا يمكن أن تتم بدوننا”.
وجاء تحقيق الصحيفة الفرنسية حول استغلال العمال الأجانب المتواجدين بصفة غير شرعية، في مشاريع مرافق أولمبياد باريس 2024، في وقت انتقدت فيه بعض وسائل الإعلام الفرنسية والغربية، تنظيم قطر لبطولة كأس العالم، مثيرة ظروف الأجانب في البلد.
لكن البعض قال إن ما حدث للعمال في قطر يحدث لهولاء العمال في باريس، فلماذا كانت ولاتزال”آن هيدالغو” رئيسة بلدية باريس تدعو إلى مقاطعة مونديال قطر في حين لم تخرج بتصريح حول انتهاك العمال وهم على مرمى حجر من مكتبها.
ومنذ قرار “هيدالغو” مقاطعة كأس العالم عبر منع الشاشات العملاقة وتخصيص أماكن للمشجعين -احتجاجا منها على شروط تنظيم البطولة من حيث الجانب البيئي والاجتماعي- لوحظت رسالة متكررة كُتبت على بعض الأرصفة في الشوارع الحيوية بالعاصمة الفرنسية، لا سيما بالقرب من مبنى البلدية وعند بعض مداخله، كتعبير عن استنكار المعايير المزدوجة لبلدية باريس حيال التعاطي مع مونديال قطر.
ودأب النشطاء الذين يقفون وراء هذه الحملة المنتقدة لبلدية باريس: “قاطعوا شركة توتال من أجل حقوق العمال وليس كأس العالم”. وأيضا: “قاطعوا شركة لافارج لتمويلها تنظيم داعش( في سوريا) وليس كأس العالم”.
العبودية الحديثة
مصطلح جديد عن العبودية يطلق عليه “العبودية الحديثة” وهو استغلال غير قانوني للأشخاص من أجل تحقيق مكاسب شخصية أو تجارية.
ويغطي هذا المصطلح مجموعة واسعة من الانتهاكات والاستغلال بما في ذلك السخرة والعمل القسري. وهما أمران يبرزان جليا في حالة العمال غير النظاميين بمواقع الألعاب الأولمبية في باريس، وكذلك مئات العاملين الآخرين بمثل ظروفهم.
كذلك، فإن تقديرات وزارة الداخلية الفرنسية تؤكد على وجود ما بين 700 و600 ألف مهاجر غير نظامي في البلاد، معظمهم من البلدان المغاربية وإفريقيا جنوب الصحراء.
ويجري استغلال قطاع واسع منهم في هذا النوع من العمل غير القانوني وتحت ظروف قاسية وبأجور زهيدة.
لكن النخبة الفرنسية، وعلى رأسها عمدة باريس، الذين سارعوا إلى شن حملة عدائية ضد قطر بدعوى انتهاكها حقوق العمال في أثناء التحضير للمونديال، فإنهم اليوم يتجاهلون هذا التحقيق الذي على الأقل يجب على هذه النخبة البحث عما إذا كان هناك بالفعل انتهاكات ضد العمال أم لا، وليس مجرد إعطاء الآخرين دروس في الأخلاق والإنسانية.
الأمم المتحدة: العنصرية في فرنسا “مقلقة”
وفي وقت لاتزال في وسائل إعلام فرنسية تتحدث عن تنظيم قطر لكأس العالم وهي دولة عربية تنتهك حقوق الإنسان، فضلا عن مطالبتهم بتطبيق قيمهم على بلدان تختلف من عنهم في كل شيء، جاء تقرير آخر صادر عن الأمم المتحدة يتحدث عن أن التمييز العنصري في فرنسا بات يشكل “قلقا ملحا”.
وتؤكد لجنة “القضاء على التمييز العنصري” التابعة للأمم المتحدة التي أصدرت التقرير في الثاني من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، على “استمرار الخطاب العنصري والتمييزي في فرنسا، لا سيما في وسائل الإعلام وعلى الإنترنت”.
وجاء في المراجعة الدورية لسياسة فرنسا تجاه الأقليات، وأصدرها 18 خبيرا مستقلا بأن هناك “قلق من الخطاب السياسي العنصري الذي يتبناه الزعماء السياسيون”، الذين لم تذكر أسماؤهم، فيما يتعلق بأقليات معينة، ولا سيما “المهاجرين والأفارقة أو المنحدرين من أصل أفريقي والمنحدرين من أصل عربي”.
رغم ذلك، أكدت اللجنة بأنها تلاحظ “عزم الحكومة الفرنسية وإرادتها السياسية على محاربة العنصرية والتمييز العنصري بكافة أشكالهما”.
عمليات التحقق من الهوية “تمييزية“
لكن اللجنة طالبت من السلطات الفرنسية “مضاعفة جهودها لمنع خطاب الكراهية العنصرية ومكافحته بشكل فعال”، بما في ذلك من خلال التطبيق الفعال للتشريعات، والمعاقبة على أي مظهر من مظاهر العنصرية والكراهية العنصرية في الأماكن العامة، ولا سيما في وسائل الإعلام والإنترنت.
وأشار تقرير الخبراء إلى أن وحشية الشرطة الفرنسية والتنميط العنصري يثير قلقا بالغا، مؤكدة على أن” الاستخدام المتكرر لعمليات التحقق من الهوية، والاعتقالات التمييزية، وكذلك تطبيق الغرامات الجنائية الثابتة التي تفرضها الشرطة أو قوات الأمن تستهدف بشكل غير متناسب ضد بعض الأقليات” في البلاد.
وجاء في ختام تقرير اللجنة : “نشعر بقلق خاص إزاء عدم وجود رقابة قضائية وإمكانية تتبع هذا النوع من عمليات التحقق من الهوية التي غالبا ما تكون مصحوبة بملاحظات وأفعال عنصرية وتمييزية”.
وطالب خبراء الأمم المتحدة من الحكومة الفرنسية ضرورة أن تُدرج في تشريعاتها تعريف وحظر التنميط العرقي أو الإثني وضمان توفير “توجيهات واضحة” بشأن هذا الموضوع للشرطة.
يبدو أن تحقيق استغلال المهاجرين في منشآت باريس الأولمبية، وكذلك تقرير الأمم المتحدة حول القلق من استمرار الخطاب العنصري في فرنسا، لن يأخذ صدى واسع في وسائل الإعلام الفرنسية أو الأوروبية، ذلك أن الملاحظ من قبل الإعلام الأوروبي أنه ينظر إلى هذه التقارير على أنها مجرد “مزاودات” لايمكن التعليق عليها مقارنة مع ما يجري في بلدان العالم الثالث وحتى الثاني، بينما يعيش الغرب فوق الجميع متربعا في العالم الأول من حيث “التفوق الإخلاقي والإنساني وحتى العرقي”.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.