سنحاول قراءة المشهد الأمريكي حيال الشرق الأوسط خلال أقل من عقدين من الزمن بحكم الانعكاسات المباشرة على ما هو قائم الآن في العالم والشرق الأوسط، ذلك أن مظاهر عدة أفرزتها استراتيجية الولايات المتحدة خلالها، إذ انطلقت واشنطن مع بداية الألفية مندفعة صوب مناطق عدة في العالم، كان للشرق الأوسط نصيب وافرٌ منها بعنوان “الحرب على الإرهاب” في الوقت الذي كان النظام العالمي فيه قد تغير لمصلحة واشنطن عقب انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي في تسعينيات القرن الفائت.
تناقش هذه الورقة تلك المسألة من خلال ما يأتي:
- الشرق الأوسط من الاستعمار الغربي وانهيار الاتحاد السوفياتي إلى الربيع العربي.
- تركة إدارة الرئيسين بوش الابن وأوباوما.
- عدم ثبات النظام العالمي الصاعد.
- ظاهرة ترامب استراتيجية مستجدة في الساحة الدولية.
المدخل
في ظل البيئة الدولية المتسمة بنزعة عالية من السيولة، والتوجه الأمريكي فيها إلى الهيمنة على العالم، كان من الطبيعي أن تتأثر الأقاليم ذات الأهمية الاستراتيجية وفي مقدمتها منطقة الشرق الأوسط ذات الحساسية العالية بأي تأثيرات للتحولات الاستراتيجية في هيكلة المنظومة الدولية، لكونها ارتبطت بعلاقة تأثير متبادل مع النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فالتوازنات العالمية تؤثر في التوازنات الإقليمية وبالعكس، فكان لا يد أن تؤثر نتائج التحولات التي شهدها التوازن العالمي من اختفاء أحد أقطابه بقوة في هذه المنطقة من خلال انعدام هامش المناورة المستقلة أمام بعض دول المنطقة، فقد كان الاتحاد السوفياتي في عصر التوازن الثنائي يمثل أحد البدائل أمام بعض الدول لتقليص مساحة الهيمنة الغربية، فضلاً عن ضعف قدرتها على التأثير في النسق الدولي، ما أدى إلى التراجع في مدى الاهتمام بقضاياها بسبب زيادة تبعية الولايات المتحدة للبيئة الدولية بعد انهيار الشرق الأوسط ما بين الاستعمار الغربي وانهيار الاتحاد السوفياتي.
قسم البريطانيون والفرنسيون منطقة الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى وأنشؤوا عدداً من الدول العميلة الصغيرة ومتوسطة الحجم وسيلة لتأمين مصالحهم في المنطقة. وفي هذه العملية وضعوا أساساً لنظام الشرق الأوسط الذي بقي في محله حتى الحرب العالمية الثانية وبداية الحرب الباردة عندما هيمنت القوتان العظمتان -الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي- على المشهد وأسسوا على أنقاض ما خلفته الحرب الكونية نظاماً عالمياً ثنائي القطب. حدث عدد من التحولات الفارقة في عموم المنطقة باضطراد، إذ أشعل عدد من الانقلابات والثورات في المنطقة وأطيحت ممالك عدة من قبل الأنظمة القومية العربية أو في حالة إيران من قبل جمهورية إسلامية جديدة.
كانت هناك نزاعات حدودية وحروب طويلة كحرب إسرائيل مع العرب وحرب العراق مع إيران، على الرغم من هذه التحولات والانجرافات ظلت حدود ما بعد الاستعمار التي رُسمت بين بلدان هذه المنطقة ثابتة بشكل صارم.
لكن الواقع الذي تطرقنا إليه بعُجالة مرَّ بمرحلة انتقالية، إذ كان ينبغي لنظام الشرق الأوسط أن ينهار مع سقوط الاتحاد السوفياتي في 1989، وبعد انتهاء الحرب الباردة كما حصل لنظام أوروبا الشرقية، إلا أنها بقيت ثابتة بفعل الإرادة الدولية التي لم تنزع في هذا الاتجاه من جهة، ولبروز قضايا أكبر وأكثر إلحاحاً من أن تضع القوتان العظمتان -التي تداعت إحداها (الاتحاد السوفياتي)- وقتذاك ثقلها في عملية تغيير الخرائط أو تسعير الحروب المؤدية إلى تفكيك هذه الدولة أو تلك من جهة أخرى. وكان من المؤتمل من قبل بعضهم أن تجلب الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 تغييراً شاملاً، إلا أن بزوغ موجة “التغيير” ابتدأت من تونس مع انطلاقة حركات ما عُرِف بـ”الربيع العربي” مع انتهاء عام 2010 وانطلاقة عام 2011. ذلك أنه وخلال مرحلة “الربيع العربي” أصبحت بعض القوى العالمية والإقليمية والمحلية فاعلة ومتشابكة إلا أن حالة السيولة لم تزل قائمة كون القوی المتشابكة لم تصل بعد إلى مخارج للأزمة.
ليس يسيراً البتة استنتاج صورة واضحة لسياسات الولايات المتحدة حيال عموم الشرق الأوسط بملفاته الشائكة الكثيرة والمتداخلة وبشكل خاص تطورات الوضع في سوريا التي وضعتها الحرب الدائرة منذ سنوات في رأس قائمة الأزمات الدولية لا سيما مع كثرة اللاعبين على خريطتها محلياً وإقليمياً ودولياً. ذلك أن واشنطن عملت ولم تزل على تسويف أي حل سياسي ينهي الصراع من جهة، إضافة إلى تدخلها العسكري في هذا البلد بعنوان “الحرب على الإرهاب” متمثلاً بشكل خاص في ما يُعرف بتنظيم “الدولة الإسلامية” الذي تمدد خلال أقل من سنتين قاضماً مساحات واسعة من أراضي العراق وسوريا.
يعود جذر الإشكالية إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 وما تلاها من تطورات انتهت باحتلال أفغانستان والعراق وبدء مرحلة جديدة في ظل إدارة المحافظين الجدد الذين ابتدعوا وترجموا مقولات “الضربة الاستباقية” و”الحرب على الإرهاب” و”محور الشّر” الذي ضم إيران بوصفها ضلعه شرق الأوسطي. هذه الأخيرة ستجني باضطراد ثمار الاستراتيجية الأمريكية بسلاسة إذ إن التدخلات العسكرية التي نفذتها واشنطن جاءت في دولتين جارتين لإيران (أفغانستان والعراق). من هنا شرعت طهران في سياسات التمدُّد الممنهجة عبر هذين المدخلين اللذين لم تفلح واشنطن في ضبطهما منذ اجتياح قواتها للبلدين إلى حين انسحاب تلك القوات وعقد اتفاقات عسكرية مع حكومتي العهد ما بعد الأمريكي دونما انعكاس لاستقرار طويل الأمد في ظل غياب عامل الأمن بشكل شبه دائم عن المشهد العام للبلدين.
تركة إدارتي الرئيسين أوباما وبوش الابن
ليس الأمر متعلقاً باللحظة الراهنة التي اعتلى فيه دونالد ترامب سدة البيت الأبيض، إنما تعلق أيضاً بما خلّفته إدارة سلفيه بوش الابن وأوباما اللتين دامتا لولايتين على التوالي لكل منهما، أي ستة عشر عاماً. الأمر الذي يعني في ما يعنيه إلقاء الضوء على النقطة التي توقف كل من السلفين عندها. فإذا كان بوش الابن وإدارته حكومة حرب بامتياز، فإن أوباما التجأ إلى خيارات التفاوض ووضع مفهومات الخيارات العسكرية على الرف ما أعطي نتائج مغايرة تنطوي على قدر متفاوت من سلبية لجهة النتائج.
إذ إن لكل من الاستراتيجيتين اللتين انتهجتهما الإدارتان فعلها السلبي بالنسبة إلى القوة العظمى في عالمنا. فإدارة بوش الابن كانت المنطلق في تعويم مفهومات مستجدة بالشكل الذي ظهرت عليه في الساحة الدولية من قبيل “الحرب العالمية على الإرهاب” وتصنيف الدول وسوى ذلك من منطلقات بعيداً ما أمكن عن منظومة الأمم المتحدة وشرعة القانون الدولي -التي تمثل على هزالتها- في بعض الملفات الحدود الدنيا للتوازن الذي كان قائماً في عقود سابقة تخللتها المدة الطولى التي سادت فيها الحرب الباردة في عالم ثنائي القطب بين معسكري الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. فكانت النتيجة الملموسة التي طفت على السطح تفجر مناطق بعينها من دون السعي أو عدم القدرة الكافية على إطفائها وبالتالي تشكل بؤر قابلة للانفجار في كل لحظة كما هو الحال في أفغانستان والعراق اللذين غاب عنهما الاستقرار مراحل طويلة.
بعكس ما سبق، قدِمت إدارة أوباما بحمولة مغايرة من الحياد والابتعاد عن خيار التدخل العسكري المباشر والحد منه ما أمكن تحت عنوان الالتفات إلى الداخل ومحاولة ترميم ما تركته إدارة سلفه. من هنا مثلت استراتيجية أوباما الانعكاسات السلبية للتحولات الهيكلية للنظام الدولي من خلال تعاطي إدارته مع مجمل القضايا الساخنة، العالقة منها والمُلِحّة، غير ذات فاعلية. إذ توقفت واشنطن خلال سنوات ولايتي أوباما الأولى والثانية دونما إنجاز يذكر للرئيس في حقل السياسة الخارجية الأمريكية. وهو أمر يكاد ينسحب على أزمات العالم قاطبة سواء أكانت عالمية أم في الشرق الأوسط أم أفريقيا التي دخلت دولٌ عدة منها في دائرة أحداث “الربيع العربي” المتفجر كما هو حال أسوأ حلقاته حتى اللحظة في سوريا.
لطالما سوّق الرئيس الأمريكي أوباما استراتيجيته بالقول إن القوة العسكرية ليست بالضرورة هي الحل لكل المشكلات والتحديات التي تواجه الولايات المتحدة. إذ خاطب خصوم الولايات المتحدة خلال حفل تنصيبه الرئاسي عام 2009: “سنمدُّ أيدينا لكم إذا كنتم على استعداد لإرخاء قبضتكم”. بهذا المعنى وبحسب قناعات أوباما فإن “الاشتباك” الدبلوماسي مع خصوم الولايات المتحدة أفضل كثيراً من العقوبات والعزلة التي لا نهاية لها. لذا قامت إدارته بالانفتاح على كل من بورما، كوبا، وإيران. إن محاولة إسقاط قواعد الاشتباك العائدة إلى الرئيس الأمريكي أوباما على هذه الأخيرة (إيران)، وبالنظر إلى تصاعد دورها المتفاقم في منطقة تكتوي بنيران الحروب والصراعات التي لا تنتهي، تُظهر الصورة الأمريكية في أسوأ حالاتها من جهة، وتبدو فيها الجمهورية الإسلامية الأكثر استفادة من جهة أخرى.
وباستقراء سلوك إدارة الرئيس الأمريكي السابق، يجد المرء أن أهم آليات منظومة السياسة الخارجية في عهده، هي آليات ستاتيكية (ساكنة) تقوم على عدم الفعل تجاه الحدث مهما كبر أو صغر وحتى لو طالت شظاياه موقع واشنطن في قضايا عدة. ذلك أن استراتيجية أوباما، المناهضة لتوجهات سلفه (بوش الابن)، أثمرت حالة هزيلة في عالم السياسة الدولية بشكل عام، ويبدأ الدور الأمريكي بالتحوّل ابتداء من “الغَلبة” (عالم أحادي القطبية) لينتقل في ولاية أوباما الأولى إلى “الرجحان” عبر بروز مبدأ “القيادة من الخلف” كما حصل في تعاطي واشنطن وحلفائها الأوروبيين (الناتو) مع الأزمة الليبية، ليستقر الحال بالإدارة الأمريكية على حالة فريدة من نوعها ضمن كينونة النظام العالمي المتحوّل وفق استراتيجية أوباما المتدرّجة في ما يمكن أن نطلق عليه مجازاً: “النأي بالنفس” عن قضايا الساعة. ولعل من أبرز نتائج سلوك الولايات المتحدة إلى جانب أسباب أخرى إعادة تموقع الدب الروسي عالمياً.
عدم ثبات النظام العالمي الصاعد
خلال ما يقارب عقداً من الزمن، وتحديداً مُذ انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي ودخول عدد من دوله السابقة تحت ظل الغرب وصولاً إلى انطلاقة الحرب الأمريكية المعلنة على “الإرهاب” التي ظهرت بوصفها “ردة فعل” أمريكية وبغطاء دولي غربي على أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، في غضون هذه المدّة كانت السياسة الدولية تعيش ما يشبه مرحلة انتقالية تنتهي خلالها علامات القطب الشيوعي منتهي الصلاحية وظهور نظريات نهاية التاريخ التي تمنح صكوك انتصار (أبدي) للنظام الرأسمالي العالمي الذي تقوده إلى اللحظة الولايات المتحدة من دون منازع يوازيها في التحكم والسيطرة.
مع بداية الولاية الأولى لبوش الابن وما تلاها من أحداث في الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، انطلقت المرحلة المتقدمة من تدخل الولايات المتحدة في مناطق عدة من العالم انطلاقاً من الشرق الأوسط، وتحديداً في أفغانستان والعراق، الأمر الذي كلف واشنطن عناء إحياء نظامي البلدين السياسيين بعد إسقاط نظام طالبان وصدام حسين بكل ما تتضمنه العملية من إعادة الأمن والاستقرار على الصعد كافة في بلدين عاشا سنوات مراحل انهيار اقتصادي ومجتمعي بفعل عوامل داخلية وخارجية.
ومع قرب انطلاقة أحداث “الربيع العربي” وما جرته من تغيرات لم تنتهِ نتائجها إلى اللحظة الراهنة، كانت روسيا البوتينية تعد العدة لتستعيد جزءاً من منزلتها التي خسرتها مع انهيار الاتحاد السوفياتي، وذلك من خلال أمرين اثنين: الأول تمثل في عدم قدرة واشنطن على حسم الأمور نهائياً في ملفات عالمية وشرق أوسطية عالقة بما فيها تلك التي تدخلت هي فيها (أفغانستان والعراق)، والثاني تمثل في طموح فلاديمير بوتين وسلوكه الذي يعد أحد انعكاسات عظمة المنظومة السوفياتية من منظور روسي.
وقد ظهر الأمر جلياً في النزاع مع أوكرانيا وجزيرة القرم التي تعتبر نقطة خلاف بدورها مع الغرب عموماً بحسبانها تشكل تخوفاً لدى الأوروبيين المستائين من تمدد الدور الروسي الذي كان حتى الأمس القريب في عقر دار أوروبا، لكن الدور الروسي الأبرز والأكثر تحدياً للغرب يظهر في سوريا من خلال الحرب الدائرة هناك التي تجسدها موسكو بقوتها العسكرية ومحاولات تحكمها بمفاصل الأزمة ككل من خلال إدارة النظام السوري من الخلف على الصعيد الدولي وكذلك الإقليمي، إن بالتنسيق مع إيران الموجودة بدورها على الأرض التي لها نصيب وافر من بنية النظام أو بالاتفاقات التكتيكية مع تركيا بخصوص سوريا ومن ثم ربط الأمر بما هو أبعد من تكتيكي في صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال العمل المستمر من جانب موسكو لفك ارتباط تركيا بحلف شمال الأطلسي (الناتو).
ونتيجة للتدخلات الخارجية من قبل الولايات المتحدة بشكل لا تنهي فيه أزمات كل منطقة دخلتها وترك المجال مفتوحاً أمام أي تطورات دراماتيكية قد تحدث في كل حين، غدا بقاؤها واستمرارها بوصفها قوة وحيدة في عالمنا المعاصر أمراً محل نظر ومشكوكاً فيه حتى من قبل من يعتبرون حلفاء لها كما حصل من قبل دول عدة في المنطقة. فعلى سبيل المثال شككت المملكة العربية السعودية في مرحلة معينة في جدية واشنطن في موقفها من إيران قبل أن تستعيد واشنطن الثقة في ما تعتبره الرياض صراعاً إقليمياً لا سيما بعد اقتراب النفوذ الإيراني أكثر من مناطق تعتبرها السعودية داخلة في نطاق أمنها القومي المباشر كما هو حال اليمن وأزمة ملف الحوثيين المدعومين من حكام طهران، زد على ذلك أن الأمور أخذت منحى ذاتياً أكثر من قبل واشنطن التي تغير قواعد اللعبة من جهتها بما لا يستقيم مع مصالح أطراف أخرى مصنفة في خانة “الحليف” كما هو حال تركيا التي وقفت بالضد من غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003 لأسباب تعود إلى مخاوف أنقرة من صعود كردي هناك، ويتكرر سيناريو مماثل، أكثر حدة، تجاه دعم واشنطن لقوات سوريا الديمقراطية منذ سنوات في سوريا.
من هنا، كان من الطبيعي أن تكتشفت الولايات المتحدة تراجع تأثيرها في منطقة الشرق الأوسط ضمن نسقه الحديث، في وقتٍ تعطل فيه توجهها إلى الانسحاب بالتدريج من المنطقة التي تدخلت فيها في أكثر من محطة من جهة، ونتيجة لزيادة تركيزها في “آسيا الهادئة” من جهة أخرى. بهذا المعنى، بقي الشرق الأوسط معضلة في الحسابات الاستراتيجية الأمريكية، فلا هي تملك النفوذ نفسه الذي حظيت به عقوداً طويلة، ولا هي تزمع الانسحاب منه. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة التي لم تكن وراء حركات “الربيع العربي”، لم تستطع أن تنأى بنفسها عن هذه التحولات، إذ حاولت ركوب موجتها وتوجيهها، لئلا تشكل الخريطة الثقافية والفكرية والجيوسياسية فيه بعيداً عن تأثيرها. أدى ذلك إلى تدخل جديد لها في ملفات المنطقة، ولكن من دون أن تكون صاحبة الفصل فيها. هذه الأوضاع وسواها ضاعفت استنزاف القدرات الأمريكية، على الرغم من توجه واشنطن دوماً إلى تخفيف هذه التكلفة الاستراتيجية الباهظة.
وبالعودة قليلاً إلى الوراء، وتحديداً إلى إشراف الرئيس أوباما على الانسحاب الأمريكي من العراق أواخر عام 2011 الذي عدّه أكبر إنجاز في سياسة إدارته الخارجية، كان قد انتهى إلى إخفاق ذريع، وذلك مع عودة الولايات المتحدة إلى ذلك البلد في أيلول/ سبتمبر 2015 لمحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”. والأمر نفسه يقال في قراره انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان كليّاً أواخر عام 2016، في ظل تصاعد هجمات حركة طالبان وعجز الحكومة الأفغانية المدعومة من الغرب عن التصدي لها. علاوةً على ذلك، بقيت إدارة الرئيس أوباما تراقب المتغيرات في ليبيا، سوريا، واليمن. فكانت النتيجة هي، أنه بدلاً من أن تقضيَ على خطر تنظيم “القاعدة”، غدت تحارب فروعه الكثيرة المنتشرة في الشرق الأوسط وأفريقيا، فضلاً عن خطر تنظيم “الدولة الإسلامية” الذي خرج من رحم تنظيم “القاعدة”. وفي ما خص هذا الأخير (تنظيم “داعش”)، فإنه يسجل لواشنطن أنها عملت بجدية على محاربته وإزالته تقريباً من مناطق وجوده في العراق بدعم حكومتي المركز والإقليم وفي سوريا بدعمها المستمر لقوات سوريا الديمقراطية، مع بقاء تحملها لبروز التنظيم المتطرف في العراق الذي احتلته.
جملة القول، إن نظاماً عالمياً غير واضح المعالم يتشكل، لكن مع بقاء الولايات المتحدة غالبة فيه في قضايا عدة وراجحة أو ربما موازية فيه أخرى كما هو حال ملف الأزمة السورية المتفاقم باضطراد. ذلك أن الدور الروسي في هذا البلد يبدو أكثر قوة انطلاقاً من وضوح الرؤية والهدف من التدخل والدعم في سبيل بقاء النظام السوري إلى أن يحين موعد إجراء تغييرات مقبلة وفقاً لتوقيت موسكو. وهو وضوح تفتقد إليه السياسة الأمريكية إلى اللحظة الراهنة في شقها السياسي، ذلك أن الأمريكيين يكررون مقولات “جنيف” ومخرجاتها دونما إمكان محتمل لترجمتها على الأرض من جهة، ويبررون بقاءهم على الدوام بحجة محاربة “الإرهاب” في ظل غياب علني لأي دعم سياسي لحليفهم في سوريا المتمثل في قوات سوريا الديمقراطية ومراعاة الحساسيات التركية تجاه كل خطوة من جهة أخرى. ذلك كله مع التنبيه إلى أن تطورات وتقلبات حصلت في ما مضى من حقبة دونالد ترامب على ما سنأتي إليه.
ظاهرة “ترامب”: استراتيجية مستجدة في الساحة الدولية
لطالما عكست إدارة البيت الأبيض النظام الرأسمالي العالمي الذي تقوده واشنطن في عالمنا المعاصر. ما معناه أن السياسة الخارجية الأمريكية هي بهذا الشكل أو ذاك ترجمة لإرادة رأس المال العالمي بوصفه المعبر الفعلي لكل فعل خارجي علاوة على ما هو داخلي بطبيعة الحال. يبدو الأمر مماثلاً في حالة ترامب مع فارق أن الأخير يعبر عن نفسه بالأصالة بعد أن كان البيت الأبيض القابع في عرشه وكيلاً عن الأصيل (رأس المال). لعل هذا ما يفسر خطاب الرئيس الأمريكي ترامب في عدد من تصريحاته وتغريداته على تويتر التي أضحت أمراً فريداً من نوعه في إرسال الرسائل لكل معنيٍّ بها من قبل واشنطن. ذلك أن بنية الخطاب تعبر بشكل مباشر غالباً عن إرادة رأس المال الذي يجسده ترامب بوصفه رجل أعمال أكثر من كونه رئيساً لدولة عظمى يجب عليه دوماً تلقف ما هو دبلوماسي في رسائله.
وهذا بطبيعة الحال ظاهرة فريدة في عالم السياسة لا سيما أننا نتحدث عن دولة عظمى تدير وتشرف حتى اللحظة على النظام العالمي المهيمن على العلاقات الدولية وموازين القوى المرسومة من قبله. مهما يكن من أمر، فإن أي سياسة خارجية، وبغض الطرف عن طبيعة ممثلها والمتحدث باسمها وطرائق مخاطبته للآخر، سيحتاج إلى خطة مرسومة تضع أولويات لها إن بشكل معلن أو من خلال الترجمة الفعلية لها على الأرض. في الحالة الأمريكية في عهد الرئيس الحالي ترامب وإدارته، جرى الإعلان عما سمي باستراتيجية الأمن القومي الأميركي في نهاية العام الفائت التي حملت شعار حملة ترامب الانتخابية “أمريكا أولاً”. وجاء في الاستراتيجية الجديدة أن مصادر التهديد للولايات المتحدة وحلفائها تأتي من ثلاثة جهات: الأولى (روسيا والصين) أو القوى المنافسة في الساحة الدولية، والثانية (إيران وكوريا الشمالية) أو “الدول المارقة” (محور الشر بحسب إدارة بوش)، والثالثة (التنظيمات الجهادية الإرهابية).
وتركز استراتيجية الرئيس ترامب على أربعة محاور رئيسة، هي: أولاً، حماية أراضي الولايات المتحدة وشعبها ونمط الحياة الأمريكية عبر مكافحة التطرف ومنعه من الانتشار داخل الولايات الأمريكية بالهجرة، وكيفية التعامل مع الأشخاص غير المرغوب فيهم بمنعهم من الدخول إلى الأراضي الأمريكية. ثانياً، تحقيق الرفاهية للأمريكيين. ثالثاً، فرض “السلام باستخدام القوة”، وتطوير هياكل القوات المسلحة الأمريكية ومنظومة الدفاع الصاروخية. رابعاً، تعزيز النفوذ الاقتصادي للولايات المتحدة عالمياً بتشجيع القطاع الخاص والاستثمار. ولعل المحورين الأخيرين ينطويان على تعزيز المنزلة الأمريكية على الصعيد الدولي من خلال إعادة النظر بتوجيه النفوذ الأمريكي وربطه بالنفوذ الاقتصادي وفق ترامب.
إذ أعلنت وثيقة الأمن القومي الأميركي أن الولايات المتحدة تريد منطقة من دون مناطق سيطرة للتنظيمات الإرهابية، ومن دون قوى معادية للولايات المتحدة، بل تساهم في استقرار سوق الطاقة العالمي. وأوضحت الاستراتيجية الأميركية أيضاً أن واشنطن ترى خطرين في المنطقة: التنظيمات الإرهابية، وإيران، وهي بهذا المعنى تخلت عن فكرة أن السبب الرئيس للأزمات هو الصراع العربي الإسرائيلي، وتخلت عن فكرة “دمقرطة” بلدان العالم الثالث ومن بينها الدول التي اجتاحتها رياح “الربيع العربي”.
ولعل أهم ما أشارت إليه الاستراتيجية التي تنسجم إلى حد كبير مع ظاهرة “ترامب” -كما نبهنا- مسألة التحالفات الدولية مع الولايات المتحدة، إذ أرادت الاستراتيجية الجديدة عدم دخول واشنطن في تحالفات دولية لا يتقاسم فيها الحلفاء أعباء التحالف، وبالطبع ستكون الكلمة الأخيرة هنا للرئيس ترامب. لكن تعترف هذه الاستراتيجية ضمناً بنهاية عالم القطب الواحد وعودة المنافسة بين الدول العظمى، وهذه النظرية تقلق حلفاء الولايات المتحدة من انتهاج إدارة ترامب لبعض السياسات الخطرة مثل كيفية التعامل مع إيران بتهديد الاتفاق النووي بما ينطوي عليه الأمر من قلق ومخاوف سعودية /خليجية وإسرائيلية. وذلك قبل أن تطمئن الرياض وتل أبيب، كل انطلاقاً من دوافعه، من خلال نقض الاتفاق النووي المعقود في حقبة أوباما علاوة على قيام إسرائيل -وبقبول روسي أيضاً- باستهداف إيران في سوريا. وهو سلوك يتناقض كلياً مع توجهات الديمقراطيين التي كما بدا -في ما سبق- أنها كانت تهدف إلى التوصل إلى اتفاق نووي (كما حصل)، ثم التفاوض مع طهران على القضايا الأخرى، بما في ذلك الأزمة السورية، وحزب الله، واليمن، وقضايا الإرهاب؛ لكن إدارة ترامب رفضت هذا الفصل بين الملفات.
باختصار، حاولت إدارة بوش انتهاج استراتيجية “دمقرطة” الأنظمة الحاكمة في المنطقة، لتليها في ما بعد إدارة أوباما التي تبنت استراتيجية فك الارتباط بالمنطقة والتخلي عن “فرض الديمقراطية”، واليوم تعلن إدارة ترامب استراتيجية “أمريكا أولاً” التي هي في حقيقتها لا تقدم حلولاً لأزمات المنطقة، بل تحمّل الإدارتين السابقتين مسؤولية تضاؤل النفوذ الأمريكي لمصلحة إيران وانتشار الفكر الجهادي.
المراجع
- العناصر الرئيسية لاستراتيجية أمريكية في الشرق الأوسط، معهد واشنطن https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/view/key-elements-of-a-strategy-for-the-united-states-in-the-middle-east
- ما بعد قرار أمريكا البقاء في سوريا، الشرق الأوسط https://aawsat.com/home/article/1376516/روبرت-فورد/ما-بعد-قرار-أميركا-البقاء-شرق-سوريا.
- الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.. ثوابت ومتغيرات، الشرق الأوسط https://aawsat.com/home/article/296941/د-عبد-العزيز-بن-عثمان-بن-صقر/الاستراتيجية-الأميركية-في-الشرق-الأوسط-ثوابت.
- النظام العربي الجديد، كيف غيرت 7 سنوات خريطة القوى والنفوذ في الشرق الأوسط، المركز الكردي للدراسات http://www.nlka.net/news/details/666#.W4Z8rUmZ9Gg.facebook.
- إنهاء الدور الكارثي الذي تلعبه أمريكا في سوريا، قنطرة https://ar.qantara.de/content/إنهاء-الدور-الكارثي-الذي-تلعبه-أمريكا-في-سوريا-أسباب-فشل-الإطاحة-بنظام-الأسد-الديكتاتوري.
- استراتيجية الإدارة الأمريكية الجديدة إزاء الشرق الأوسط، دراسات دولية https://www.iasj.net/iasj?func=fulltext&aId=60701.
- هل من سياسة أميركية جديدة في سورية؟ العربي الجديد https://www.alaraby.co.uk/opinion/2018/9/1/هل-من-سياسة-أميركية-جديدة-في-سورية-1
- الشرق الأوسط في استراتيجية الرئيس ترامب للأمن القومي، مركز البيان للدراسات والتخطيط http://www.bayancenter.org/2018/01/4154/
- استراتيجية ترامب، أميركا أولاً واستقرار الشرق الأوسط، العربية https://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/american-elections-2016/2017/12/20/أميركا-اولاً-واستقرار-الشرق-الاوسط.html
- الاستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، شؤون عربية http://www.arabaffairsonline.org/article?p=88
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.