مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة في الجزائر، المقررة في ربيع العام المقبل، ثمة تساؤلات بارزة تطرح نفسها بشأن السيناريوهات المحتملة لهذا الاستحقاق، مثلاً؛ ما هو موقف الإسلاميين من هذه الانتخابات سواء بالمشاركة أم بالمقاطعة، وما هي فرص هذا التيار الذي يعيش أسوأ أيامه بعد أن كان سابقاً بين التيارات الأكثر تأثيراً وقوة في المشهد السياسي الجزائري.
جذور نشأة الإسلام السياسي في الجزائر
الحديث عن الإسلام السياسي في الجزائر يقودنا إلى الحديث عن أحوال نشأته وبروزه، إذ تعود بداياته الأولى إلى مرحلة الاستعمار الفرنسي للبلاد بداية من عام 1830 ولمدة 132 عاماً، وعلى امتداد هذه المرحلة برزت حركات شعبية مقاومة عدّة تتخذ من الدين وسيلة لتحفيز الجزائريين وتعبئتهم من أجل مقاومة الاستعمار بداية من الشاعر والفيلسوف والسياسي المحارب الأمير عبد القادر الجزائري، وصولاً إلى (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) التي أسسها العلامة والمصلح عبد الحميد بن باديس.
بعد استقلال البلاد في الخامس من يوليو/ تموز 1962، برز خلاف حاد بخصوص التوجه الاشتراكي للدولة، وجرى التضييق واعتقال كل رافض لهذا الخيار، وعلى رأسهم الإسلاميين، إذ أُخضِع رئيس جمعية العلماء المسلمين الشيخ البشير الإبراهيمي للإقامة الجبرية.
وبسبب حالات التضييق وتكميم الأفواه فضل الإسلاميون دخول عهد السرية باللجوء إلى إنشاء نواة للعمل الإسلامي في مستوى الجامعات، عام 1974 أنشأ عبد الله جاب الله برفقة مجموعة من الطلاب نواة للعمل الإسلامي، وأطلق محفوظ نحناح ورفيقه محمد بوسليماني تنظيماً سرياً حمل اسم (جماعة الموحدين) مع مجموعة من الطلاب الذين كانوا يترددون على الحلقات الفكرية التي كان ينشطها المفكر مالك بن نبي.
عام 1976 طرح النظام الجزائري مشروع (الميثاق الوطني) الذي يقر التوجه الاشتراكي الشيوعي للجزائر، وتعتبر هذه الوثيقة بمنزلة المرجعية الأيديولوجية للدولة في ما يتعلق بدستورها وقوانينها، وهو الإعلان الذي رفضه محفوظ نحناح مع رفاقه، وحاول التصدي له بمخاطبة بومدين برسالة حملت عنوان “إلى أين يا بومدين؟” موقعة من طرف تنظيم جماعة الموحدين، فكان مصيره ومصير رفاقه الاعتقال، وصدرت بحقهم أحكام متفاوتة بالسجن ما بين 3 و15 عاماً.
بعد وفاة الرئيس هواري بومدين في ديسمبر/ كانون الأول 1978، استلم الشاذلي بن جديد في 9 فبراير/ شباط 1979 مقاليد الحكم، وأتاح هامشاً أوسع للحريات، فيما جرى التراجع عن خيار الاشتراكية تدريجياً، وبرزت نداءات التجديد داخل الحزب الحاكم.
وخلال الثمانينات تقاسم العمل الإسلامي ثلاث جماعات هي: جماعة الإخوان الدوليين بقيادة الشيخ محفوظ نحناح، وجماعة الإخوان المحليين بقيادة الشيخ عبد الله جاب الله، وجماعة مسجد الطلبة أو أتباع مالك بن نبي بقيادة الدكتور محمد بوجلخة ثم الشيخ محمد السعيد(1).
هذا الانقسام كان له أثر بالغ في مسار هذا التيار، ومستقبله الذي تطبعه الانقسامات والانشقاقات، وعلى الرغم من الجهد الذي بذل لتوحيد الإسلاميين في مشروع موحد من خلال ما يسمى بـ(رابطة الدعوة الإسلامية) عام 1989، إلا أن ذلك الجهد قد فشل.
أُسست الرابطة من طرف الشيخ أحمد سحنون الذي تولى رئاستها لكونه أكبر الأعضاء سناً (83 عاماً)، ومن مؤسسي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكانت الرابطة مظلة للتيارات الإسلامية كلها، ومن بين أعضاء رابطة الدعوة محفوظ نحناح، وعباسي مدني، وعبد الله جاب الله، وعلي بلحاج، ومحمد السعيد، وكان من أبرز أهدافها المعلنة إصلاح العقيدة، والدعوة إلى الأخلاق الإسلامية، وتحسين الاقتصاد المنهار في الجزائر في تلك المدّة والنضال في مستوى الفكر(2).
في 5 أكتوبر/ تشرين الأول شهدت الجزائر تظاهرات عارمة حينما خرجت آلاف من الجزائريين إلى الشوارع في المدن الكبرى للمطالبة بإقرار إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية عميقة، وأجبرت السلطة تحت ضغط الشارع على الاستجابة لمطالب الغاضبين بإقرار دستور 23 جديد للبلاد في فبراير/ شباط 1989 الذي فتح عهداً جديداً بالتعددية السياسية، نصت المادة 40 منه على أن حق إنشاء الـجمعيات ذات الطابع السياسي معترف به(3).
الإسلاميون في عهد التعددية الحزبية
مع إقرار دستور جديد للبلاد أنهى ثلاثة عقود كاملة من استئثار الحزب الحاكم (جبهة التحرير الوطني) بالسلطة تحت غطاء الشرعية الثورية، سارع الإسلاميون بالمقابل إلى إنهاء عهد السرية، ودخول المشهد السياسي بمسميات مختلفة، لكن ببرامج وشعارات واحدة تعتبر الإسلام هو الحل الوحيد لمعضلات الدولة والمجتمع، إذ سارع كل من محفوظ نحناح ومحمد بوسليماني إلى إعلان تأسيس (جمعية الإرشاد والإصلاح)، وهي جمعية ذات طابع اجتماعي فكانت أول جمعية إسلامية تُؤسس في ظل الإصلاحات السياسية التي شهدتها الجزائر بعد تظاهرات سنة 1988(4).
بعد تأسيس جمعية الإرشاد والإصلاح ظهر عدد من الأحزاب الإسلامية الأخرى، أبرزها (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) التي تعرف اختصارا بــ(الفيس) أسست في 18 فبراير/ شباط 1989 برئاسة الشيخ عباسي مدني ونيابة علي بلحاج.
في مارس/ آذار 1989 أسست (حركة النهضة) على يد سعد عبد الله جاب الله الذي انفصل عنها عام 1999 إثر دعمها مرشحاً آخر على حسابه، وعام 1990 أعلن محفوظ نحناح تأسيس (حركة المجتمع الإسلامي) المعروفة اختصاراً بحركة (حماس)، وهي الحركة التي تحولت في ما بعد إلى حزب (حركة مجتمع السلم) المعروفة اختصاراً بـ(حمس)، وذلك تكيفاً مع التعديل الدستوري لعام 2008 الذي يمنع تأسيس أحزاب سياسية على أساس ديني أو عرقي أو لغوي أو جنسي أو جهوي.
واقع الإسلاميين مع عهد الانفتاح السياسي لم يكن أحسن حالاً مما كان عليه في عهد الانغلاق، وطمس الحريات، فالتجربة الديمقراطية الفتية تعرضت في أول امتحان لها إلى مخاض عسير وإجهاض كانت له تداعيات كارثية على الجزائريين.
امتحان الديمقراطية
حققت الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزاً في أول انتخابات بلدية تعددية في البلاد في يونيو/ حزيران 1990، ثم حققت فوزاً ساحقاً بعد ذلك في أول انتخابات نيابية في ظل الدستور الجديد في 26 ديسمبر/ كانون الأول 1991 إذ حصدت في جولتها الأولى أكثر من 188 مقعداً من أصل 232 مقعداً، كان هذا الفوز أمراً صادماً للسلطة التي سارعت إلى حل البرلمان القديم في الرابع من يناير/ كانون الثاني 1992، فيما أعلن الرئيس الشاذلي بن جديد استقالته بعد سبعة أيام من حل البرلمان، ما دفع بالمجلس الأعلى للأمن إلى وقف المسار الانتخابي، وإعلان استحالة استمراره إلى غاية توافر الشروط الضرورية للسير العادي لمؤسسات الدولة.
قرار وقف المسار الانتخابي أدخل البلاد في أزمة سياسية وأمنية غير مسبوقة تسببت في موجة عنف دموية أطلق عليها اسم (العشرية الحمراء) أو (العشرية الدموية)، إذ شهدت البلاد موجة عنف وتقتيل راح ضحيتها بحسب إحصاءات رسمية أكثر من 200 ألف قتيل.
وفي 09 فبراير/ شباط 1992 وقع الرئيس محمد بوضياف على مرسوم إعلان حالة الطوارئ، وفي مارس/ آذار 1992 صدر قرار بحل (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) وحظره من المشاركة في العملية السياسية، وهو القرار الذي ما يزال سارياً إلى اليوم.
دخول البلاد في دوامة من العنف المسلح أمر عطل مؤسسات الدولة، وأجهض العملية الديمقراطية، وكان للأحداث التي شهدتها البلاد خلال هذه العشرية تأثير كبير في علاقة الجزائريين بالإسلام السياسي وموقفهم منه، وبخاصة أن كثيراً من عمليات القتل والتقتيل ارتبطت في أذهانهم بالجماعات المسلحة التي اتخذت الإسلام غطاء وذريعة لمحاربة النظام، وهو ما اتضح جلياً بعد إقرار مشروع المصالحة الوطنية الذي أعاد السلم والأمن إلى الجزائريين، وأتاح الشروع في إعادة تشكيل مؤسسات الدولة وبنائها من جديد عن طريق مختلف الاستحقاقات الانتخابية، إذ بدأت نتائج الأحزاب الإسلامية في التراجع باستمرار، ما عكس وجود تراجع حاد في الوعاء الانتخابي لهذا التيار، وذلك لأسباب عدة مركبة ومتراكمة .
ما بعد المصالحة الوطنية وبداية السقوط
وبالعودة إلى آخر انتخابات شهدتها البلاد يتضح عمق الأزمة التي يمر بها تيار الإسلام السياسي في الجزائر، ففي 24 من نوفمبر/ تشرين الثاني مُني الإسلاميون بهزيمة ساحقة في انتخابات المجالس البلدية والمحلية، ولم يحصل التحالف الإسلامي المكوّن من ثلاثة أحزاب هي (حركة البناء الوطني) و(جبهة العدالة والتنمية) و(حركة النهضة) إلا على ثماني بلديات من أصل 1541 بلدية، ولم تحصل هذه الأحزاب مجتمعة على عضوية أي مجلس ولائي في مستوى محافظات الجزائر الثماني والأربعين.
ووفقاً للنتائج المعلنة رسمياً من طرف وزارة الداخلية والجماعات المحلية نور الدين بدوي، فقد حصلت أحزاب الموالاة ممثلة في حزب (جبهة التحرير الوطني) و(التجمع الوطني الديمقراطي) على أغلب المجالس المنتخبة، إذ فازت جبهة التحرير التي يرأسها شرفياً الرئيس عبد العزيز بوتفليقة برئاسة 603 بلدية، بينما فاز غريمه في السلطة التجمع الوطني الديمقراطي الذي يترأسه الوزير الأول ورئيس الحكومة الحالي أحمد أبو يحيى برئاسة 451 بلدية.
خيبة الإسلاميين الكبرى لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، ففي الانتخابات النيابية التي شهدتها البلاد في مايو/ أيار 2017 لم تحصل الأحزاب الإسلامية كلها مجتمعة وعددها خمسة أحزاب وهي (حركة مجتمع السلم) و(جبهة التغيير) و(جبهة العدالة والتنمية) و(حركة النهضة) و(حركة البناء الوطني) سوى على 48 مقعداً من أصل 462 مقعداً.
وبالعودة إلى النتائج السابقة التي كان يحصدها الإسلاميون يتضح أن مشروع الإسلامي السياسي في الجزائر يترنح ويهتز، وأنه تعرض لنزيف حاد في قواعده النضالية والانتخابية ما يهدد مستقبله. ففي الانتخابات النيابية التي جرت عام 1997 حصدت حركتا مجتمع السلم والنهضة 103 مقاعد، وفي 2002 حصلت حـركتا مجتمع السلم والإصلاح على 81 مقعداً، وفـي 2007 نالت حـركة مجتمع السلـم وحدها 51 مقعداً. وفي 2012 شـاركت ثلاثة أحــزاب إسلامية فقـط في الانتخابـات تحت غــطاء تكتل الجـزائر الخـضراء فكانت الحصيــلة 48 مقعداً(5).
وعلى الرغم من أن بعض القيادات الإسلامية علقت هزائمها المتكررة على شماعة التزوير، إلا أن آخرون -في تطور لافت- اعترفوا بالهزيمة، وأن المعسكر الإسلامي لا يعيش أفضل أيامه بل أسوأها.
أبرز هؤلاء كان رئيس حركة النهضة سابقاً الدكتور فاتح ربيعي الذي نصح الإسلاميين عبر منشور في صفحته الرسمية على الفيس بوك عشية الإعلان عن نتائج الانتخابات البلدية التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي بقوله “أتمنى أن يلغي الإسلاميون من قاموس خطابهم هذه الأيام لفظ تزوير الانتخابات، ويفكروا ملياً في أسباب الإخفاقات”. ونصح ربيعي قيادات التيار الإسلامي بضرورة النظر بجدية وصدق وعمق في أسباب الإخفاقات، وأن يتسم هذا التيار بالواقعية السياسية، ويستمع إلى “الأصوات الناقدة ولا يصم عنها الآذان، مثلما فعل في مرات عدة، وأدى ذلك إلى استقالات جماعية في صمت”.
أسباب مركبة ومتراكمة لتراجع الإسلاميين
في الواقع هناك جملة متراكمة تسببت في تهاوي شعبية الإسلاميين في الجزائر، أولها التجربة المريرة للجزائريين مع هذا التيار في مرحلة التسعينات، وعلى الرغم من أن قيادات هذه الأحزاب وخصوصاً (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) تعتبر نفسها ضحية انقلاب عسكري دبره الجيش لوأد المشروع الإسلامي في الجزائر بمصادرة الإرادة الشعبية بقوة السلاح، إلا أن مظلومية الإسلاميين ككل بتعرضهم للظلم من طرف النظام القائم لم يعد لها تأثير بين أوساط الجزائريين، الذين يحمّلون (الجبهة الإسلامية للإنقاذ) الجزء الأكبر من الخراب الذي لحق بالبلاد في سنوات التسعينات ولم تندمل جراحها بعد.
في المقابل ثمة أسبابا هيكلية وفكرية مرتبطة بطريقة أداء هذه الأحزاب ومرجعياتها الأيديولوجية، وإخفاقها في التحول من مؤسسات دينية بالمعنى التقليدي إلى مؤسسات سياسية مدنية تقدم حلولاً واقعية للمشكلات المركبة والمعقدة التي يعانيها الجزائريون، فالجزائريون وهم المجتمع الذي يدين 99 في المئة منه بدين الإسلام لا ينتظرون من الأحزاب السياسية أن تقدم لهم دروساً في الوعظ والإرشاد، بل ينتظرون من تلك المؤسسات السياسية أن تقدم لهم حلولاً وتقترح مخارج لمشكلات البطالة وأزمة السكن وإنعاش الاقتصاد، وغيرها من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف بالجزائريين.
ومن سماتها بوصفها مؤسسة دينية استمرار احتكامها إلى نظام المشيخة والقائد الملهم، ما تسبب في تغييب ثقافة الممارسة الديمقراطية داخل هذه الأحزاب التي تفتقد أصلا إلى مؤسسات داخلية قوية، ومع امتلاك تلك الأحزاب كلها لما يسمى بـ(مجالس الشورى) -وهي مجالس تُنتخب عبر مختلف مكاتبها المنتشرة في المحافظات الجزائرية، وتمتلك سلطة الفصل في مختلف القرارات المصيرية ومنها قرار المشاركة في مختلف المواعيد الانتخابية من عدمه- بيد أن هذه المؤسسات لا تمتلك حرية القرار، بل تتأثر آلياً بتوجيهات رئيس الحزب الذي يمتلك هالة كتلك التي تربط شيوخ الطرق الصوفية بمريديهم.
سطوة فكرة (الشيخ الملهم) حالت دون بروز قيادات شابة جديدة في مستوى هذه الأحزاب، وإن استطاع بعضها أن يفرض مؤخراً تغييراً في مستوى هرمها مثل (حركة مجتمع السلم) التي يرأسها حالياً عبد الرزاق مقري، و(حركة البناء الوطني) التي يرأسها عبد القادر بن قرينة خلفا لمصطفى بلمهدي، إلا أن هذا التغيير لا يعكس في الواقع نموذجاً فعيلاً لفكرة التداول، وإمكان منح الجيل الجديد فرصة للوصول إلى المناصب القيادية العليا، بحكم أن كلاً من مقري وبن قرينة يحسبان على الجيل القديم، وأسماؤهم كانت متداولة في المناصب القيادية منذ نشأة هذه الأحزاب في مطلع التسعينات.
هناك ضرورة لفتح المجال لوصول فئة الشباب التي تعد أكثر تحرراً وانفتاحاً وقبولاً للممارسات الديمقراطية من الجيل القديم الرافض والمعوق لأي تحول ديمقراطي داخلي إلى المناصب القيادية بدل استغلالهم وقوداً للدعاية الانتخابية فقط.
وعلى الرغم من أن الأحزاب الإسلامية عموماً ترفض الممارسة الديمقراطية في الأساس لاعتبارات أيديولوجية، إلا أن المتغيرات والتحديات الإقليمية والداخلية تفرض عليها الخروج من نموذجها التسلطي في شكله الحالي إلى أحزاب مدنية تحتكم إلى المؤسسات المنتخبة ديمقراطياً، وتعد تجربة حركة النهضة التونسية نموذجاً يحتذى به من خلال إعلان زعيمها راشد الغنوشي قراراً يقضي بفصل الدعوي عن العمل السياسي والحزبي والتحول إلى حزب مدني، مع الأخذ في الحسبان أن قرار الغنوشي لم يكن وليد المصادفة، بل جرى الوصول إليه عبر تراكم فكري وأيديولوجي استمر على مدار عقدين كاملين(6).
صراعات الزعامة تفجّر الأحزاب الإسلامية وتستنزفها
غياب الممارسة الديمقراطية كان من أهم انعكاساته بروز صراعات داخلية محتدمة على الزعامة، ما أدى إلى حالات انشقاق واسعة، هذه الحالة برزت بشكل لافت بعد وفاة مؤسس (حركة مجتمع السلم) محفوظ نحناح عام 2003، إذ عاشت الحركة صراعاً عميقاً بين قياداتها على خلافة نحناح، ليربح المعركة أخيراً أبو جرة سلطاني الذي رفع لواء المشاركة مع السلطة، وهي الرؤية التي احترق بها، ودفع حزبه ثمناً غالياً، بعد بروز تيار قوي داخل الحزب يرفض فكرة المشاركة ومهادنة السلطة.
الصراع على خلافة نحناح بين أبي جرة سلطاني وغريمه عبد المجيد مناصرة انتهت بإعلان الأخير انشقاقه عن الحزب في 2009، وإعلان تأسيس حزب جديد أطلق عليه اسم (حركة الدعوة والتغيير).
انسحاب مناصرة كانت بمنزلة القطرة التي أفاضت الكأس، وبدأ الحزب يعيش حالة من التشظي مع انشقاق القيادي الأسبق عمار غول الذي كان يشغل منصب وزير الأشغال العمومية وأسس عام 2012 حزب (تجمع أمل الجزائر) ذي الطابع القومي، ليلتحق بعد ذلك بسرب المغردين مع السلطة، ويذكر اسمه لاحقاً في قضايا فساد كبيرة تتعلق بـ(الطريق السيار شرق – غرب)، وهو أكبر مشروعات البنى التحتية في البلاد خلال مراحل ولايات بوتفليقة الأربع.
حركة (الدعوة والتغيير) هي الأخرى لم تصمد أمام رياح الانشقاق، إذ أعلنت قيادات انشقاقها، وتأسيس حزب جديد حمل اسم (حركة البناء الوطني) في آذار/ مارس 2013، برئاسة يوسف بلمهدي الرجل القوي سابقاً في حركة مجتمع السلم ورفيق درب الراحل محفوظ نحناح.
وينبغي هنا التذكير أن هذا التصدع حمل جذوراً تعود إلى مدة تولي نحناح رئاسة الحركة، وتحديداً عشية إعلانه دعم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في انتخابات 1999، وهي الانتخابات التي ترشح لها نحناح ورفض ملفه، لذلك كانت فكرة مساندة بوتفليقة أولاً ثم الدخول والمشاركة في الحكومة بمنزلة الزلزال الذي ضرب بيت الحركة الهش، وتسبب بعد ذلك في هزات ارتدادية عنيفة كان أبرزها انشقاق الحزب إلى أحزاب عدة، مع تعرض الحزب لنزيف داخلي باستقالات جماعية لأفراده ومناضليه احتجاجاً على قرار دعم بوتفليقة.
حالة الغضب داخل الحركة وخارجها بعد ارتمائها في أحضان السلطة تنامت أكثر مع قرار المشاركة في التحالف الرئاسي الذي ضم ثلاثة أحزاب هي: (حركة مجتمع السلم)، وحزبي السلطة (جبهة التحرير الوطني) وغريمه (التجمع الوطني الديمقراطي)، وهو التحالف الذي كان يهدف إلى دعم الرئيس بوتفليقة قبل ترشحه الرسمي لولاية رئاسية ثانية في أبريل/ نيسان 2004.
وتعاني أحزاب إسلامية أخرى ولا سيما (حزب النهضة) انقسامات مماثلة، ما يسلّط الضوء على المسألة الأساسية التي تواجهها هذه الأحزاب: هل يجب العمل مع الحزب الحاكم أم لا؟ فـ”حزب النهضة” الذي أسّس عام 1989 باسم “حركة النهضة الإسلامية” واستُلهِم من جماعة (الإخوان المسلمين)، مزّقته في أواخر التسعينات حرب داخلية بين الحبيب آدمي (وهو قيادي في الحزب دعا إلى الحوار مع الحكومة) وعبد الله جاب الله (أحد المؤسّسين ومن أشدّ المعارضين للنظام). قاطع جاب الله الانتخابات الرئاسية عام 1995 ورفض المشاركة في الائتلاف الحكومي عام 1997. ثمّ أطيح من منصبه عام 1998 واستُبدِل به آدمي الذي غيّر اسم الحزب إلى (النهضة)، وحوّل خطّه من معارضة النظام إلى التعاون معه، ما أتاح للحزب دخول أروقة السلطة(7).
بعد إطاحته أسس جاب الله حزباً إسلامياً جديداً سماه (الإصلاح)، ولم يلبث فيه طويلاً بعد أن أطيح مرة أخرى واستبدل به جهيد يونسي، وفي10 فبراير/ شباط أنشأ مرة أخرى حزباً جديداً أسماه (جبهة العدالة والتنمية) يتبنّى خطا إسلامياً إصلاحياً.
الربيع العربي وارتداداته على إسلاميي الجزائر
ثمة أسباب أخرى محلية ودولية انعكست مباشرة على أداء الإسلاميين في الجزائر، أبرزها حالة الانتكاسة التي تعرض لها المشروع الإسلامي عربياً بسبب تداعيات ما سمي بـ(ثورات الربيع العربي)، إذ وجد الإسلاميون أنفسهم وخصوصاً جماعة (الإخوان المسلمين) يدفعون ثمن ما آلت إليه الأحداث والثورات التي شهدتها مختلف الدول العربية، لا سيما مصر معقل جماعة الإخوان المسلمين، ومن المعروف أن ثمة ضغوطاً تمارس على الجزائر من طرف دول خليجية من أجل اعتبار جماعة الإخوان المسلمين في الجزائر جماعة إرهابية، وعلى الرغم من رفض النظام الجزائري اعتبار هذه الجماعة إرهابية، إلا أن الحملة التي تشن ضد الإسلاميين في الدول العربية معظمها ألقت بظلالها على إسلاميي الجزائر.
ما لحق بالدول العربية من فوضى وخراب أمر استغله النظام الجزائري الذي يستحضر في كل مرة ويذكر الجزائريين بفاتورة (العشرية الحمراء)، وقد وُظّفت هذه الرؤية في تسويق مشروع سياسي كبير من خلال موجات من الدفقات التخويفية من مصير قد يلحق بالجزائر ويسير بها نحو المجهول, ونذكِّر في هذا الصدد بأن مفردات الخطاب الرسمي حملت أكبر شحنات التخويف من العبث بمصير الدولة وتقويض استقرارها ومحاولة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والتذكير بالعشرية الدموية السوداء(8).
شكل بروز التيار السلفي وصعوده المشهد الجزائري -مستغلاً ضعف الإسلام السياسي للانتشار بين أوساط الشباب- أحد معوقات العمل السياسي الإسلامي في الجزائر، وخصوصاً (الفكر السلفي المدخلي) الذي شكل حضوراً قوياً، ويعتبر عدم الخروج على الحاكم، وعدم انتقاده ومنازعته ومنافسته في الحكم، من الأمور المرتبطة بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، ويرى المداخلة أن أي تجاوز لهذا الأمر يعتبر إخلالاً بالعقيدة، لذلك لا يتوانى سلفيو الجزائر في اتهام المنتسبين إلى مختلف الأحزاب الإسلامية بـأنهم (خوارج) لأنهم يعارضون النظام ويشاركون في التظاهرات والمسيرات.
منع الجبهة الإسلامية للإنقاذ من العمل السياسي أمر دفع بكثير من الإسلاميين -الذين ينظرون بعين الريبة إلى الأحزاب الموجودة حالياً في المشهد السياسي ويعتبرونها أحد أوجه النظام السياسي القائم- إلى العزلة ومقاطعة العملية السياسية برمتها.
في المقابل ثمة عوامل تتعلق بجوهر العملية السياسية التي تفتقد إلى الشفافية والنزاهة، ما يؤثر في النتائج العامة للانتخابات، وهو أمر دفع بالجزائريين إلى الزهد ومقاطعة الانتخابات بسبب فقدان الثقة في إمكان التغيير عن طريق العملية الانتخابية وجدواها، وهو ما تثبته مؤشرات المقاطعة إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات النيابية التي جرت في 4 مايو/ أيار 2017 (35) في المئة، ما يعني أن (65) في المئة من المسجلين في القوائم الانتخابية قاطعوا الانتخابات، وهذا من دون الحديث عن الأوراق الملغاة التي وصلت في آخر انتخابات جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي إلى أكثر من مليوني ورقة.
وبعد سنوات من الفرقة والتمزق، حاولت الأحزاب الإسلامية قبل انتخابات مايو/ أيار 2017 إعادة ترميم نفسها ببعث مشروعات وحدة وتكتل، إذ أعلنت كل من (حركة مجتمع السلم) و(جبهة التغيير) الاندماج في حزب واحد، ووقعت كل من (حركة النهضة) و(جبهة العدالة والتنمية) و(حركة البناء الوطني) في ديسمبر/ كانون الأول الماضي على وثيقة التحالف الاستراتيجي بمسمى (الاتحاد من أجل النهضة والعدالة والبناء) ودخول الانتخابات بقوائم مشتركة في محاولة منها لتغيير الخريطة الانتخابية، بيد أن تلك التكتلات لم تحقق الأهداف المرجوة، وعلى العكس جاءت نتائج الانتخابات صادمة وتؤكد أن التيار الإسلامي فقد كثيراً من بريقه وأنه يعيش فعلاً أسوأ أيامه.
في حال عدم شروع هذه الأحزاب بالمبادرة بمراجعات عميقة لسياساتها وخياراتها الآنية والاستراتيجية، فإن نبوءة وزير الصحة السابق ورئيس حزب الحركة الشعبية الجزائرية الحالي عمارة بن يونس حينما أكد أن نتائج الانتخابات الأخيرة هي بمنزلة إعلان بداية نهاية الإسلام السياسي في الجزائر ستتحقق(9).
المراجع:
- التيار الإسلامي في الجزائر الجزيرة نت 10/3/2011.
- إعادة بعث رابطة الدعوة الإسلامية في الجزائر، نور الدين علواش، الحوار الجزائرية 21 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
- المادة 40 من دستور الجزائر الـمؤرخ في 23 فبراير/ شباط 1989.
- ويكيبيديا.
- انتخابات الجزائر، خيبة الإسلاميين الكبرى 8/5/2017.
- مستقبل الأحزاب الإسلامية في الجزائر، أحمد مرواني، معهد واشنطن 10 أبريل/ نيسان 2018.
- تراجع الأحزاب الإسلامية في الجزائر، داليا غانم يزبك محلّلة أبحاث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، موقع معهد كارنيغي 13 فبراير/ شباط 2014.
- التشريعيات الجزائرية؛ إعادة تشكل في ظل الاستمرار، البروفيسور بوحنية قوي، مركز الجزيرة للدراسات 21 مايو/ أيار 2017 .
- مستقبل الأحزاب الإسلامية في الجزائر، أحمد مرواني، معهد واشنطن 10 أبريل/ نيسان 2018.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.