الأهواز أو الأحواز أو عربستان أو خوزستان، مسميّات عدة لأرضٍ واحدة واضحة المعالم والحدود الطبيعية والتاريخية، شاءت الأقدار السياسية أن تقلّصها وتبتلعها وشعبها، بصورة لم تشهدها أرضٌ على مرّ التاريخ المعيش.
سنستعرض من خلال هذه الدراسة أهم التحولات التي شهدها الإقليم وجعلته في نهاية المطاف بلداً عربياً مُغتصباً بالكامل من (إيران)، من خلال تفنيد الإشكالات التي أفرزها سلخ (عربستان) عن محيطه العربي وانعكاساته الكارثية على مشهد الصراع في الشرق الأوسط عموماً وفي المشرق العربي على وجه الخصوص.
في أثناء ذلك، سنهتم بالحديث عن جوانب ثلاثة رئيسة:
– الجانب السياسي- العسكري: ويتمثل في سعي (فارس) الدائم للسيطرة على الأحواز وصولاً إلى احتلالها المباشر عام 1925، وضعف الخاصرة الشمالية الشرقية للعالم العربي ما سمح لإيران بالتمدد نحو دول المشرق وتهديد أمنها.
– الجانب الديموغرافي- الطائفي: المتمخض عن الممارسات العنصرية والطائفية بحق أبناء المكون العربي في الإقليم تمهيداً لنشر الصراعات المذهبية في المنطقة لاحقاً.
– الجانب الاقتصادي: من خلال السيطرة على ثروات الإقليم التي تشكّل عماد الإنتاج الإيراني، ما يجعل من إيران قوة اقتصادية كبرى، وسندرس أيضاً انعكاسات فقدانها على إيران.
تلك الجوانب الإشكالية لا تنفصل عن بعضها، إذ لا يمكننا الحديث عن الممارسات السياسية داخل الإقليم من دون الخوض في الجوانب الديموغرافية والطائفية والاقتصادية مجتمعة، لنسلّط الضوء في نهاية المطاف على جانب بالغ الأهمية يهيمن اليوم على مشهد الأحواز السياسي -على الرغم من انتشاره خارج الإقليم- ويتمثل في القوى والأحزاب المناهضة لنظام الملالي في إيران الذي يفترض أن يكون أحد مفاتيح الحل لجميع الإشكالات المتعلقة بقضية الأحواز، إن لم يكن مفتاحها الوحيد.
عن التسمية وتطوراتها
للدلالة على الإقليم، سنعتمد خلال مراحل بحثنا تسمية الأحواز، لانتشار لفظه اليوم بين العرب عموماً داخل الإقليم وخارجه. والأحواز هي جمع لكلمة حوز، ومصدرها من الفعل حاز، بمعنى الحيازة والتملك، وتستخدم للدلالة على الأرض التي اتخذها فرد وبين حدودها وامتلكها. والأهواز التي ينطقها الفرس هي الأحواز نفسها المكتوبة بحرف الحاء؛ لأن الفرس يكتبون حرف الحاء وينطقونها هاء.
والمصادر التاريخية التي ذكرت تسمية الأهواز بالهاء وجدت عند كثير من المؤرخين والرحالة العرب، ومنهم: الإصطخري في كتاب صور الأقاليم، والمسعودي في مروج الذهب ومعادن الجوهر، وفي تاريخ ابن خلدون، وابن الأثير في الكامل في التاريخ، والذهبي في العبر في خبر من غبر، وابن العبري في تاريخ مختصر الدول، وفي نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للشريف الإدريسي، وعند كثيرين غيرهم([1]).
وفي عهد الدولة (الصفوية) أطلق على الأحواز مسمى عربستان التي تعني بالفارسية أرض العرب أو بلد العرب دلالة على الأصول العربية لسكانها. أما خوزستان فهو الاسم الذي أطلقه الفرس أيضاً على الإقليم، لا سيما بعد الاحتلال الفارسي بأمر من رضا شاه عام 1925م([2]).
الحدود الطبيعية اختلافٌ في الشكل والجوهر
يذكر أحد المؤرخين البريطانيين([3]) ما معناه: تختلف الأحواز عن إيران كاختلاف ألمانيا عن إسبانيا.
فالأحواز تقع في جنوب شرق العراق، وتشكل القسم الشمالي الشرقي من الوطن العربي، تطل على أعلى الخليج العربي وشرقه وشط العرب من خلال حدودها الجنوبية. يحد الأحواز من الغرب محافظتا البصرة وميسان العراقيتان، ومن الشرق والشمال جبال البختياري التابعة لسلسلة جبال زاغروس التي تشكّل حاجزاً جغرافياً طبيعياً يفصلها عن إيران ويميزها عنها جيولوجياً وطبوغرافياً بل ديموغرافياً أيضاً.
تبلغ مساحة تلك البقعة ما يقارب 370 ألف كم2، إلا أن الحكومة الإيرانية اقتطعت عام 1936 مساحات من أراضيها وضمتها الى محافظات أخرى مجاورة، كمحافظة فارس وأصفهان ولورستان، بهدف تقليص مساحتها الجغرافية وتقطيع أوصال الإقليم وسكانه([4]).
حدث ذلك من خلال استحداث تنظيمات إدارية زادت أيضاً من تقسيم الإقليم إلى عدد من المدن والبلدات لتسهل على النظام الإيراني السيطرة عليها والتحكم في مقدراتها وسكانها كما سيمر معنا.
الأحواز تاريخاً: تمايز البنية الحضارية وتميّزها
المتتبع للمراحل التاريخية التي مرّت بها الأحواز، سيلحظ انتماءها الواضح إلى حضارات (ميزوبوتاميا- الرافدين القديمة) وتأثرها المباشر بالتطورات السياسية والاجتماعية التي مرّت بها تلك الحضارات وصولاً إلى تاريخ سلخها منذ ما يقارب قرناً من الزمان:
جزءٌ أصيل من العراق القديم وصولاً إلى العصور الإسلامية([5])
من خلال استعراضنا للامتداد الجغرافي في الفقرة السابقة، يتّضح لنا بأن الأحواز تشكّل -إضافة إلى الوحدة الجغرافية- وحدةً تاريخية وحضارية أيضاً تتبع للقسم الأسفل من بلاد ما بين النهرين، وشاركت في الماضي السحيق في ازدهار أقدم حضارتين مدنيتين نشأتا في العراق القديم، ونقصد السومرية والأكادية.
وكان العيلاميون (وهم من شعوب جنوب الرافدين) أَول من استوطن الأحواز. وقد خضعوا بادئ الأمر لسلطان المملكة الأكّادية التي أنشأها سرجون الأكادي حوالى عام (2350 ق.م). إلا أنهم استطاعوا السيطرة على المملكة الأكّادية وإنهاء حكمها قرابة عام (2150 ق.م) وأنشؤوا مملكة عيلام التي بسطت سلطانها على جنوب العراق وكامل الأحواز إلى أن أخضعها حمورابي البابلي لمملكته أوائل القرن الثامن عشر قبل الميلاد. وكانت عاصمة عيلام مدينة سوسا (شوشان الحالية) التي بقيت مزدهرة حتى القرن الرابع عشر الميلادي.
إلا أن وجود العيلاميين داخل الإقليم استمر إلى عام (539 ق.م) حين غزاهم الإخمينيون الفرس؛ وبعد أكثر من قرنين خضع الإقليم للإسكندر المقدوني ثم للسلوقيين منذ عام 311ق.م، ثم للبارثيين وبعدهم الساسانيين الذين قام ضدهم عدد من الثورات في الإقليم، ما اضطر هؤلاء إلى توجيه حملات عسكرية كان آخرها عام 310م. وبعد إدراكهم صعوبة إخضاع سكانها المنحدرين آنذاك من أصول عربية، سمحوا لهم بإنشاء إمارات تتمتع باستقلال ذاتي مقابل دفع ضريبة سنوية للملك الساساني.
وتعود أصول العرب الأحوازيين عموماً إلى قبائل بني كعب وبني طرف (طيء) والزرقان والباوية وبني تميم وبني أسد وبني لام وآل خميس وآل كثير. ومنذ ذلك الوقت بدأت تبرز السمات العربية على طبيعة الإقليم، فترسخ الحكم العربي فيها حتى مجيء النفوذ العربي الإسلامي في عقب معركة القادسية.
الأحواز بعد الإسلام (إمارات عربية وصراعات المذاهب)
خلال العصور الإسلامية الأولى، كانت الأحواز تتبع إدارياً لولاية البصرة حتى أواسط القرن الثالث عشر الميلادي. وبعد سقوط الدولة العباسية في بغداد على المغول، أقام العرب أول دولة لهم في المنطقة وهي دولة بني أسد التي اتخذت من مدينة الأهواز الحالية عاصمة لها. بعد انقضاء خطر المغول قامت الدولة المشعشعية العربية بزعامة محمد بن فلاح عام 1436م، وحافظت على بقائها دولةً عربيةً مستقلة أكثر من أربعة قرون بين دولتين كبيرتين؛ الفارسية والعثمانية.
في بداية القرن السادس عشر خضعت معظم مناطق جنوب غرب آسيا للسيطرة العثمانية بما فيها الأحواز، ونازعتها على سيادة الإقليم الدولة الفارسية (الصفوية)، إلا أن الدولتين (العثمانية والصفوية) ما لبثتا أن اعترفتا باستقلال دولة المشعشعين العربية التي استمرت بعد انتقال الحكم فيها إلى بني كعب في القرن الثامن عشر وكان آخر أمرائها الشيخ خزعل الكعبي الذي سقطت إمارته عام 1925([6]).
بدأت الخلافات الحدودية لإقليم الأحواز بين إيران والدولة العثمانية([7]) في العقد الأول من القرن السادس عشر عندما تكونت الدولة الصفوية معتمدة المذهب الشيعي مذهباً رسمياً للبلاد، ما أثار حفيظة الدولة العثمانية ذات المذهب السني وغضبها، ضد الدولة الصفوية التي انتهجت بدورها دوراً عدائياً للأتراك. لمواجهة العثمانيين وإثارة الحقد ضدهم أخذ الصفويون يثيرون بين العامة من الناس أحقاداً قديمة تعود بجذورها إلى عهود إسلامية سالفة فتُلبسها ثوباً طائفياً مقيتاً يشوبه كثير من خرافات ومعتقدات غريبة عن جوهر الدين الإسلامي، إضافة إلى ابتداع قصص ذات أحداث مأسوية خالية من الحقائق التاريخية، منسوبة إلى خلفاء راشدين وأمويين، فحثوا على شتمهم ومعاداة من ينتمي إليهم، وأصدروا أوامر صارمة بقتل كل من يمتنع عن التقيّد بتلك الطقوس.
كان هدف الصفويين الرئيس من اعتماد المذهب الشيعي، مقابل المذهب السني لدى العثمانيين، هو عزل إيران عن محيطها الإسلامي الذي بات أغلبه تابعاً للسلطنة العثمانية آنذاك، ما يحوّل النزاع السياسي والعسكري إلى صراع مذهبي طائفي يُسهّل آلية السيطرة على عواطف العوام وعقولهم ليزجّهم في المهالك.
بدأ هذا التوجه مع (الشاه إسماعيل) وأخذ يشتدّ مع ظهور (الشاه عباس الأول) الذي دمج بين المذهب الشيعي والقومية الفارسية، ومنذ ذلك الوقت تحوّل الخلاف الشيعي- السنّي من اختلاف فقهي ظاهري إلى صراع دموي وجودي يُستغل اليوم في أبشع صوره، في سوريا واليمن والعراق ولبنان على وجه الخصوص.
وقد بذلت إيران منذ ذلك الوقت محاولات يائسة لضرب الوجود العربي- السنّي وإزالة سلطانه في الأحواز، بسبب كرههم التاريخي للعرب من جهة، وللاستحواذ على ذلك الإقليم الذي يشكّل بوابة العبور للسيطرة على المشرق العربي وتحقيق حلمهم في انتزاعه وإعادة إمبراطوريتهم الفارسية التي أسقطها العرب في الماضي.
وقد تعرضت الأحواز لهجوم صفوي حدث في إثره احتلال مدينتي دزفول وتستر شمال الإقليم مدّة وجيزة، وعندئذ ظهر مبارك بن عبد المطلب بن بدران، الأمير المشعشعي الذي حكم من عام 1588 م إلى عام 1616 م، وشكلت مدة حكمه عصراً ذهبياً لإمارة المشعشعين، إذ استطاع فرض سيطرته على أنحاء عربستان كلها، وطرد الصفويين واسترد المدن الشمالية .
إن ما أردنا عرضه في هذا الجزء هو صورة مختزلة عن المشهد العام للإقليم خلال مرحلة الاستقلال والسيادة التي عاشها في ظل إمارة المشعشعين والكعبيين قبل أن تبدأ مرحلة استهدافه والتمهيد لانتزاعه وعزله عن محيطه التاريخي والاجتماعي ومن ثم استغلاله ليشكّل الشوكة الأولى في خاصرة العالم العربي.
اغتصاب الأحواز (تقاطع المصالح الدولية والأطماع الإيرانية)
- معاهدات الموت:
جاء القرن التاسع عشر فبرز دور القوى الأوروبية في الساحة العربية عموماً؛ وتمثلت تلك القوى في كل من بريطانيا وروسيا وفرنسا وألمانيا.
أما بالنسبة إلى الجزء الخاص بالأحواز فقد تصدّرت بريطانيا الدور الأبرز في تحديد مصيرها الأخير من خلال عقد عدد من الاتفاقيات والمعاهدات التي مهّدت إلى اقتلاع ذلك الإقليم من محيطه العربي في نهاية المطاف.
أولى تلك الاتفاقيات وأخطرها على الإطلاق كانت اتفاقية أرضروم الثانية التي وقعت في 31 مايو/ أيار 1847 بين الحكومتين العثمانية والقاجارية الإيرانية، بتوسط من القوى الكبرى في حينها بريطانيا وروسيا التي جرى بموجبها التنازل لإيران عن مدينة المحمرة ومينائها وجزيرة خضر (عبادان) المراس والأرضي الواقعة على الضفة الشرقية من شط العرب التي كانت تحت تصرف العشائر والاعتراف بأنها تابعة لإيران، وللمراكب الإيرانية حق الملاحة في شط العرب بملء الحرية وصولاً إلى نقطة مصب شط العرب في الخليج العربي.
من يومها بدأت تتضح أطماع إيران في إقليم الأحواز، وراحت المطالبات تتّسع شيئاً فشيئاً بالتزامن مع الانتكاسات التي تمرّ بالدولة العثمانية وقتذاك، إذ حرصت إيران على استمرار الحروب والاحتكاكات والتجاوزات بين الجانبين حتى نوفمبر/ تشرين الثاني 1911، إذ توسطت بريطانيا وروسيا القيصرية مرة أخرى، ودفعت الطرفين إلى عقد اتفاق جديد عرف باسم اتفاق طهران، نص على تشكيل لجنة مشتركة تضم بريطانيا روسيا القيصرية إلى جانب البلدين؛ لبحث الخلاف الحدودي بينهما، وما تبعه من عقد اتفاق الآستانة في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1913 الذي حدث من خلاله التوصل إلى توقيع بروتوكول الآستانة، تنازلت الحكومة العثمانية فيه عن جزء من سيادتها على مياه شط العرب أمام منطقة المحمرة وبطول 7.25 كم([8]).
وفي السنة التالية لتوقيع الآستانة اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، فاشتركت الدولة الكعبية فيها إلى جانب الحلفاء، وأصبح دورها فاعلاً في المنطقة، ما شجع أميرها على ترشيح نفسه لتولي عرش العراق. لكن الإنكليز كانوا ميالين إلى فيصل بن الحسين. وبعد عام 1920م، باتت بريطانيا تخشى من قوة الدولة الكعبية، فاتفقت مع إيران على إقصاء أَميرها وضم الإقليم إلى إيران، ووضع الأمير خزعل تحت الإقامة الجبرية في طهران. وأصدر رضا خان، حاكم إيران، بياناً أعلن فيه تنازل أمير الأحواز، خزعل المحيسن، عن الحكم لابنه جاسب المحيسن، وإشراف إيران على الحكم الداخلي في الأحواز، وقطع الأحواز لعلاقاتها الخارجية مع الدول الأخرى([9]).
لكن الكعبيين -على الرغم من ذلك- أجبروا القوات الإيرانية التي احتلت المحمرة في يوليو/ تموز 1925م على الانسحاب بعد يومين، إلا أن القوات البريطانية ساعدت الإيرانيين على بسط سيطرتهم على إقليم الأحواز، ليصبح منذ ذلك الحين ولاية إيرانية تعرف باسم خوزستان.
لم يشفع للأحواز وشعبها وأميرها وقوفهم إلى جانب بريطانيا في الحرب، وتلك عادة الأنظمة المستعمِرة على الدوام. ولكن ما الذي جنته الأخيرة من مساعدة إيران على اغتصاب الإقليم؟ ألم يكن بوسعها –وهي القوة الاستعمارية الكبرى التي لا تغيب عنها الشمس- أن تحتلّ الأحواز وتحتفظ بها لنفسها كما صنعت مع جارتها العراق ومع فلسطين ومصر والهند والصين وغيرها؟
لعلّ بريطانيا قرأت تاريخ الأحواز جيداً، وأدركت صعوبة إخضاعه على المدى الطويل فآثرت أن تصنع منه فلسطين ثانية وتهبها هذه المرة لقومية دينية أخرى تبحث عن إرثها التاريخي الضائع في أرض ميعاد كانت تحت سيطرتها يوماً ما قبل أن يحكمها العرب بعد انتصار القادسية.
وليس أصدق من كتاب مذكرات شاه إيران رضا خان يثبت حقيقة فرضيتنا، إذ يذكر فيه([10]): لقد فكرت كثيراً قبل إقدامي على اقتحام أكبر معقل يفصل بين فارس والعراق، ووضعت أمام ناظري ما يقوم به الأجانب من عرقلة أعمالي. ولكني وجدت أنه من الضروري القضاء على أمير عربستان.
إذاً، فالهدف الرئيس لرضا خان ليس احتلال الأحواز فحسب، بل كل ما بعدها، ابتداءً من العراق الذي جرت السيطرة عليه بوساطة من جاء بعده من حكّام إيران، وما زالوا يتابعون احتلالهم المباشر اليوم في سوريا ولبنان غرباً، وتهديد الدول المشرفة على شاطئ الخليج المقابل للأحواز في الغرب والجنوب وصولاً إلى خليج عدن.
الثروة الأولى لاقتصاد إيران
من الجهالة بمكان أن نحصر قضية احتلال الأحواز في الجانب الاستراتيجي وحسب، على الرغم مما يشكّله هذا الجانب من ركنٍ وجودي بالنسبة إلى ثوابت إيران السلطوية؛ وإنما لن نبالغ إذا قلنا: لولا الأحواز لما تمكنت إيران أن تفكّر لحظة واحدة في استعداء أصغر دولة عربية أو غير عربية، بل لما استطاعت الصمود يوماً واحداً في وجه أبسط عقوبة دولية تتعرض لها لولا احتلالها للإقليم. السبب يعود إلى الثروات الطبيعية التي تنتجها الأحواز لتساهم في دعم الاقتصاد الإيراني كلّياً وعلى الصعد كلها.
يأتي النفط في مقدمة هذه الثروات بالطبع ولكن متى برز دور النفط ليغدو المحرّك الرئيس لأطماع إيران في الأحواز؟
الإجابة تعود إلى عام 1908، أي قبل الاحتلال الإيراني المباشر والكامل للأحواز، وذلك حين حُفرت أول بئر نفط في الشرق الأوسط على الإطلاق، وهي بئر مدينة مسجد سليمان الأحوازية([11]).
تلا ذلك حفر عدد من الآبار ثم مُدّت أنابيب النفـط عام 1912 من المناطق النفـطية إلى ميناء مدينة عـبادان الأحوازية على الخليج العربي، لنـقـل الزيت الخام منها الى الخارج بوساطة رصيف للبواخـر أنشئ لهذه الغاية، وبُنيت فيها مصفاة لتكرير النفـط. وقـد بلـغـت حـقـول الـنـفـط المكـتشفة عـند بدء الحـرب العالمية الأولى أكثر من مـئتي بئر، ولهذا تركز لدى شركات الـنـفـط العالمية الاحتكارية اهـتمام خاص بهذه الحـقـول وبالمـنـطـقـة عموماً([12]).
وقد شكّل دخول ذلك النفط المكتشف بكميات قابلة للاستثمار التجاري في منطقة مسجد سليمان العامل الرئيس في محاولة إيجاد ترسيم جديد للحدود بينها وبين إيران، ما دفع الأخيرة إلى اختلاق الأزمات وتأليف الحجج والمسوّغات للتدخل في الأحواز إلى أن تمكّنت من احتلالها ووضع يدها بالكامل على مقدراتها بمساعدة بريطانيا كما مرّ معنا.
ويشكل النفط الأحوازي اليوم ما نسبته 87 في المئة من إجمالي النفط الإيراني المصدّر، ويشكل الغاز الطبيعي في الإقليم 100 في المئة من الغاز الذي تملكه إيران.
أما بالنسبة إلى الثروة الزراعية، فتصبّ داخل الإقليم ثمانية أنهار، وهو ما جعل 65 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة في إيران، متركزة في تلك المنطقة. وجعل وجود هذه الأنهار من الأحواز المركز الأهم لإنشاء المفاعلات النووية في إيران، وأشهرها مفاعل بوشهر.
فضلاً عن وقوع أكثر من نصف الساحل الإيراني على الخليج العربي في إقليم الأحواز،مما يمنحها امتيازات اقتصادية وتجارية وجيوسياسية واسعة، تكفي لدعم دولة بحجم روسيا الاتحادية أكبر دول العالم مساحة التي لولا ثروات الأحواز تلك لما رأيناها اليوم تساند نظام الملالي في قتل الشعوب وتهديد أمن الدول العربية.
واقع الأحواز اليوم والحلول المتاحة
لم تهدأ الاحتجاجات والانتفاضات المطالبة بتحرير الأحواز منذ اليوم الذي شهد فجيعة الاحتلال. واستمر الأحوازيون في النضال في سبيل استقلالها والدفاع عن عروبة أهلها ومعتقداتهم على الرغم من إصرار الإيرانيين على ممارسة سياسة التفريس اللغوي والديموغرافي والعمل على التفريق والتمييز العنصري، عرقياً ومذهبياً، ومعاملة أهالي الإقليم، من العرب السنة والشيعة على حد سواء، بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة، ومنعهم من المشاركة في إدارة الدولة والإقليم.
ومع مرور الوقت، ساعد هذا الواقع المزري على ظهور تيارات وأحزاب سياسية مناهضة للنظام الإيراني منذ خمسينيات القرن المنصرم، كان أولها جبهة تحرير عربستان تلتها الجبهة القومية لتحرير عربستان.
وفي عقب حدوث ما يسمى بـ الثورة الإسلامية واستحواذ الخميني على السلطة في البلاد 1979، برزت تيارات أخرى كـ الجبهة العربية لتحرير الأحواز في 1980 ثم حركة التحرر الوطني الأحوازي، إضافة إلى الجبهة الديمقراطية الشعبية وحركة النضال العربي لتحرير الأحواز.
ينشط بعض قادة هذه التيارات والمنظمات في أراضي العرب في إيران سراً، في حين دفعت سياسة القمع بعضاً آخر إلى السفر خارج البلاد، حيث تسعى إلى تسليط الضوء على قضية لم تدرج على جدول أعمال المجتمع الدولي حتى الوقت الراهن.
تلك التيارات، على اختلاف توجهاتها الفكرية والسياسية، وعلى الرغم من محدودية نشاطها خارج الإقليم، إلا أنها تمثّل هاجساً مقلقاً عند نظام إيران. ويوماً بعد يوم باتت تلك التيارات تشكّل طرفاً فاعلاً في توجيه الرأي العام الدولي ضد نظام الملالي، ليس في الأحواز فحسب بل في كامل الجغرافيا الإيرانية، لا سيما بعد مشاركاتها في عدد من المؤتمرات الدولية التي عقدت مؤخراً في أمريكا وبعض الدول الأوروبية، وآخرها كان مؤتمر وارسو في بولندا، للتنديد بالنظام الإيراني وتفعيل دور الحصار وفرض العقوبات على أركانه.
بدأ النظام الإيراني اليوم يشعر بقوة تلك التيارات وتأثيرها المباشر في تحديد مصيره، ما دفعه إلى ممارسة أسلوب الاغتيالات السياسية بحقهم، مثال ما حصل منذ عامين تقريباً حين اغتيل العضو البارز في حركة النضال الأحوازي أحمد مولى نيسي في هولندا.
لذا، ينبغي دعم جميع الأطراف العاملة ضمن التنظيمات والتيارات الوطنية المناهضة للنظام الإيراني المحتلّ، إضافة إلى مخاطبة مؤسسات المجتمع الدولي التابعة للأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية والإنسانية، الأهلية والأممية لطرح قضية الأحواز بصفته بلداً محتلاً، والعمل على تبنّي قرار ملزم يتيح لأبنائه المطالبة بحق تقرير مصيرهم والمطالبة باستقلال وطنهم أسوة بباقي الدول المحتلة والمستعمرة استناداً إلى ميثاق الأمم المتحدة وقوانينه ذات الصلة.
[1] – صالح حميد، مسميات جدلية لأرض واحدة، العربية نت: http://soo.gd/NVNT)
[2] – الأحواز ثمانون عاماً في الأسر، تسمية الأحواز، http://soo.gd/Lq8C
[3] – الكولونيل السير أرنولد ولسن، تاريخ الخليج، تقديم أونورابول أميري، ت: محمد أمين عبد الله، دار الحكمة، لندن، الطبعة الأولى 2001، ص 98.
[4] – تاريخ الأحواز السياسي، الأرض، موقع الأحواز: http://soo.gd/5PlY
[5] – جُمعت المعلومات التاريخية واختزلت ضمن الفقرة بالعودة إلى سلسلة أجزاء قصة الحضارة للمؤلف ول ديورانت، ترجمة محمد بدران وآخرين، إصدار دار الجيل بيروت، المجلد الأول، الجزأين الأول والثاني (حضارات الشرق الأدنى).
[6] – حكاية عرب الأهواز مع إيران، شبكة بي بي سي العربية: http://soo.gd/ofhK
[7] – جرى الاعتماد في جمع المعلومات المتعلقة بقضية التشيّع بإيران وصراعها مع العثمانيين في هذه الفقرة استناداً إلى المرجع الآتي وكُتبت بتصرّف: إبراهيم السامرائي، العراق البلد العربي الذي نخره السياسيون، دار المعتزّ، الأردن عمّان، ط1، 2015، ص31 إلى 34.
[8] – حكاية عرب الأهواز، المرجع السابق.
[9]– الأحواز ثمانون عاماً من الأسر، المرجع السابق.
[10] – مصطفى عبد القادر النجار، التاريخ السياسي لإمارة عربستان العربية من 1897 ـ 1925 ، دار المعارف بمصر، القاهرة 1970، صفحة 233
[11] – محمد عبد الرحمن عريف، الأحواز أم الأهواز: عودة للتاريخ، موقع رصيف22: http://soo.gd/LIFG
[12] – تاريخ الأحواز السياسي، المرجع السابق.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.