تحقيق صحفي
وحدة استطلاع الرأي في مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي “مينا”
العلاقة بين الأدب والتاريخ قوية جداً إلى حد لا يمكن فصلهما، إذ طالما لعب الأدب دوراً مهماً في التاريخ وذلك من خلال اعتماد المؤرخين عليه بوصفه مصدراً رئيساً من مصادر التعرف إلى مرحلة سياسية معينة، ولعل الأدب النسائي في مراحل التاريخ معظمها كان له حضور واضح وإن كان يتفاوت بين مرحلة وأخرى، وفي الثورة السورية استطاعت المرأة السورية أن تترك أثراً وبصمة، وكان الأدب النسائي حاضراً على الرغم من كثير من الصعوبات والمعوقات التي صادفها، فهل تأثر الأدب النسائي بالثورة أم أثر فيها؟
سنبحث هذا الدور من خلال المحاور الآتية:
- ملامح الأدب النسائي في سوريا قبل الثورة.
- الشعر المحكي والأهازيج النسائية كانت الأكثر انتشاراً.
- هل أثرت الثورة في الأدب النسائي أم تأثرت به.
- الثورة ملهم للأدب النسائي.
- الخاتمة.
ملامح الأدب النسائي في سوريا قبل الثورة
الحالة الأدبية التي عاشتها سوريا قبل الثورة لم تكن أحسن حالاً من باقي الجوانب الأخرى المفروضة على السوريين بصورة كاملة، بل كان الأدباء والشعراء والمفكرون هدفاً للنظام في حركاتهم وسكناتهم كلها، ليصار الحال بهم إما سجناء ومعتقلين في غياهب السجون أو منفيين خارج حدود الوطن أو مطبلين ومزمرين للنظام وجرائمه وانتهاكاته المتواصلة بحق سوريا وطناً وشعباً وحضارةً واقتصاداً.
تقول الشاعرة أمية العبد: كان التصحر الأدبي والثقافي العنوان العريض للواقع السوري في عهد نظام الأسد قبل الثورة، وأقلام الكتاب والأدباء لا تعرف من الحبر إلا ما غمس بدم الشعب، ليصبح الخوف ثمرة ويتحول الصمت إلى زنزانة تضج بكلمات تختنق في مهدها، كلمة مكونة من حرفين (لا) كانت كفيلة بما تجهل من ألوان القهر والذل والاغتيال لأسمى ما وهب للإنسان وهي حريته، حتى جاء من يطلقها مدوية ويكسر القيد الذي طال كل شيء.
وفي تلك البيئة لم يكن من الممكن أن يتطور الأدب ويصبح للمرأة شأنها بذلك شأن الأدباء كافة، إلا أن تحرص على كلماتها حبيسة صدرها، أو ربما بقي كثير من الروايات والدواوين والقصائد والأفكار حبيسة الكتب ولم يتجرأ أصحابها على إظهارها إلى الوسط لما فيها من أفكار تقلق الجلاد وتجعل صاحبها عرضة للمساءلة وربما الاعتقال والاعتداء في كثير من الحالات، وهو الأمر الذي حاول كثير من الأدباء؛ نساء كانوا أم رجالاً تجنبه في الأعوام الطويلة الماضية التي جثم فيها آل الأسد على صدر الشعب السوري، وتضيف أمية أن حال الأدب بعد جلاء الصورة بكل ما فيها من ثورة شعب كان يحاول أن يعكس ما فاق الخيال من صنوف البطش والظلم والاعتقال والاستبداد والترهيب والتجويع والحصار والتنكيل، شعب أراد أن يخرج الى النور بعد ظلام طويل.
وعلى الرغم من الحالة السيئة التي عاشها الأدب قبل الثورة إلا أن عدداً من الأديبات السوريات والشاعرات والقاصات استطعن أن يتركن بصمة واضحة في الحياة الأدبية وأن يكسرن حاجز الصمت بعدد من الأعمال الأدبية التي ما تزال محفوظة في ذاكرة الأدب السوري لما لها من أهمية بالغة اثرت كثيراً في المشهد الأدبي في المنطقة بأكملها وكانت امتداداً لأدب نسائي وضعت أسسه قبل الأسد في سوريا على أيدي أديبات وشاعرات سوريات مشهورات كغادة السمان وكوليت خوري وليلى بعلبكي وقمر كيلاني وألفت الإدلبي وغيرهن كثيرات.
أسماء نسائية مستعارة خوفاً من الاعتقال والاضطهاد
كان الأدب النسائي محصوراً إما بالغزل أو الحنين أو التغني بالطبيعة وكانت المرأة تبتعد البعد كله عن السياسة خوفاً من مغبة الاعتقال، إلا أن أقلاماً نادرة حاولت أن تدمج الأدب العاطفي بالسياسة لتنقل هموم الشعب السوري بصورة مبطنة، وجاءت الثورة السورية لتفجر ما في داخل النساء من حب لممارسة العمل العام قولاً وفعلاً، ولكن ظل الخوف من الاعتقال في بداية اندلاع الثورة مسيطراً على كثير من النساء كما تقول الشاعرة الفراتية سميرة بدران (كتبنا لشباب منطقتنا الأهازيج التي كانوا يتغنون بها في التظاهرات السلمية وكانت أغلبها بأسماء مستعارة أو من غير أن يرد ذكر على اسم كاتبها فمن كانت من النساء داخل البلد، وبخاصة في مناطق النظام كان الخوف من مغبة الاعتقال سبباً في صمتها ولا سيما أن المرأة دفعت ثمناً باهظاً في معتقلات النظام واللاتي خرجن من البلد لم يكن أحسن حالاً في مواجهة أوضاع النزوح والتشرد، إلا أن أصواتهن ارتفعت معبرة عن واقع الحال في جوانب الحياة كافة، وأنا واحدة منهن وهناك أيضاً أسماء كثيرة اشتهرت في ما بعد ك لميس رحبي تماضر الموح وشذى برغوث وغيرهن كثيرات اللواتي كن يعملن بأسماء مستعارة وكن ينقلن معاناة السوريين ويتواصلن مع المحطات التلفزيونية ووسائل الإعلام بأنواعها كافة، وهذا كله أدب نسائي فاعل ترك بصمة كبيرة في مرحلة من المراحل).
الثورة ملهم للأدب النسائي
الحضور النسائي في المجال الأدبي لم يطرأ عليه جديد شأنه بذلك شأن المشهد الأدبي السوري عموماً، إذ لم تلد الثورة أدباء وشعراء جدد إنما ولدت موضوعات جديدة لم يكن الأدباء قادرون على تناولها قبل الثورة، إضافة إلى أنها أعادت الكتاب والأدباء غير المرغوب فيهم من النظام إلى الظهور بما تميز فيه أدبهم، ويقول الشاعر والكاتب مصطفى عبد الفتاح (لا يمكن القول إن هناك أدباً نسائياً ظهر مرافقاً للثورة السورية ولم تشهد الساحة السورية ظهور أسماء نسائية جديدة في الأدب عموماً فمن كن يكتبن سابقاً تميزت كتاباتهن في سنوات الثورة بتغير الموضوعات وطريقة معالجتها لتتسم الموضوعات الجديدة بالواقعية المريرة سواء في المقالات أم القصص أم الشعر والروايات والدراما، وما قدمته الأقلام النسائية السورية كان مميزاً، إذ لمعت أسماء كثيرة يذكر منها الشاعرة ديمة قاسم والشاعرة إباء الخطيب والكاتبة لينا هويان الحسن والكاتبة مها حسن والقاصة روعة سنبل والقاصة لمياء سليمان وغيرهن كثيرات).
فايزة العوض من أكثر الأقلام التي صاغت أهازيج الثورة وأغانيها التي طالما رددت في التظاهرات وفي شوارع المدن والبلدات السورية يترنح بها الشعب الثائر معبراً عن طموحه الكبير وحلمه في الحرية، تقول فايزة (كانت تخرج تلك الكلمات من قلبي كالقمح عندما يشق الأرض باحثاً عن الحياة، الحياة التي كانت حراماً على السوريين إلا كما يحب النظام المجرم ويشتهي، وتقول فايزة منذ صغري كنت أكتب لأمي ولأصدقائي بين الحين والآخر ولكن لم أكن أتطلع إلى أن أصبح شاعرة أو كاتبة لأن الحياة الأدبية في سوريا قبل الثورة كانت حكراً على النظام أو من يسبحون بحمده وعندما اندلعت الثورة وجدت في الكلمات ملاذاً حقيقياً للتعبير عن مشاعري الثائرة ومن ثم للتعبير عن آلامنا وأشجاننا وما يعصف بسوريا والشعب السوري من محن ومصاب ومآس، أوصلهم النظام إليها وحاولت فايزة أن تكتب عن المشاعر كلها التي مرت في الثورة وتعبر عنها عن القوة والشجاعة عن الابتسامات وكانت تبحث بقصائدها عن مستقبل خال من الألم والظلم والقهر، ولم يغب الشهداء عن قصائدها والبطولات التي قدموها قرباناً على مذبح الحرية كما كانت أم الشهيد وأطفاله حاضرين في قصائدها بقوة، وما زالت فايزة تكتب للوطن إذ تقول لن أكل ولن أمل هذه ثورتي وهذا وطني من أجل عيون أمهات الشهداء ومن أجل المعتقلين واليتامى ومن أجل البلد الذي ثار باحثاً عن حياة أفضل من أجل الثورة التي كانت سبيلاً وحيداً لكسر القيود التي علقت في رقابنا والأغلال التي كبلت أيدينا وأحلامنا سأستمر في الكتابة إلى النهاية.
هل أثرت الثورة في الأدب النسائي
الحديث عن الحالة الأدبية في سوريا بعد الثورة يخرج عن السياق الطبيعي مدة زمنية طويلة وسم فيها الأدب السوري بطابع الولاء لحزب البعث باستثناء الأدباء والمفكرين الذين استطاعوا أن يخرجوا من سوريا الزنزانة الكبيرة، وتمكنوا إحياء شيء من الإرث الأدبي السوري الكبير الذي استطاع النظام أن يعيث به فساداً وأن يخفي كثيراً منه عن العالم، مدخلاً سوريا في لجة من الجهل والظلام، وما حدث بعد الثورة من قمع وتنكيل قامت به قوات النظام بحق السوريين وصل إلى مرحلة فاقت قدرة اللغة على التعبير ولم يعد بوسع الأقلام والأدباء أن يعبروا عن جزء يسير منه وذلك لأن المجازر التي ارتكبت لم تحصل على امتداد التاريخ بحق بلد بأكمله، وكان لا بد للأدب أن يتأثر كاملاً بذلك الواقع وعلى وجه الخصوص الأدب النسائي لأن المرأة تأثرت بالثورة وانخرطت بها بشكل كامل ودفعت ثمناً باهظاً في حرب أعتى الأنظمة.
وعلى الرغم من أن الساحة الأدبية السورية بعد الثورة لم تخلُ من بعض الأقلام النسائية التي عبرت بشكل رائع عن المعاناة السورية واستطاعت أن توثق انتهاكات النظام التي طالت شرائح المجتمع السوري كلها، ونقلت صوت المعذبين المنهكين الذين هدت الحرب كاهلهم وحولتهم إلى أرقام في قوائم القتلى والجرحى والمشردين والمعتقلين، غير أن الحضور النسائي في المشهد الأدبي بعد الثورة ما زال خجولاً، وذلك يعود إلى أسباب كثيرة أجملتها الأستاذة لميس الرحبي بالخوف وانعدام الأمان واستهداف المرأة السورية مباشرة وتعرضها للاعتقال والتعذيب والقتل والتشرد والنزوح الذي أفضى بها إلى مخيمات النزوح وبلدان اللجوء باحثة عن شيء من الاستقرار وما يسد الرمق وما يطعم العائلة بينما يحتاج الناتج الأدبي إلى مزيد من الاستقرار والأمان.
الأستاذ والمفكر السوري رياض نعسان آغا يعتبر أن الثورة كانت ملهماً للأدب والأدباء السوريين على حد سواء والأدب النسائي على وجه الخصوص ويقول (إن الحديث عن تأثير الأدب في الثورة ما يزال مبكراً، فعندما يصدر كتاب أو رواية أو ديوان شعر لا يطبع منه في الأحوال معظمها سوى 1000 نسخة، وفي الأغلب فإن هذه النسخ تعاني أزمة في التوزيع، والثائر في الأرض ليس لديه الوقت الكافي ليفرغه للكتابة في زحمة المآسي التي يعيشها السوريون وفي ظل النزوح والتشرد ومعاناة البحث عما يسد الرمق وعن آلاف الضروريات التي أصبحت غائبة عن مشهد الحياة اليومية في سوريا.
ومن ثم فإن الروية والشعر والدراسات التي تقدمها النساء أو الرجال هناك لا تقرأ بالحد الكافي وبأعداد قليلة، أما في ما يتعلق بالثائرين والمقاتلين فما أظن أن أحداً منهم قرأ رواية أو كتاباً، ما يحدث هو العكس هؤلاء يناضلون يقاتلون ويحاربون، وهذا ما يمكن اعتباره أثراً واضحاً في الأدب وله انعكاسات واضحة في الكتابات النسائية معظمها في الثورة).
أما على صعيد تأثير الثورة في الأدب النسائي فكان واضحاً وعلى سبيل المثال الكاتبة سميرة مسالمة في روايتها نفق الذل وثقت مرحلة من المراحل ولكن هل أثرت في حياة الثوار؟ لا يبدو ذلك واضحاً وفي الوقت نفسه كتبت نساء عدة كثيراً من الروايات، كديمة ونوس التي وصلت روايتها إلى ترشيحات البوكر ولكن هل هي مؤثرة في حياة الثورة أم أن ديمة هي التي تأثرت بالثورة وكتبت هذه الرواية، فهذا هو الأكثر ترجيحاً، وبالتالي فإن الثورة هي من أثرت في الأدب النسائي وليس العكس.
الخاتمة
الناقد والشاعر السوري محمد العثمان يرى أنه لا يمكن أن نفصل ببساطة بين المرأة والرجل في ماهية تشكل الإبداع، كون طينة هذا التشكل الإبداعي واحدة، لذلك أنا أرفض التصنيف، لكن يمكن الحديث عن دور المرأة الأديبة في هذه الثورة، الملاحظ بروز صوت قوي للأنثى في الكتابة عن المحرقة السورية كما الرجل، من خلال محاولة بعض الكاتبات مواكبة هذا التغير والتحول ومعالجة قضايا إنسانية تخص الجميع، في المجمل ما زالت النظرة إلى ما جرى ويجري في طور التكون، فمفهوم أدب الثورة بمجمله غض ويافع ويحتاج إلى مزيد من الوقت للنضج، وما يُلاحظ أنه قد طغى على ملامحه التجريب وخصوصاً على صعيد الشكل الخارجي والاشتغال على القضايا الوجودية، وانخفاض المشهد الرؤيوي خصوصًا في النص الشعري لمصلحة المشهد التسجيلي اليوميّ، لكن ملامسة هذا الجرح للكيانات السورية قاطبةً، جعلت بعض الأسماء تعمل على تصوير الواقع السوري المتشظي روائياً، فتفوقت فنيًّا أسماء عدة في فنّ الرواية، فمثلاً لا يمكن أن نذكر بعضًا ممن عالجْنَ هذا الواقع وكتبنَ عنه من دون أن نمرَّ على تجربة مها حسن الناضجة في عدد من رواياتها: (مترو حلب)، أو (عمت صباحًا أيتها الحرب)، لأنها أصلاً روائية ناضجة قبل الثورة، وأيضاً هنالك أخريات حاولْنَ أن يؤرشفن للمحرقة السورية كسمر يزبك في رواية (رايات أرض العدم) وروزا ياسين حسن في رواية (الذين مسهم السحر) أو (نيغاتيف)، وديمة ونوس في رواية (الخائفون)، أما في الشعر فهنالك أيضاً عدد من الكاتبات اللواتي كتبن جيداً عن مأساة السوريين عموماً كرشا عمران وإباء الخطيب ونور نصرة وسوزان علي. أخيراً؛ فإن لدى الأديبات السوريات فرصة كبيرة اليوم ليكنّ حاضرات وشاهدات على ما يحصل، والساحة الأدبية بحاجة إلى أقلامهنّ، كون المرأة السورية كانت الخاسر الأكبر في هذه المحرقة من النواحي كلها.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.