ربما يكون العنوان الأكثر تعبيراً عن استثمار المرتزقة في العصر الحديث، هو تعبير خصخصة الحروب، ومن توابع العنوان، البحث عن حروب أقل تكلفة ما بين المتحاربين، عبر استئجار محاربين مدربين على القتال، بتكاليف أقل من تكاليف الجنود النظاميين، وربما بفعالية أكبر، ودون ما يستتبع هذا الاستخدام من تداعيات من بينها مرتبات التقاعد أو تلك المتعلقة بتعويضات الموت، وربما ستكون كل من شركتي فاغنر الروسية، وشركة بلاك ووتر، هما الشركتان الأكثر احترافية في هذا الاستثمار، مع ما يتصل من رفض نظري لهذا الاستثمار فيما تحفل الحروب بمستثمريه، ففي الوقت الحاضر، يحتدم الخلاف بين مجموعة دول غربية تحاول ترك المجال واسعا للشركات العسكرية والأمنية الخاصة لتقنيين نفسها بنفسها، ومنظمة الأمم المتحدة التي تسعى للتوفيق بين الطرفين من أجل الحد من خصخصة الحروب ووقف ظاهرة الإفلات من المحاسبة.
وفي الواقع، يعود الفضل في إثارة موضوع “الاستخدام المعاصر للمرتزقة” الساخن والحساس، إلى “مركز أوروبا – العالم الثالث” (مقره جنيف) الذي نظم مساء الثلاثاء 17 مايو 2011 ندوة حوارية سلط فيها الأضواء على “أوضاع الجيوش الخاصة في سويسرا والعالم”.
وتمثلت أبرز الخلاصات التي توصل إليها النقاش الذي اتسم بالصراحة في أن العالم يتخبط اليوم في فراغ قانوني لأن المعاهدة الدولية الخاصة بالمرتزقة لا تنطبق في عدة حالات على من يُلقبون بـ “مرتزقة اليوم” أي العناصر التابعة للشركات العسكرية والأمنية الخاصة التي عرفت رواجا كبيرا في العشرية الأخيرة بل تصدرت الأحداث في حرب العراق (2003) وأفغانستان (2001) وفيما يحدث اليوم في ليبيا وعدد من بلدان افريقيا وأمريكا اللاتينية. وفيما يحدث في الحرب الاوكرانية اليوم.
المرتزقة.. من المسكوت عنه إلى المعلن دون تحفظ:
ما كشفت عنه الحرب في أوكرانيا بين ما كشفت آليات وعمل الحكومات في تجنيد المرتزقة للقتال في الحروب. فقد أصبح الكلام عن هذا الامر علنا بعد ان كان ولفترة ليست بعيدة، كلاماً مسكوتاً عنه وأحد اسرار الحكومات ووزارات الحرب او أحد مواضيع نظرية المؤامرة التي يتهم بها كل من يتجرأ ويخالف الروايات الرسمية الحكومية او الاعلام العالمي المهيمن على المعلومات والاخبار او يعرف ومطلع على معلومات مختلفة تنشرها مواقع مستقلة في الأيدولوجية والتوجه وحتى تصريحات أصحاب الاختصاصات في نفس التخصصات.
نقرأ اليوم في الصحف اليومية الغربية والعربية كيف تقوم روسيا وأوكرانيا بتجنيد المرتزقة والتفاوض حول نوعية المقاتلين ورواتبهم وامتيازاتهم مع الحكومة السورية ورئيس النظام ونفس الأمر ينطبق على أوكرانيا وطلبها لمتطوعين يقاتلون في صفوف جيشها او في تشكيلات للمقاتلين الأجانب الذين بدأوا بالوصول فعلا ومنذ أيام الى أوكرانيا سواء من فرنسا او من كندا وإسرائيل والسويد وغيرها وهذا ما لم نقرأه او نسمعه عند غزو العراق وفي احتلال وتدمير مدنه وخاصة مدينة الموصل.
في التجربة العراقية:
في الحرب العراقية اعتمدت الولايات المتحدة كما في كل حروبها وتدخلاتها التي لا تعد ولا تحصى منذ عقود على المرتزقة الذين يسميهم البنتاغون “بالمتعاقدين” وهو سوق مربح ورائج يتعهد به مقاولون بضمنهم ساسة ممن لديه مثل هذه الشركات واهم هؤلاء صاحب شركة “بلاك ووتر” “ايريك برنس” صديق جورج بوش ونيغروبونتي الذي يعتبر أحد أهم مزودي الحكومة الفدرالية بالمرتزقة أوقات الانقلابات التي حدثت في أمريكا اللاتينية وامريكا الجنوبية، نيغروبونتي هو الذي جمع جيشا كاملا من المرتزقة من كولومبيا ونيكاراغوا وغيرها لغزو العراق وصل تعداده الى 200 الف مرتزق من المقاتلين ومن المتعاقدين بحسب مؤلف كتاب “العراق ارض المرتزقة” للضابط لفرنسي. جورج بريسية دي فالون، للقيام بتوفير خدمات أخرى تخص كل ما يتطلبه وجود الجيش من خدمات اثناء وجوده في بلد الحرب. بالمقابل، كانت شركة “فاغنر” الروسية قد باتت منافسة للشركتين الامريكيتين السابق ذكرهما، وكان السؤال على الدوام:
ما علاقة روسيا بهم؟
وللتعرف على علاقة روسيا بـ “فاغنر”، بالوسع العودة إلى عام 2018 يوم وقعت جريمة قتل غامضة في جمهورية أفريقيا الوسطى راح ضحيتها 3 صحافيين روس، ليظهر ان أحدا ما لم يكن يريدهم أن ينجحوا في مهمتهم.
فما هي مهمة الصحفيين الثلاثة ضحايا فاغنر؟
المهمة كانت جمع معلومات عن شركة فاغنر العسكرية، التي تدير مجموعة من المرتزقة الروس وتنشط في أكثر من دولة، أسسها ضابط المخابرات الروسي السابق “ديمتري أوتكين”، وكان اسم “أوتكين” الحركي في المخابرات هو “فاغنر”، بسبب إعجابه بالنظام النازي الذي استخدم موسيقى “فاغنر” في الدعاية.
ظهرت مرتزقة “فاغنر” للمرة الأولى في أوكرانيا، وذلك بعد احتلال شبه جزيرة القرم عام 2014. لايزال تمويل وإدارة الشركة لغزاً، فمعظم وسائل الإعلام تقول أن المخابرات الروسية تديرها بشكلٍ سرّي، وآخرون يربطون بين “فاغنر” ورجل الأعمال “يفغيني بريغوجين”، وينفي الكرملين علاقته بالشركة، وسط اتهامات ان مخابراته تديرها للتقليل من الخسائر الرسمية الروسية في العمليات الخارجية. مرتزقة “فاغنر” موجودون أينما وجد الروس، ففي سوريا شاركوا في السيطرة على تدمر ودير الزور، ومؤخراً ظهروا في ليبيا لدعم قوات “حفتر” حليف الروس. وبحسب تقرير أمني مُسرّب فقد يصل عددهم في ليبيا الى حوالي 1000 شخص، وأنهم يقدمون دعماً تقنياً لقوات “حفتر” ويشاركون في إصلاح المعدات ويشرفون على العمليات الجوية. واخيرا فإن بعض المصادر ترصد وجود “مرتزقة فاغنر” في دول أخرى، لكن لم يتم تحديد مكانها بعد.
واليوم ما الذي يحدث؟
تداولت الاستخبارات الروسية، إن الغرب يستعين بمقاتلين من منطقة الشرق الأوسط في أوكرانيا، وقبلها قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية إن الروس يستعينون بمقاتلين من سوريا في أوكرانيا. ونشر رجل الشيشان القوي رمضان قديروف، المتمرد السابق الذي تحول حليفاً للكرملين، مقاطع فيديو لمقاتلين شيشانيين في أوكرانيا، وقال إن بعضهم قُتلوا في المعارك، حسبما نشر موقع “سكاي نيوز” العربية. كما نقل الموقع نفسه سفر عشرات آلاف المتطوعين إلى أوكرانيا للانضمام إلى قواتها، دون تحديد جهة قدومهم، وذلك وفقاً لوزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا. والسؤال الآن هو: مَن نصدق؟
ثمة عرض قد يفيدنا بالإجابة عن السؤال، وهو سؤال:
من نصدّق؟
في عودة للتاريخ القريب، ومع وصول الرئيس أوباما للحكم بدأت مرحلة خطيرة في الحرب النظامية في كل من العراق وأفغانستان. لقد تم تسويق أوباما للرأي العام كرئيس اسود مناهض للحرب في العراق لكن ذلك لم يكن الا دعاية ناعمة موجهه للرأي العام الأمريكي والعالمي المعادي للغزو لأن الحقيقة هي انه كان أسوأ من جورج بوش، فقد شهدت فترة حكمه تطبيق خطة جون برينان مدير المخابرات المركزية تشريع القتل بطائرات الدرون للمدنيين جربت اول ما جربت ضد الأفغان وتشكيل وحدات اغتيال خاصة لتصفية المعادين للاحتلال والغزو في العراق وهو ما تم تنفيذه بدخول داعش، وخلال فترة حكمه تمت أخطر عملية عسكرية في العراق وهي عملية تدمير الموصل، يمكن ان تسمى بالحرب الخفية لأنها اعتمدت على تجنيد المرتزقة للسيطرة على الموصل العاصية على الخضوع وتدميرها بالقصف الصاروخي الأطلسي وابادة سكانها المدنيين بمشاركة دول حلف شمال الأطلسي المحتلة ومعها إيران ونظام بشار الأسد ونوري المالكي رئيس وزراء عملية الاحتلال السياسية.
بنفس طريقة تجنيد المتعاقدين الامريكية واليوم الروسية في سورية، وجد تنظيم داعش او تنظيم الدولة في الموصل بعد ادخال مرتزقة من النظام السوري المدربين والمتمرسين من عسكريين وميليشيات طائفية لمتابعة القادة الوطنيين وكبار جنرالات الجيش العراقي والمقاومين وتحديد أماكن سكناهم لاغتيالهم، ومن ثم اغراء الفقراء والبسطاء في الأرياف والعاطلين بالرواتب لتجنيدهم والتعاقد معهم تحت اسم كاذب واستخدامهم بالضبط مثل المرتزقة الذين تجندهم الولايات المتحدة للقتال في دول أخرى. وعلى غرار الولايات المتحدة، طلب وزير الدفاع الروسي الذي زار دمشق قبل بدء المعارك في أوكرانيا من بشار الأسد تأمين مرتزقة اشترط ان يكونوا ضباط ذو خبرة كبيرة بحرب المدن والشوارع ومقاتلين متمرسين بشكل كامل بالقتال، كما في عملية تدمير الموصل، لا يقل عددهم عن ثلاثين ألف مقاتل، فيما تستقبل القاعدة الروسية في حميميم المتطوعين وتسجل أسماء الراغبين المتوفرة فيهم شروط القتال المطلوب.
وكما تعاون نوري المالكي وقاسم سليماني أثناء عملية الموصل، يرسل بشار الأسد بشكل اجباري شباب سورية وبالأخص شباب “المصالحة” لهذه المهمة للتخلص من فئة شاركت بالثورة ضد نظامه.
هكذا تصنع الدول المرتزقة والمنظمات الإرهابية ويتم تسميتهم بحسب المصالح التي يستخدمون لها وتطلق عليهم التسميات الحسنة او السيئة، تارة يسمون ارهابيون وأخرى مقاتلون من اجل الحرية، أخرى ارهابيون إسلاميون او متطوعون شجعان إذا ذهبوا الى أوكرانيا كما يسميهم الاعلام الفرنسي والغربي عموما!
كليهما لا يكذبان:
بعد ما سبق علينا أن نصدق الطرفين، دون نسيان أن المعلومات بهذا الصدد شحيحة، وحجم البورباغندا الغربية والروسية عالية جداً، وجزء من المعركة هي معركة إعلامية استُخدمت فيها كل الأدوات حتى “سناب شات” وتطبيق “تيك توك”.
وعليه فإن ما يهمنا هو قصة نقل المقاتلين، والوصف الأدق لهم، وأياً كانت الدوافع “المرتزقة” لأن منطقتنا عانت مطولاً من هذا الارتزاق، وتحت شعارات مختلفة، ويكفي ما تفعله إيران ومرتزقتها بدولنا العربية، من اليمن إلى سوريا مروراً بالعراق، وبالطبع لبنان. ويكفي أن نذكر أنه سبق لزعيم “حزب الله” أنْ لوّح باستخدام مائة ألف مقاتل مستعدين للمعارك، وليس من لبنان فقط، حيث قال نصاً: “أحدثك فقط عن اللبنانيين”، وبالطبع فإن جميعهم إرهابيون، سواء كانوا شيعة أو سنة.
الأهم في قصة المرتزقة هذه، سواء كانوا مع الغرب أو روسيا، أنها تستحق الكثير من المتابعة والرصد والمزيد من التفاصيل لمعرفة هوياتهم ومناطقهم وخلفياتهم الفكرية، ودوافعهم. والتجارب علّمتنا أن النتيجة الحتمية ستكون عودتهم للمنطقة بعد أن تضع الحرب أوزارها، مما يعني موجة إرهاب جديدة قادمة في المنطقة، أو زعزعة استقرار دول عربية أخرى، والدوافع والمبررات حاضرة.
بالنتيجة:
تكشف الحرب في أوكرانيا بشكل واسع ان تجنيد المرتزقة وتصنيع المنظمات الإرهابية منه ليست مهمات واعمال بسيطة يقوم بها افراد او جماعات محدودة كما تدعي هذه الدول بشأن المنظمات الإرهابية الملصقة بالعرب والمسلمين بل هو عمل تقوم به شركات متخصصة تمتلك إمكانيات كبيرة ولها علاقات تجارية مع الحكومات وترتبط بها وبخططها العسكرية كما هي شركة بلاك ووتر وشركة بلاك ووتش البريطانية وشركة فاغنر الروسية وكل هذه الشركات عملت في العراق وليبيا ودول أخرى لتنفيذ جرائم خطيرة محددة وباغتيالات بالأسماء تأتي من دوائر المخابرات ومن الدول الكبرى مباشرة.
في سورية وفي العراق يقدم شبابنا حطبا إضافيا لكل ما تقوم به الدول المحتلة والغازية في بلداننا، يساقون للموت وللقتل تطوعا او قسرا لا يهم، وحتى في هذه المآسي تطل شياطين التجارة والسمسرة لتسليب الشباب المحكوم عليه بالذهاب الى الموت بطلب مزيدا من الأموال مقابل تسجيلهم في قوائم القتال وكأنهم ذاهبون الى الجنة!
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.