الملخص التنفيذي:
علينا أن نفرق بين الإسلام كدين؛ وتاريخ المسلمين؛ فتاريخنا ليس ديناً؛ كما ينبغي علينا أن نفرق بين الشريعة القرآنية والفقه الإسلامي؛ ونقد التاريخ واجتهادات الفقهاء واجب نهضوي. هذا ما تحاول هذه الورقة مناقشته.
فهذه الدراسة ترفض الفقه الإسلامي البشري المصدر، والمُنْتج تاريخياً، وتتمسك بالمقاصد القرآني الإنسانية؛ للوصول إلى التنمية والنهضة والإصلاح.
فالإصلاح الحقيقي، والثورة الحقيقية تبدأ بالاعتراف أن معارفنا الثقافية والفكرية ونمط تربيتنا وكثيراً من أيديولوجياتنا؛ لم تعد صالحة لتطور المجتمع ولا لبناء دولة حديثة؛ وعقبة أمام السلم الأهلي. وعلينا أن نبحث بجدية عن معارف معاصرة ومؤنسنة؛ تخرجنا من كهف طال رقودنا فيه؛ ومن جُبٍ استمتعنا بالغرق فيه.
وعندما نقول بأن الفقه الإسلامي غير صالح لعصرنا؛ وندعو إلى القيم القرآنية، ففيها ـــ إضافة لما أنجزه العقل العلمي ـــ أسسُ النهض والتقدم والعلم؛ وعلى أساسها نستطيع أن نكون شرقاً سعيداً. وهذا ما وصل إليه أهم مفكري اليسار في مراجعاتهم أمثال الياس مرقص وياسين الحافظ وجورج طرابيشي؛ حينما تحدثوا عن أهمية الدين كعامل نهضوي؛ وأشاروا إلى أن هذا التدين يحتاج إلى عقلانية ومعاصرة.
هذا كل نناقشه من خلال المحاور التالية:
المحاور:
- المدخل
- هل نحتكم إلى الفقه الإسلامي؟ أم إلى قوانين مدنية معاصرة؟
- وقفة تدبرية مع آيات الحاكمية
- ما الفرق بين الفقه القرآني والفقه الإسلامي؟
- لماذا الفقه الإسلامي غير صالح لعصرنا؟
- الغرب والفقه القرآني!
- في العلمانية حل!
- الفقه الإسلامي أخطاء وخطايا!
- ما هي حدود الله في القرآن الكريم؟
- الخاتمة
المدخل:
منذ أن طُرحت العلمانية كحل للدولة الحديثة؛ للخلاص من الصراعات الطائفية والمذهبية؛ وللتفريق ما بين الدولة ككيان مؤسساتي خادم للمجتمع لا دين له ولا مذهب؛ لكونها كياناً اعتبارياً؛ غير مكلف إلهياً. ودفعت أوروبا من أجل هذا التحول حروباً لعشرات السنين، راح ضحيتها ملايين البشر!
من ذلك الحين؛ ونحن ـــ في شرقنا البائس ــ نعيش صراعاً دينكوشوتياً؛ لم يحسم حتى الآن! جعلنا دولاً متخلفة؛ وشعوباً جاهلة؛ مختلفين حول أسئلة الحداثة؛ واستحقاقات دولة المواطنة؛ والسؤال المطرح بجدلية ما بين الأطراف المختلفة:
هل نحتكم إلى الفقه الإسلامي؟ أم إلى قوانين مدنية معاصرة؟
ما بين علمانية متطرفة؛ ويسار غير مؤمن بوجود إله، يرفض فكرة الإله والدين أصلاً، وعلمانية حميدة ترى أن الدين مسألة فردية بين الإنسان وربه؛ وأما الدولة فيجب أن تكون حيادية تجاه الأديان والطوائف والمذاهب. وبين متدينين يريدون أن يجعلوا الفقه الإسلامي الموضوع والمُجْتَهد بشرياً منذ قرون لعصر مخالفٍ لعصرنا تماماً؛ هو قانون الدولة الحديثة، وإلا فإن الحاكم كافر! والمجتمع جاهلي! ويرفعون آية مجتزأة من سياقها لا علاقها بالموضوع تقول: وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ. ([1])
رغم أنّ الآية لا علاقة لها نهائياً بالسياسة والحُكم وتكفير الحاكم إطلاقاً، راجعوها في سياقها. وهذه الآية تسمى آية الحاكمية.
وقفة تدبرية مع آيات الحاكمية
المحور الحاكم لمعنى ومقاصد آية الحاكمية؛ يتحدث عن ثلاثة أحكام وهي: الكافرون مرة؛ ثم الظالمون في الثانية؛ والفاسقون في الثالثة، لمن استدبر أحكام السماء.
ونظراً لأن هذه الآيات ذهب ضحيتَها آلافُ المسلمين في صراعهم مع السلطات الحاكمة في العصر الحديث؛ لأن منظري الإسلام السياسي؛ أفتوا بأن السلطات لا تحكم الشعب بما أنزل الله؛ بل بقوانين مدنية! كافرة؛ يجب الخروج عليها، وإسقاطها.
لذلك نحتاج إلى وقفة مع المحور القرآني الذي ذكر آيات الحاكمية كاملاً؛ لتوضيح حقيقة؛ تُسْتَخْدم فيه الآيات عضينياً في موضوعة الصراع على السلطة؛ لكي يصطف الشارع معهم؛ كونهم يمتلكون الدليل القرآن في أحقيتهم بالسلطة. ([2])
يقول المحور القرآني لآيات الحاكمية:
إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ 44 وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ 45 وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ 46 وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. ([3])
أكد المفسرون بأن هذا المحور كانت له مناسبة نزول؛ تخصُّ يهود المدينة زمن قدوم النبي حصرياً، وقد ذكروا لذلك قصتين؛ الأولى حول واقعة زنا. والثانية وهي الأشهر حول صراع في يثرب وقع بين بني النضير وبني قريظة؛ انتصر فيه بنو النضير؛ فاحتكموا لأحبارهم ليفضوا الخصومة بين القبيلتين؛ فحكم الأحبار بأن قتيل بني النضير دِيَّته مائة وسق من التمر، أما بنو قريظة المهزومون فدية قتيلهم خمسون وسقاً. ولما جاء النبي ﷺ وبناءً على صحيفة المدينة؛ أصبح حاكماً لها، تكررت واقعة القتل بين القبيلتين اليهوديتين؛ فطالب بنو النضير بديتهم المضاعفة؛ فرفض بنو قريظة؛ لأن ذلك فيه تفريق بين الناس وظلم، فاحتكموا إلى النبي ﷺ فحكم بالمساوة بالدِيِّة؛ وأن الأحبار كفروا بأحكام التوراة؛ حينما فرقوا في الدِيِّة بين قتيل وآخر، وكفروا هنا أي غطوا الحقيقة. ([4])
وسياق الآية يؤكد على العدل بالقصاص دون غمط لحق ضعيف أو مهزوم؛ وأن الأحبار بذلك الحكم الجائر؛ قد كفروا بتغطيتهم الحقيقة الموجودة بالتوراة؛ وذكرهم القرآن بأن الله استأمنهم على الشريعة بقوله بالمحور ذاته (وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء) وأن التجارة بآيات الله أقبح تجارة.
ولذلك يتابع محور آيات الحاكمية بقوله (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) فالقصاص لا يكون قصاصاً إلا بالعدل بين كل الأطراف بغض النظر عن مكانة المتخاصمين.
إذن؛ المحور بآياته يتحدث عن واقعة حدثت لليهود زمن النبوة؛ ويذكرهم بشريعة التوراة تحديداً بدليل قوله (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) فمن استحفظه الله تشريعاً وخالفه؛ فقد كفر به؛ أي غطاه؛ فمعنى الكفر لغة هو التغطية؛ وليس الخروج من دائرة الإيمان كلياً، لذلك سُمّيَ الفلاح كافراً لأنه يغطي البذر بالتراب؛ وسمي الليل كافراً لأنه يغطي بسواده ما يكشفه ضوء النهار. ([5])
وإنّ هذا الكفر لا يعني الخروج من دائرة الإيمان؛ بدليل آيتين اثنتين محكمتين؛ تؤكدان أن من يحقق مثلث النجاة؛ يفوز بجنة الله؛ ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون؛ حيث قال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. ([6])
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ. ([7])
ونلاحظ في المحور ذاته؛ أن آياته أكدت على القضاء العادل بالحكم فانتقلت إلى القصاص والمساواة فقالت (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) ومعلوم أن القاضي إنْ عَلِمَ بالحقيقة؛ وحكم بخلافه؛ فإننا نقول عنه قاضٍ ظالم.
ولكننا نجد المحور ينتقل مذكراً بتتابع الرسالات فيذكر اليهود برسالة عيسى عليه السلام التي كفروا بها؛ وأن رسالة عيسى كما في إنجيله هي أخلاقيات؛ لأن عيسى ما جاء بشريعة تنقض ما قبلها، فجاء على لسانه بالإنجيل: لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. ([8]) والمعلوم بأن مَنْ يخرج عن المنظومة الأخلاقية يسمى فاسقاً.
فالمحور بآياته يُذَكِّر اليهودَ بضرورة التمسك بالتوراة؛ وأن لا يفرقوا بالأحكام بين منتصر ومهزوم؛ وقوي وضعيف، والمحور يؤكد أن أنبياء بني إسرائيل حكموا بالعدل؛ ولم يحرفوا فقال (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) وأما رسالة الإسلام فكان لها نبي واحد هو محمد ﷺ.
لكن الإسلام السياسي؛ اجتزئ جزءاً من الآية (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) واستخدمه ديماغوجياً؛ ليكفّر السلطات؛ ويكونَ بديلاً عنهم في السلطة. فأصبح شعارُ الحاكمية الذي ابتدعه أبو الأعلى المودودي؛ المجتزئ من سياقه؛ شعارَ الديماغوجية الإسلاموية؛ يتبعهم الناس فيه بلا بصيرة.
ما الفرق بين الفقه القرآني والفقه الإسلامي؟
هنا نطرح السؤال المسكوت عنه: هل الفقه الإسلامي الذي بين أيدينا اليوم، صالح لعصرنا؟ وصالح لبناء دولة حديثة؛ ومجتمع متكافل متعاون؟ أم بات عقبة أمام الحداثة والنهضة والتنمية والسلم الأهلي؟ والجواب على مبدأ الخطف خلفاً في كتابة الروايات: لا! ولكن كيف؟ ولماذا؟
بدايةً لابد أن نعرف الفرقَ بين الفقه القرآني والفقه الإسلامي! أما الفقه القرآني فواضح وجلي ومقنن قرآنياً، فهو رباني المصدر؛ إنساني المقصد؛ ويمثل الدائرةَ الأضيق والأصغر في الحياة، وقد وضحها ﷻ في القرآن بشكل يفهمها الفيلسوف والراعي دون تكلف؛ وهي في الآيات (151ــ152ــ153) من سورة الأنعام. والآيات(23ــ24) من سورة النساء. والآية الثالثة بسورة المائدة. والآية (275) في سورة البقرة. والآية (33) من سورة الأعراف. إذ تقول:
- أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا.
- وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا.
- وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ.
- وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ.
- وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ.
- وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ.
- وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى.
- وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ.
- نكاح المحارم (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم).
- حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ.
- وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.
- قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
- وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.
هذه الشريعة الربانية؛ لو عرضتها على أي إنسان من أية ملة كانت؛ أو إيديولوجية، لن يرفضها؛ لأنها أخلاقية إنسانية، تراحمية، تدعو للفضيلة، ومتناسبة مع حقوق الإنسان والشرعة الدولية حتى يومنا هذا. حاول عرضها على كل عاقل من أية ملة، لن يرفضها، لأنها أخلاق إنسانية؛ قبل أن تكون ديناً، ولأنها تحقق السلم الأهلي قبل أن تحقق الاعتقاد الديني؛ وتربط الأسرة، ولا تفككها.
لاحظ هنا ﷻ لم يذكر الحلال والمباح؛ لأنهما الدائرة الأوسع في معايش الناس؛ بل ذكر المحرم؛ وهو الأضيق والأصغر، لتعلم أن ما سواه حلال ومباح؛ ثم يأتي دور السلطة التشريعية في أية دولة، لتسنَّ الممنوعات؛ وليس المحرمات؛ لصالح المواطن والمجتمع والدولة؛ ولكن السلطة التشريعية لا تحرم؛ لأن التحريم اختصاص إلهي فقط.
وأما الفقه الإسلامي:
فهو جهد بشري قام به علماءُ بالدين؛ شرعوا لدولهم ومجتمعاتهم بحسب العصر الذي عاشوا فيه، فالفقه الإسلامي يعادل اليوم في الدولة الحديثة القوانينَ التي تسنها برلماناتُ العالم، لتكون ضابطاً قانونياً لمسار الدولة والمجتمع. وعندما توسع استبداد الخلفاء والأمراء؛ ذهب الفقهاء المشرعون؛ فتوسعوا في فقه العبادات بشكل كبير، ليبتعدوا عن جورِ واستبدادِ الخلفاء، والأمراءِ وبطشِهم.
ومن الفقهاء مَنْ ذهب ليشرعَ للمستبد ما يثبِّت سلطانَه؛ ليقهر رعيتَه دينياً على مذهبٍ ما؛ أو طائفةِ ما، حتى يستقَر ملكُهُ باسم الدين؛ والدينُ منهم براء. وبالوقت نفسه كان هناك فقهاء أحرار وأبطال وعظماء نفتخر بهم. ويجب أن نعترف بشجاعة أن الفقه الإسلامي تاريخياً؛ كان منتجاً سياسياً واجتماعياً ومناطقياً وطائفياً؛ ولا نتجاهلَ ذلك؛ حتى لا نمنحه طهارة الدين نفسه. فما تمت صياغته تاريخياً باسم الفقه الإسلامي؛ هو جهد بشري عظيم، ولكنه لعصور ودول سالفة، مختلفة تماماً عن عصرنا؛ ومجتمعاتنا؛ وثقافتنا، والواقع الذي دُوِنَ فيه الفقه الإسلامي مختلفٌ تماماً عن واقعنا.
ففي عصرنا هناك البرلمان؛ وهو السلطة التشريعية في البلاد المحترمة، لا تتدخل بإيمان مواطنيها، بل تحترم وتحمي إيمان الجميع، وتقف على الحياد من كل المذاهب والطوائف والملل. ولا تفرض تديناً محدداً؛ إنما مصداقيتها بحياديته من الجميع، واحترامه للجميع؛ وحماية المواطن والمجتمع والدولة هدفه.
وبالتالي فإنّ مهمةَ السلطةِ التشريعية صياغةُ وتشريعُ قوانينَ ترتقي بالوطن والمواطن، ليتحقق النمو والازدهار الاقتصادي؛ والتحضرُ، ويتطور البحثُ العلمي؛ وبالتالي يتحقق الازدهار الاقتصادي والسلم الأهلي لكل المواطنين. وهذه مهمةُ فقهاءَ دستوريين وأساتذةِ قانون؛ لا مشايخَ ورجال دين،
إذن هناك بون شاسع بين الفقه القرآني، الذي هو رباني المصدر، وبين الفقه الإسلامي الذي هو بشري المصدر.
لماذا الفقه الإسلامي غير صالح لعصرنا؟
لقد التصق التاريخ السياسي للإسلام بالإسلام نفسه؛ فهيمن على إسلام الوحي؛ حتى بات القراءة الوحيدة الصالحة لفهم الإسلام؛ مما أنتج فقهاً بشرياً غير عالمي؛ ولا إنساني، حتى أصبح الفقه والنص الإلهي متلاصقين! كالتوأم السيامي! ممنوع علينا أن نفهم النص وفق عصرنا وأدوات معرفته الثقافية؛ واحتياجاتنا المعاصرة دون الرجوع لتاريخ الإسلام! وما أُنتج فيه فقهياً! حتى أصبح الفشل في معالجة مشاكلنا المعاصرة واضحاً؛ والفقه فيه عاجزاً عن تقديم حلول، وحول هذه المسألة يتحدث الدكتور عبد الجواد ياسين قائلاً:
إن التاريخ السياسي للمسلمين من ناحية؛ والطرح الراهن للإسلاميين من ناحية أخرى…..قد فشلا معاً في إبراز الوجه الحقيقي للإسلام…وإنّ سؤلاً يُثار على النحو التالي: أي إسلام يمثل المنهج (الحقيقي)؛ أهو إسلام الوحي؛ حيث تتسع دائرة المباح؛ وتتقلص دائرة الالتزام؟ أم هو الإسلام الذي تقدمه المنظومة مبنياً على التاريخ؛ حيث تنقبض دائرة المباح؛ وتتسع دائرة الإلزام، ويتسع التوجس من العقل والحرية. ([9])
لذلك نحن نقول بأن الفقه الإسلامي غير صالح؛ لأنه جعل تاريخ الإسلام ديناً؛ وقراءة الفقهاء للنص المحكومة بالزمان والمكان ملزمة الاتباع! حتى هدر دم المرتد؛ ولا حدٌ للمرتد في الشريعة القرآنية، ولأنه يجيز زواج القاصرات؛ ولا وجود لهذه الجريمة في الشريعة القرآنية، ولا وجود لرجم الزاني فيها، ولا بول البعير من الشريعة، وأنّ قطع السارق أي بترها؛ حكم غير صالح لعصرنا. هذه أحكام تُعسّرُ حياة المتدين؛ والفقه القرآني يؤكد:
“یُرِیدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡیُسۡرَ وَلَا یُرِیدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ”. ([10])
وهناك عادات وتقاليد نظن بأنها دين؛ وهي ليست كذلك! فالحجامة كانت من الطب الشعبي لا من الدين؛ فجعلها الفقه الإسلامي ديناً وعبادةً. وترهيب وإرعاب المتدينين بعذاب القبر اعتقاد لا أصل له؛ لأنه لا جزاء قبل الحساب!
ولا وجود للمعراج في القرآن؛ ولا الحجاب، وأما تعدد الزوجات فمشروط بحالة طارئة؛ وحالات خاصة؛ وليس للنزوات الجنسية! ومن النساء مبدعات؛ لا ناقصات عقل ودين. والموسيقى تعبير حينما تعجز اللغة؛ وليست حراماً! والرياضة ضرورة للصحة؛ وليست بدعة لإلهاء الشعوب. والقرآن يقول:
وَمَا جَعَلَ عَلَیۡكُمۡ فِی ٱلدِّینِ مِنۡ حَرَجࣲ. ([11])
وأما الأعور الدجال والمهدي المنتظر وعودة المسيح؛ فخرافات اتكالية؛ والعقائد لا تقوم على أخبار آحاد غير ثابتة. ولا يسمح لك الفقه القرآني بإلغاء اليهودي أو المسيحي أو الشيعي؛ ولا بتكفير الدرزي أو العلوي ولا الإسماعيلي؛ ولا بقتل الشيوعي، لأنه يؤكد (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ([12])، ويقول للآخرين (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ([13])، ولا باغتيال العلماني، لأن الدين مفصول عن الدولة.
فإلغاء الآخر ليس من الشريعة القرآنية، إنما ابتدعها كهنة الدين الموازي، لإلغاء المخالف فيزيولوجياً لأسباب سياسية؛ بذريعة الدين والفقه.
وكذلك في المسائل الطبية؛ نسأل الطبيب المختص لا الشيخ، وفي المسائل الاقتصادية نسأل الاقتصادي؛ لا الشيخ؛ وفي قضايا التربية؛ نسأل التربوي المختص لا الشيخ.
والفقه الإسلامي التاريخي ذكوري حتى النخاع! وعنصري تجاه غير المسلمين! وتَنَمُري؛ لأنه يجزم بأن كل المِلل والنحل الأخرى في النار؛ وهذا من اختصاص الله وحده.
إذن الفقه الإسلامي تشريعٌ بشري؛ كان عبارة عن قوانين صالحة لزمن ولى، وصالحاً للعقلية الإمبراطورية، وهذا عهد مضى. هذا الفقه البشري؛ فُرِضَ على الإسلام، ولم يفرضه الإسلام. حتى ظنَّ كثير من المسلمين أنه الدين ذاتُه، وهو فهمٌ للدين؛ وليس الدين. وهذا الفهم لم يعد صالحاً لدولة المواطنة؛ ومفاهيم الحداثة، ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان. لذلك لم يعد صالحاً لعصرنا.
ثمَّ:
كيف تجبر من هو غير مؤمن بدينِك أو اعتقادِك، أو مذهبِك، لتقهرَه على الإيمان بما تعتقد مذهبياً أو طائفياً، أنت هنا تخالف قرآنك! لأنه يأمرك قائلاً: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). وسيقع الخلل الاجتماعي؛ وتفشل الدولة، وتشتعل الحرب الأهلية. والوطن فيه مِلل وطوائفُ شتى؛ ولا يحق لك بنص شريعة القرآن قهرهم على اعتقادك. أنت مؤمن بهذا الفقه؛ طبقه على نفسك؛ ولا تقهر الآخرين عليه.
أما لو دعونا إلى الفقه القرآني الذي ذكرناه آنفاً؛ وقلنا للمشرع البرلماني: صغْ لنا تشريعات للدولة والمجتمع؛ بما لا ينتهك المحرمات الإلهية؛ ولا السلم الاجتماعي. هنا نبدأ خطوتنا في النهضة ومعاشرة الحداثة، واللحاق بركب الحضارة. ولا يوجد برلمان بالعالم اليوم شرَّع قوانين مخالفة للفقه القرآني.
الغرب والفقه القرآني!
نحن نقول عن الغرب كافر، لأن إيمانه مخالف لإيماننا، ولكننا لا نجرؤ أن نقول عنه متخلف وفاشل! لأننا نحن الفاشلين والمتخلفين. فالفشل والتخلف صفتان؛ تنطبقان علينا، لا على الغرب. ولكن تعالوا لنرى علاقة الغرب بالفقه القرآني من خلال البحث العلمي والإحصاءات الاقتصادية الصادرة من أهم مراكز التقييم العالمية.
فقد أثبتت دولة غربية أن التشريع القرآني معيارٌ للنمو والازدهار الاقتصادي؛ والإخاءِ الإنساني؛ والتقدمِ الحضاري؛ فإيرلندا دولة صغيرة؛ تعداد سكانها (5) ملايين نسمة؛ هي الأغنى عالمياً؛ ودخل الفرد فيها من الناتج القومي هو الأعلى عالمياً، وجواز سفرها يأتي بالمرتبة الخامسة دولياً وفقًا لمؤشر “جايد” لترتيب جوازات السفر Guide Passport Index، ويتيح جواز سفرها لحامليه إمكانية السفر بدون تأشيرة إلى (187) وجهة سفر حول العالم، مما يجعل هذه الجواز واحدًا من أكثر جوازات السفر المرغوبة في العالم. ([14])
وعندما انكمشت اقتصاديات العالم كلها أثناء جائحة كورونا؛ كان اقتصاد إيرلندا الوحيد في العالم الذي سجل نمواً! ويعدُّ اقتصادُها اقتصادًا معرفيًا، يركز على الخدمات في التكنولوجيا الحديثة، وعلوم الحياة، والخدمات المالية والأعمال التجارية الزراعية بما في ذلك الأغذية الزراعية. فأيرلندا ذات اقتصاد مفتوح؛ يحتل المرتبةَ السادسة في مؤشر الحرية الاقتصادية، وتحتل المرتبة الأولى في تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة عالية القيمة، كما تحتل في جدول نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، المرتبة الخامسة من أصل 187 في جدول صندوق النقد الدولي، والسادسة من أصل 175 في تصنيف البنك الدولي. ([15])
ويقدر نمو الناتج المحلي الإجمالي لأيرلندا بنسبة 12.2٪ فهي ذات اقتصاد يعدُّ الأسرع نموًا في الاتحاد الأوروبي. وفقًا لـ CSO وأصبح في العام 2022 الاقتصاد الأعلى في الاتحاد الأوروبي. ([16])
ففي دراسة قام بها أساتذة الاقتصاد الإسلامي بجامعة جورج واشنطن الأمريكية الدكتور شهرزاد رحمان، والدكتور حسين أسكاري، لقياس مدى التزام الحكومات والدول بـ«تعاليم الإسلام الاقتصادية»، ومن الصادم أن ترتيب الدول في هذه الدراسة لم تصل فيه أي دولة إسلامية إلى أول 30 مركزًا، واحتلت إيرلندا المركز الأول، تليها الدنمارك ولوكسمبورغ والسويد وبريطانيا في أول خمسة مراكز. استهدفت الدراسة قياس مدى التزام الحكومات والدول بـ «تعاليم الإسلام الاقتصادية»، من خلال (113 معياراً). ([17])
وقياساً عليها أعد الباحث البريطاني (بول هوسفورد) دراسةً علمية؛ نشرتها صفيحة (ذي جورنال) تبين بأن إيرلندا هي البلد الأكثر تطبيقاً للتشريع القرآني في العالم، متقدمةً على كل الدول الإسلامية! الدراسة شملت (208) دولة؛ بحسب معيار الإسلامية القائم على قواعد الإنجازات الاقتصادية والحقوق الإنسانية والسياسية! والعلاقات الدولية! وبنية السلطة التشاورية! وجاءت ماليزيا كأول دولة بين الدول الإسلامية بالمرتبة 33 متقدمة على كل دول الشرق البائس! والكويت بالمرتبة 48! والبحرين بالمرتبة 61! والإمارات في المرتبة الـ 64! والسعودية بالمرتبة 91! وقطر بالمرتبة 111 والسودان بآخر اللائحة. ([18])
علماً أنّ إيرلندا دولة لا تُقيم الشعائر الإسلامية؛ والشعائر جزء من الإسلام؛ وليست كله؛ ولا دليلاً كاملاً عليه، إنما العمل الصالح الذي ينتج تنميةً وتقدماً اقتصادياً؛ وحريةً سياسية؛ هو الدليل العملي على الإسلام؛ فالله لا يُعبد بالمساجد فقط.
وصدق الإمام محمد عبده عند عودته من منفاه بأوروبا؛ سألوه: كيف وجدتَ الغرب ومصر؟ أجاب: في الغرب وجدتُ إسلاماً؛ ولم أجد مسلمين! وفي مصر وجدتُ مسلمين؛ ولم أجد إسلاماً.
وفي الغرب يعيش اللاديني والمسيحي والمسلم واليهودي؛ وكل الملل والنحل بسلام وأمان؛ لأن هناك ضابطَ إيقاع يتمثل بالقانون المدني لا طائفي؛ يحترم تديُّنَ الجميع؛ وحيادياً معهم، ولا يتدخل بماهيةِ إيمانِ المواطن.
في العلمانية حل!
لذلك نقول بكل جرأة في العلمانية حلٌ، حلٌ لصراعاتنا الطائفية كسنة وشيعة، وحل لصرعاتنا المذهبية كسلفية وأشاعرة؛ وحل لأنها الحيادُ الإيجابي للدولة، وقوانينُها لصالح الجميع، ولا تفرق بينهم على أساس ديني أو طائفي. وعندما يقول تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ). اللام هنا في لا إكراه في الدين هي لا النافية؛ نافية للجنس. كقولنا: لا خبز في البيت. أي أن الدين والإكراه لا يجتمعان. والاكراه هو دور السلطة. أما الدين فيخضع للقبول الطوعي. هذا باختصار ما طرحه المفكر الراحل محمد شحرور رحمه الله. وهذا جوهر العلمانية؛ أي فصل الدين عن السلطة.
وعندما نقول بأن الفقه الإسلامي غير صالح لعصرنا؛ وندعو إلى القيم القرآنية، ففيها ـــ إضافة لما أنجزه العقل العلمي ـــ أسسُ النهض والتقدم والعلم؛ وعلى أساسها نستطيع أن نكون شرقاً سعيداً.
وهذا ما وصل إليه أهم مفكري اليسار في مراجعاتهم أمثال الياس مرقص وياسين الحافظ وجورج طرابيشي؛ عندما تحدثوا عن أهمية الدين كعامل نهضوي؛ وأشاروا إلى أن هذا التدين يحتاج إلى عقلانية ومعاصرة. ففي لقاء مع المفكر الياس مرقص سُئل: كنتم تناضلون في الخمسينات والستينات من أجل مجتمع اشتراكي؛ الآن في التسعينات ماذا تريد؟ أجاب: نريد بناء مجتمع فقط؛ وليختار ما يريد اشتراكي؛ أو غيره؛ ليس مهماً؛ المهم نكون مجتمعاً؛ وليس قطيعاً يساق. ([19])
الفقه الإسلامي أخطاء وخطايا!
الفقه الإسلامي؛ له أخطاء وخطايا؛ حصرها في هذه الورقة صعب جداً! حتى بات ولعاً بالتضيق على المتدينين؛ فالكبائر السبعة؛ جعلها الفقه الإسلامي سبعمائة، والمحرمات الخمسة عشر؛ جعلها 115 ألف محرماً، فضيق على الناس؛ علماً لا توجد آية في القرآن تقول تشددوا وعسّروا؛ إنما القرآن يقول:
يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. ([20])
فالفقه الإسلامي؛ يريد بنا العسر، ويدخل معنا إلى المرحاض؛ وغرفة النوم، ويحدد لنا ملابسنا الداخلية، وطول الثوب، وشعر اللحية، وآخر تحريماته؛ أنه أصدر فتوى بحرمة غسل اللباس الداخلي للذكور مع الإناث! إنه يتدخل بكل تفاصيل حياتنا الدقيقة كوصي راشد ونحن قاصرون!
فأصبح التضيّقُ والتعسيرُ سمةَ هذا الفقه؛ والخلافاتُ الفقهية عنوانَه! حتى أن الفقيه الكبير الشيخ “سيد سابق” صاحب أشهر كتاب فقهي معاصر “فقه السنة” اشتكى من تعنت وتضيق وتعسير الفقهاء على المتدينين بقوله:
وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسنة، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد، وصارت الشريعة هي أقول الفقهاء؛ وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعاً لا يوثق بأقواله؛ ولا يعتد بفتاويه؛ وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية؛ ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء مدارس؛ وقصر التدريس فيها على مذهب معين؛ مذاهب معينة…… حتى أنهم اختلفوا في حكم زواج الحنفية بالشافعي، وقال آخرون يصح قياساً على الذمية!…..فنزل الفقه إلى هوّة سحيقة؛ وأصبح الاشتغال به مفسدة للعقل والقلب؛ ومضيعة للزمن؛ لا يفيد دين الله؛ ولا ينظم حياة الناس. ([21])
وما يزال في الفقه الربا مبحثاً فقهياً مختلف فيه، لم يحسم حتى اليوم عند الفقهاء منذ 1400 سنة؟ حتى أن عمر بن الخطاب رُوِي عنه أنه ودَّ لو أن النبي لم يمت حتى وضح لنا أبواب الربا. ([22]) وهذا يدل على الخلاف العميق بين الفقهاء في الربا منذ الصدر الأول. وهل تعلم أن ربا الفضل حلال؛ وربا النسيئة محرم، والمسلمون لا يفرقون بينهما!
أما الزواج وهو الرباط المقدس إلهياً؛ فهو اليوم لأسباب طائفية ومذهبية؛ أصبح مشكلة اجتماعية كبيرة وخطرة، وذهب ضحيتَه آلافُ الضحايا لاختلاف الزوجين طائفياً! أو مذهبياً بسبب فتاوى الفقه الإسلامي عند هذه الطائفة وتلك! وآن الأوان لنقول: إن الزواج المدني اليوم هو الحل، لأنه يضمن حقوق الزوجية.
إذن 99% من الفقه الإسلامي اجتهاد بشري؛ هذا الاجتهاد البشري وُضِعَت له أصول قواعد؛ سُميت القواعد الفقهية وأصول الفقه، اعتمدت على مقاصد قرآنية، وغير قرآنية. بل كان واضعو الفقه الإسلامي يطلقون الحكم الفقهي أولاً؛ ثم يبحثون له عن تأصيل لشرعنته!
وعندما نتكلم عن الفقه الإسلامي؛ وننقده؛ فنقدنا له، يأتي بعد دراسة طويلة للمذاهب الأربعة، والفقه المقارن، والقواعد الفقهية؛ وأصول الفقه، وما نقدمه ليس جديداً؛ فقد تكلم به من قبل الشيخ مصطفى الزرقا في كتابه (الفقه الإسلامي ومدارسه) وهو من أهم الفقهاء المعاصرين. ([23]) وعبد الجواد ياسين في كتابه (السلطة في الإسلام) ([24]) وفرج فودة في كتابه (الحقيقة الغائبة). ([25]) ومحمد شحرور في كتابه (نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي) ([26]) والأستاذ محمود محمد طه في كتابيه (الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين) وكتابه (نحو مشروع مستقبلي للإسلام).
إنّ الفقه الإسلامي؛ استخدم آيات القرآن عضينياً؛ خارج سياقها ومحورها، فأنتج قواعدَ فقهية وأصولية وأحكام؛ وبعضُه مأخوذ من أحاديث نبوية؛ ثبت عدمُ صحتِها، وغالبية هذه القواعد الفقهية؛ جاءت من أعراف اجتماعية؛ وأوضاع سياسية، وأسباب طائفية. ضيَّقت على الناس في معاشهم وعلاقاتهم وهواياتهم.
حتى قال الماوردي: الفتوى نوعان: فتوى بُنيت على نص (قرآني أو حديث نبوي) وفتوى بُنيت على عرف. ([27])
ونحن كتيار تنويري؛ نظن بأن ما يُسمى بالسنة النبوية؛ ما صح منها؛ فهو زمكاني لا أبدي؛ وما نهت زمكاني، بدليل أن المحدثين وضعوها في باب النهي لا التحريم. وبالتالي لا تصلح كمادة للتشريع في عصرنا ودولنا.
إذن الفقه القرآني رباني المصدر، وملزم لمن يؤمن بها، والفقه الإسلامي بشري غير ملزم. فالمحرمات القرآنية أبدية، لا يرفضها حتى غير المؤمن، والمنهيات هي ظرفية زمكانية، أشبه بقانون الطوارئ.
سيعترض علينا بعضهم بأن أولى المحرمات القرآنية هي عدم الشرك بالله؛ نجيب، أولاً للمسيحية لاهوتها؛ ولليهودية لاهوتها؛ وللمسلم لاهوته في هذا الجانب، ولا تجعل فهمك حاكماً على إيمان الآخرين. ثم إن الله ﷻ هو الذي يفصل في هذه القضايا يوم القيامة، وليس أنت! أو شيخك، فهذه القضايا يترتب عليها دماء عشرات الآلاف من المؤمنين؛ واسمع إلى قوله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ (الزردشتية) وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. ([28])
وما سوى المحرمات الإلهية فإن السلطة التشريعية؛ تضع لنا قوانينَ خادمةً للمواطن والمجتمع والدولة، يلتزم بها الجميع، وهي قابلة للتغير والتبديل بحسب حاجات المجتمع. ولا نتحدث هنا عن تشريع العبادات كالصلاة والصوم والحج والزكاة؛ فهذه مسائل قُتلت بحثاً. إنما عن التشريع الذي انتجه الفقه الإسلامي بمذاهبه المتعددة؛ فهو إنْ كان صالحاً في أمور العبادات؛ ولكن في الأمور المعاشية غير صالح لعصرنا، ولا لمجتمعاتنا. إنّ هذه المذاهب الفقهية كانت سبباً في مشاكلِنا الاجتماعية؛ وحروبِنا الأهلية، والتكفيرِ والتفجيرِ، آن الأوان لنتجاوزها في مسائل المعاش، والاجتماع، والاقتصاد، والسياسة.
ما هي حدود الله في القرآن الكريم؟
الحلال هو الأصل؛ والتحريم طارئ، والله ﷻ هو من يحرم فقط. وأكد سبحانه على أصل التحليل قائلاً:
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً. ([29])
فكل ما في الكون حلال؛ وجاءت آيات المحرمات؛ لتقيد الحلال. وحتى لا يتنطع علينا متنطع؛ قائلاً: إننا نتجاوز حدود الله. نقول: حدود الله ذُكرت في القرآن 12 مرة وهي تتحدث عن العلاقة الأسرية تحديداً، أي عن حقوق الأسرة؛ فحدود الله في القرآن هي حقوق المرأة، راجعوها؛ واقرأوا القرآن.
الخاتمة:
الإصلاح الحقيقي، والثورة الحقيقية تبدأ بالاعتراف أن معارفنا الثقافية والفكرية ونمط تربيتنا وكثيراً من أيديولوجياتنا؛ لم تعد صالحة لتطور المجتمع ولا لبناء دولة حديثة؛ وعقبة أمام السلم الأهلي.
وعلينا أن نبحث بجدية عن معارف معاصرة ومؤنسنة؛ تخرجنا من كهف طال رقودنا فيه؛ ومن جُبٍ استمتعنا بالغرق فيه.
إن الشريعة القرآنية جاءت بالصدق والأمانة؛ والعفاف والعدل؛ والتكافل الاجتماعي والوطني؛ وأمرت بكفالة اليتيم؛ ورعاية الأرامل؛ ونادت بصلة الرحم ونشر العلم ومحاربة الجهل؛ وأمرت بالسلام والشورى، وباركت كل عمل إنساني؛ إنها الشريعة التي أمرت الجميع قائلة:
وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ. ([30])
نعلم جيداً بأن ما نقوله هنا صعب على بعضهم، وهذا طبيعي، ففي المجتمعات التي تقدس الجهل، يكون الوعي زندقة! والذين يخشون على تراثهم الفقهي والمرويات من النقد هم الذين لم يقرأوا قط، وإنْ قرأوا لم يُعْملوا عقولهم، أو خائفون على مسلماتهم الخاطئة من أن تنكشف عوراتها.
وختاماً نقول للسلفيين: الأحكام الفقهية أقوال ثابتة؛ والوقائع والنوازل متغيرة ومتجددة، وتثبيت الواقع بأقوال مرَّ عليها ألف سنة أو تزيد؛ مستحيل! فإما أن نثبت المتحرك؛ وهذا مستحيل؛ لذا علينا أن نتجاوز الثابت؛ ونجتهد للمتحرك.
ونقول للفقهاء والمشايخ: إن الدولة ذات الرأسين؛ أي ذات المرجعيتين؛ دولة فاشلة، ويجب أن تكون هناك مرجعية واحدة؛ يحتكم إليها المواطنون كلهم، متدينين وغير ومتدينين.
ونقول للجهادين: الجهاد الحقيقي هو جهاد البحث العلمي؛ والاختراع؛ والابتكار؛ وليس التكفير والتفجير والتنفير. الله محبة، وليس ذريعة لإراقة دماء عباده.
ونقول للإسلام السياسي: إن المضي بفكرة أن الإسلام دين ودولة؛ هي زجٌّ لأبنائنا في أتون حرب؛ أكلت أرواحهم خلال مائة عام؛ فشلتم في كل معاركها، ولا مكان في عصرنا للدولة الدينية، إنما لدولة المواطنة المدنية؛ الناس فيها مواطنون لا ذميون.
ونقول لخصوم التنوير: كلما جئنا بفكرة قرآنية؛ تخالف آباءكم الأوليين؛ قلتم أحدثتم في الدين، فتعترضون علينا؛ وتستهزئون بنا؛ نرد عليكم بالقرآن:
وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ. فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون. ([31])
وعلينا أن نفرق بين الإسلام كدين؛ وتاريخ المسلمين؛ فتاريخنا ليس ديناً؛ ونفرق بين الشريعة القرآنية والفقه الإسلامي؛ ونقد التاريخ واجتهادات الفقهاء واجب نهضوي.
ولقد ثبت أنّ الدولة المحايدة دولة المواطنة؛ هي الأكثر عدلاً مع مواطنيها؛ فإذا كانت المواطنة مقصدها العدل فالإسلام لا يكون إسلامًا إلا بالعدل. وإنْ كان المقصود بها التكريم الآدمي؛ فالقرآن أول من حث على هذا، وأمرنا أن نحكم بين الناس لا على الناس بالعدل.
فالدين لله والوطن للجميع.
هوامش
[1] ـ قرآن كريم: سورة المائدة: 44.
[2] ـ معنى عضينياً؛ أي أن الآية مجتزأة من سياقها لتوظف توظيفاً مخالفاً لسبب نزولها؛ وبذا جاء قوله تعالى في سورة الحجر: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ. فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ.
[3] ـ قرآن كريم: سورة المائدة: 44 ـــ 47.
[4] ـ راجع تفسير المحور كاملاً في تفسير الطبري وابن كثير والقرطبي وغيرهم، حيث تؤكد التفاسير على خصوصية الآيات ببني إسرائيل تحديداً.
[5] ـ راجع في معاجم اللغة العربية مادة (كفر).
[6] ـ سورة البقرة: 62.
[7] ـ سورة المائدة: 69.
[8] ـ إنجيل متى: (5: 17).
[9] ـ د. عبد الجواد ياسين. السلطة في الإسلام، العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ. الجزء الأول. ص: 9. مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
[10] ـ سورة البقرة: 185.
[11] ـ سورة الحج: 78.
[12] ـ سورة البقرة: 256.
[13] ـ سورة الكافرون: 6.
[14] ـ ترتيب جواز سفر أيرلندا عالمياً. https://visaindex.com/ar/country/ireland-passport-ranking/
[15] ـ Ireland named best country for high-value FDI for sixth year in a row”. Irish Time
[16] ـ https://www.theportugalnews.com/ar/nieuws/2023-01-31/irish-economic-growth-in-2022-estimated-highest-in-the-eu/74351?cat=ireland
[17] ـ https://www.alukah.net/culture/0/79874/%D8%A5%D9%86%D9%87%D9%85-%D9%8A%D8%B5%D9%86%D9%81%D9%88%D9%86%D9%86%D8%A7/#ixzz87pzslBtP
[18] ـ موقع حقائق أون لاين: ايرلندا الأكثر التزاما بتعاليم القرآن…والدول العربية في آخر الترتيب!
[19] ـ جاد الكريم جباعي: حوار العمر مع الياس مرقص. دار حوران للطباعة والنشر. ط: 1999.
[20] ـ سورة البقرة: 185.
[21] ـ سيد سابق: فقه السنة. مقدمة الكتاب. ص:12. دار الحديث القاهرة. ط:1. 1425 ه/2004 م.
[22] ـ حديث موجود مروي في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال: وددتُ لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يَمُتْ حتى يبين لنا أموراً ثلاثة؛ الجِد والكَلالة وأبواب من أبواب الربا.
[23] ـ الشيخ مصطفى الزرقا: الفقه الإسلامي ومدارسه. دار القلم. دمشق. في بداية كتابه.
[24] ـ عبد الجواد ياسين: (السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ). مؤسسة مؤمنون بلا حدود. ج:1. الطبعة الأولى.
[25] ـ فرج فودة: الحقيقة الغائبة. در الفكر للدراسات والنشر.
[26] ـ د. محمد شحرور: نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي. دار الساقي. الطبعة السادسة.
[27] ـ أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري الماوردي: الأحكام السلطانية والولايات الدينية. مكتبة دار ابن قتيبة الكويت.
[28] ـ سورة الحج: 17.
[29] ـ سورة البقرة: 29.
[30] ـ سورة المائدة: 2.
[31] ـ سورة الشعراء: 5 ــ 6.