الملخص التنفيذي:
يهدف هذا البحث إلى استكشاف وتحليل العلاقة المعقدة بين الدين والحكم السياسي، في عالم يتزايد فيه التداخل بين الدين والسياسة، من خلال منظور تاريخي وثقافي متناولاً الأبعاد المختلفة لهذا التفاعل، بدءًا من النصوص الدينية وصولاً إلى تطبيقاتها العملية في مختلف الأنظمة السياسية.
ويسعى هذا البحث إلى تقديم إسهامات معرفية تثري الفهم الأكاديمي لهذه القضية الحيوية عبر فهم كيفية تأثير الدين على السياسة والعكس، مع التركيز على تحليل الدور الذي يلعبه الدين في تشكيل السياسات والمعتقدات السياسية.
ويستند البحث إلى منهجين هما الوصفي والتاريخي مستخدماً أداتي الملاحظة وتحليل النصوص والوثائق الخاصة بموضوع البحث، المتمثل بموقف الدين من السياسة، وآثاره التي انعكست على المجتمعات بشكل عام، حيث سيحاول الإجابة على عدة تساؤلات عن علاقة الدين عموماً بالسياسة من حيث الثبات والتغير، ومن حيث التأثير وكيفيته، وعلاقة الإسلام بالسياسة بشكل خاص والمراحل التي مرت فيها العلاقة والرؤى التي نظمتها، وذلك للوصول إلى نتائج يبنى عليها وتوصيات تفتح أفاق جديدة للعلاقة بين الدين والدولة بما يحقق رضا الفرد وأمن وسلامة المجتمع.
هذا كله تتم مناقشته من خلال المحاور التالية:
- المدخل
- أنواع العلاقة بين الدين والسياسة
- العلاقة التصالحية بين الدين والسياسة
- العلاقة الاستغلالية بين السلطة والدين
- العلاقة العدائية بين الدين والسلطة
- التيارات الدينية والسياسة في شرقنا البائس
- التيار السلفي ومدارسه
- السلفية العلمية
- السلفية المدخلية
- السلفية المتوحشة (القاعدة وداعش)
- المشترك بين أنواع السلفية
- حزب التحرير بين السلطة والسياسة
- جماعة الإخوان المسلمين
- الشيعة الجعفرية الإثني عشرية
- النتائج والتوصيات
- الخاتمة
المدخل:
إن العلاقة بين الدين والسياسة علاقة جدلية مستمرة وقديمة قدم الدين والرسالات السماوية وأديان ما قبل التاريخ، وهذا الجدل يعود لنوعية الدور الذي جاء الدين لتجسيده على أرض الواقع، ولنوعية السلوك الذي انتهجه المتدينون استناداً إلى انتمائهم للدين. فقد تكون العلاقة بينهما علاقة تصالحية تؤدي إلى تحقيق مصالح البشر وإسعادهم في الدنيا، وقد تكون علاقة استغلالية يستغل الساسة الدين ورجاله من أجل أن يحققوا أطماعهم ومآربهم ومن أجل تخدير الشعوب وقد تكون علاقة تصارع وتقاطع.
وهكذا تتنوّع أشكال العلاقة بين الدين والسياسة بتعدّد المقاربات الخاصة لكل منهما، واختلاف السياقات المجتمعيّة لهما. فالسياسة هي خدمة الشأن العام بهدف تحقيق المصلحة المشتركة لأبناء الوطن الواحد، والسعي نحو الخير العام وطنيًّا وعالميًّا.
لكن السياسة بالوقت نفسه هي صراع قاسٍ على السلطة، لتمثيل الأوطان وإدارة شؤونها باسم التفويض المعطى من الشعب؛ أما الدين فيُمثّل حقيقة روحيّة مبنيّة على الإيمان بالله، أو القدرة الماورائيّة التي أوحت للناس عن معنى حياتهم، وسبل تحقيق غاية وجودهم، والتعبير عن ذلك، ليس عبر قناعاتهم العقَدِيّة، واختباراتهم الروحيّة، وممارساتهم الطقوسيّة والعباديّة وحسب، بل أيضًا عبر مواقفهم وتصرفاتهم والتزاماتهم في الحياة الاجتماعيّة.
فمَن لا يَرَ أيَّ بُعد اجتماعي للدين يطول الحياة في المجال العام والعلاقة بالآخرين، فقد يعتقد أنّه لا توجد أية علاقة بين الدين والسياسة، ويعمل على أساس ذلك؛ دعاةُ العَلمنة -أو كما يقول بعضهم “العَلمانيّة الراديكاليّة” يتبنّون هذا الموقف، ويسعون إلى الدفاع عنه سياسيًّا وقانونيًّا واجتماعيًّا. فيذهب هؤلاء إلى درجة اعتبار حملِ الأفراد لرموز دينيّة من مثل الصليب لدى الشخص المسيحي، أو الحجاب من قبل المرأة المسلمة، انتهاكًا لعلمنة الفضاء العام الذي لا يحتمل بنظرهم أية تعابير ذات طابع ديني. (1)
لا شكّ أنّه في الخلفيّة الإيديولوجيّة لهذا الموقف، يوجد حذر من الدين وكأنّه يحمل بذاته بذور التفرقة، واتِّجاهًا يُعاكس ديناميّة الترابط الاجتماعي، والسلم الأهلي، ووحدة الكيان السياسي الوطني. فلذلك، يسعى دعاة العلمنة الراديكاليّة إلى تأكيد حصر الدين في المجال الخاص، أي في المنزل، وداخل المسجد، والمعبد، والكنيسة، ورفضِ أيِّ وجود أو امتداد له في المجال العام، كالشارع، أو المدرسة، أو المؤسّسات العامة، وتُعبّر عن هذا الموقف المقولة الشهيرة في بعض المجتمعات العربيّة: “الدين لله، والوطن للجميع”. (2)
قد يلتقي مع دعاة العلمنة الراديكاليّة فئة من المتديّنين، الذين -بحجّة الحفاظ على نقاوة الدين- يرفضون أيضًا أيّ تماسٍّ وعلاقة بينه وبين السياسة. ينطلق هؤلاء من موقف متشدّد دينيًّا يدّعي المحافظة على طهوريّة الدين من جهة، وينظر من جهة أخرى إلى السياسة على أنّها مقترنة بالفساد والصراعات، التي لا تنسجم مع الضوابط الأخلاقيّة للدين.
يؤدّي هذا الموقف عمليًّا إلى تخلّي هذه الفئة من المتديّنين عن المشاركة في الحياة العامة والتعاطي في الشؤون السياسيّة، لكيلا يُورّطوا أنفسهم في مواقف تتعارض مع قيمهم الروحيّة، أو معتقداتهم الدينيّة. فهم أيضًا راديكاليّون، باعتبارهم الدينَ حقيقةً تتعالى عن واقع الحياة الطبيعي.
وهناك بالعكس، ثمّة من يعتقد أنّ الدين الذي يعتنقه، يشمل رؤية وتعاليم حول الشأن العام، وكيفيّة إدارته، يَنتِج من هذا الموقف صراعٌ على السلطة السياسيّة باسم الدين، وأحزابٌ دينيّة تقول بأنّ دينًا معيّنًا يحمل الأجوبة الناجعة لمختلف مسائل الحكم، كمقولة “الإسلام هو الحل”.
وينقسم هؤلاء إلى فئتين: واحدة تقول بأنّ الوصول إلى السلطة، لتطبيق تعاليمها الدينيّة في الحياة السياسيّة، يجب أن يَعبُر بالوسائل الديمقراطيّة، حيث يكون ذلك تعبيرًا عن إرادة الشعب.
وفئة أخرى قد تدّعي بأنّ وصولها إلى الحكم لا يرتبط برأي الشعب، بل هو فريضة إلهيّة يجب أن تتحقّق، ليس باسم الشعب، بل باسم “حاكميّة الله”، على مختلف تفاصيل الحياة. فيصبح هؤلاء المدّعون تطبيقَ أحكام الله على المجتمع والناس، متسلّطين على الحياة، وقامعين للحريات وتنوّع المواقف والآراء والمعتقدات، باسم احتكارهم لمعرفة الحق الإلهي، وسلطة تطبيقه على الجميع. وقد دلّت التجارب القديمة والحديثة، لهذه المقاربة المرتبطة بهذه الديانة أو تلك، على أثرها السلبي في المجتمع والدين معًا.
بين العلمنة الراديكاليّة، والسياسة الدينيّة الشموليّة، توجد مقاربة ثالثة للعلاقة بين الدين والسياسة. تعترف هذه المقاربة باستقلاليّة الحكم والسلطة السياسيّة عن أيّة مرجعيّة دينيّة، لكونها تنبثق من الشعب وخياراته المرتبطة بمصالحه العامة، وليس بانتماءات أفراده الدينيّة من جهة. ومن جهة أخرى، تقرّ بحضور الدين في الحيّز العام، ليس كمنظومة طائفيّة أو جماعويّة منغلقة، بل عبر أتباعه، كأفراد ومواطنين يتمتّعون بحريّة المعتقد، والفكر، والتعبير، وبالتالي بحقّ التعبير عن مواقفهم السياسيّة، انطلاقًا من قناعاتهم الإيمانيّة. (3)
يبقى أن معيار صحّة هذا الخيار الثالث، يكمن في إسهامه في تطوير خطاب سياسي، قابل على حدّ سواء للنقد، وللشراكة مع الآخرين، بهدف خدمة مصلحة المواطنين المشتركة، إضافة إلى اعتبار المجتمع والمجال العام خيرًا عامًّا، أسمى من أن يهيمن عليه أيّ فرد، أو فريق، أو سلطة، تحت أيّ مسمّى كان.
أنواع العلاقة بين الدين والسياسة (4)
العلاقة التصالحية بين الدين والسياسة:
قد تكون العلاقة بين الدين والسياسة علاقة تصالحية توافقية عندما يكون الدين حاكماً على الحكام والمحكومين فلا يستطيع الحاكم المستبد ظلم واستغلال الشعوب ونهب ثرواتهم لأنه يعلم بوجود جهة رقابية تراقب وتضبط تصرفاته وأعماله وقراراته وسلوكه ويلتزم المحكومين حدودهم، فلا يتعدوها فهم يعرفون مالهم وما عليهم من حقوق وواجبات وبذلك تتحقق المصلحة لهم في دنياهم لأن السياسة في هذا المقام؛ تعني فعل ما هو الأصلح لهم.
وقد قال الإمام الغزالي:” الدين أصل والسياسة حارس وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع”، ومن خلال هذه العبارة الموجزة عبر عن العلاقة التي يجب أن تكون بين السياسة والدين، فالسياسة هي التي تحمي الدين بين البشر؛ وتضمن تطبيق قيمه وأحكامه بالعدل بين الناس فلا ظلم ولا نهب ولا استغلال ولا استعباد؛ والدين هو المرجع والأصل للحاكم والمحكومين الذي يجب الرجوع إليه والاحتكام له. (5)
وقد شهدنا صوراً تطبيقية فريدة عندما كانت العلاقة بين الدين والسياسة علاقة تصالحية تكاملية في عهد الخلافة الراشدة حين عبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن ذلك بعبارته الشهيرة، (لو عثرت دابة في العراق لخفت أن يسألني الله عنها لأني لم أعبد لها الطريق)، وعندما طلب الصحابة ترشيح عبد الله بن عمر ليتولى الخلافة بعد عمر قال: “يكفي من آل الخطاب واحد”.
العلاقة الاستغلالية بين السلطة والدين
العلاقة الثانية هي علاقة استغلال من رجال الساسة للدين وأهله حيث إنهم يستخدمون الدين من أجل تحقيق أطماعهم ومآربهم ويطوعون النصوص من أجل شرعنة أفعالهم وتصرفاتهم ويأمرون رجال الدين بإصدار الفتاوى التي تحقق وجودهم، وهذه العلاقة الاستغلالية كانت سبباً في رفض عدد من الناس الدين لأنهم يرون أن الدين هو أفيون الشعوب ومخدر الجماهير، فالحاكم يستخدم الدين من أجل شرعنة الاستبداد والقتل والسرقة وهذا ما جعل بعض العلماء يبتعدون عن السياسة؛ ويستعيذون من ممارستها لأنهم رأوا تلك الصورة المقيتة في استخدام الحكام للعلماء ورجل الدين وكم شهدنا من علماء انحرفوا عند أبواب الحاكم وفي بلاط الملوك؛ فشرعنوا لهم حكم المتغلب والقهر والظلم باسم الدين فسبب ذلك ثورات كبيرة على الدين وكان سبباً رئيساً في المطالبة بفصل الدين عن الدولة والدعوة إلى العلمانية كحل في السياسة.
وهو ما ناقشه الكاتب يوسف عبد العزيز القرشي في دراسة تحليلية عن العلاقة بين الإسلام كدين والسلطة السياسية، وكيف تتبدل هذه العلاقة في سياقات مختلفة. (6)
العلاقة العدائية بين الدين والسلطة
وأما العلاقة الثالثة فهي العلاقة العدائية بين الدين والسياسة والسلطة؛ وقد نشأت هذه العلاقة بعد الثورة الفرنسية حيث طالب الثوار بإقصاء الدين عن السياسة وإبعادها عن مناحي الحياة؛ وذلك لأنهم شهدوا تزاوج الكنيسة مع الحكام فأنتجت حكماً استبدادياً شمولياً باسم الإله، وأنتجت محاربة للعلم وأهله باسم حماية الدين؛ وشهدت على إعدام الكثير بتهمة الهرطقة.
وقد سرت هذه العلاقة المتوترة العدائية من المجتمعات الغربية إلى المجتمعات الإسلامية بحجة أن الفصل بين الدين والسياسة هو الحل لتطور المجتمعات وتقدمها، وأن الدين هو سبب التخلف والظلم والاستبداد وبقيت هذه العلاقة المتوترة إلى يومنا هذا، فالصراع لا يزال قائما في مجتمعاتنا حول تحكيم الشريعة وحول مرجعية الشريعة في الدستور.
ويستدل أصحاب هذا القول على بيانات واستقصاءات تفيد أن التدين يواصل تجذره في المجموعات السكانية الأكثر هشاشة، خصوصًا في الأمم الفقيرة والدول الفاشلة، بينما تجد تلك الدراسات أن الشرائح الأكثر ازدهاراً في الدول الغنية فقد حدث لها تآكل ممنهج في الممارسات والقيم والمعتقدات الدينية. (7)
ولكن لهذه العلاقة الثالثة ما يدحضها من الأمر الواقع، فالناظر في حال المجتمعات الإسلامية قبل الثورة الفرنسية يشهد أن العلاقة بين الدين والسياسة هي علاقة تصالحية تكاملية! فلم يكن الدين سبباً من أسباب تخلف المجتمعات؛ ولم يكن سبباً من أسباب الجهل، بل على العكس لقد كان الدين في كثير من الحكومات الإسلامية المتعاقبة عاملاً مهما لنشر العلم وظهور العلماء المسلمين وإفادة الحضارات من علومهم في الطب والفلك والأدوية وعلم الاجتماع ولقد كان الدين عاملاً مهما في ضبط الحكام المستبدين، فقد كان للدين هيبة واحترام في نفوس الحكام تحد من ظلمه واستبداده؛ وإن كان الحاكم متمسكاً بالدين وأحكامه تجعل من هذا الحاكم مضرب المثل في العدل والتقوى والورع والنزاهة؛ والتاريخ الإسلامي يشهد بأن الدين عندما ابتعد عن السياسة كان سبباً في الظلم والاستبداد، وعندما كان الخليفة متمسكاً بالدين وقيمه كان سببا في تقديم نماذج فريدة للعدل والأمانة. (8)
التيارات الدينية والسياسة في شرقنا البائس: (9)
التيار السلفي ومدارسه
بدأ الكلام عن السلفيين يتردد في أجهزة الإعلام العربية بشكل ملحوظ بعد انطلاق الربيع العربي، حيث كان الاهتمام بالإسلاميين من قبل ينصب حول الإخوان المسلمين والجهاديين، ورغم أن الحديث غالباً ما يدور عنهم بشكل سلبي إلا إن هذه الظاهرة تعني أن للسلفيين وجوداً قوياً على الأرض؛ وأن مناخ الحرية الذي بدأت بعض البلدان العربية تتمتع به بعد الثورة؛ سيعطيهم الفرصة لاكتساب المزيد من الظهور والمشاركة؛ وهو ما يقلق العديد من الأطراف، وما يهمنا الآن هو كيفية تعامل التيار السلفي مع الواقع الجديد والاستفادة منه وعدم التقوقع من جديد أو قصر الاستفادة من هذا الواقع على بعض الانشطة التقليدية من حلقات ودروس وندوات؛ التي طالما مارسها السلفيون كلما أتيحت لهم الفرصة، حيث عانوا في بعض الفترات من قمع حرمهم من ممارسة أبسط حقوقهم الدعوية.
نعرض هنا الفكر السلفي المعاصر برؤية نقدية علمية، رغم أن مشايخ وأبناء هذه المدرسة في الغالب يكبُر عليهم النقد، ويرفضون التعرّض لهم بالتّصحيح والتصويب، لأنهم يعتقدون عصمة منهجهم من الأخطاء، وأن النجاة فيه وحده، وأنّ الهلاك في غيره، ويمكن القول إن هذا التيار الإسلامي هو أكثر التيارات تخبّطاً وتذبذباً وتناقضاً في باب السياسة.
أولاً يجب التذكير بأن السلفية أطياف ثلاثة، وهذه الفرق الثلاثة (العلمية والمدخلية والدواعش ومشتقاتها) يتفقون في أكثر الأصول والقناعات والأفكار، ويختلفون في أخرى، وأكثر ما يختلفون فيه هو السياسة، بقضاياها الشائكة المعقدة، فبالرّغم من اتفاقهم على أن الإسلام دين ودولة، وعقيدة وشريعة، وأنه مستوعب لكل مجالات الحياة، إلاّ أنّ هذا الأصل يتعامل معه السلفيون بطرق ومواقف متباينة، كلّ على حسب هواه، وكلّ بحسب مشربه، ونبدأ بعرض الفئة الأولى: (10)
السلفية العلمية:
اعتبروا أن السياسة أمر ثانوي، فلا يهتمون بها كثيرًا، بل هي مضيعة للجهد والوقت، وربما كانت عندهم صورة من صور الانشغال بما لا يعني! في الوقت الذي يشهدون فيه للإسلام بأنه دين ودولة! وأنه صالح لكل زمان ومكان! وغفلوا عن أن السياسة من الدين، وأن العلمانية التي يكفرون بها، ويكفّرون من تبنّاها، قد وقعوا فيها دون أن يشعروا، وذلك بانفصالهم عن الشأن السياسي، والابتعاد عن الخوض فيه، والتحذير من ذلك! والحق أنّ هؤلاء قد رفضوا العلمانية شكلاً، ووقعوا فيها مضمونًا، بل يمكن أن أقول إن السلفية العلمية “علمانية“ بحتة في باب السياسة! وذلك على مستوى مواقفهم أو تنظيرهم وسلوكهم، والأدهى من ذلك أنهم نعتوا الأنبياء عليهم السلام بهذا التوجه، فيقولون: الأنبياء دعوا إلى الله، ولم ينشغلوا بالسياسة!
رغم أن قول الله تعالى في كتابه واضح: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ. ص:26.
وقوله تعالى عن يوسف عليه السلام: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. يوسف:22.
بل جميعهم آتاهم الله حكماً وعلماً، حتى ولو كان صغير السن؛ كما هو شأن يحيى عليه السلام حيث قال تعالى عنه: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا. مريم:12.
وعن موسى عليه السلام: آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ. القصص:14.
كما أن الرسل عملوا بالسياسة، فالخليل إبراهيم قد واجه النمرود؟ كما قال سبحانه:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. البقرة:258.
أو ليس الذي يتصدى لدعوة الرسل دائماً هم الزعماء والكبراء؟ كما في قوله تعالى المتكرّر عن كل المرسلين (قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ) ومن هم الملأ؟ إنهم السادة والأشراف وأصحاب النفوذ، الذين تتعارض دعوة الرسل مع مصالحهم الشخصية والسياسية!
هؤلاء يجهلون هذه العداوة بين النبيين وبين الساسة الفاسدين، الذين هم أول من يقف حجر عثرة في طريق الإصلاح، كما يلزم على رأيهم: أن دعوة الرسل إنما هي مجموعة مسائل من الروحانيات، واقناع الناس بوجوب عبادة الله وحده، مختزلين معنى العبادة في الركوع والسجود والدعاء والاستغاثة ونحوها، دون الحكم والتحكيم مع أنه أيضاً من صميم العبادة والتوحيد، أي توحيد الألوهية، لقول الله عز وجل:
إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ. يوسف:40.
وقد سبق التنبيه على خطئهم في التفريق بين الربوبية والألوهية في مقام الحاكمية، وأنهم فرّقوا بين لفظ (الرب) و(الإله) مما أوقعهم في هذا النوع من التساهل في هذه المسألة العقائدية الخطيرة! وكما أنهم يشنعون على من أشرك بالله في نوع من أنواع العبادات الخاصة؛ فليشنعوا أيضاً بنفس المقدار على من أشرك بالله في الحكم، لأنه تعالى يقول: مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا. الكهف:26. والنهي هنا بصيغة الخبر؛ هو أبلغ من النهي الصريح!
ومن مطبّات هذا التيار، خطأهم في تأويل النصوص التي تتضمن المسائل السياسية في الغالب، وإخراجها عن سياقاتها، كتأويلهم قول النبي ﷺ (عليكم بالسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي رأسه كأنه زبيبة …) فهنا تأوّلوا الحديث على أن رسول الله ﷺ عمّم وجوب طاعة الحكام كلهم؛ حتى ولو لم يكونوا أهلاً للحكم! وهذا تحريف خطير، لأن رسول الله ﷺ قرر ذلك في سياق معين؛ وهو التأسيس لمبدأ الطاعة عند العرب، الذين كانت حياتهم فوضى، ولا يعترفون بأي نوع من أنواع السلطة، ولم يكونوا يخضعون للملوك في غالبهم، وكانوا يرون أنفسهم أنهم أشرف الناس وأكرمهم، فأراد النبي ﷺ أن يبين لهم وجوب طاعة الحاكم ولو لم يكن عربياً! فأين هذا من ذاك الذي ذهبوا إليه في كلامهم؟
السلفية المدخلية
هؤلاء جاوزوا الفريق الأول تنظيراً وتطبيقاً، وصاروا بعقيدتهم ومنهجهم وسلوكهم دروعاً للطغاة، وأبواقاً للأنظمة المستبدة في شرقنا البائس، يشرعون لهم جبروتهم، ويبيّضون جرائمهم، وفي الوقت نفسه، هم حرب على العلماء والمصلحين الذين يختلفون معهم، بدعوى التصدي لأهل البدع، وهذا بدا واضحاً في انحيازهم لأنظمة الحكم اليوم. وكما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: ما وقع قوم في بدعة الا استحلوا بعدها رفع السيف.
وهؤلاء المداخلة هم سليلو الطائفة الأولى لأنهم يستدلون بنفس الأدلة، غير أنهم أشجع في موقفهم منهم! ولهذا يمكن اعتبار السلفية العلمية من هذه الزاوية قد نظّرت، والمدخلية قد طبّقت!
وهذا النوع من السلفية، أصبح واضحاً ومعروفاً اليوم لغالبية المسلمين أكثر من أي وقت مضى، فأولئك هم أنفسهم من أيد ثورات الربيع العربي في البداية، ودعموها؛ وداروا البلاد وكبروا وهللوا لها؛ ودعوا لنصرة الشعوب العربية الثائرة؛ ثم عادوا وانقلبوا عليها، وبدأوا يصفونها بالفتنة والإرهاب عندما تغيرت سياسة حكوماتهم، وتراجعوا حتى عن فتاويهم القديمة إرضاءً للسلطات.
السلفية المتوحشة (القاعدة وداعش)
هؤلاء على عكس الفريقين الأولين، لا يرون صلاحًا ولا إصلاحًا إلا بخلع هذه الحكومات العربية بلا استثناء، لأنهم يكفرونهم عن بكرة أبيهم، ويصفونهم بوصف (الطاغوت) هكذا بإطلاق وبلا قيود، بل تعدوا إلى كل من يعمل في أي سلك حكومي، وغلاة غلاتهم يكفرون حتى الشعوب، لأنهم في نظرهم رضوا بحكم الكفر، ومن لم يكفر من كفره الله ورسوله فهو إذن كافر مثلهم!
هم في الواقع الابن العاق للسلفية، ويكفي أنهم انطلقوا من تكفير تارك الصلاة، التي هي فتوى مشايخ السلفية العلمية، والتي ترتب عليها سائر المواقف والتصرفات كلها، ناهيك عن الأخذ بأشد الأقوال في مذهب الحنابلة، وزادوا على ذلك غلوًا وتطرّفا. (11)
المشترك بين أنواع السلفية
هناك عامل مشترك بين كل أنواع السلفية التي تم ذكرها، أعلاه وهي أنهم لا يؤمنون بالديموقراطية لأنها كفر باعتبار أن الديموقراطية حكم الشعب والحكم يجب أن يكون لله.
ويمكن القول إن هذه الكلمة حق أريد بها باطل، فالديموقراطية فيها الصواب وفيها الخطأ، وفيها الحسن وفيها القبيح، ويجب الإنصاف في الحكم على الأشياء، فكوننا نقول إن الحكم لله، فهذا لا يعني أن حكم الشعب سيكون دائما معارضاً لحكم الله، لان الله تعالى فوّض للناس الحكم في أشياء كثيرة، كقوله تعالى في جزاء الصيد:
يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ. المائدة :95.
وقال في مقام الإصلاح بين الزوجين: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا. النساء:35.
وقال رسول الله ﷺ:(لا تجتمع أمتي على ضلالة) وهذا حكم الكل، فالإجماع حكم الناس وليس حكم الله، ولكن شرع الله يصادق عليه! فإذن يجب التمييز والإنصاف.
ويوجد مشترك آخر بين فئات السلفية الثلاثة السابقة؛ وهو أن معظم منظريها ومنتسبيها لا يرى مشروعية تكوين الأحزاب الإسلامية لأن التحزب يتصادم مع قول الله تعالى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً. الأنبياء:92.
حزب التحرير بين السلطة والسياسة
يرفض الحزب الديمقراطية ويعتبرها كفراً، كما يدعو للتغيير الجذري ويرفض التغيير المرحلي، ويدعو لإقامة دولة الخلافة في كل العالم الإسلامي؛ وقد أعد دستوراً خاصاً لها يعتمد على التقسيمات والآليات التي اعتمدت تاريخياً مثل تقسيم الولايات والامراء والولاة، ويعتمد على نظرية خاصة في التغيير تقتضي نشر الوعي السياسي أولاً ومن ثم طلب النصرة من قيادات الجيش أو أصحاب القوة، ولديه رؤية خاصة للصراع في العالم؛ وهو يعتبر أن كل الاحداث في العالم هي انعكاس للصراع التاريخي بين الأمريكيين والإنجليز كما كان قائماً في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.
والسـياسـة في أدبياته هي رعاية شـؤون الأمة داخلياً وخارجياً، وتكون من قبل الدولة والأمة، فالدولة هي التي تباشر هذه الرعاية عملياً، والأمة هي التي تحاسب بها الدولة، ورعاية شؤون الأمة داخلياً وخارجياً من قبل الدولة تكون بتنفيذ المبدأ في الداخل، وهذه هي السياسة الداخلية
وأما رعاية شؤون الأمة خارجياً من قبل الدولة فهي علاقتها بغيرها من الدول والشعوب والأمم، ونشر المبدأ إلى العالم، وهذه هي السياسة الخارجية. وفهم السياسة الخارجية أمر جوهري لحفظ كيان الدولة والأمة، وأمر أساسي للتمكن من حمل الدعوة إلى العالم، وعمل لابد منه لتنظيم علاقة الأمة بغيرها على وجه صحيح. (12)
جماعة الإخوان المسلمين
عملت الجماعة على تنظيم خاص بها، واختارت له الصيغة الدولية (أي تنظيم يمتد في أكثر من دولة في العالم) وعملت بفاعلية على مستوى العالم العربي في بعض المراحل السياسية؛ وتركت أثراً واضحاً في بعض دول العالم الإسلامي، مما جعلها موضع خصومة أكثر من نظام عربي وإسلامي، وموضع اتهام وإساءة، وتعرضت للمنع والحظر وبخاصة التنظيم المركزي في مصر، وتعرض عناصرها أكثر من مرة للملاحقة والسجن والإعدام أحياناً.
وتعتمد أسس الجماعة الفكرية حول العمل السياسي على ما تم تسميته ب “الأصول العشرون” والتي لا تكفر فيها مسلماً نطق بالشهادتين. كما تحدث حسن البنا في رسالة التعاليم عن أركان بيعة الإخوان، أهمها “الفهم” أي فهم الإسلام؛ ويقول موجهاً قوله للفرد الإخواني بأنه يريد منه أن يفهم الإسلام في حدود الأصول العشرين، ثم يوجزها.
وأولى الإخوان هذه الأصول عناية خاصة، وجعلوها دستور دعوتهم، وشرحها الكثيرون من قادتهم التربويين ومشايخهم الفاعلين، وأبرز شرح كان للشيخ محمد الغزالي في كتابه “دستور الوحدة الثقافية”. وتؤكد الأصول في مطلعها على شمولية الإسلام لمظاهر الحياة وللدين والدنيا وللحكم والعقيدة، وتقرر مرجعية القرآن الكريم وفهمه وفق قواعد اللغة العربية، ومرجعية السنة؛ وأنه يرجع في فهم السنة إلى رجال الحديث الثقات، بما يؤكد انتماء الإخوان للمذهب السني.
وتتناول الأصول بعض القواعد لضبط التفكير والممارسة الدينية في محاولة للتوازن ما بين التصوف وبين النزعات السلفية، فنجدها تخوض في مسألة الرؤى (الأحلام) وأنها ليست من أدلة الأحكام الشرعية، وكذلك تذهب إلى أن التمائم والرقى والودع والرمل والمعرفة والكهانة وادعاء معرفة الغيب، وكل ما ليس عليه دليل من آية أو حديث أو رقية مأثورة تجب محاربته.
وتعطي الأصول لرأي الإمام ونائبه فيما لا نص فيه سلطة اختيار وإقرار الأحكام وفق الظروف والعرف والعادات فيما لا نص فيه وتذهب إلى أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم ﷺ.
وأن لكل مسلم أن يتبع إماماً من أئمة الدين، ويحسن به مع هذا الإتباع أن يجتهد ما استطاع في تعرف أدلته، وأن الخلاف الفقهي في الفروع لا يكون سبباً للتفرق في الدين، ولا يؤدي إلى خصومة ولا بغضاء ولكل مجتهد أجره، وكل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها من التكلف الذي نهينا عنه شرعا.
وتتناول أيضاً بعض مسائل الاعتقاد، مثل الإيمان بالآيات المتشابهة من غير تعطيل ولا تأويل وموقفهم المناهض للبدع في الدين، وغير ذلك مما يتفق مع النهج السلفي بالإجمال وقد يختلف مع بعض التيارات السلفية في التفاصيل.
وأبرز ما في الأصول هو الموقف من مسألة التكفير حيث يقول الأصل ما قبل الأخير: “ولا نكفر مسلماً أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض -برأي أو بمعصية – إلا إن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر”. (13) (14)
التيار الصوفي والمشيخة التقليدية
تمثل الطرق الصوفية ظاهرة دينية بارزة في تاريخ المجتمعات الإسلامية، نشأت هذه الطرق في وقت مبكر من تاريخ الإسلام؛ وظلت طوال القرون الماضية تنتشر وتتوسع داخل بلاد الإسلام، ويتعاظم تأثيرها الديني ونفوذها الاجتماعي. وقد جسدت هذه الطرق دوراً مهماً خلال الحقبة الاستعمارية، وأخذت على عاتقها طليعة المقاومة الثقافية للغزو الأجنبي للبلاد الإسلامية، وقاد بعض زعمائها جبهات عسكرية مسلحة ضد المستعمر؛ مثل الأمير عبد القادر في الجزائر والشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل في موريتانيا، والسنوسي في ليبيا.
إلا أن هذه الطرق نأت بنفسها عن ممارسة السياسة بشكل مباشر منذ نشوء الدولة الوطنية الحديثة؛ ومع ذلك ظلت تشكل رقمًا صعبًا بفعل نفوذها الاجتماعي والديني الكبير، ما جعل هذه الطرق في بعض الدول العربية تشكل جزءًا من المعادلة السياسية؛ سعت النظم السياسية المختلفة لإدارة العلاقة معها بما يضمن مصالحها، ومع صعود ما أصبح يعرف بـحركات “الإسلام السياسي” دخلت الصوفية في المخططات الدولية؛ وبدأ الاهتمام بها وتشجيع منهجها الفكري والتربوي باعتباره سبيلًا للوقوف أمام مد حركات العنف وحركات الإسلام الاجتماعي السياسي. (15)
وفي دول أخرى كسوريا ولبنان تماهت الحركة الصوفية مع المشيخة التقليدية، وانقسمت في سوريا عقب الاحتجاجات الشعبية مطلع العام 2011 إلى قسمين، الأول روج لدعاية الحكومة السورية، والثاني ناصر -من وجهة نظره- المطالب الشعبية التي طالبت بها –ما يسميها- الثورة السورية. (16)
الشيعة الجعفرية الإثني عشرية
الشيعة عدة فرق وليس فرقة واحدة وأشهرهم الإسماعيلية والزيدية والإثني عشرية، ويمكن القول إنه منذ مئات السنين لم يعد للإسماعيلية والزيدية وغيرهم من الشيعة أي نشاط سياسي، ولا ينشط منهم حالياً على الساحة السياسية سوى الشيعة الإثني عشرية وهؤلاء من سنناقش رؤيتهم لعلاقة الدين بالسياسة، وما الخلاف بين الرؤية والواقع الذي يعيشونه.
تحتاج علاقة الدين بالسياسة لدى الشيعة الإثني عشرية أو الجعفرية أو الإمامية، لبحث منفصل، ولكن يمكن القول في هذه العجالة أن الفكر الشيعي لا يفرق بين الدين والسياسة، فكما كان النبي ﷺ حاكماً سياسياً ورسولاً من عند الله، فلا تصلح الدنيا إلا بحاكم سياسي، ديني في الوقت نفسه، وقد نص رسول الله على ذلك في غدير خم لعلي بن أبي طالب بحسب اعتقادهم. (17)
وبعد ذلك جعل فقهاء الشيعة الإثني عشرية الحكم لـ 12 إماماً تبدأ بعلي وتنتهي بالمهدي الذي هو من نسل علي وزوجته فاطمة بنت النبي ﷺ. (18)
وهناك أقوال لعلي بن أبي طالب تدحض هذه الحاكمية المتصورة، حيث نقل الطبري في تاريخ الرسل والملوك عن الإمام علي عليه السلام أنه عندما طُلب منه أن يكون الخليفة أجاب: “إنّ بيعتي لا تكون خفِيًّا ولا تكون إلا عن رضا المسلمين”، أي أنه وضع رضا المسلمين بعين الاعتبار، جاعلًا الإمامة السياسية منبثقة عنها. (19)
وفي إحدى رسائل الإمام علي في نهج البلاغة المعتمد لدى فقهاء الشيعة الإثني عشرية قال بوضوح: “الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا كان ذلك لله رضى”. (20)
رغم كل ذلك، يصر فقهاء الشيعة الإثني عشرية أن الولاية التي عناها رسول الله في حديث غدير خم الشهير “من كنت مولاه فعلي مولاه” هي ولاية سياسية؛ وليس ولاية مناصرة وأخوة كما فهما غالبية المسلمين؛ حتى أولئك الذين شهدوا حديث الغدير بعد وفاة النبي لم يقل أحد منهم وحتى علي نفسه إنه بناء على الحديث المذكور فلعلي أن يتولى الخلافة بعد النبي؛ إذ لو أن علياً فهم الخلافة وفق ما يتصورون، لما بايع أبا بكر وعمر، وهو ما أقرت به معظم كتب الشيعة المعتمدة بغض النظر كيفية تأويله؛ وما ساقوه من كلام على لسان علي فإنه حتى لو صح فإنه ينقلب ضدهم. (21)
كما أن علياً لو فهم حديث الغدير على أنه وصية رسول له بالخلافة لما كان قال ما قال في نهج البلاغة (22) وما كان بايع، حتى لو مكرهاً كما يزعم كثير من علماء الشيعة؛ كما إنه لو فهم الصحابة الذين حضروا واقعة غدير خم أن الحديث يدل على ولاية سياسية وحاكمية ودينية مع بعضهم بعضاً، لحاجّوا أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في ذلك على الأقل.
وسيراً مع تاريخ الشيعة الإثني عشرية وأخبارهم نجد أنه حتى هذا الأصل الذي وضعوه لأنفسهم؛ لم يلتزموا به إذ تعرض هذا الأصل لضربة كبرى عقب ما سمى بالغيبة الكبرى أي غيبة الإمام الثاني عشر عندهم؛ وهو محمد بن الحسن العسكري (المهدي)، وذلك منذ نحو 11 قرناً، إذ ظلوا يتخبطون سياسياً وفي كل مرحلة ويخرجون بنظرية حكم جديدة في ظل الغيبة إلى أن استقر بهم الأمر حديثا إلى وضع نظرية تسمى “ولاية الفقيه”، إذ يكون الفقيه أي عالم الدين لديهم هو الحاكم السياسي والديني لحين ظهور الإمام الثاني عشر الغائب. (23)
والولي الفقيه اليوم لمعظم الشيعة الإثني عشرية هو “الخامنئي” في إيران، ونجد أن أتباعه في الدول العربية قد أنشأوا دولاً داخل الدول لتحقيق أمره وحاكميته كما في لبنان (حزب الله) والعراق (مليشيات الحشد الشعبي)، واليمن (الحوثي)، الخ.
إذن؛ في كلا الحالتين، لا يوجد أي فصل أو تمييز لدى الشيعة الإثني عشرية بين الدين والسياسية، بل على العكس، فالإمام هو الحاكم السياسي والديني؛ وليس هذا فحسب، بل موصى به من رسول الله ومعصوم أيضاً.
وكل التيارات الدينية السابقة، لا شك تعطينا صورة واضحة عن مدى تأثر كل تيار بالنصوص الدينية وفهمها وتأويلها بطريقة مختلفة عن التيار الآخر وأحياناً معاكسة، وهو ما شكل بالنهاية قوانين وأسس الحكم السياسي لدى كل فئة أو كل تيار، وهو ما استخدمه نصر حامد أبو زيد لنقد الفكر السياسي الإسلامي مستشهداً بالاختلافات الجوهرية بين هذه التيارات رغم اعتمادهم على المصدر نفسه. (24)
النتائج والتوصيات:
النتائج:
- التفاعل بين الدين والسياسة يعد متعدد الأوجه ويظهر بوضوح كيف أن كل منهما يمكن أن يؤثر على الآخر بطرق مختلفة، مما يؤثر بدوره على الهيكل الاجتماعي والثقافي للمجتمعات.
- تم التعرف على أمثلة تاريخية تشير إلى أن الدين كان في بعض الأحيان يدعم الأنظمة السياسية؛ بينما في أحيان أخرى يتم استغلاله لتحقيق مصالح سياسية، مما يشير إلى طبيعته المزدوجة.
- أثر الدين في السياسة لا يظهر بشكل موحد؛ بل يختلف اعتمادًا على التيارات الدينية والسياسية المحلية، وهذا يبرز كيف يمكن للدين أن يتكيف ويستجيب للتحديات السياسية المتغيرة.
- تم رصد تأثيرات متباينة للدين على القوانين والسياسات العامة، حيث يمكن أن يسهم في تشكيل الأطر القانونية التي تعكس القيم الدينية في بعض الأنظمة.
- وُجد أن الدين يمكن أن يلعب دورًا في تعزيز الاستقرار السياسي والوحدة الوطنية عندما يُستخدم لبناء جسور التفاهم والمصالحة بين الفئات المختلفة.
التوصيات:
- من الضروري التمييز بين استخدام الدين كأداة لتحقيق أهداف سياسية وبين توظيفه في تعزيز القيم الأخلاقية والعدالة الاجتماعية، وذلك لضمان عدم تحول الدين إلى وسيلة للإقصاء أو التمييز.
- يجب الاعتراف بإمكانية أن الدين يمكن أن يكون كمحرك للإصلاح والتقدم الاجتماعي مع الحرص على عدم استخدامه كأداة للهيمنة السياسية أو للقمع، مما يتطلب وعياً ومحاسبة من القادة والمجتمع.
- تعزيز الحوار والتفاعل بين القادة الدينيين والسياسيين من شأنه أن يساهم في تطوير فهم مشترك ومتوازن يحترم الحاجات الروحية دون إغفال الحاجات المادية والسياسية للمجتمعات.
- إنشاء مؤسسات تعليمية وثقافية تهدف إلى تعزيز فهم الدين بما يتوافق مع القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
- العمل على تطوير مناهج بحثية تقيم تأثير الدين في الحياة السياسية بشكل موضوعي، وتسعى لفهم أدق للدور الذي يمكن أن يلعبه الدين في تعزيز الحكم الرشيد.
الخاتمة
شهدت التيارات الإسلامية السياسية منها وغير السياسية، التي تعتبر الأكثر شيوعاً في المجتمعات العربية، -وإن كان الأمر نسبياً يختلف من دولة إلى أخرى-، تنامي دورها من جهة، وإفساح المجال لها في الممارسة السياسية مع انطلاق ثورات الربيع العربي، إلا أن الثورات المضادة عكست ميلاً دولياً بعدم الرغبة في حضورها في الحياة السياسية العربية. كما أن هذه التيارات تتباين أنشطتها السياسية بحكم وجودها في هذه الدولة أو تلك.
فالتيارات السياسية الإسلامية في شرقنا البائس، بتنوعها وتعقيدها، شهدت تحولات جوهرية خلال وبعد ثورات الربيع العربي على الرغم من تزايد دورها الظاهر ومشاركتها الفاعلة في البداية، إلا أن المرحلة اللاحقة كشفت عن مواقف دولية وإقليمية متحفظة تجاه حضورها البارز في المشهد السياسي، وحالتا مصر وتونس تقدمان نماذج ملموسة لهذا التحول، حيث تباينت استجاباتهما السياسية للتيارات الإسلامية، وذلك نتيجة لتفاعلات معقدة بين الضغوط الدولية، الديناميكيات المحلية، والتغيرات في الأجندات السياسية. وبينما تستمر هذه التيارات في محاولة تعزيز مواقعها وتأثيرها، يبقى المستقبل مليئاً بالتحديات والإمكانيات المفتوحة لتطورات جديدة تتشكل في ظل الواقع السياسي المتغير.
الهوامش:
- ضو، فادي، 2017. الدين والسياسة. موقع تعددية https://n9.cl/m58r4
- أسد، طلال. “تشكيلات العلمانية: الدين والحداثة والسياسة.” دار جداول للنشر والترجمة والتوزيع. لبنان، بيروت 2020
- المصدر رقم 1
- هاشمي، نادر. “الإسلام والعلمانية والديمقراطية الليبرالية: نحو نظرية ديمقراطية للمجتمعات المسلمة”. الشبكة العربية للأبحاث والنشر. بيروت 2017
- الغزالي، أبو حامد محمد الغزالي. إحياء علوم الدين. الدين والملك. 1096 – 1102 م
- القرشي، يوسف. عن نظرية السلطة في الإسلام. رسالة ماجستير. جامعة أنقرة. دار النماء 2018
- نوريس، بيبا. إنغلهارت، رونالدو “مقدس وعلماني: الدين والسياسات في العالم. المركز العربي للدراسات. الطبعة الأولى 2018
- جويتي، أوليفييه. “الدين، العلمانية، والديمقراطية في الشرق الأوسط.” – تحليل للتفاعل بين الدين والعلمانية والديمقراطية في الشرق الأوسط.
- صافي، لؤي. “العقيدة والسياسة معالم نظرية عامة للدولة الإسلامية. دار الفكر المعاصر. دمشق. 2001
- بشارة، عزمي. “في الإجابة عن سؤال: ما السلفية؟”. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. قطر. 2018
- حسن، بشير بن حسن، 2019. السلفية والسياسية. موقع نون بوست. https://n9.cl/yq5g1
- المكتب الإعلامي لحزب التحرير، 2019، الطبعة الرابعة. مفاهيم سياسية لحزب التحرير
- محمود، عبد السميع، 1989، شرح كتاب الأصول العشرون، دار عمار للنشر والتوزيع
- الأفندي، عبد الوهاب، وآخرون. “الحركات الإسلامية وأثرها في الاستقرار السياسي”. مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، أبو ظبي 2002
- ودادي، صبحي ودادي، 2019. مركز الجزيرة للدراسات- تعاون أم صراع.. ما علاقة الصوفية بالإسلام السياسي في غرب أفريقيا؟
- الإسناوي، أبو الفضل، 2013. المركز العربي للدراسات. معضلة الدور السياسي للتيار الصوفي العربي وكيفية التفعيل بعد ربيع الثورات (3/3)
- رمضان، جعفر، 2019. موقع العتبة الحسنية المقدسة، علي بن أبي طالب في غدير خم أميراً للمؤمنين
- كديور، محسن، 2023. الموقع الرسمي لمحسن كديور. تحليل الفكر السياسي الشيعي
- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم. القاهرة: دار المعارف. الطبعة الثانية.
- الرضي، السيد محمد بن الحسن الموسوي، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح (القاهرة وبيروت: دار الكتب المصرية ودار الكتاب اللبناني، 2004)
- المجلسي، محمد باقر الأصفهاني. بحار الأنوار. تحقيق محمد الباقر البهبودي. الطبعة الثانية المصححة. المكتبة الشيعية 1983
- المصدر رقم 18
- كديور، محسن.” دائرة صلاحيات الولي الفقيه هي نفس الصلاحيات الخاصة بالله تبارك وتعالى” في کتاب ولاية الفقيه. نقد نظرية الحكم في الفكر السياسي الشيعي. ترجمة حسن الصراف. الدوحة: منتدى العلاقات العربية والدولية، 2021. صفحة 193-216.
- أبو زيد، نصر حامد. “النص، السلطة، الحقيقة: الإسلام والسياسة.” الفكر الديني بين ارادة المعرفة واردة الحقيقة. المركز الثقافي العربي. 1995
المراجع:
- هانتنجتون، صامويل. “صدام الحضارات وإعادة صياغة النظام العالمي.” – يناقش الكتاب كيف تؤثر الاختلافات الثقافية والدينية على العلاقات الدولية.
- كاسانوفا، خوسيه. “العامة والخاصة في الدين الحديث.” – يستكشف الكتاب العلاقة بين الدين والمجال العام في الحداثة.
د. محمد خير الوزير: سياسي وكاتب وباحث وأكاديمي سوري، دكتوراه في الشريعة والقانون متخرج في جامعة نوفي بازار-صربيا، وأستاذ مساعد لمادة أصول الفقه في جامعة المدينة العالمية (MEDIU) كولالمبور-ماليزيا.