تتسارع وتيرة الانهيار الاقتصادي التركي، لا سيما بالنسبة للعملة المحلية، لتضع حكومة العدالة والتنمية الحاكمة منذ قرابة 20 عاماً، أمام اختبارات جديدة، خاصة مع دعوة المعارضة التركية إلى انتخابات مبكرة، في ظل الأوضاع الحالية.
يشار إلى أن الليرة التركية كانت قد سجلت أدنى مستوى لها منذ عقود أمام العملات الأجنبية، خلال الأيام القليلة الماضية، حيث وصل سعر صرف الدولار يوم الأربعاء إلى 10.46 ليرة تركية بعد أن كان آخر سعر له يوم الأحد الماضي، 10.5 ليرة للدولار الواحد.
معركة وتلميحات مبطنة
أمام اشتداد الأزمة، يتجه الرئيس التركي، “رجب طيب أردوغان” إلى وصف ما يحصل للاقتصاد التركي بأنه معركة، مشيراً إلى أنه سيواصل خوض تلك المعركة حتى النهاية وأنه لن يسمح لأسعار الفائدة بأن تسحق الناس، على حد قوله.
كما يرى “أردوغان” في تعليقه على أزمة الليرة التركية وارتفاع معدلات التضخم في البلاد، أن الأوضاع الراهنة تتطلب من أصحاب الأعمال اتخاذ قرارات بزيادة الاستثمار والتوظيف وزيادة الصادرات، في إشارة إلى ضرورة تنمية القطاع الخاص ضمن الاقتصاد الوطني.
من جهته، يقول زعيم المعارضة التركية، “كمال كيلتشدار أوغلو” إلى أن البلاد وصلت إلى مرحلة باتت تتطلب إجراء انتخابات مبكرة بعد تدهور أسعار صرف الليرة التي هوت لمستويات غير مسبوقة، لافتاً إلى أن كل تلك الأزمة حصلت بسبب سياسات حكومة حزب العدالة والتنمية.
يشار إلى أنه من المقرر أن تجرى الانتخابات العامة في تركيا في عام 2023، حيث يختار الناخبون رئيسا جديدا بالإضافة إلى 600 عضو في الجمعية الوطنية الكبرى في تركيا كل منهم لمدة خمس سنوات.
تعليقاً على الأزمة الاقتصادية التركية وتسارع وتيرة انهيار الليرة ووعود الرئيس التركي، يلفت الباحث في الشؤون التركية، “حسين حاج حسن” إلى أن الأزمة لا يمكن الخروج منها إلا بتعديل الخط السياسي الصدامي لتركيا، لافتاً إلى أن اتجاه تركيا للصدام مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بفعل أزمات اليونان والبحر المتوسط وصفقة صواريخ إس 400 الروسية وعدم ثبات تركيا سياسياً، كانت السبب الرئيسي في تعرض البلاد للكثير من العقوبات الاقتصادية، التي أثرت بشكلٍ مياشر على المناخ الاقتصادي العام وسعة النمو والقوة النقدية.
ويضيف “حاج حسن”: “بالنسبة لوعود الرئيس التركي فمن الممكن تحقيقها في حالة واحدة فقط، وهي الابتعاد عن المواجهة الدائمة مع الغرب وتبني خط سياسي قائم على صفر مشاكل سواء مع الأوروبيين أو الأمرييكيين أو حتى المنطقة العربية، وفيما عدا ذلك، فإن الأزمة ستتعمق أكثر وستبقى تلك الوعود مجرد وعود انتخابية للحصول على ولاية رئاسية جديدة”، لافتاً إلى أن إنهاك تركيا بالحروب في سوريا والعراق وأذربيجان وليبيا وإنفاق مئات المليارات على العمليات العسكرية فيها، أرهق الاقتصاد بشكل عام وحد من عمليات التنمية.
إلى جانب ذلك، يصف “حاج حسن” حديث الرئيس التركي عن معركة يخوضها لإنقاذ الاقتصاد التركي، بانه محاولة مبطنة لربط ما يحدث بنظرية المؤامرة بهدف اللعب على وتر العواطف الوطنية والتغطية على الفشل المتوقع في تجاوز الأزمة الاقتصادية، مشدداً على أن الشعب التركي وصل إلى مرحلة من الفقر والجوع قد تمنعه من الاقتناع بتلك الدعاية.
وكان البنك الدولي قد كشف عن ارتفاع ملموس في معدل الفقر في تركيا للعام الثاني على التوالي وارتفاع حد الجوع وزيادة حالات الانتحار بسبب الظروف المعيشية الصعبة، مبيناً أن معدل الفقر في تركيا ارتفع للعام الثاني على التوالي حيث وصل إلى 12.2 في المائة عام 2020، بعد أن كان 10.2 في المائة في 2019.
التصلب والفرصة المواتية
تصلب الرئيس التركي بسياساته الحكومية والداخلية والخارجية، ترى فيه المعارضة التركية عاملاً مثبتاً للأزمة ومعمقاً لها، بحسب ما يقوله المحلل السياسي “عمرو عبد العاطي” لافتاً إلى أن المعارضة تعتبر أن الفرصة حالياً مواتية لتوجيه ضربة قاضية لحكومة العدالة والتنمية، والتي تعيش بدورها حالة من عدم الاتزان، على حد وصفه.
كما يوضح “عبد العاطي”: “أفضل وقت لمواجهة العدو هي أوقات الأزمات، ويبدو أن هذا ما تفكر به المعارضة التركية، واعتقد أن حجر الأساس في خطتها هو قدرتها على تمرير قانون لإجراء الانتخابات المبكرة، في الوقت الذي تمر به شعبية الحكومة والرئيس بأسوء حالاتها، سواء بسبب الأزمة الاقتصادية أو الفساد أو تراجع مستوى الحريات”، معتبراً أن المعارضة التركية قد تتمكن من انتزاع جزء يسير من السلطة في تركيا وليس كلها.
ويشير “عبد العاطي” إلى أن الحديث عن انتزاع كامل للسلطة من يد “أردوغان” يبدو صعباً جداً، خاصةً وانه عمل خلال السنوات الخمس الأخيرة على تشديد قبضته على الأجهزة الأمنية والعسكرية والسيطرة شبه الكاملة على المؤسسات الرسمية، بعد حملة الإقالات والاعتقلات الكبيرة التي تبعت عملية الانقلاب الفاشلة صيف العام 2016، والتي طالت أعداءه المحتملين، مؤكداً على أن الرئيس التركي تمكن في تلك السنوات من بناء أسس نظام يصعب إزالته بالكامل في سنة أو اثنتين.
يذكر أن حزب العدالة والتنمية قد أثار جدلاً واسعاً العام الماضي، بعد سعيه داخل البرلمان لإعادة ما يعرف بجهاز الحراس الليليين ومنحهم تراخيص وأسلحة وسلطة شبيهة بسلطة الشرطة وأجهزة الأمن، ما دفع المعارضة التركية إلى اتهام الرئيس بالسعي لتكرار تجربة الحرس الثوري الإيراني.
في ذات السياق، يشدد “عبد العاطي” على ضرورة أن تدرك المعارضة التركية قضية أن حكم العدالة والتنمية لم يعد مرتبط فقط بشخص “أردوغان” وإنما في بنية نظام متكامل تم العمل عليه على مدار سنوات، مؤكداً على أن مهمة المعارضة لن تكون سهلة وأن تركيا ستكون مهددة بسلسلة من الأزمات الأخرى غير الاقتصادية.
تضخم كبير وتركيز في تقطة واحدة
بعيداً عن الوعود والحديث عن المستقبل، يقر وزير الخزانة والمالية التركي، “لطفي علوان”، بالفشل في بلوغ هدف التضخم النقدي، الذي وضعته الحكومة بحلول نهاية 2021، والذي كان من المقرر أن يساهم في تحسين وضع القيمة النقدية لليرة، خاصةً مع بلوغ معدل التضخم النقدي في تركيا حاليا 19.85 بالمئة.
مشكلة تركيا، وبحسب ما يراها الباحث الاقتصادي، “معمر شاهين” تتمثل في تركيز الرئيس التركي وحكومته على نقطة واحدة تتمثل في السياسات قصيرة المدى، التي من شأنها تأمين البقاء في السلطة وضمان النجاح بالانتخابات، مشيراً إلى أن الحكومة والرئيس يذهبون تارة باتجاه الوعود وتارة باتجاه الشعارات وتارة أخرى نحو نظرية المؤامرة، تزامناً مع تجاهل تحليل الأزمة وأسبابها ووضع الحلول الناجعة.
كما يشدد “شاهين” على أن التوتر هو العدو الاول لاقتصاد الدولة وهو ما يمكن ملاحظته بشكل واضح في الكثير من الدول التي تشهد اضرابات سواء سياسية أو عسكرية، لافتاً إلى تركيا تشهد كافة تلك الاضطرابات متزامنة مع الظل الثقيل الذي تركه انتشار وباء كورونا المستجد، الذي سهم في إدخال نحو 1.5 مليون تركي إلى دائة الفقر خلال العام 2020، بحسب إحصائيات البنك الدولي.
ويوضح “شاهين”: “ما عانته تركيا منذ عام 2014 وحتى اليوم من دخول حروب وتوترات سياسية ونزاعات إقليمية كفيلة بتدمير اقتصاد أي دولة، خاصةً وانها لم تترافق مع اي عمليات نمو اقتصادي أو تطوير لمناخ الاستثمار، مع انتشار الفساد الذي طوع مؤسسات الدولة التركية إلى فئة معينة من الشركات ورجال الأعمال”.
يشار إلى أن تحقيقات صحافية تركية كشفت خلال الأيام الماضية، عن مظاهر فساد جديدة تضرب الاقتصاد التركي، لافتةً إلى أن بطل الظاهرة الجديدة هو رجل الأعمال “فؤاد توسيالي”، الذي يعتبر أحد أقرب حلفاء الرئيس التركي، “رجب طيب أردوغان” والعضو في مجلس إدارة صندوق الثروة التركي.
وبينت التحقيقات التي نشرتها صحيفة بيرغون اليومية المعارضة، أن شركة تعود ملكيتها “لتوسيالي” استحوذت على مناقصات حكومية بقيمة إجمالية تجاوزت مليار ليرة تركية بين عامي 2012 و2021، لافتةً إلى أن الشركة التركية المساهمة لخطوط الأنابيب ونقل البترول التابعة لوزارة الطاقة، منحت معظم المناقصات لشركات “توسيالي”.