علاء الدين الخطيب: كاتب وخبير في الطاقة.
- مدخل علمي حول تصنيع السلاح النووي.
- تاريخ الأزمة النووية مع إيران.
- أهم بنود الاتفاق النووي مع إيران.
- الرابحون والخاسرون من الاتفاق النووي سابقاً.
- أسباب انسحاب ترامب من الاتفاق.
- هل هناك خطر نووي إيراني على العالم؟.
- الملف النووي الكوري الشمالي والإيراني.
- قراءة للتوتر الإيراني الإسرائيلي في سوريا.
- هل ستكون هناك حرب مباشرة بين أمريكا وإيران؟.
- تأثير هذه الأزمة في سوريا.
المدخل
أعلن الرئيس الأمريكي ترامب يوم الثلاثاء 8 أيار/ مايو انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية من “إطار عمل الاتفاق النووي الإيراني Iran nuclear deal framework” الذي جرى التوصل إليه عام 2015 بين إيران وما يسمى مجموعة ((P5+1 التي تشمل الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي: الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، فرنسا، روسيا، الصين، إضافة إلى ألمانيا والاتحاد الأوروبي.
مراحل تصنيع السلاح النووي
المبدأ الفيزيائي والهندسي للقنبلة النووية يعرفه كل دارس للفيزياء والهندسة النووية، لكن السؤال من يملك الخبرة والتقنيات لكي ينجز هذا العمل؟ إنها تقنية وخبرة لا تتوافر فقط بقرار فوقي وبذل للمال، وهي محصورة في عدد محدود من الدول: الولايات المتحدة الأمريكية، المملكة المتحدة، فرنسا، روسيا، الصين، الهند، الباكستان، الهند، إسرائيل، وربما كوريا الشمالية.
تاريخيا البلد الوحيد الذي بدأ من الصفر في تطوير السلاح النووي من دون مساعدة خارجية كان الولايات المتحدة الأمريكية، فحتى الاتحاد السوفياتي استعان بخبرات جاسوسية لسرقة بعض أسرار التصنيع النووي الأمريكي، وقد تبادل الأمريكيون لاحقاً الخبرة مع حلفائهم المملكة المتحدة وفرنسا، وطبعاً هؤلاء دعموا التقدم الإسرائيلي في هذا المجال (وبخاصة فرنسا في ستينيات القرن الماضي).
أما الصين فمن المؤكد أنها نالت مساعدة سوفياتية وإن كانت محدودة، لكنها دولة كبرى في الأحوال كلها. من المؤكد أن الهند والباكستان تلقيتا مساعدة مباشرة أو غير مباشرة من الولايات المتحدة والصين، وعلى الرغم من ذلك استغرق كل منهما ما لا يقل عن 15 سنة من العمل الحثيث للوصول إلى إمكان تصنيع سلاح نووي، علماً أنها كانت سنوات تطوير وتعلم واختبار من دون ضغوط وحصارات دولية خانقة تمنع عنهم مثلاً بعض التكنولوجيا الضرورية لصناعة السلاح النووي.
من المرجح أن كوريا الشمالية نالت بعض المساعدة من السوفيات سابقاً، لكن بشكل غير كاف، ومن الصين أيضاً لكن بشكل محدود، وفي الواقع حتى الآن لا يوجد معلومات مؤكدة أن كوريا الشمالية تملك سلاحاً نووياً، وإن كانت تمتلكه فمن المشكوك فيه أنها تمتلك تقنية تحميل القنبلة النووية على الصواريخ المتوسطة وبعيدة المدى.
لتوضيح صعوبة صناعة قنبلة نووية يمكن بإيجاز توضيح بعض الحقائق العلمية حول هذا الموضوع:
- اليورانيوم يوجد في الطبيعة في شكل فلزات معدنية مختلطة بالبنية الجيولوجية في بعض المناطق. وهو بشكله الخام لا يشكل تهديداً لحياة الإنسان، أي يستطيع الإنسان أن يمسك بيده العارية اليورانيوم الطبيعي من دون أي خطر إشعاعي.
- لليورانيوم نظيران في الطبيعة: يورانيوم 238 ويورانيوم 235، العنصر الانشطاري اللازم لتوليد الطاقة سواء لاستخدامها في محطة طاقة كهربائية أم لصناعة قنبلة نووية هو النظير يورانيوم 235. لحسن الحظ اليورانيوم الطبيعي يحوي وسطيا 99.3 في المئة من اليورانيوم 238، أي غير الضار إشعاعياً، وحوالى 0.7 في المئة من اليورانيوم 235، الذي تحتاج إليه عملية الانشطار. مثلاً يمكن أن نستخلص من 25000 طن من خامة اليورانيوم، فقط 50 طناً من معدن اليورانيوم النقي (الكعكة الصفراء) الذي يحوي بدوره أقل من 400 كيلوغرام من اليورانيوم 235 اللازم للتصنيع.
- لاستثمار اليورانيوم الطبيعي النقي يجب زيادة نسبة اليورانيوم 235 فيه، عملية زيادة نسبة هذا النظير تسمى عملية التخصيب enrichment والناتج يسمى اليورانيوم المُخصّب enriched، أما فضلات هذه العملية فتسمى اليورانيوم المنضّب depleted وهو يستخدم في صناعة السلاح التقليدي لزيادة قوة اختراقه أو تعزيز دروعه.
- تحتاج محطات الطاقة النووية إلى يورانيوم مخصّب بنسبة بين 3 في المئة إلى 5 في المئة. بينما يحتاج السلاح النووي إلى يورانيوم مخصّب بنسبة 80 في المئة على الأقل، وغالباً أكثر من 90 في المئة.
- تكمن صعوبة صناعة السلاح النووي وحتى اليورانيوم المخصّب للاستخدام السلمي في عملية التخصيب، فهذه العملية معقدة جداً، وتحتاج إلى خبرات علمية وإمكانات تقنية كثيرة، لا يمكن الحصول عليها بسهولة، والدول التي تمتلك هذه الخبرة لا تقدمها بسهولة للآخرين.
- تستخدم الصناعة العسكرية النووية إضافة إلى اليورانيوم عنصراً آخر يسمى البلوتونيوم، وهو منتج ثانوي للمفاعلات النووية. عملية استخلاص البلوتونيوم عملية صعبة ومعقدة جداً. (تجدر الإشارة هنا إلى أن مفاعل تشرنوبل، الذي سبب كارثة تشرنوبل بانفجاره عام 1986 في أوكرانيا، كان مفاعلاً يستخدم لأغراض عسكرية في الاتحاد السوفياتي السابق لإنتاج البلوتونيوم، وبوصفه منتجاً ثانوياً كان المفاعل يزود المدينة القريبة بالكهرباء والحرارة).
- الصعوبة التقنية التالية هي عملية تصنيع القنبلة النووية، والأصعب هو تصنيعها بحيث يمكن تحميلها على رأس الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، وهذا ما تشير التقديرات معظمها إلى أن كوريا الشمالية لا تمتلكه على الرغم من الدعاية الإعلامية.
تاريخ الأزمة الإيرانية النووية
بدأت إيران برنامجها النووي منذ الخمسينيات بمساعدة كاملة من الولايات المتحدة الأمريكية وقطعت أشواطاً في اكتساب الخبرة النووية. لكن الثورة الإيرانية 1979 أوقفت الأبحاث النووية وبخاصة مع إصدار الخميني فتوى تحرم السلاح النووي. عادت إيران منذ بداية التسعينات إلى متابعة برنامجها النووي وبتعاون مع روسيا بشكل أساسي ومع الصين.
تصاعدت أزمة ما يسمى البرنامج النووي الإيراني بعد حرب غزو العراق 2003. خلال تلك المرحلة قدمت إيران برئاسة محمد خاتمي عرضاً سخياً للغرب من خلال الدبلوماسية السويسرية، إذ عرف ذلك العرض باسم “الصفقة الكبرى Grand Bargain”. تعهدت إيران في ذلك العرض بالشفافية الكاملة حول ملفها النووي وإيقاف دعمها لحماس وحزب الله مقابل ضمانات أمنية كاملة من الولايات المتحدة الأمريكية وتطبيع كامل للعلاقات معها.
لكن إدارة جورج بوش رفضت ذلك العرض بدعوى الشك في صدقيته. في 2006 بدأت مفاوضات ما يسمى مجموعة الخمسة زائد واحد، بالتوازي مع تزايد التوتر حول هذا البرنامج إعلامياً ودبلوماسياً ومن خلال الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
أخيراً أُهلِن في 3 نيسان 2015 التوصل إلى اتفاق إطار محكم وشامل كما عرفه أوباما حول البرنامج النووي الإيراني الذي يضمن ضماناً كاملاً عدم امتلاك إيران تقنية السلاح النووي.
وقد لخص أوباما هذه النقاط بأنها ستتضمن رقابة دولية حرة كاملة لصيقة على تخصيب اليورانيوم وعلى بقايا البلوتونيوم، ما يقطع الطريق على أي مسعى لتصنيع سلاح نووي بحسبما يؤكد الخبراء والتقنيون النوويون الأمريكيون. لخص أوباما الخيارات الأمريكية في ثلاثة خيارات: استمرار الحال كما هو عليه وبذلك زيادة احتمال أن تمتلك إيران السلاح النووي؛ أو الانتقال إلى توقيع اتفاق جدي يضمن تجميد البحوث النووية العسكرية الإيرانية برقابة دولية مضمونة عالية الكفاءة، أما الخيار الثالث فهو الدخول في حرب مباشرة مع إيران؛ التي لا يمكن أن توقف البرنامج النووي الإيراني من خلال قصف صاروخي وجوي فقط، بل لا بد من حرب شاملة على الأرض، أو مهاجمة إيران بقنابل نووية.
ضمن المعطيات المعروفة، الأمريكيون ومجموعتهم لم يتغير عرضها في السنوات الأخيرة جذرياً. من قدم التنازلات للوصول إلى الاتفاق كان الطرف الإيراني ومن ورائه الطرف الروسي. الأمريكيون في المحصلة فرضوا الاتفاق الذي أرادوه مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا. لقد قرر النظام الإيراني رمي كرته الأقوى على الطاولة ليخفف من ضغط الخارج ويستعيد تأييد الداخل.
ما هو الاتفاق تقنياً؟
يقع الاتفاق في 109 صفحات باللغة الإنكليزية تتضمن خمسة ملحقات. يمكن تلخيص أهم النقاط المتوافق عليها في ما يأتي:
- تخفيض مخزون إيران من اليورانيوم منخفض التخصيب من 10000 إلى 300 كيلوغرام، وسيُحافظ على هذا التخفيض مدة خمس عشرة سنة. نسبة التخصيب المسموحة هي 3.67 في المئة، وهي النسبة المطلوبة لتشغيل مفاعلات الطاقة النووية لكن غير الكافية لتصنيع السلاح النووي.
- سيُخفَّض عدد أجهزة الطرد المركزي المستخدمة لتخصيب اليورانيوم من 19000 إلى 6104 أجهزة. وسيستمر هذا الخفض مدة عشرة سنين. ويجب أن تكون هذه الأجهزة من نوع IR-1 وهو نوع قديم نسبياً، وسيجري تشغيلهم فقط في منشأة ناتانز لتخصيب اليورانيوم.
- ستوقَف عمليات التخصيب في منشأة فوردو لتخصيب اليورانيوم مدة خمسة عشر سنة. وستُحوّل إلى مركز بحث علمي.
- لا يسمح لإيران ببناء أي منشأة نووية تعمل بالماء الثقيل، وتمنع من تخزين الماء الثقيل مدة خمسة عشر سنة. وسيُنقل البلوتونيوم إلى خارج إيران نهائياً. وعلى إيران تعديل منشآت عدّة بما فيها مجمع أراك القادر على إنتاج البلوتونيوم.
- تتولى الوكالة الدولية للطاقة الذرية ممارسة الرقابة والتفتيش على نشاط إيران النووي من خلال نظام تفتيش متكامل يملك حق الوصول إلى المنشآت المصرح عنها كلها بما فيها منشأة بارشين العسكرية.
- سترفع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي أشكال الحصار الاقتصادي كافة على إيران، المتعلق بنشاطها النووي بعد أن تصادق الأمم المتحدة على الاتفاق. وفي حال انتهاك إيران لأي من نقاط الاتفاق فإن هذه العقوبات ستعود إلى التطبيق فوراً. العقوبات المفروضة بسبب انتهاكات حقوق الإنسان ودعم الإرهاب ستستمر على إيران.
- سيستمر حظر تقنيات الصواريخ الباليستية مدة ثماني سنوات، وحظر بيع الأسلحة التقليدية لإيران مدة خمس سنوات.
هذه الشروط تضمن أن إيران في حال قررت التراجع وإنتاج سلاح نووي فإنها ستكون على مسافة سنة كاملة على الأقل مما يضمن للدول ذات العلاقة التحرك ضمن الوقت الملائم.
الرابحون والخاسرون من الاتفاق النووي
ربحت إيران ومجموعة التفاوض السداسية من الاتفاق، اقتصادياً وسياسياً وشعبياً. فكما بدا من الانطباعات الأولى أن الشارع الأمريكي كان مرتاحا للمسار الدبلوماسي بدلاً من المسار العسكري. وفي إيران من الواضح أن الحكومة الإيرانية أعادت بناء جسور فقدتها مع الشارع الإيراني بسبب الأزمات المتلاحقة الاقتصادية منذ 2003 التي تزايدت مع بداية الربيع العربي. إذاً فالاتفاق كان وفق معادلة رابح-رابح win-win كما وصفته مؤخراً فريدريكا موغريني، الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي في ردها على إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.
الرابح الذي جلس متفرجاً هو دول الخليج العربي وإسرائيل، فالاتفاق كان السبيل الوحيد العملي لضمان عدم امتلاك إيران للسلاح النووي. لكنها إعلامياً لا تعترف بهذا الربح ضمن الحرب الإعلامية المستعرة مع النظام الإيراني منذ 15 سنة.
الخاسرون الحقيقيون في الواقع هم شعوب سورية والعراق واليمن، الذين دفعوا ثمن حرب غيرهم على أرضهم؛ فكما أعلن الجانبان الأمريكي والإيراني أن هذا الاتفاق لا يعني زوال الخلافات الأساسية، لذلك فقد تابعا حروبهما بالوكالة على الأرض السورية، وها هما إيران وإسرائيل يتبادلان الرسائل فوق الأراضي السورية.
لماذا انسحب ترامب من الاتفاق؟
لطالما اعتقدت وكثيرون من الناس أن بنية الدولة الأمريكية المؤسساتية تمنع أي رئيس أو إدارة من قلب الاستراتيجيات الأمريكية من دون أسباب مباشرة واضحة، لكن وصول ترامب إلى البيت الأبيض الأمريكي قلب هذه النظريات كلها، إنه المرشح الذي وقف ضده 80 في المئة من الإعلام الأمريكي الكبير، وأغلبية كبرى الشركات واللوبيات الاقتصادية الأمريكية، بل حتى إن اللوبي اليهودي لم يكن مرتاحاً لترامب، إلا أنه وصل إلى السلطة.
اعتمد ترامب في حملته الانتخابية وصعوده المفاجئ على حملة إعلامية شعبوية تعتمد وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار نظرية المؤامرة في الشارع الأمريكي، الذي فقد الثقة نسبياً بحكوماته المتعاقبة، وبخاصة بعد الأزمة المالية العالمية 2008-2009. فقد أطلق ترامب كثيراً من الوعود التي ظن كثيرون أنها غير قابلة للتنفيذ، لأنها ضد المصالح الأمريكية الاستراتيجية.
لكنه بما يملك من صلاحيات دستورية؛ استفاد منها في هدم جهد أمريكي كبير بدأ من تسعينيات القرن الماضي لربط العالم باتفاقات تحرير التجارة، كي تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية ضمان مركزها الأول في القرن الواحد والعشرين، وبدأ فعلاً بالانسحاب من عدد من الاتفاقات وتغيير سياسة الضرائب الجمركية على بعض المستوردات، وقلب كثيراً من القوانين الداخلية المتعلقة بالضرائب والضمان الصحي والاجتماعي، وألغى عدداً من إجراءات حماية البيئة وانسحب من اتفاق باريس الدولي حول حماية البيئة. إذا فالرجل وإدارته لهم منظور خاص محدود للعبة الصراع الدولي والسوق العالمي وعلاقته بالاقتصاد الأمريكي.
لكن هذه السياسات الترامبية أخفقت بوضوح في تحقيق وعوده للفقراء ومتوسطي الحال الأمريكيين، فانخفضت شعبيته إلى أدنى مستوياتها مقارنة بمن سبقه من رؤوساء أمريكيين. لذلك لاحظنا في الأشهر الأخيرة تناقض حركات ترامب وتصريحاته، سواء حول كوريا الشمالية أم حول الانسحاب من سوريا.
ففي ملف كوريا الشمالية كان للبنتاغون الدور الأكبر في إيقاف جموح ترامب وتهديده كوريا الشمالية بالزر الأحمر الكبير في مكتبه (زر إطلاق الصواريخ النووية)؛ ثم كان تحرك الصين لامتصاص الصدمة وتحويل نتائج الأزمة إلى مكاسب تضع الخطوة الأولى للسير في إنهاء الأزمة الكورية المستمرة منذ 60 سنة.
أما في سوريا فقد شهدنا كيف أعلن نيته في الانسحاب ثم تراجع، وكيف أطلق التهديدات النارية ضد النظام الأسدي في سورية بعد جريمة الكيماوي في دوما، ثم تبين أن تهديداته محض مسرحية إعلامية بالمقاييس النسبية.
إذاً إن قرار ترامب في الانسحاب من الاتفاق النووي جاء ضمن سياق محاولة استعادة شعبية ضعيفة، وتجميع لحزبه الجمهوري المتوافق على رفض الاتفاق، وفي الوقت نفسه إشعال فتيل أزمة جديدة يمنحه أوراق ضغط سياسية إضافية في وجه روسيا والصين، ويتناسب مع حاجة إسرائيلية ملحة لإيصال رسالة حاسمة إلى النظام الإيراني حول وجوده في سوريا.
لماذا نجزم أن الانسحاب ليس بسبب خطر نووي حقيقي إيراني؟
كما بينّا سابقاً، فإيران تقنياً بعيدة عن تصنيع السلاح النووي، والاتفاق الموقع يضمن هذه المسافة الزمنية. وبعيداً عن تفسيرات نظرية المؤامرة المتحكمة في مزاجنا العربي، فإن الدول التي ستتضرر أكثر هي الدول الأوروبية بحكم الجغرافيا، ليس من باب الخوف من صواريخ إيرانية نووية، لكن من باب أن التصعيد النووي على خاصرتها الرخوة “الشرق الأوسط”؛ يعني بالضرورة كوارث كبرى بالنسبة إلى الدول الأوروبية؛ فالدول الأوروبية هي الأكثر حساسية لضمان سير الاتفاق، ولو تضمن هذه الاتفاق فعلاً أي شك في أن إيران ستطور سلاحاً نووياً لساندت الدول الأوروبية ترامب في قراره من دون تردد، وبخاصة أن علاقتها بروسيا -حليف إيران الاستراتيجي- تزداد تأزماً. لكن واقع الحال يقول إن الاتحاد الأوروبي والحكومات الأوروبية منزعجون جداً من قرار ترامب الذي أضاف توتراً كبيراً فوق توترات كثيرة سببها ترامب منذ ترأسه الإدارة الأمريكية.
الملف الكوري الشمالي والملف الإيراني
أجمع الإعلام الأمريكي المؤيد لترامب على أن انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني سيقوّي موقفه أمام كوريا الشمالية، والدليل هو الإفراج عن ثلاثة سجناء أمريكيين من كوريا الشمالية؛ أما لماذا، فبحسب رأي المحللين، المتبنين سلفاً لسياسة ترامب كلها، أن ترامب قد أعطى الكوريين الشماليين مثالاً في الحزم والقوة وأنه ليس مستعداً ولا متقبلاً للتسويف والمماطلة؛ في المحصلة هي آراء تقوم على نظرة أمريكية عند بعض الإعلام، تعامل العالم من باب غرور غير موضوعي في نظره إلى القوة الأمريكية التي لا تعتمد على معطيات ودراسات أمريكية رزينة أو دولية سواء حليفة أم عدوة.
أما أعمدة الصحف والإعلام الأمريكي المتوازن نسبياً، والأوروبي الغربي، فهناك شبه إجماع على أنه، بفرض القبول بصواب القرار مبدئياً، فالمؤكد أن توقيته قبيل اللقاء المزمع بين الزعيمين الأمريكي والكوري الشمالي هو أسوأ توقيت يمكن أن يختاره سياسي حتى لو كان ذا خبرة متواضعة.
إذاً لقد ضرب هذا القرار الصدقية الأمريكية في عمقها، وابتدع سلوكاً سياسياً في العلاقات الدولية غير مسبوق، أن تنسحب دولة بحجم الولايات المتحدة الأمريكية، قائمة على أساس ديمقراطي، من اتفاقات دولية ضخمة لأن الرئيس الجديد غير موافق، سيؤدي إلى فوضى دولية عارمة.
والأهم أن الزعيم الكوري الشمالي سيعيد حساباته أكثر ويقرر المماطلة أكثر، فما ضمان أن يعقد اتفاقاً مع ترامب، وبعد أشهر أو سنة تقرر الإدارة الأمريكية الانسحاب؟ فلا يوجد ضمانات أقوى من اتفاق وقعته الولايات المتحدة وأقوى خمس دول في العالم مع إيران، لكن ترامب مع ذلك استهتر بالاتفاق وانسحب من دون وجود أي دليل حقيقي يثبت خرق إيران للاتفاق، ومن دون حتى أن يحاول التنسيق أو التشاور مع مجموعة الخمسة زائد واحد.
مثلاً في مقال تحليلي لموتوكو ريتش رئيسة مكتب النيويورك تايمز في طوكيو، نُشر يوم الخميس 09/05، تجمع الكاتبة عدداً كبيراً من آراء محللين وأساتذة جامعيين في اليابان والصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، يجمعون كلهم على أن قرار ترامب سيسبب صعوبة كبيرة أمام تحقيق أي تقدم حقيقي مع كوريا الشمالية، بل سيمنح الزعيم الكوري الشمالي أوراقاً مهمة للتشكيك في أي ضمانات يقدمها ترامب؛ وسيكون حجر القبان في هذه المفاوضات هو قرار الصين في المضي قدماً لتحقيق الاتفاق مع كوريا الشمالية، لكن الصين نفسها مستاءة جداً من قرار ترامب، إذ تشكل إيران بالنسبة إلى الصين حليفاً استراتيجياً مهماً جداً في وسط آسيا، وهي المنطقة القلقة أساساً والممتلئة بالزلازل السياسية، وتشكل مصدر قلق مستمر للاستراتيجية الصينية.
تصاعد التوتر الإيراني الإسرائيلي
الحقيقة المؤلمة ليس فقط للسوريين بل لكل إنسان، هي أن سوريا باتت منذ سنوات ساحة مستباحة للدول كلها، وفي حال حدث أي توتر بين دولتين أو حلفين، فالمكان المسموح لإبلاغ الرسائل هو فوق الأرض السورية وعلى حساب الدم السوري. واقع حققه النظام الأسدي ضمن عملية هربه إلى الأمام، وبدعم حليفيه النظامين الروسي والإيراني، وبتوافق أو قبول من حكومات المنطقة والحكومات الغربية.
الهجمات الصاروخية الإسرائيلية على الأراضي السورية، والرد بهجوم صاروخي على الجولان، لا يخرج عن نطاق الرسائل المتبادلة بين حكومة الكيان الصهيوني والنظام الإيراني، وقد كان إعلان ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني ضوءاً أخضر لحكومة نتنياهو، كي ترسل أقسى رسائلها بأكبر هجوم جوي على سورية منذ عقود، مقابل هجوم صاروخي “خجول” على الجولان السوري المحتل.
من المرجح أنه لن يكون هناك حرباً فعلية بين إيران وإسرائيل، لأن أي حرب حقيقية تحتاج إلى تنسيق دولي يتجاوز نتنياهو وترامب، وهو غير متوفر في أوروبا ومرفوض من الروس والصينيين؛ لقد راهن ترامب ونتنياهو على أن ينتقل النظام الإيراني من مرحلة التنديد اللفظي وحرق الأعلام في البرلمان الإيراني إلى أفعال عسكرية كبيرة، تجبر الحلفاء الغربيين على دعم الموقف الأمريكي الإسرائيلي، لكن كما يبدو فحتى الهجوم الصاروخي على الجولان تنصلت منه إيران ونسبته إلى النظام السوري. لكن هذا لا يعني أن الرسائل بين الطرفين التي تتجسد بالصواريخ والقنابل فوق سورية ستتوقف ضمن الأمد القريب.
المعادلة الواضحة الآن أمام النظام الإيراني: إسرائيل لن تسمح بحرية الحركة للمليشيا الإيرانية في سوريا بما يهدد أمنها، وانسحاب ترامب أتاح لها حرية الحركة. فإن صعّدت إيران موقفها من خلال هذه المليشيات أو مباشرة، فإن هذا سيؤدي إلى انزياح الموقف الأوروبي باتجاه موقف ترامب وبذلك تخسر إيران كل شيء كسبته من الاتفاق النووي، بل تضع علاقتها مع روسيا والصين في موقف خطر جداً؛ أو تتعامل بضبط الأعصاب وعدم التجاوب والمحافظة على حد مقبول من التوتر وتسحب ميليشياتها بالتدريج بعيداً عن الجولان المحتل.
ماذا تعني الحرب المباشرة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران؟
كما ذكرنا سابقاً فإن ما أوقف ترامب في أزمة كوريا الشمالية في أواخر العام 2017 كانت حسابات عسكرية تقنية واضحة، قدمها البنتاغون تقول بوضوح: لا يمكنك تدمير المنشآت النووية والصاروخية الكورية الشمالية من الجو بالأسلحة التقليدية، وهناك احتمالان: هجوم نووي مباشر وشامل، ما يعني بالضرورة أضراراً بشرية هائلة وصداماً مباشراً مع الصين وضرباً للحليفين اليابان وكوريا الجنوبية، أو هجوم عسكري تقليدي لن يستطيع تحقيق الاختراق المطلوب من دون وقوع ضحايا بمئات آلاف وربما الملايين في الكوريتين واليابان وربما في أراضٍ أمريكية في المحيط الهادي.
المعادلة نفسها تصح على حرب مباشرة مع إيران، وربما أصعب لأن إيران أكبر حجماً بكثير من كوريا الشمالية، ومن ثم تتمتع بميزات المناورة العسكرية، أضف إلى ذلك أن منطقة الخليج العربي بما فيها من حلفاء ومصادر نفط وغاز ستثير العالم كله ضد أي حرب لا تملك أدلة دامغة واضحة على نقض الاتفاق النووي من إيران.
من ناحية ثانية إذا بلغت تكلفة حرب العراق حوالى 3 تريليون دولار، وحرب العراق لم تعارضها أي دولة كبرى بشكل حقيقي، بل حازت خلالها الإدارة الأمريكية على دعم عدد من الحلفاء المهمين؛ وبالمقارنة النسبية بين عراق 2003 الذي لم يكن له أي حليف استراتيجي مهم، وإيران 2018 التي تملك حلفاً استراتيجياً مع روسيا والصين، فإن تكلفة هذه الحرب ستتجاوز هذا الرقم كثيراً. فعلى الرغم من أن الموازين العسكرية تقول إن إسرائيل أقوى من إيران عسكرياً، وأن الولايات المتحدة أقوى من باقي العالم كله عسكرياً، إلا أن الحروب في القرن الحادي والعشرين لا تقوم فقط لأن طرفاً أقوى عسكرياً من الطرف الآخر.
يتخيل بعضهم أن السعودية قادرة على دفع ثمن هذه الحرب، انطلاقاً من قراءة خيالية للواقع الدولي؛ يوم أعلنت السعودية نيتها بيع جزء من أرامكو وهي الشركة المالكة والمديرة للنفط السعودي كله، فإن أقصى التقديرات لسعر الشركة في السوق العالمي وصل إلى 2 تريليون دولار، أي إن السعودية حتى لو باعت ما تملكه كله لا تستطيع احتمال تكاليف حروب بهذا الحجم؛ فهذه حروب لا تطيقها سوى الدول الكبرى في العالم.
ما تأثير ذلك كله في سورية؟
تختلط المشاعر هنا كثيراً في قراءة الانعكاسات في سورية، فما مارسه النظام الإيراني من خلال دعمه للنظام الأسدي، ومباشرة من خلال المليشيات الملتحفة بالراية الإسلامية الشيعية في سوريا خلال 8 سنوات، مع النظام الروسي من قتل وتشريد لأكثر من عشرة ملايين سوري، وتهديم لأكثر من نصف البلد، جعل بعضهم يتعلق بوهم أن لعبة عض الأصابع بين النظام الإيراني والروسي من جهة والإدارة الأمريكية والحكومة الإسرائيلية سيؤدي ربما في ضربة واحدة إلى انتهاء هذه المأساة السورية.
لكن الواقع الجيوسياسي وميزان القوى الدولية والإقليمية و8 سنين من تلاعب هذه الحكومات وحكومات المنطقة بالمصير السوري يؤكد أن لا ترامب يريد إخراج إيران من سوريا بشكل كامل، ولا النظام الإيراني سيتورط بمواجهة مباشرة مع الأمريكيين والإسرائيليين، وأن الثمن المؤلم سيدفعه السوريون فقط.
هذه المادة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.