لم يكد الصراع على إقليم ناغورنو كاراباخ الواقع داخل الاراضي الأذربيجانية أن ينتهي عام 1994 بعدما أنشأت الامم المتحدة منظمة OSCE أي مجموعة مينسك التي يتمحور بها (أمريكا – روسيا – فرنسا) حتى عاد الصراع عليها عام 2016 بين كل من ارمينيا وأذربيجان؛ حيث تصّر الاخيرة على أن الإقليم الذي يقع ضمن أراضيها هو اقليم اذري أما عن أرمينيا فتنطلق من معادلة الديموغرافية حيث يشكل الأرمن معظم سكان الإقليم.
جذور الصراع تعود إلى نهاية القرن التاسع العشر حيث كان الإقليم يتبع لروسيا القيصرية وعندما انتصرت الثورة البلشفية، اُلحق بأذربيجان مع الحفاظ على حكمه الذاتي، هذه الخطوة كانت نتيجة التعاون الروسي التركي التي بدأت مع حرب التحرير التركية وتُوجت سياسيًا عبر اتفاقية الصداقة بين البلدين.. وعندما انهار الاتحاد السوفيتي نهاية القرن المنصرم بدأت أذربيجان العام 1991 حربًا على الإقليم تطور وأدى إلى تدخل أرمينيا وسيطرتها على ناغورنو إضافةً لابتلاعها 20% من أراضي أذربيجان وتهجيرها مليون أذري.
اليوم يتبادل الطرفان الاتهام بإشعال القتال في الـ 27 سبتمبر أيلول، ما سبب واحدة من أكثر الأزمات خطورة في المنطقة منذ وقف إطلاق النار عام 1994، مع ما أثاره من مخاوف من اندلاع حرب مفتوحة بين أرمينيا وأذربيجان.
مواقف أوروبية ودعوات
قال رئيس أذربيجان، إلهام علييف، في خطاب بثه التلفزيون الرسمي بعيد سقوط مدينة جبرائيل المهمة قبل أيام، إن على أرمينيا وضع جدول زمني للانسحاب من إقليم ناغورني قره باغ قبل وقف القتال.. حيث أكد في كلامه أن على الرئاسة الأرمينية أن تفكر جيدًا قبل فوات الأوان، مشددا على أن ما هو متاح فقط هو التفاوض على الانسحاب من الإقليم دون شروط؛ ويبدو أن أذربيجان ما تزال تريد ورقة مبادئ وتفاصيل حول الانسحاب رغم الهدنة الهشة التي أعلنت مؤخرًا هناك!
ونهاية شهر سبتمبر أيلول الماضي؛ قامت أرمينيا برفع طلب عاجل إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، تطالب المحكمة الدولية باتخاذ تدابير ضد أذربيجان، وسط استمرار المعارك في منطقة ناغورني قرة باغ الانفصالية.
حيث قالت المتحدثة باسم المحكمة الأوروبية: “تلقت المحكمة هذا الصباح طلبًا بإجراءات أولية من أرمينيا، ويجرى درسه”، موضحة أن الطلب جاء بموجب المادة 39 من نظام المحكمة، التى تسمح باتخاذ تدابير طارئة عند وجود خطر وشيك لأضرار يتعذر إصلاحها.. بحسب وكالة “فرانس برس” الإخبارية.
ومع اشتداد النزاع، طالب الاتحاد الأوروبي بوقف القتال فورا بين أرمينيا وأذربيجان، حيث دعا إلى بدء المفاوضات بينهما في أقرب وقت تحت مظلة مجموعة مينسك.
وقال المفوض الأوروبي للأمن والسياسات الخارجية “جوسيب بوريل” في تغريدة على صفحته في موقع تويتر، إن ارتفاع الخسائر في صفوف المدنيين أمر غير مقبول.
وفي بداية القتال الأخير، أطلق رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال يوم الـ 27 من سبتمبر أيلول الماضي، دعوة لوقف القتال بين الجيش الأذربيجاني والانفصاليين الأرمينيين في منطقة ناغورني قره باغ و”العودة فورًا إلى ما أسماها المفاوضات دون شروط”.. حيث كتب “ميشال” حينها على تويتر “على التحرّكات العسكرية أن تتوقف بشكل عاجل لمنع مزيد من التصعيد”.
ألمانيا تدعو
أظهرت برلين قلقها الفعلي بشأن تطور الأوضاع في القوقاز، التي جاءت بالتوازي مع انشغال القوى الدولية بتداعيات وباء كورونا المستجد (التي عملت فيما مضى على تخفيف التوتر)، والدول المقصودة هي روسيا وفرنسا والولايات المتحدة، والأخيرة تعيش أجواء مشحونة أساسًا مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقبلة وقائمة الأزمات العالمية من لبنان إلى روسيا البيضاء.
قبل إسبوعين، طلبت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من الدولتين المتنازعتين، وقف إطلاق النار.. ليؤكد المتحدث باسم الحكومة الألمانية، شتيفن زايبرت، بتاريخ 29 سبتمبر أيلول (بعد يومين من اندلاع المواجهات)، إن “ميركل” أجرت اتصالًا هاتفيًا برئيس الوزراء الأرميني “نيكول باشينيان” والرئيس الأذربيجاني “إلهام علييف”.
حيث أكدت المستشارة الألمانية أنه من الضروري وبشكل مستعجل وقف إطلاق النار وإجراء المفاوضات، لتلمح إلى أن منظمة الأمن والتعاون في أوروبا من الممكن أن تكون أساسا لذلك..
الناتو وتوافق مع أوروبا
من جهته، بيّن “حلف شمال الأطلسي” (الناتو) قلقه من المعارك المندلعة بين الطرفين، في موقف يشابه الرؤية الفرنسية والأوروبية.
وذكر الموقع الرسمي للحلف، أن “الناتو” بقلق عميق تجاه التقارير التي تتحدث عن أعمال عدائية عسكرية واسعة النطاق على طول خط التماس في منطقة نزاع ناغورني قره باغ”، حيث دعا حينها الجانبين إلى وقف الأعمال العسكرية التي تسببت بسقوط ضحايا مدنيين.
دلالة عميقة
منذ بدايات النزاع الأخير، توالت الدعوات الأوروبية لوقف القتال بشكل فوري بين الجيشين.. لكن الموقف الدبلوماسي المذكور ترافق مع اصطلاحات إعلامية توحي بشيء عميق في الرؤية الأوروبية؛ حيث استخدمت وكالات إعلامية ألمانيّة وفرنسيّة في أخبارها وتقاريرها، توصيفات قد توحي بموقف عميق يخالف المتوقع للتصريحات الأوروبية.
على سبيل المثال فإن صفة “الأرمن الانفصاليون” رافقت عناوين وأخبار عدة وكالات أوروبية رسمية، حيث قالت القناة الحكومية الألمانية “DW”، إن رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، دعا يوم الأحد، إلى “وقف القتال بين الجيش الأذربيجاني و(الانفصاليين) الأرمينيين، في منطقة ناغورني قره باغ والعودة فورًا إلى المفاوضات دون شروط”
أما وكالة الأنباء الفرنسية (AFP) فقد حمل أحد أخبارها عنوانًا “قتلى في مواجهات عنيفة بين الجيش الأذربيجاني و(انفصاليين) أرمينيين في قره باغ”.
أوروبا تعترف
سبب تواصل القتال والحديث عن هدنة محتملة بالتوازي مع دعوات لفرض عقوبات على تركيا لتدخلها في الصراع ودعم أذربيجان.. تسبب بإشكالية في المواقف الأوروبية بين إقدام وإدبار بشكل يعكس ضعف وتخبط الموقف الأوروبي فعليًا في مواجهة مختلف المتغيرات الجيو سياسية التي تعيشها المنطقة..
وقبل أيام صرح مسؤول العلاقات الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، لأعضاء البرلمان الأوروبي، بأن القتال بين أرمينيا وأذربيجان حول منطقة ناغورنو كاراباخ “يزداد سوءًا بالفعل”، كما أنه لا يوجد الكثير مما يمكن للاتحاد الأوروبي فعله حيال ذلك.
موقع EUobserver نقل عن بوريل كلامه: “لسوء الحظ، في هذه المرحلة، لا يمكن استبعاد المزيد من التصعيد ومشاركة الفاعلين الإقليميين”.
حيث نوّه إلى أن الاتحاد الأوروبي “لا يعرف حقيقة ما يحدث على الأرض” بسبب ضباب المعلومات المضللة وغياب المراقبين الدوليين.
اللافت في تصريحات بوريل وموقفه، كان قيامه بتوبيخ ولوم أعضاء البرلمان الأوروبي الذين طالبوا الاتحاد الأوروبي باتخاذ إجراء، حيث أكد أن أكثر ما يمكنه فعله، هو إصدار بيانات والدعوة إلى وقف إطلاق النار وتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين.
وتابع مخاطبًا المعترضين: “ماذا تقصد بقولك إننا يجب أن نتصرف؟ نحن نفعل ما يمكننا القيام به … إذا كان أي منكم (أعضاء البرلمان الأوروبي) يقصد التدخل العسكري – فهذا غير وارد على الإطلاق”.
نقطة أخرى صادمة حملتها كلمات بوريل؛ الذي استبعد فرض عقوبات جديدة على أنقرة – التي أعلنت دعمها الكامل لأذربيجان وسبق واتهمتها دول عديدة بتسليح وتوفير قوة بشرية إضافية للقوات الأذربيجانية عبر المرتزقة السوريين – قبل انعقاد قمة زعماء الاتحاد الأوروبي في ديسمبر كانون أول المقبل.
ليؤكد المسؤول الأوروبي أن الاجتماع القادم يهدف إلى “تقييم كيفية مواصلة علاقاتنا مع تركيا”، في ضوء اشتباكات أوسع مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي اليونان وقبرص بشأن التنقيب عن النفط والغاز في شرق البحر المتوسط.
محادثات تركيّة ألمانية
قبل ستة أيام وتمهيدًا – فيما يبدو – للهدنة اللاحقة والمفاوضات السياسية التي تسعى لها أنقرة مع أوروبا.. عقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اجتماعًا عن بعد وعبر اتصال فيديو مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تناولا خلاله العلاقات الثنائية والتطورات الإقليمية والدولية.
بدى الإصرار التركي حينها على استمرار مواقف أنقرة وتوجهاتها حيث أفادت مصادر بالرئاسة التركية أن أردوغان عبر خلال اللقاء عن ثقته بأنه يمكن حل الخلافات في شرق المتوسط عبر المباحثات شرط الالتزام بالإنصاف واتباع مقاربة عادلة.. وأضاف أردوغان أن على الدول الأوروبية أن تكون منصفة ومتزنة في مسألة شرق المتوسط؛ ليؤكد أردوغان أن بلاده ستواصل تطبيق سياسات حازمة وفعالة لحماية ما أسماها بحقوقها.
بدورها، دعت المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، خلال محادثاتها مع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى وقف إطلاق النار في قره باغ المتنازع عليه بين الجانبين الأذربيجاني والأرمني.
المكتب الإعلامي للمستشارة الألمانية، أوضح في بيان، بأن المحادثات، التي جرت عبر الفيديو، تناولت “النزاع بين أرمينيا وأذربيجان” في إقليم ناغورني قره باغ الذي يشهد تصعيدا عسكريا حادًا منذ 27 سبتمبر.
ودعت ميركل، حسب البيان، إلى وقف إطلاق النار في المنطقة وأعربت عن دعمها “لمفاوضات في إطار مجموعة مينسك لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا تهدف إلى تحقيق تقدم ملموس”.
من زاوية أخرى
هناك نقاط متداخلة تلعب دورًا رئيسيًا في فهم تعقيدات الموقف الأوروبي من صراع أرمينيا أذربيجان.. في ظل تنوع مواقف كبرى دوله ومصالحها التي تلعب دورًا خاصًا قد يغاير رؤية الاتحاد الكليّة، فحاليّا تقود فرنسا مختلف توجهات أوروبا الخارجية في النزاع لكن ذلك نقطة تعقيد واضحة تجاه موقف الأوروبيين الذين يشغله بعد جيوبولتيك الطاقة وأمن إمدادات الغاز والنفط إلى القارة التي تعاني شتاءً وتعتبر أذربيجان أحد مصادره الرئيسة.. لكن التدخل الفرنسي يحمل طابعًا متحمسًا في ظل التنافس الحاد مع تركيا الفعلة في المشهد الأذربيجاني.
إن المقاربة الفرنسية – تحديدًا – تبدو مرتبطة بالتنافس مع التركي في مواقع أخرى خاصة المغرب العربي بعد الثورات العربية والتي تشهد موجات تقدم وتراجع لكلا الجانبين.
حيث يظهر الملف الليبي أكثر مواقع هذا التوتر.. كما عقّد تدخلها أزمة شرق المتوسط بين تركيا واليونان لاختيارها الانحياز بدل التوسط (ما يفسر إدخال ألمانيا مؤخرًا للتوسط بين أنقرة وأثينا؛ وهو ما أحدث نوعًا من الانفراج ودفع الطرفين إلى التفاوض بعد أن لامست العلاقة بينهما مراحل الصادم).
ومنذ عقود ومع ظهور الأزمة القوقازية لم تخف فرنسا انحيازها منذ بداية الأزمة في تسعينات القرن الماضي وإقامة جسر جوي لتسليح الأرمن، مع تركيزها على الرواية الأرمينية حول التصفية العرقية من قبل الأتراك.. بشكل يوحي وفق مراقبين أن عضويتها في مجموعة مينسك قد تكون عطلت الحل الديبلوماسي بعد ست وعشرين سنة من توقف المواجهات.
في حين ترى آراء مختصة أن ذلك قد يدفع ذلك مرة أخرى الاتحاد الأوروبي إلى تقديم عضو آخر أكثر توازنا تجاه أطراف النزاع لحل الأزمة كما فعل في كل من الملف الليبي (مؤتمر برلين) وأزمة شرق المتوسط.. وحينها ستكون السياسة الخارجية الفرنسية قد سجلت تراجعًا آخر بمقابل تأكيد زعامة الديبلوماسية الألمانية للاتحاد الأوروبي.