بات انهيار الاقتصاد اللبناني سببًا ونتيجة لأزمات المجتمع هناك في جدلية معقدة تراكمت عبر السنين، زاد منها تفشي وباء كورونا الذي دق المسمار الأخير في نعش تهالك الوضع السياسي والاقتصادي كاشفًا معه عوار وضعف المنظومة السياسية القانونية المتعلقة بتفاعلات المجتمع ما سبب ارتفاع حوادث العنف والانفلات الأمني الذي نالت منه النساء – وفق تقارير عديدة – نصيب الأسد.. خصوصًا في العامين الأخيرين والتي زادت مع الحجر المفروض خلال ذروة تفاقم الوباء التي تناسبت طرديًا مع وتيرة العنف ضدهن بشكل ملحوظ عوضا عن عدد الضحايا في محصلة عديدة مضطردة.
مظاهرات واحتجاجات
شهد الإسبوع المنصرم مسيرة احتجاج نظمها عشرات الأشخاص (شبان وشابات) في العاصمة اللبنانية بيروت.. حيث كان محركها الرئيسي؛ الغضب من جريمة شهر أيلول سبتمبر الماضي التي راحت القاصر (زينب 14 عام) ضحية لها، بعد اغتصاب وحشي ثم إحراقها حيّة على يد مغتصبها!
(وفق صحيفة “النهار” اللبنانية، فإن “الجريمة كشفت عن جرائم متعددة ارتكبت بحق الفتاة وهي على قيد الحياة، من خلال استغلالها جنسيًا”، حيث أشارت إلى أن “الفتاة أحرقت والروح لا تزال في جسدها، حيث ذاقت أنواع الألم قبل أن تموت”.. وأثارت الجريمة سخطاً كبيراً لدى اللبنانيين، الذين طالبوا بإنزال عقوبة الإعدام بالمتورطين).
لتتطور أهداف وغايات المسيرة للاحتجاج ورفض كل أشكال الاغتصاب والتحرش التي تقبع في الظل في كواليس المجتمع اللبناني.
ونقلت وكالة “سبوتنيك” الروسية عن ناشطة نسوية شاركت في المسيرة قولها : إن التظاهرة هي رد على ارتفاع العنف الجنسي والاعتداءات والتحرش والجرائم الجنسية عبر الإنترنت ضد المرأة، وتشير إلى أن حالات العنف ارتفعت منذ أن بدأ الحجر الصحي نتيجة تفشي فيروس كورونا وبدء الأزمة الاقتصادية وسط عجز الدولة، وتضيف أن المغتَصِب يتم التساهل معه إذا كان لديه “واسطة”.
في حين يؤكد أحد ضحايا الاغتصاب والذي شارك أيضا في الاحتجاج: “أنه يعتبر نفسه معني بشكل رئيسي في القضية كونه تعرّض للاغتصاب حينما كان صغيرا، وقال أنه يجب على الجميع المشاركة للضغط من أجل إقرار قوانين تردع المغتصب”.
حملات سابقة
مع تفشي وباء كورونا والحجر الصحي، أطلقت منظمة “في- مايل” حملة وطنية تحت عنوان “الشاشة ما بتحمي”، انطلاقاً من الواقع الذي دفع أكثر من مائة امرأة وفتاة للتبليغ شهريًّا عن تعرّضهن للعنف الإلكتروني بكافة أنواعه بحسب أرقام القوى الأمنية.
انطلقت منظمة “في- مايل” في حملتها الوطنية للتأكيد على أن النساء والفتيات في لبنان والعالم العربي لهنّ الحقّ في الوصول الى الإنترنت واستخدامه بحريّة وأمان من دون التعرّض للعنف أو التنمّر أو الابتزاز.
كما تهدف الحملة بحسب المنظمة إلى إعلام النساء والفتيات بحقهنّ في استخدام الإنترنت، ولكن في نفس الوقت إطلاعهن على كافة التهديدات والتحديات التي تترافق مع هذا الاستخدام، وتسليحهنّ ببعض التقنيات من أجل استخدام آمن للإنترنت وخاصةً مواقع التواصل الاجتماعي.
وتسعى الحملة أيضًا إلى إعلام الفتيات والنساء أن المعتدي لا يمكنه الهروب والإفلات من العقاب ولو أن الاعتداء تمّ على مواقع التواصل الاجتماعي فبإمكانهنّ محاسبته وفضحه والتبليغ عنه.
بحسب منظمة “في- مايل” وبحسب ما حصّلته من معطيات من المديرية العامة للأمن العام، تؤكّد أنّ العام 2019 شهد انتحار فتاتين بسبب الابتزاز الإلكتروني ومحاولة انتحار لثالثة.
حيث أشارت المديرية الى أنّ أنواع الجرائم الإلكترونية التي تتعرّض لها النساء والفتيات توزّعت بين: التحرش والتعرّض للآداب والأخلاق العامة والابتزاز الجنسي والابتزاز المادي والتهديد بالتشهير وقدح وذم وسرقة حساب إلكتروني وغيرها.
ضحايا وحالات
ذكرت احصائيات قديمة للمديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في عام 2017 أن 13 إمرأة في لبنان -تقريبًا- بلّغن بشكل شهري عن تعرّضهن لإعتداء جنسي، أي بمعدّل ثلاث نساء أسبوعيًا، فيما سجّلت 229 حالة إعتداء جنسي واضح في يناير كانون الثاني 2016 وآب أغسطس 2017.
(التبليغات المذكورة لا تُوضح ما إذا كان الإعتداء ناتجًا عن فعل إغتصاب أو تحرّش، أو ما إذا كان يندرج ضمن الاستغلال الجنسي الذي تتعرّض له الفتيات اللواتي يُجبرن على ممارسة الدعارة).
يذكر أيضًا هنا أنه سبق وعملت مبادرة “مغامرات سلوى ضد التحرش الجنسي” ضمن مجموعة “نسوية” في عام 2012، على مشروع قانون لتجريم التحرش الجنسي في الأماكن العامة وخاصة في أماكن العمل.. لكن لم يُحرز اي تقّدم بخصوصه على المستوى الرسمي.
كما قدّم النائب غسان مخيبر، في آيار مايو عام 2014 مشروع قانون لتجريم التحرش الجنسي يقضي بحبس المتهم بالتحرش من ثلاثة اشهر الى سنة وبغرامة قد تصل الى عشرة اضعاف الحد الأدنى للأجور.. وقد طرح القانون على بساط بحث مجلس النواب السنة الماضية ولكن لم يتم التداول فيه بعد.
قبل أيام وعلى صعيد عدد الضحايا والحالات المعنفة، قالت مديرة منظّمة “كفى” زويا روحانا بحسب سبوتنيك: “إن الجمعية رصدت 12 حالة قتل مقارنة بالسنة الماضية “10 ضحايا”، لتشير إلى أنه في الشهر الذي أقر فيه الحجر الصحي – أي شهر نيسان إبريل – تم رصد 6 حالات قتل من أصل 12 بالإضافة إلى محاولة قتل واحدة.
لتوضح روحانا، أنه منذ بداية السنة حتى شهر حزيران تلقّت الجمعية 1371 اتصالا من نساء معنّفات وهذا عدد كبير مقارنة بالعام الماضي حيث تلقت 1107 اتصالات خلال عام كامل، أما على صعيد السيدات المعنّفات اللواتي يتلقين مساعدة الجمعية فقد وصل منذ مطلع السنة حتى نهاية شهر أيلول 1210 حالات.
هذا وتصنف تلك الأعداد في خانة الإحصاءات غير الرسمية كونها صادرة عن منظمة واحدة، رغم أنه يوجد عشرات المنظمات الأخرى التي تعمل على قضية العنف ضد النساء، ما يوحي أن الأرقام أكبر بكثير من المعلن.
وتعتبر منظمة “كفى عنف واستغلال” منظمة مدنية لبنانية نسوية وعلمانية غير ربحية تعمل للقضاء على جميع أشكال العنف والاستغلال المبنيَّين على النوع الاجتماعي وإحقاق المساواة الفعلية بين الجنسين.
نضال ونتائج
شرحت رئيسة منظمة “كفى” أنه و: “بعد سبع سنوات من النضال إلى جانب جمعيات أهلية عدة استطعنا فرض إقرار قانون يحمي النساء من العنف الأسري في عام 2014 يستفيد منه عشرات النساء اليوم عبر قرارات الحماية التي تصدر عن القضاء، وبالرغم من وجود نقص في القانون إلا أننا واصلنا عملنا مع عدة قضاة عبر ورش عمل مشتركة وتوصلنا إلى توصيات تبنتها وزارة العدل و10 نواب قاموا بتقديمها إلى مجلس النواب اللبناني كتوصية إلا أنه لم يتم الأخذ بها حتى اليوم”.
لتؤكد روحانا، أن الجمعية تعمل اليوم على قانون شامل لمواجهة كل أشكال العنف التي تتعرض لها النساء، وتشير إلى وجود عشرات القوانين المدرجة في المجلس النيابي منها يخص التحرش الجنسي ورفع سن الزواج، معتبرة أن هذه القوانين هي في أدنى سلّم أولويات المنظومة الحاكمة”.
أما عن إجراءات المحاكم والقضاء وسرعة تطبيق القرارات فأكدت: ” أنه يوجد بطئ كبير في الإجراءات وأبرز مثال هي قضية الضحية “رولا يعقوب” عام 2013، فبالرغم من البعد الإجتماعي والإعلامي التي حظيت به القضية إلا أنه وحتى يومنا هذا لم يتم البت بملفها” بحسب روحانا.
أنواع وأسباب
أشارت مديرة الجمعية أن للاغتصاب أشكال أخرى كالتحرش الذي لا يعاقب عليه القانون، ووجود ثغرات تعفي المغتصب من العقاب في حال عقد زواجه على الضحية القاصر من 14 إلى 18 عامًا.
لتعلن بدورها أن “السبب الأساسي للعنف هو ناتج من موقع المرأة في الأسرى المرعي من قوانين الأحوال الشخصية التي تضع المرأة في موقع التابع للرجل وتفرض عليها الطاعة، بالإضافة إلى النظام الاجتماعي العام الذي لا يمنحها حق المواطنة أسوة في الرجل، وعليه قانون الاحوال الشخصية أساسًا لفرض المساواة بين الرجل والمرأة”.
القانون يتحدث
وفق موقع “الاقتصاد” اللبناني (محلي) فإن التحرش الجنسي غير مجرّم في القانوني اللبناني، فالمادة 520 تعاقب من يتحرش جنسيًا بقاصر، غير أن هناك أفعال تدخل ضمن التحرش الجنسي يمكن التبليغ عنها لأنه معاقب عليها في قانون العقوبات اللبناني، في المواد 209 – 385 (القدح والذم) كالأعمال والحركات اذا حصلت في مكان عام أو مكان مباح للجمهور أو معرض للأنظار أو شاهدها بسبب خطأ الفاعل من لا دخل له بالفعل.
كما يعتبر من ضمنها الكلام أو الصراخ سواء جهر بهما أو نقلا بالوسائل الآلية بحيث يسمعهما في كلا الحالين من لا دخل له بالفعل.
ويعاقب قانون العقوبات اللبناني على الإعتداء والاغتصاب (غير الزوجي) في المواد 503 – 504 – 507 – 508، وعلى الإعتداء على قاصر في المادة 519.
وبالتالي في حال الإعتداء، يجب على المعتدى عليها الاتصال بالشرطة بأسرع وقت، أو التوجه مباشرة الى أقرب مخفر. أما في حال الاغتصاب، فيجب التوجه الى مكان آمن، والاتصال بالشرطة في أسرع وقت ممكن بعد وقوع الجرم، أو الاتصال بشخص جدير بالثقة لتوفير الدعم اللازم، والتوجه الى قسم الطوارئ في أي مستشفى للخضوع لفحص طبي يوفر الأدلة المادية لتثبيت التعرض للاغتصاب، ومحاولة تدوين تفاصيل الحادثة ومواصفات المعتدي لتدعيم قضية الإدعاء في حال تم التبليغ.
نقص وثغرات
رغم أن قانون العقوبات يعاقب على الإعتداء والاغتصاب، الا أنه يعاقب على أفعال غير معرّفة؛ اذ لا يفصّل القانون ما هو الإعتداء والاغتصاب.
وطالما أن الأفعال غير معرفة – وفق الموقع- وطالما أن هناك نقصا في النصوص القانونية، تبقى الأمور مطاطة عند القضاة والمحامين والقضاة.
فالتعاريف الجنسية في قانون العقوبات مبهمة، كما في المجتمع ليس هناك ذكر للأفعال بأسمائها.. وهناك ثقافة تعتبر الحديث بالمواضيع الجنسية من المحرمات، وكذلك في القانون.
فالمصطلحات المستعملة في القانون تعكس الثقافة المجتمعية السائدة: “الجرائم المخلة بالأخلاق والآداب العامة، الإعتداء على العرض، الفحشاء، مناف للحشمة، الحض على الفجور”.. وبالتالي يصبح الإعتداء الجنسي متعلقا بالشرف والعرض، وفق المنتقدين، وليس فعلًا عنيفًا يرتكب ضد إنسان
ومن زاوية أخرى.. يرى المعترضون أن أكثر بنود قانون العقوبات تمييزًا ضد النساء وتساهلًا مع الإجرام بحقّها، هي المادة 522 التي توقف الملاحقة القانونية بحق من يرتكب الإغتصاب أو الخطف أو الإغواء أو ”خرق حرمة الأماكن الخاصة بالنساء”، “ إذا عٌقد زواج صحيح بين مرتكب احدى هذه الجرائم وبين المٌعتدى عليها” ، وإذا كان قد صدر حكم بالقضية علّق تنفيذ العقاب الذي فٌرض عليه.
ختامًا، يمكن القول أن الكثير من شكاوى التحرّش لا تحقق نتائج لصعوبة الإثبات (في كافة دول العالم) رغم أن صعوبتها تزداد وتقّل بحسب المجتمعات.
لكن، في حالة لبنان.. تُظهر الأرقام أنّ معدّلات تبليغ النساء عن حالات الإعتداء الجنسي ارتفعت في السنوات القليلة الماضية.
يعود ذلك وفق بعض الحقوقيين المتابعين لملف الاعتداء الجنسي والإتجار الجنسي بالنساء، إلى التقدّم الجزئي على مستويات الوعي المجتمعي لحالات الاعتداءات الجنسية وكيفية التعامل معها، وخروج معالجات هذه الحالات (تقريبيًا) من دوائر الإنغلاق، وتحميل المرأة مسؤولية العنف الممارس ضدّها والضغط عليها للتكتّم سترًا لـ “الفضيحة” من جهة، مع تحسّن السياق القانوني لحماية النساء من الإتجار والعنف من جهة أخرى (كإقرار قانوني العنف الأُسري والإتجار بالبشر).