إذا كان الربيع العربي موضوعة تحرر وطنية لم تكتمل حلقاتها السياسية بعد ولم تُجنَ ثمارها المجتمعية والقانونية لكن أليس لل”مثقف” “النخبوي” موقع تساؤل من هذا المنعطف التاريخي في تشكيل الأمم وتكوينها. هنا يكمن السؤال فالمثقف العربي وهوية التكون والتشكل كانت على المحك في هذه السنين، وقد أخرجته دائرة الحدث من شرنقته الثقافية إلى كون آخر، بخلاف مسار تكونه الذاتي.
تبحث هذه الدراسة في الإجابة عن تلك الأسئلة من خلال المحاور الآتية:
- تاريخانية العروي ومحكمة التاريخ.
- قراءة التاريخ عند العروي.
- الثقافة العربية براهنيتها أمام أسئلة وجودية كثيفة.
- لماذا يرى المثقف نفسه ضحية ومنقذاً في الوقت نفسه؟
- ضرورة نقد المثقف ومحددات النقد.
- التباين السياسي والموقف من الثورة أظهرا موقفين للمثقف السوري.
- خاتمة: في البدء كان الكلمة.
مقدمة
لم تزل مقولة التأخر التاريخي، كما أرادها مفكرو العقلانية العربية [1]، ملازمة لمسار الأمة العربية بعامتها، سواء في مستوى الشعب أم “النخب” المثقفة فيه، فعلى الرغم من أن المواطن البسيط تحمل التكلفة الباهظة لحركات الربيع العربي بشكلها الكارثي وأثرها في حياته واستقراره وربما ستأتي على وجوده وانتمائه أيضاً، ومع هذا لم يزل إلى اليوم حامل الكلمات “المثقف” لا يستطيع حسم موقفه من مظالم الناس وحقوقهم، وما زالت مقولات التخلف تختلط مع مقولات التأخر في التوصيف الشكلاني.
فبينما تنتمي الأولى إلى دائرة الحكم القيمي الأخلاقي جاهزة التوصيف، تنتمي مقولة التأخر إلى دائرة تحليل البنية الذهنية وكيفيات تحولاتها ورؤاها وحركاتها في المجتمع وبموازاة ثقافة العصر وموضوعتي الحريات والحقوق.
إذا كان الربيع العربي موضوعة تحرر وطنية لم تكتمل حلقاتها السياسية بعد ولم تُجنَ ثمارها المجتمعية والقانونية لكن أليس لل”مثقف” “النخبوي” موقع تساؤل من هذا المنعطف التاريخي في تشكيل الأمم وتكوينها. هنا يكمن السؤال فالمثقف العربي وهوية التكون والتشكل كانت على المحك في هذه السنين، وقد أخرجته دائرة الحدث من شرنقته الثقافية إلى كونٍ آخر، بخلاف مسار تكونه الذاتي.
في الربيع العربي بعامة والثورة السورية بخاصة، حضرت أغلب طرائق البرهان على المسلمات والبدهيات الأولى كلها التي شكلت نماذج المثقف العربي، تلك المسلمات التي صاغتها صيرورة الامتداد والصراع المعرفي والأيديولوجي التاريخية للثقافة العربية بعامة، والسورية بخاصة، إلى شكل الوجود الحالي وهويته؛ مرة بهيمنتها الكلية ومسلماتها المطلقة سواء كانت دينية أم دنيوية بأشكالها الماركسية أو العلمانية أو القومية، ومرة بنزعتها التسويغية والتوصيفية المراوغة والفوقية، وأخرى بقوة الإكراه والعنف محملة على أيديولوجيا السلط ورغبتها التملكية المطلقة، وقلما حضرت بطريقتها العقلانية وسير مسارها التحليلي؛ فحضر التحاجز المعرفي وأشكال نكوصه -وبالضرورة السياسي والمجتمعي- بدلاً من جدل المنهج والطريقة والسؤال، وقلما تساءل مجموعنا من أين نبدأ؟ من مسلماتنا الأولى والصور المكتملة في “الرأس” عن الواقع؟ أم من متغيرات الواقع المفاجئة والمتسارعة وبشكل مغاير لمجمل تلك التصورات والأيديولوجيات الأولى. ولنقل عن هذا المفرط في التكاثر والنمو- زمن الثورة- إنه عصر الحريات الذي لم نعشه بعد وعلى فرضياتنا الأولى كلها أن تعيد التقاط كماته [2]“Quanta” المحدثة في عالم وواقع يتغير بشكل مذهل.
تاريخانية العروي ومحكمة التاريخ
لماذا محكمة التاريخ؟ محكمة التاريخ كونها الزمن الذي يحاكم بها اتساق التكون في إطار المقارنة بين اللحظة الحالية وسياق التشكل والتكون، سياق الهوية والصورة مشكلاً مسحة للمقارنة للتاريخية بمعطيات الحاضر المادي والمعنوي، وما استثناء المستقبل إلا لكونه احتمالياً بذاته يبحث عن رجحان تحوله وانبعاثه واقعياً، وهذا لا يعني الإلزام بمسار معين وقراءة أيديولوجية معينة، وليس أيضاً نفياً للموقف الأخلاقي، بل هو محاولة قراءة مقاربة للحدث وفق معطياته الموضوعية لا الرغبوية والبحث في مسارات تشكله ودوافعه بما يتضمنه من استدعاء لمقاربة الموقف الأخلاقي بكلياته بوصفه ضرورة معرفية ونقدية من حيث المبدأ: كونه موقفاً فكرياً أولاً، ومحكاً واقعياً استشرافياً ثانياً لحامل الكليات المعرفية من واقع اليوم الدامي.
ولماذا تاريخانية عبد الله العروي؟ ليس لأن العروي مفكر نهضوي عربي ناقد وحسب، ولا لأنه من روادها ومنتجيها في مستويي المفهوم والنقد فقط، بل لأن “الثقافة” اليوم تخوض تجربة الربيع العربي التي خصها العروي -أي الثقافة العربية ومسيرة صيرورتها نقداً وتحليلياً في قراءاته التاريخية- متوقعاً نتيجتها ((قد يتقدم المجتمع العربي بصورة ما، قد يحرز بعض الانتصارات في طريقه الحالي إلا أنه سيقتحم الحاضر والمستقبل ظهرياً…)) [3]، فهل صدقت رؤيته، وهو الذي أشار مراراً إلى إمكان كتابة مستفيضة في هذا الشأن، ليتوقف عنها وينتقل بعدها إلى تأسيس منهجي للعقل والدولة والحرية؟
دراسات العروي التاريخية حددت كثيراً من المفهومات والمحددات للمثقف والثقافة، قد يذهب بعضهم إلى الاتفاق معها أو نقضها والاختلاف معها جذرياً، لكن النقاط التي ستضيئها الدراسة هي تلك المتعلقة بخط العقلانية العربية المغيب فعلياً إلى اليوم عن معترك الحدث، وأيضاً المحددات الممكنة للمثقف والثقافة من هذه الزاوية ((فالمثقف ليس عليه بالدرجة الأولى الاستيلاء على السلطة السياسية بقدر التمكن المعرفي من الحقل الاجتماعي الشعبي)) [4]، وبخاصة أن المثقف بحالته العربية ينافسه كل من الشيخ والزعيم السياسي [5] في الساحة الاجتماعية والبنية الذهنية العربية. فهل تمكن مثقف الربيع العربي عموماً والسوري خصوصاً من قراءته التاريخية أو التاريخانية بحسب العروي في قراءة المشهد الثوري؟ وماذا كانت مساهماته في هذا الجانب؟
قراءة التاريخ عند العروي أو التاريخانية هي تلك القراءة الموضوعية لأسباب التشكل والتغيير والصيرورة في المجتمع، الأمر الذي يحيل على قراءة النتائج متضمنة في الأسباب وذلك ضمن مفهوم الفكر التاريخي المتعين، بصيرورة الحقيقة وإيجابية الحدث التاريخي وتسلسله، والمسؤولية الفردية من الجانب الذاتي الفاعل في أحداثه، وأن ثبوت قوانين التطور التاريخي في وحدانية الاتجاه من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل هي غائية التاريخ ومسار تقدمه الواجب قراءته منهجياً وموضوعياً [6]، فالتاريخانية عند العروي بوصفها نزعة تاريخية تنفي أي تدخل خارجي في تسبب أحداث التاريخ، فلا هي فوقية غيبية أو ربانية وليست هي مؤامرة كونية خارجية، كما يحلو لبعض “ثقافيي” المرحلة وصفها، فالتاريخ سبب وخالق ومبدع في إطار حركته البنيوية الضمنية؛ ومن الضرورة بمكان هنا القول أن البحث في موضوعة التاريخانية من منظاري الحدث الإيجابي الفاعل في منعطفات التاريخ، وصيرورة الحركة الضمنية والبنيوية له بما تحمله من ذهنية وثقافة ومحمولات اجتماعية تبدو نقاطاً معرفية مضيئة في التحليل العقلاني، لكن غائية التاريخ وموضوعة الاشتقاق المستقبلي تبدو موضوعة تعود إلى مفهوم الحتمية الماركسي وهذا موضوع نقد معرفي سنأتي عليه في مكان آخر ودراسة أخرى.
إن العودة إلى قراءة المنهجية التاريخية والفكرية في كتب العروي وغيره من مفكري العرب المحدثين في هذه الساحة المتسعة على أكبر أحداث العالم، ضرورة معرفية أولاً، وبخاصة أن هذا الفكر ما زال محط منظومة نظرية مفهومية لم تنبسط بالواقع بعد، وهي اليوم أمام المحك التاريخي الحقيقي لها في ظل ثورات الربيع العربي الدامية والغزيرة في تقلباتها وتغيراتها ثانياً. ومن ثم تقف الثقافة العربية براهنيتها أمام أسئلة وجودية كثيفة، إلى اليوم تبرز على ساحة اشتغالها قراءتان متنافيتان مثنوياً:
– قراءة كلية مسبقة، أسماها تيار العقلانية العربي ومنه العروي (أدلوجة) متسلسلة من حيث منبعها الخارجي، فتصبح الثورة مؤامرة كونية وهو حال “نخب” ما يسمى بالموالاة وتوابعها السياسية والفكرية التي ما انفكت تعتبر المجتمع وحراكه الشعبي محض منتج غربي غرضه الإيقاع بتيار “المقاومة والممانعة” والرسالة الخالدة، فتصبح المؤامرة التي نفاها العروي، خطاً فكرياً نكوصياً لا يمكن التفريق فيه بين “مثقف” “ماركسوي” أو “قومجي” أو داعية ديني متمسك ببدهياته درجة التطرف والتعصب.
– وقراءة أخرى تحاول الاجتهاد بسويغية فاضحة، فترى التعصب والتطرف الديني والتشنج السياسي محض ردة فعل على عنف السلطات وفقط، لتغض النظر تماماً عن مقولة التأخر التاريخي القابعة في جوف التاريخ العربي وثقافته الموروثة، إذ تصبح “النصية” أو شبهة النصية كما النفعية الغرضية السياسية مقولات تسويغية للفعل المتخارج مع المنحى الإنساني العام والثقافي، وكأن السبي وتجارة النساء والقتل محض ردة فعل فحسب، لا عودة نكوصية إلى ما قبل مفهوم الدولة وتشكل الأمة، لتسقط في انتكاسة التاريخ وعودته إلى الوراء مخالفة مسار العروي التاريخي ذاته.
وقلما تمكنت الثقافة العربية -وبالأخص المثقف العربي والسوري، وهذا ليس للتعميم فقد دفع عدد منهم تكاليف باهظة لمواقفهم المتماهية مع حركة الشارع الشعبي وسنأتي على تفصيله أدناه- الخروج من كلاسيكية العروي التاريخية أو قراءته النزاعة نحو السببية، إلى البحث عن إيجابية الحدث التاريخي في خضم حركة الشارع الثورية بعمومها في صيرورة التشكل والتجاوز، إحدى أهم النقاط المضيئة والمشرقة في تاريخانية العروي وفكره النقدي، فعلى الرغم من أن (( المثقف يرى نفسه ضحية المجتمع ومنقذه بآن، مع رفض صريح وعنيد لمركزية التاريخ، فالإنسانية المتأخرة ظاهرياً، البائسة، هي التي تحافظ على القيم الجوهرية للإنسانية)) [7] وهذه الإنسانية المتأخرة ظاهرياً التي تمثل حراك الشعوب بواقعها المتردي تاريخياً بمقياس مجاف للحقيقة الكلامية الثقافية، انتفضت لحرياتها ومظالمها بأدواتها المحلية، حاملة مفهومي الحرية والعدالة، اللذين قادا مفكري النهضة العالمية الأوربية إلى منظومة معرفية كبرى في الحرية والعدالة والمساواة، تبدو اليوم محط كلام فقط عند بعض “ثقافيي” المرحلة، وموقفاً متعالياً من الناس وتجمعاتهم البشرية، فالناس هنا بموروثهم الحياتي البسيط وفي سياق تمسكهم بحق الحياة الأنطولوجي الأول ليسوا أشراراً ولا إرهابيين، هم روح أمة وجب على المثقف رؤية مسارها وتكثيف نفاذها في بعد ثقافي إنساني عام، تلك التي عبر عنها إدوارد سعيد في أن “ميزة هذا المثقف قدرته العالية على استخدام رموز ودلالات ومفاهيم لغوية عالية متصلة مباشرة بالإنسان والكون والفرد المجتمع”[8]، فأين كان المثقف من هذا وماذا فعل بنفسه وبالثقافة؟
في ضرورات نقد “المثقف” ومحدادتها
المشهد السياسي للربيع العربي والثقافي، كان محك التجربة العملي الفعلي للمثقف من حيث قدرته على إثبات وجوده في ساحة اشتغاله بالكليات المعرفية وتحقيق إجماع نسبي حول مقولاته الكلية ومفهوماته الثقافية والإنسانية التي طالما كانت سلاحه، في الشارع الشعبي والاجتماعي، فالتحاجز والتباين السياسي والموقف من الثورة أظهرا موقفين للمثقف السوري هما الأوضح إلى اليوم:
- الأول حمل الثورة بتوضعاتها ومفاصلها كلها متفقاً مع موضوعة غرامشي في المثقف العضوي، فكان أن دخل في معتركها السياسي، وقلما اكتفى بدوره التنويري، وفي بعض الحالات تبوأ مركز القرار فيها ما شكل عوامل كبح وإعاقة للمثقف ذاته والمشروع الوطني من خلفه. فالمثقف بصورته السياسية، المبتعد فكرياً خطوات عن توضعات الشارع الشعبي وميراثه المحلي في ما يشكله من ثقافة ما قبل-دولة، ترافق هذا مع خذلان عام لإنجاز المرحلة السياسية لثورات الربيع العربي، ما جعل المثقف السياسي العضوي يخرج من معادلة الشارع حينما لم تنصف المتغيرات الدولية السياسية موضوع المظالم الشعبية أصلاً؛ وهنا قلما جرت العودة إلى مقولة العروي أعلاه من حيث مهمة المثقف البعيدة عن الساحة السياسية والقريبة من ساحة الشارع الشعبي بوجدانه وروحه بشكلها التنويري، فكانت النتيجة أن خرج المثقف منهاً، ومعه المشروع الثقافي والوطني سياسياً، ما فتح المجال لمئات المشروعات المحلية المذررة للمجتمع والحركة الشعبية ما جعل المشهد الحالي يتفوق فيه الزعيم السياسي والعسكري والقبائلي على المثقفين والنخبويين جميعهم.
- والثاني من بوابة النكوص المعرفيEpistemological Regression [9] التي تجلت بوضوح شديد في انغماس عدد من المثقفين وارتكاسهم خلف أيديولوجياتهم الأولى (قومية كانت أم ماركسية أم إسلامية أم حتى علمانية) لزمن تشكلها الأول الحميمي متخذاً موقفاً دفاعياً تسويغياً معادياً لكل جديد أو متشعب أو متعدد، والثورة كذلك، متخلياً عن كلياته المعرفية وموظفاً إياها شكلياً وذاتوياً وتفكيكاً للمجتمع معادياً كل من يخالفه رؤيته أو أدلوجته. هي البوابة ذاتها التي لم ترَ من حركة الشارع الشعبي سوى “انتكاسة” عن جملة المكاسب التي جناها “المثقف” في مرحلة تشكله الأولى عندما كانت الثقافة محط قوام هامشي بل ترفي في مجتمع قانع وقابع تحت مظلمة الاستبداد وعسفه السياسي، إذ كان المجتمع يقبع في عبودية السلطة وستاتيكها المقيت والقاتل، أما اليوم وقد قوِّضت أسس الاستبداد فأين هو هذا النموذج للمثقف، هنا السؤال؟
الساحة السياسية التي دخلها المثقف في خضم دوامة الأحداث المتسارعة والمتغيرة بشدة والصراع على السلطات، في عالم توجت فيه كونية “قريته التكنولوجية” في صراع عالمي في الساحة السورية تتغير فيه المصالح يومياً، رمت بالمثقف السياسي خارج دائرة الفعل الشعبي الحقيقية، ليخسر صراعه التاريخي مع التأخر المجتمعي أمام الزعيم السياسي أو الشعبي، وهذا ما يظهر جلياً وبوضوح في نمو المد المأزوم من التاريخ في صراعات إثنية وعرقية يتصدر فيها المشهد زعامات دينية أو اجتماعية محلية حيّدت المثقف ومشروعه الوطني معاً. وفي الجانب الآخر فقد كثير من مثقفي المرحلة ميزتهم الثقافية فانحازوا نحو التسويغية والوصفية الكلامية معاديين للثورات، وقدموا خطاباً فئوياً ومتعالياً ليسقط في مساحة محليته وطائفيته مبرراً ذلك ب”علمانية” و”ديمقراطية” مبسترة جاهزة للتركيب في المجتمع وسابقة للمشروع الوطني والدولة، لا ترى من جذورها المعرفية موضوعة الكل البشري وعقده الاجتماعي الممكن، ولا حرية الكل ولا عدالة الجميع ولا مساواة الكل في الحقوق، بقدر الانتصار لفئوية ضعيفة وهشة قابلة للكسر في كل لحظة وتعمل على تفتيت المجتمع كله. فإذا كان الخوف الأمني مسوّغاً لهذه المواقف النكوصية، ألم يكن سيل دماء الشعوب ومظالمهم يستلزم كشف اللثام عن زيف الوصفية والشكلية والكلامية التي عاشها بعض “ثقافيي” المرحلة ومنظري السلطة والحُزب.
الفوضوية التي تشخصن القضايا المعرفية كلها على قدر الفرد ورؤاه الذاتية، الفرويدية في التشخيص النفسي والتعالي الذاتي، الشكلية الصورية الكلامية بلا مضامين أو هوية معرفية محددة، والسريالية الطوباوية في رؤية الواقع [10]، هي نقاط أربعة أضاءها العروي عند محاولة تلمسه مسارات نقدية لشريحة ثقافية قدمت “ليبراليتها” و”ديموقراطيتها” الذاتية، على موضوعة التغيير في مستوى الدولة أولاً، في تماثلية معكوسة عن أصل حدوثها في الثقافة الأمريكية التي أنجزت في المبدأ مشروع الأمة والدولة الحديثة وباتت الثقافة فيها تتشعب باتجاهات أنتروبولوجية وسيكولوجية وبنوية وحداثية تستقي من جذور توضعها المؤسساتي في دولة وطنية، لا أن تكون الديمقراطية محض شعار أو نسج شعري في القول يلغي ضرورات تشكل الدولة. دولة الحق والقانون الموضوع الذي طرحته ثورات الربيع العربي هدفاً أولياً لها وهو استعادة الدولة ومؤسساتها من النظم الدكتاتورية. هذا ولم يدرج العروي معها موضوعة خامسة تتعلق بالنفعية التسويغية المتصالحة مع مربع الذاتوية الذي نقده.
هذه النقاط الخمسة ظهرت بوضوح في جوانب عدة من مثقفي المرحلة في مواجهة مد الثورات، وأظهرت حالات من النكوص المعرفي والعصاب الذهني في التشدد الخطابي والحواري والتمترس خلف “أدلوجة” ماضوية في الفكر السياسي الذي نهل منه ذاته، ليسقط “الماركسي والقومي والعلماني”، وكلها بين مزدوجين، في نزعة تسويغية لمعاداة الثورة التي طالما تغنى بها وبمفهوماتها، في فخ ذاتية مفرطة في اللاموضوعية، أهم ميزاتها أنها لا ترى ثورة في واقع بؤس الناس البسطاء ومظالمهم أبدا، بل الثورة وحدها التي تخرج من رأسه، ويبدو أنها لن تخرج أبدا، إلا بصيغة كلامية خالية من المعنى والمضمون والتجسد، ومتعالية على الشارع الشعبي والمجتمعي، الساحة التي أناط بها العروي مهمة المثقف على كسبها أولاً.
وهذا التعيين ليس حداً نهائياً في النقد، بل تحديداً أولياً يستهدف إلقاء الضوء على المسؤولية التاريخية والأمانة المعرفية التي ألقاها العروي على عاتق المثقف وأمانته التاريخية أمام مقولاته والمجتمع [11].
خاتمة: في البدء كان الكلمة
إن هم المفكر العربي الأول هو تحديد هويته[12] وهذا التحديد الواجب نقده في ثقافتنا ضرورة اليوم قبل الأمس، فمناصرة الثورة لا تعني أبداً كسب موقع سياسي منها وفيها، ومعاداتها لا تعني أبداً النكوص عن كليات المعرفة والثقافة والعمل التنويري والتاريخي، فالموقفان كلاهما زادا في تأزم الساحة السياسية والاجتماعية العربية، وتتكثف أكثر في سورية، ما يقود إلى تكريس غربة المثقف أكثر ويساهم في انعزاليته المجتمعية ليقع المجتمع برمته أسير نزعاته الوحشية والمحلية من دون منارات إنسانية تعيده إلى أنسنته ونزعته الغائية في الحياة.
الثورات ليست منبراً كلامياً أو أيديولجياً أبداً، هي لحظات انقطاع متغيرة عن سياق سكون المجتمعات وتاريخ تكونها، هي مخاض تجربة تراكمية مع الزمن مسارها طويل ومفتوح ما لم تحسم مهماتها السياسية والمرحلية، فإن كان غرضها الأول والأساس هو تغير في مساحة الحكم وطريقته، فأغراضها وغايتها الأخرى تضرب في عمق المجتمع وبنى تكونه المعرفية والثقافية وهذا ما على المثقف أن يكون أميناً معه ومع حكم التاريخ وإيجابية أحداثه والتقاط مفعولاته بروح وعقل منفتح. وحيث ما زال الفعل الثوري والسياسي اليوم بين مد وجزر واستعصاء عام أمام آلة السحق العسكرية، وكذلك مواقف مثقفي المرحلة أيضاً، فالواقع، وبحكم ميوله المنتجة والمحدثة يُجهز على مقولتي المثقف السياسي والغرضي النفعي “الأداتي” حين “يصبح الأفق ما قبل العلمي للتجربة طفولياً”، بحسب تعبير يورغن هابرماس[13]، والوصفي الشكلي النكوصي معاً، لينتقل موضوعياً إلى البحث عن ثقافة تنتصر لكلياتها المعرفية ونفاثاتها المحدثة في الواقع التي ما زلت جزيئاتها وتفاصيلها قيد التبلور والنضج، تحتاج إلى قدرات عقلية وثقافية متحررة تمتلك الجرأة على ذلك في اشتقاقها لكليات إنسانية تمس مصالح البشر ونزوعهم نحو التحرر والإنسانية، كما كانت الثورة البرجوازية ذات يوم حين طرحت مثلث الديمقراطية العالمي في الحرية والعدالة والمساواة، اللحظة التي التقت عندها مصالح البشر بموروثهم القبلي كله مع فكر التنوير وثقافته وكلياته المعرفية، وهي ذاتها تجربة هرمس الأسطورية في نقل المعرفة من كليات الله الى إلبشر في ما بات يسمى في عالم اليوم علم الهرمينوطيقا [14].
هي ذاتها كليات البشر والناس وتاريخ مظالمهم التي لا بد لها من أن تأخذ مساحتها الزمنية والتراكمية، في مرحلة لم تحسم نتائجها بعد ما لم تحسم الثقافة ومفهوماتها هويتها وكينونتها في سياق تشكل أمة تنهض، بدأت بكلمة الحرية، وهكذا أرادها العروي في تاريخانيته وعقلانيته المنتظرة، والحرية فضاء يتسع للجميع ولمغامرة الجميع ولحضور الجميع، وما لم تنتصر الحرية بوصفها كلمة ومعنى وثقافة وفضاء يتسع ،ستعمل مفعولاتها العكسية على نفي الجميع وتخليق مزيد من التذرير والتشظي في المشروعات الوطنية لتكون المشروعات المحلية والطائفية والقبلية بديلاً قريب المنال وأسهل من غيره.
وفقاً لهذا، تبقى مقولة التأخر التاريخي موضوعة صالحة للتحليل في البنية العقلية تقتضي العمل الثقافي والفكري في مستوياته المتعددة: التنويرية والتاريخية والاجتماعية على أرضية ومنهجية معرفية تغوص في العمق المحلي وأزماته التاريخية الذهنية متحسسة مشكلاتله وتوضعاته، وتخرج رأسها منه، بحسب تعبير ياسين الحافظ [15]، لتعيد تشكيله مفهومات معرفية قابلة للحياة والمساهمة فيها، لا الاكتفاء بالوصف والشكلانية والمكاسب الآنية.
المراجع
[1] يمكن مراجعة منشورات رواد العقلانية العربية لياسين الحافظ وإلياس مرقص وعبد الله العروي وغيرهم.
[2] كمّات Quanta جمع كم وليس كمية، مصطلح فيزيائي يحيل على وحدات الطاقة الأساسية المكونة للمادة.
[3] عبد الله العروي، ” العرب والفكر التاريخي”، ص 25، دار التنوير والمركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1983.
[4] العرب والفكر التاريخي، المرجع ذاته، ص 72.
[5] عبد الله العروي، ” الأيديولوجية العربية المعاصرة”، ص 70- 74، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1995.
[6] العرب والفكر التاريخي، المرجع ذاته، ص 80-89.
[7] العرب والفكر التاريخي، المرجع ذاته، ص 175.
[8] إدوارد سعيد، ” خيانة المثقفين/ النصوص الأخيرة”، ترجمة أسعد الحسين، ص 36، دار نينوى للنشر، دمشق، 2011.
-[9] جمال الشوفي، “كسرُ الأطواق وسؤالُ القيمة: “المثقف” بين هزيمةٍ وتحول”، مجلة قلمون، العدد الخامس 2018.
[10] العرب والفكر التاريخي، المرجع ذاته، ص 50.
[11] العرب والفكر التاريخي، المرجع ذاته، ص 44.
[12] الأيديولوجية العربية المعاصرة، المرجع ذاته، ص 23.
[13] يورغن هابرماس، “العلم والتقنية كأيديولوجيا”، ترجمة حسن صقر، ص 103، منشورات الجمل، كولونيا، ألمانيا، 2003.
[14] عادل مصطفى، ” فهم الفهم/ مدخل إلى الهرمينوطيقا نظرية التأويل من أفلاطون إلى غادمير”، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2007.
[15] ياسين الحافظ، “الهزيمة والأيديولوجية المهزومة”، دار الحصاد، دمشق، ط2، 1997.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.