أولًا: الملخص التنفيذي
يأخذ قطاع التربية والتعليم بمعناه الصرف والشامل مفهومًا له حساسية عالية في سوريا عمومًا، وفي منطقة الفرات والجزيرة السورية تحديدًا، ويأتي ذلك على خلفية التنوع الإثني والديني الذي تحول عن الغنى والثراء كنعمة للاحتفاء به إلى نقمة ومصدر قلق لنظام البعث، وللمرأة السورية نصيب كبير من هذا الحيف والإقصاء عبر اتباع سياسات ممنهجة ومدروسة.
وإذا كان التعليم يشكل اللبنة الأولى لتنمية رأس المال الاجتماعي، فإن واحدة من أهم مخاوف نظام البعث كانت على الدوام خشيته من تضخم العقول، لذا عمد إلى تكريس التجهيل، وتقصد إهمال تعليم الفتيات للإبقاء على دورة حياة بذرة الجهل حية، بتهميش مدرسة الحياة الأولى، الأم!
كما يأخذ التعليم أهمية إضافية في مناطق الجزيرة السورية عبر توظيفه كوسيلة من وسائل النظام القمعية لطمس التنوع، واستخدامه بما يشبه السور المنيع لكبح أية تفاعلات ثقافية أو ديموغرافية مع المحيط السوري الداخلي أو مع دول الجوار بحكم العلاقات العشائرية وتقاطع اللغات واللهجات.
ضمن الصورة السابقة تأتي تعقيدات تعليم المرأة في الجزيرة السورية قبل وبعد الثورة السورية عام 2011، يضاف لذلك حمولة الموروث الاجتماعي من عادات وتقاليد لها صلة مباشرة بقضايا التزويج المبكر والإنجاب، حيث تحتاج المساحات الزراعية الواسعة لزيادة ووفرة في عدد أفراد الأسرة بهدف الحصول على الأيدي العاملة الرخيصة، كل هذا مع جملة قوانين تمييزية لا تكفل ولا تضمن حقوق الفتيات في إتمام تعليمهن، لا بل تنحاز لصالح القيم السائدة، وضع المرأة بين فكي كماشة أمعنت في سحق حقها الطبيعي بالوصول إلى المعرفة التي تعينها في الوصول للموارد والتحكم بها، ومن ثم الاستقلالية في اتخاذ القرار والمصير.
هذا البحث يطرح هذه المسألة ويحللها مبيناً أبعادها من خلال المحاور التالية:
- مشكلة البحث، وأهميته، وأهدافه، ومنهجيته.
- من يوميات مدرسة في الريف الشرقي
- الحياة العامة في منطقة الفرات والجزيرة السورية
- التعليم الرسمي في سوريا في زمن البعث
- غياب التنوع من المناهج الدراسية
- معوقات تعليم المرأة في منطقتي الفرات والجزيرة السورية
- غياب خطط التنمية في منطقتي الفرات والجزيرة السورية
- الخاتمة والتوصيات
- المراجع والمصادر
ثانيًا: مشكلة البحث وأسئلته
دأب النظام السوري على تصدير نفسه بصورة المخلّص للمرأة والنهوض بمستواها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وأدرك ما للتعليم من دور محوري في صنع المكانة على الصعيد الخاص والعام، كونه الكفيل بخلق النقلات النوعية في حياة الأفراد والجماعات، وهو الكاشف الحقيقي لتبيان الجدوى من سياسات وآليات ووسائل أية دولة. يعمل البحث بالتركيز على كشف المعوقات الفعلية أمام تعليم النساء والفتيات، والتي لم يقف عليها النظام بجدية خلال عقود حكمه، ويمكن حصر أسئلة البحث بما يلي:
* هل كانت سياسات التعليم الرسمي تفضي إلى تحسين واقع المرأة تعليميًّا؟
* هل راعت المناهج الدراسية تنوع المجتمع السوري؟ بما في ذلك المنظور الجندري وقيم المساواة بين الجنسين؟
* ما هي المعوقات الفعلية والتي تحد من التحصيل العلمي للنساء والفتيات في منطقة الفرات والجزيرة السورية؟
ثالثًا: أهمية البحث وأهدافه
يكتسب البحث أهميته من الدور النهضوي الذي تلعبه النساء في بناء المجتمعات الديمقراطية الحديثة، وأثر التعليم في خلق تغيير إيجابي عبر خلخلة الأدوار النمطية للمرأة على كافة الصعد، وخلق فرص جديدة أمامها نحو بناء شخصيتها المستقلة بعيدًا عن التبعية. لذلك لابد من تشكيل فهم أعمق حول واقع المرأة بهدف معالجتها ضمن استحقاقات المرحلة القادمة، أي مرحلة إعادة الإعمار في سياق الحل السياسي السوري، في محاولة لإيجاد نظرة جديدة ومختلفة، تضع مصلحة المرأة السورية في صلب الانتقال والتغيير الجاري وتأخذ احتياجاتها بعين الاعتبار، وتاليًا إيجاد حلول ومقترحات تفضي إلى نقلة مجتمعية نوعية وجادة. أما الأهمية الفرعية للبحث تكمن في تسليط الضوء على أكثر المناطق تهميشًّا وتضررًا من قبل النظام على مدار عقود عدة لضمان عدم تمريرها إلى المستقبل. وتتركز أهداف البحث في نقطتين:
* تقديم صورة قريبة لواقع تعليم الفتيات في عموم سوريا وفي منطقة الفرات والجزيرة السورية خصوصًا.
* تسليط الضوء على بعض الجوانب التي تعيق تعلم الفتيات في تلك المنطقة، ليتم العمل عليها من قبل الفاعلين/ات وصناع/ات السياسات.
رابعًا: منهجية البحث:
يعتمد البحث على المنهج الوصفي التحليلي بالدرجة الأولى، كونه الأقرب لبيئة الموضوع التي تحتاج الوصف وتحليل الوقائع والمعطيات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الخبرة الشخصية في مجال التعليم دفعتني لأن أميل أحياناً للمنهج الاثنوجرافي لجهة الإضاءة على بعض القضايا التي عايشتها، كشهادة حية دون الغوص في التفاصيل، مع عدم إغفال اللجوء للمقارنة التاريخية نتيجة تباعد وتعدد المراحل الزمنية لسياقات تطورات الموضوع، وذلك ضمن حيز زمني يمتد منذ بدايات استيلاء حزب البعث على الدولة السورية حتى الوقت الراهن.
ويمكن سحب نتائج الدراسة بشكل أو بآخر على مناطق ريفية أخرى من سوريا، بحكم تقاطع مشكلات المرأة السورية الريفية سيما المتعلق منها بالتعليم، حيث وحدة المناهج والآليات والأدوات، بالإضافة إلى تقارب البيئات المحلية المجتمعية والثقافية.
من يوميات مدرسة في الريف الشرقي
في عام 1990 التحقت بعملي كمدرّسة لمادة اللغة الإنكليزية في قرية تدعى “حميمية كبيرة”[1]، وكانت تلك سنتي الأولى في رحلتي مع التدريس والتعليم، والتي استمرت قرابة العشرين عامًا. توجهت إلى القرية بتوجس كبير يعادل جهلي التام بتلك المنطقة الفراتية، والتي حظيت بساقية مياه كانت بمثابة شريان الحياة الكفيل بتركهم أحياء. فوجئت بمدير المدرسة ومنزله الريفي المتواضع، زوجته الصامتة المنهمكة والمنهكة من أعمال المنزل وتدبر شؤون الأطفال وقد بدا الفقر جليًّا على محياهم.
خلال تلك السنة تواجد معنا أربعة معلمين من أبناء القرية، لم يكن بينهم معلمة! اكتشفت سريعاً أن الفتيات تتركن مقاعد الدراسة باكرًا، بعد الصف السادس أو ربما قبل إتمامه، بسبب الأعباء المنزلية والزراعية، إضافة إلى تمسك أهالي المنطقة بعادة التزويج المبكر للفتيات. في الصفوف الإعدادية حيث درّست كان تواجد الفتيات على مقاعد الدراسة نادرًا جدًا، فقط اثنتان في الصف التاسع، وثلاث في الصف السابع، أما الصف الثامن خلا تماماً من الإناث، في الوقت الذي كانت أعداد التلاميذ الذكور في الصفوف الثلاث قرابة الـ 90 تلميذًا. والملاحظ ان فتاتا الصف التاسع كانتا لصيقتان ببعضهما، وعلمت لاحقًا أنه حتى الغياب المدرسي كان يتم باتفاق مسبق بينهما، كانتا تشعران بالاغتراب في تلك المساحة المحشورة بالتلاميذ الذكور، وبينما يتفاخر الصبيان بإجادة السباحة في الساقية القريبة، كان جواب الفتيات حول سؤالي إن كن يسبحن أو يرغبن في ذلك مكتنفاً بالحزن واليأس: ” لا يجوز ولا يسمح لنا أن نسبح”، أما الأكثر إيلاماً أنهن في الوقت ذاته كن مرغمات دونًا عن الذكور على توريد مياه الساقية للشرب والغسيل ونقلها بواسطة صفائح معدنية من ذات الساقية التي يلهو بها أقرانهن من الذكور.
ولاحقاً تعرفت على كثيرات من نساء القرية عن كثب، دخلت بيوتهن ونشأت صداقات، كن وأطفالهن يزرعن الذرة ويحصدنه، تلك كانت مهمتهن إضافة للمهام الأخرى، إلا أن تسويق المحاصيل والتواصل مع المحيط الخارجي للقرية كانت مهمة يحتكرها الرجال فقط. وفي واحدة من المناسبات دعانا أحد المعلمين لحضور عرسه من ابنة عمه القاصر، والتي كانت طالبة في الصف التاسع في السنة التي سبقت العرس، ولما ألمحنا له بصغر سنها، كان لسان حال المعلمين البقية “إما الزواج في هذه السن أو “العنوسة”، هذه تقاليدنا”.
أما ما يخص البناء المدرسي، فقد كان عبارة عن أربع غرف، ثلاث للصفوف المدرسية وواحدة للإدارة والمدرسين/ات، ثمة مبنى آخر ملحق به يحتوي على ثلاث غرف صفيّة أخرى، مخصصة للصفوف الابتدائية، والمدرسة كانت بدوامين صباحي ومسائي، كان البناء المدرسي يحتوي على دورة مياه خارج الخدمة سواء للتلاميذ أو للمعلمين/ات، بقي بابه مقفلًا بسلاسل حديدية غليظة طوال العام الدراسي، والمعلمات السابقات أخبرنني أنه عاطل منذ سنوات، وإذا كان الذكور قادرين على قضاء حاجاتهم دون حرج في المساحات المحيطة بالمدرسة فإن الطالبات كانت معاناتهن مضاعفة. بينما نحن كنا على تواصل مع النساء في الدور القريبة بشكل يومي، مرة على الأقل خلال الدوام.
خامسًا: الحياة العامة في منطقة الفرات والجزيرة السورية
يغلب الطابع الريفي الزراعي والرعوي على الحياة العامة في منطقة الفرات والجزيرة السورية، ولم يشهد اكتشاف النفط عام 1969 أي تطور أو انتقال إلى مرحلة صناعية مدينية. حيث أعباء المعيشة اليومية تشكل عبئًا ثقيلًا على كاهل السكان، وتفتقد معظم هذه المناطق وحتى يومنا هذا إلى شبكات الصرف الصحي والمياه والكهرباء والطرق المعبدة، ولا تزال خدمات القطاع الصحي محدودة وشحيحة، وتستفحل الأمراض والأوبئة خصوصاً ما بين النساء والاطفال، ما يدفع بسكانها إلى تحمل مشقات السفر نحو العاصمة والمدن الكبيرة لتلقي العلاج.
وعلى الرغم من أن المنطقة تمتلك نصف الثروة المائية في سوريا، إلا أنها لاتزال تعتمد على الزراعة البعلية الموسمية، وذلك لارتفاع تكاليف الضخ وغياب مشاريع الري الحديثة الجماعية [2]، وهذا ما جعل المنطقة عرضة لمواسم القحط والجدب مثلما حدث في عام 2021[3]، حيث نتج عن تلك الانهيارات المتلاحقة والمتكررة الدفع بسكان الجزيرة على مدار عقود للهجرة نحو المدن السورية الكبرى، وشكلت ما سمي بأحزمة الفقر في ضواحيها، على سبيل المثال معظم سكان حي (زورافا) بدمشق هم ضحايا الجفاف والإهمال الذي ضرب قراهم، وكانت دول الجوار ملاذ قسم آخر منهم[4]. وتعاني المنطقة من ضعف واضح في المؤسسات الإدارية، وتابعيتها للمركز، عدا عن سياسات الإهمال المتعمدة، وهذا ما عزز السمة العشائرية فيها نحو مزيد من التحكم في مفاصل الحياة العامة من خلال جملة معقدة من الأعراف والقيم السائدة بموازاة القوانين الوضعية التي لم تشهد تفوقًا على ما هو دارج ومثبت بالعرف العشائري.
وتمتاز المنطقة بغنى وتعايش مكوناتها الإثنية والدينية، رغم التوترات التي تحصل من وقت لآخر، إلا أن تداخل وتمازج الثقافات يحافظ لحد كبير على تماسك النسيج المحلي، ولكن النظام وظف هذا التنوع لخدمة سياساته التمييزية، وزادت مؤسساته الأمنية في بعض الأحيان من حدة الصراعات العابرة لفرض سيطرته وتحكمه بالمنطقة من خلال الإمساك والتلاعب بخيوط اللعبة، وذلك باستمالة بعض وجهاء العشائر والزعماء المحليين والتحكم بهم، وضربهم ببعض وفق مكائد استخباراتية هدفها المزيد من الهيمنة والسطوة، كما حدث في القامشلي عام 2004.
سادسًا: التعليم الرسمي في سوريا زمن البعث
منذ نشأة البعث واستيلائه على دفة السلطة في سوريا عام 1963، أدرك باكراً أهمية بسط نفوذه على المؤسسة التعليمية، وليس عبثًا أن اثنين من الآباء المؤسسين للبعث كانا من خلفية تعليمية زكي الأرسوزي[5] وميشيل عفلق[6]، كلاهما روجا لنشاطهما الحزبي من داخل المدارس في أواخر أربعينات وخمسينيات القرن الماضي. بانقلاب حافظ الأسد ووصوله سدة الحكم في عام 1970، بدأ العمل بشكل ممنهج على تبعيث المؤسسة التربوية، ودأب على استيراد تجارب الدول الشمولية لترويض وتدجين أبناء/بنات المجتمع منذ نعومة أظفارهم/ن.
اتسمت المؤسسة التعليمية الرسمية بالدرجة الأولى في ظل إيديولوجية حزب البعث، بلبوس عسكري، حيث تأسست منظمة طلائع البعث عام 1974 بتوجيه مباشر من حافظ الأسد[7]، ومن ثم شبيبة الثورة واتحاد الطلبة، ولجميع هذه المنظمات الملحقة بالتعليم، دور وحيد، هو الترويج لفكر ونهج البعث في المجتمع، وجميعها تقيم على الدوام جملة نشاطات (معسكرات) تدريبية، ولم تأت كلمة “معسكر” اعتباطية وإنما تعبيرًا عن إيمان عقائدي عمل على عسكرة الدولة والمجتمع، وألغى طابعه المدني، وصار التعليم وسيلته الأولى لتمرير سياساته بعد مؤسسة الجيش، وتجلى ذلك بدءاً من اللباس الموحد العسكري، مرورًا بالشعارات الصباحية التي تمجد البعث والقائد، وآليات الانضباط الصارمة، وصولاً إلى حصص التربية العسكرية، الفتوة. فالعقوبات العسكرية القاسية، كالزحف على الأرض وحلاقة الشعر وغيرها من أساليب العنف الجسدي والنفسي، بالإضافة إلى التدريب على السلاح ورمي الذخيرة الحية. بلغت حدة هذه الممارسات ذروتها في منتصف الثمانينات من خلال دورات القفز المظلي الحربي والصاعقة، ومنح من يخضع لهذه الدورات علامات إضافية تخوله/ا التفوق على أقرانه/ا، كرشوة[8].
وليس عبثاً أن تحولت أكثر من ألف مدرسة[9] إلى مراكز ومعتقلات أمنية مع بدايات الحراك السلمي، مورست فيها كل أصناف التعذيب والتصفية، كنتيجة لتلك السياسات، المتبعة في بنية المؤسسة التعليمية لدى النظام على كونها واحدة من أدواته الرئيسية للتطويع والترويض بهدف السيطرة على عملية التنشئة والتربية بمعناها السياسي، وهي واحدة من أهم وأعقد عمليات الاستلاب التي تعرض لها الشعب السوري على مدار خمس عقود، حيث لا تزال المهمة الموكلة لهذه المؤسسة استئصال الفكر أو الذهن النقدي والجدلي واستبداله بالتلقين والاستكانة دون أية ممانعة.
ولكي تُستكمل الهيمنة الحزبية على التعليم، كان النظام يتبع أساليب أمنية صارمة في اختيار الكادر التدريسي، وحاول جهده لتحييد ومنع غير البعثيين/ات من تسلم أدوار ومناصب قيادية، وكانت الخطة الأمنية الملحقة بمديريات التربية في المحافظات تشرف بشكل مباشر على التعيينات والتنقلات وفصل الخطرين على أمن الدولة بحسب تقييم تلك الأجهزة. في مدينة حلب على سبيل المثال كانت الشيفرة المتداولة بين المعلمين/ات المعيّنين/ات، أو المنقولين/ات إلى منطقة عين العرب/كوباني تدعى “المنفى”، وكان اسم الريف الشرقي يصيب الكادر التدريسي بالذعر وخيبة الأمل، جراء الصعوبات التي سيلقونها هناك، حيث البنية التحتية الضعيفة، والعلاقات العشائرية التي إن تضاربت مع توجهات المعلم/ة ستؤدي إلى نتائج لا تحمد عقباه. لذلك كانت حصة هذه المناطق وغيرها من محافظات الجزيرة الثلاث، الحسكة والرقة ودير الزور، هم فئة المغضوب عليهم/ن من وزارة/ مديريات التربية كإجراء عقابي في غالب الأحيان، أو تأتي في بدايات العمل الوظيفي كنوع من الترويض، لا بل كان يتم تكليف المعلمون/ات الوكلاء/ وكيلات “من غير المختصين وحملة الشهادة الثانوية أو دونها” في تلك المناطق، ولم تسهم سياسات النظام في معرفة الاحتياجات الحقيقية وتطوير الكفاءات المحلية لشغل تلك الوظائف، وخلق استدامة في قطاع التعليم دون انقطاع. أما الأمر المستغرب هو أن المتقدمين/ات لوظائف التعليم لم تكن تجرَ معهم مقابلات بهدف قياس كفاءاتهم وخبراتهم حول المهنة، فمجرد التحري الأمني كان كفيلًا بالرفض أو القبول، لأن هدف العملية التربوية كان الحفاظ على النظام وديمومته وفرض سبل الطاعة والولاء.
دأب النظام على التباهي بمجانية التعليم في جميع مراحله الثلاث، الابتدائية والإعدادية والثانوية وحتى الجامعية، وتسجيله في ميزان حسناته، كهبة ومكرمة من “القائد” ومنجز من منجزات حركته التصحيحية[10]، وليس حقًا طبيعيًا من حقوق المواطنة، وواجب الدولة تجاه مواطنيها/اتها. عام 1986 صدر القانون 35 القاضي بإلزامية التعليم للمرحلة الابتدائية، وفي عام 2002 تم فرض الزامية التعليم بموجب القانون 32 للمرحلتين الابتدائية والإعدادية ودمج المرحلتين تحت تسمية “التعليم الأساسي”[11]. بمقابل هذا الإجراء الضخم لم يقم النظام بتشييد مدارس كافية لاستيعاب العدد الكبير من التلاميذ الذين يجب أن يواصلوا التعليم حتى نهاية الحلقة الثانية من التعليم الأساسي، بل كان الاكتظاظ وتقليص عدد المدارس الثانوية هو الإجراء المتبع غالب الأحيان، الأمر الذي أدى إلى تراجع جودة التعليم إلى مستويات غير مسبوقة، دون مراعاة الفروق والظروف الموضوعية بين مختلف المناطق السورية، أو الأخذ بعين الاعتبار حاجة الدولة للتعليم المهني (مدارس مهنية)، حيث أن العديد من التلاميذ وخصوصًا الذكور منهم أصبح يتوجب عليهم التوجه من التعليم الأساسي إلى الخدمة الإلزامية مباشرة أو الانخراط في سوق العمل دون أي تأهيل. في حين أن عادات مثل التزويج المبكر لم يكن يمهل الفتيات للالتحاق بالتعليم الثانوي، عدا عن الأعمال الزراعية التي كانت تستوجب سنويًّا زيادة ملحوظة في أعداد المتسربات من التعليم.
لم يولِ النظام ظاهرة التسرب من المدارس جهدًا كبيرًا، وفاقم الفساد الإداري من انتشارها وعطل القوانين، وتركت للعادات والتقاليد حرية التحكم بمصير الأطفال، وتأخذ الإناث الحصة الأكبر من ظاهرة التسرب في منطقة الفرات والجزيرة، ” وبينما احتفلت أربعة مدن سورية هي السويداء ودرعا والقنيطرة وطرطوس، عام 2010 كمحافظات خالية من الأمية للشريحة العمرية من 15 حتى 45 سنه، فإن محافظات مثل الحسكة والرقة وحلب ودير الزور كانت تعاني من نسبة تسرب عالية لتلاميذ المدارس الابتدائية والإعدادية “[12].
في الواقع هذا التفاوت الكبير ناجم عن الإهمال الطويل لمناطق الفرات والجزيرة السورية، ولم يكن قابلًا للتعمية، “إذ أن نسبة التسرب في المرحلتين الابتدائية والإعدادية كانت تصل إلى 22% في بعض المحافظات الشمالية والشرقية وخاصة بين الإناث”[13]، فالمحافظات الشرقية الثلاث تتصدر قائمة الأكثر ارتفاعًا لنسب الأمية كما نسب التسرب. ويكفي أن نعلم أول جامعة استحدثت في محافظة دير الزور كانت عام 2006، ثم تلتها فروع الرقة والحسكة، فالمسافة الزمنية الفاصلة بين اكتشاف النفط في المنطقة وإنشاء أول جامعة فيها كانت قرابة أربع عقود، وهي كفيلة بخلق فجوة معرفية كبيرة في التحصيل العلمي بينها وبين باقي المدن السورية، خصوصًا بين لدى الإناث، اللواتي وبحكم العادات والتقاليد لم يسمح لهن الانتقال بيسر وسهولة للمدن الكبرى بهدف إتمام التعليم كما كان الشباب يفعل، الأمر الذي استنقع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في تلك المناطق إلى أجل غير مسمى.
من الواضح أن غياب التعليم المهني في المرحلة الأساسية والتي أشرنا إليها، ترك قسم كبير من الفتيات ضحايا التسرب والتزويج المبكر، إلا أنه لا بد أن ننوه هنا أن التعليم الثانوي النسوي والذي روجت له مؤسسات النظام، لا علاقة له بالنسوية كاتجاه فلسفي يهدف إلى المساواة بين الجنسين، وإنما هو امتداد للأدوار الاجتماعية المنوطة بالمرأة والمتوقع أن تجيدها لكونها أنثى، وتكرسها المناهج التعليمية التي تدرس الطبخ والخياطة والتطريز والحياكة وبعض الأدوار الرعائية الأخرى مثل تربية الأطفال، “تقول رولا الرفاعي وضحى سلطان من الصف الثالث الثانوي لمندوبة سانا: إنهما حققتا حلمهما بالانتساب لهذه المدرسة التي عملت على تطوير خبراتهما ومواهبهما في مختلف المهن اليدوية التي تهتم بها المرأة”[14]. ويقودنا هذا إلى النظرة الحقيقية لمؤسسات النظام إلى المرأة وكشف زيف ادعاءاته في تحسين واقعها، لو كان هناك نية جدية للعمل على تحقيق المساواة بين الجنسين لأمكن للذكور أيضا الالتحاق بتلك المهن، وهي دون شك ضرورية، بدلالة مزاولة العديد من الرجال لها، ولكن مقابل أجر، أما في حالة الفتيات فالمطلوب هو تأنيث هذه المهن والصاقها بهن كواجب طوعي يقدمنه مجانًا ضمن العائلة فقط، والقلائل من خريجات تلك المدارس تزاولن مهنًا مأجورة.
من ناحية أخرى، خلال عقوده الخمس لم يستطع النظام أن يفرض مجانية التعليم والزاميته لمرحلة رياض الأطفال، على الرغم من أهمية تلك المرحلة في بناء الشخصية، وحدها العائلات الميسورة والمتوسطة الحال كانت تستطيع تحمل أعبائه المادية، لأنها لاتزال ملكًا للقطاع الخاص، أما المناهج لا تزال غير موحدة، وهي تتبع لتوجهات وميول مالك الروضة، أما الرقابة الأمنية المعتادة فقد تركزت على تأكيد وترسيخ الولاء للسلطة. وأوكلت المهمة للاتحاد النسائي عبر فروعه في المحافظات لأخذ هذا الدور، بينما كفاءة الكوادر لم تكن ذات أولوية بالنسبة، المعيار الأساس هو الانصياع لتوجيهات المالك(المدير/ة) والقبول بالأجر الزهيد للمعلمات.
سابعًا: غياب التنوع من المناهج الدراسية
تأكيدًا لتوظيف التربية والتعليم لصالح هيمنة وتسلط النظام على المجتمع السوري، وربط كل ما له صلة بذلك مع حزب البعث وحاشيته المقربة والمؤتمنة على السلطة، للخروج بنسخة موحدة من المواطن المطواع المستلب، وكي نفهم الفجوة المجتمعية بين واقع التنوع في النسيج السوري وبين اللون الواحد الذي فرضه النظام باستخدام المناهج المدرسية، سنخوض في نموذجين من هذه المناهج، الفصل الأول من كتاب التلميذ للصف الثاني الأساسي، والتربية الوطنية للصف التاسع، كي تتضح الصورة الواقعية دون بذل الكثير من الجهد في التوصيف النظري.
يظهر إنكار التنوع جليًّا بدءًا من عنوان الكتاب “العربية لغتي”[15]، بلا شك العربية هي إحدى اللغات السورية، وهي لغة المؤسسات الرسمية، ولغة الأكثرية من السوريين/ات واجب تعلمها من قبل كل المواطنين/ات كلغة مشتركة، هذا أمر مفروغ منه بطبيعة الحال، ولكنها ليست بالضرورة لغة كل طفل/ة سوري/ة، فعنوان كهذا يوحي ضمنًا أنها اللغة الوحيدة الموجودة، مقابل تغييب باقي اللغات المحلية السورية لدى باقي المكونات السورية. ثمة هدف ورسالة سياسية مختزلة في اختيار ذاك العنوان عوضًا عن “اللغة العربية”، مفادها أن جميع التلاميذ/التلميذات السوريين/ات هم عرب فقط، والهدف هنا ليس احتراما زائدا من قبل مؤسسات النظام للغة العربية، إنما الهدف الحقيقي منه، هو فرضه كواحدة من أدوات إنتاج المواطن المتزمت ذو اللون الواحد.
وبما أن المجال المكاني لبحثنا هو منطقة الفرات والجزيرة السورية الغنية بالتنوع الإثني والديني، لابد أن قسمًا كبيرًا من أطفال ذاك الحيز المكاني، وحيثما وجد التنوع، سيجد نفسه/ا مغتربًا/ة عن المنهاج. تلك هي أولى مقدمات الانفصال عن الواقع وتقشير جلود البشر وإكسابهم هوية النظام الأحادية والمركزية عنوة، “المجتمع لا يفرض فقط ثقافته بواسطة نظامه الاقتصادي وتركيبه الاجتماعي ويوزع السلطة والجاه إنما يخضع كل فرد لعملية تربية وتثقيف هدفها الحفاظ على النظام القائم لتأمين استمراره عبر العادات والتقاليد والقيم”[16].
لا يخلو الكتاب من تناقضات كثيرة بين المظهر والمضمون، المفارقة أن لوحة الغلاف لطفلة/تلميذة، لكن اللغة المستخدمة مذكرة بامتياز وتخلو كليا من اللغة الجندرية، مخاطبة كلا الجنسين، حيث تبدأ تلك اللغة الأحادية القطب من المقدمة التي جاء فيها: ” تناولت ما ينبغي على تلميذ الصف الثاني أن يتعلمه.. التفاعل مع وسطه والتعبير عن مشاعره بطريقة سليمة”[17]، الخطاب برمته لغته مذكرة خلافًا لصورة الغلاف التي تريد أن تقدم النظام بمظهر مختلف. قد لا يرى البعض أن ثمة مشكلة في استخدام لغة التذكير لكلا الجنسين، ولكن لا يمكن تجاوز موضوعة لغة المساواة والشمول، خصوصًا مع لغة مثل اللغة العربية، والتي تعتبر من أشد اللغات إعرابًا، وحين يغيب عن الأمثلة ورود الجمل المؤنثة، فهي رسالة ضمنية سواء أكانت مقصودة أم غير ذلك، فحواها أن “مالك” الكتاب هو الطفل الصبي وليست الفتاة، على سبيل المثال ما جاء في أحد الأمثلة: “أنا أسبح، أنتَ تسبح، هو يسبح”[18]، فلم يرد في ذات السياق تأنيث الجملة رغم ضرورتها، لأن التأنيث يغير الجملة! والمثير للدهشة أن عشر من قوام الأربع عشرة مؤلف/ة للكتاب هن من (النساء)، حيث يشكل المؤلفين الرجال أقلية بنسبة 28,5% فقط، لكن من الواضح أن معايير الخبرة الجندرية لم تكن حاضرة بين تلك التي يتم اختيار المؤلفات/ين على أساسها لأداء المهمة، ولا يزال كادر التعليم في مراحله الأولى مؤنثًا وملحقًا بالدور الرعائي الذي يعتبره العرف العام من مهام النساء بالدرجة الأولى.
في الحقيقة لا يمكننا توقع ردم الفجوة الجندرية بين الجنسين مالم تتغير السياسات التعليمية، فمراعاة الحساسية الجندرية ليست مرهونة بأعداد النساء اللواتي شاركن في تأليف المنهاج، وإنما بخبراتهن الفعلية في هذا المجال، وحرصهن على تأكيد مضامين المساواة وعدم التمييز بين الجنسين في المناهج، وهذا كله مرهون بتوفر الخبرة كشرط مسبق. فالكتاب المؤلف من 84 صفحة يعج بالكثير من الصور النمطية التمييزية ضد الفتيات، في بعض الصور التي جمعت الأطفال في ملعب كرة السلة لا وجود للبنات[19]، أما الأسرة المؤلفة من أم وأب وأخوين وأخت، لها أدوار محددة ضمن قوالب مدينية محددة، الأم تعلم الصبي الأكبر، الصبي الأصغر يلعب بالمكعبات، الفتاة تلعب بالدمية والسرير والطاولة، أما الأب ففي ركنه الخاص من المنزل بعيدًا قليلًا عن ضوضائهم يتصفح حاسبه الخاص[20]. فالكتاب تجاهل المبدأ التشاركي ضمن الأسرة الواحدة في الصورة التي ستتدخل في صياغة مخيلة ووجدان الطفل/ة، الصبي والبنت كل يلعب لوحده وبألعاب محددة سلفاً لأدوارهم المستقبلية، ألعاب الفتى للبناء، أما الفتاة ألعابها للدور الرعائي، والأب في ركنه الخاص تمامًا كمدير المدرسة! الصورة تمثل انعكاسًا للواقع، ولكن هنا يأتي أهمية السؤال، هل يجب أن يبقَ المنهاج المدرسي اجترارًا لواقع مجحف، وعندئذ ما دور التعليم والتعلم في التغيير؟!
اقتصر الكتاب على تمثيل بيئة أحادية الجانب، هي بيئة المدينة ذات الشوارع الواسعة والمكتظة، ونمط حياة الأسرة المدينية، دون وجود إشارة واضحة إلى نمط حياة الأسرة الريفية، وكأن سوريا ليست بلدًا زراعية بالدرجة الأولى! وحرصًا من المؤلفات/ين على تقديم صورة مثالية عن الواقع، وإن كانت بعيدة عنه، فقد استعاروا صورة لحديقة أطفال أوربية[21]، وهذا يكشف مدى الزيف الذي يحاول القائمين/ات في المؤسسات الرسمية على تصديرها، ففي الوقت الذي تم إغفال كامل بيئة الريف السوري، تم حشر ثلاث صور يتيمة واحدة لسد الفرات، والثانية لبحيرة الأسد، أما الثالثة فلبادية الشام، واقتصر التمرين بالتعبير الشفوي فقط[22]، دون ذكر ولو جملة واحدة عن تلك البيئة. لكن لم تغفل المؤلفات/ين عن إقحام صورة الأسدين الأب والابن كما جرت العادة في كل الكتب المدرسية السورية[23]، كطقس إيديولوجي مقدس لتأكيد وسم هوية الأطفال مع أبوة الدكتاتور “رمز الوطن”.
تبين العينة السابقة حدة التناقض بين المضمون والواقع في المناهج، و ما يستبطن من غسيل للأدمغة منذ الصغر يتحول لاحقاً إلى عبء ثقيل على كاهل الطفل/ة السوري/ة، خصوصاً من أبناء وبنات الريف، الذي/التي ربما لم ير المدينة إلا عبر التلفاز، فيحتوي منهاجه/ا إيعازًا خفيًّا للانسلاخ عن بيئته/ا الريفية غير المرئية في المنهاج المدرسي، تكون بمثابة دعوة للفرار إلى جنة المدينة أنَّ سنحت الفرصة بذلك، حينما يستبد بهم/ن الطموح سيتحتم عليه/ا الهجرة إلى المكان المرئي والمعترف به (المدينة).
أما عينة المنهاج من جهة مفهوم الوطن والوطنية، والتي كانت حتى الأمس القريب تختصر بمادة “التربية القومية الاشتراكية”، والتي كانت مخصصة بالكامل لتدريس فكر ونهج حزب البعث كقائد للدولة والمجتمع وفق المادة 8 من دستور عام 1973. في الآونة الأخيرة قام النظام باستباق فكرة التغيير، فعمد إلى تأليف مناهج جديدة يدّعي من خلالها تبني قيم المواطنة في المجتمع السوري المتنوع ثقافيًا، والنموذج الذي سيعتمد عليه التحليل اللاحق، هو منهاج الصف التاسع لكتاب الوطنية[24].
تكشف مواد الكتاب سريعًا أن العين التي يجب أن يرى من خلالها الطالب تلك القيم، هي عين رأس النظام، حيث ترد أقواله كنصوص يقينية ضمن إطارات ملفتة كخلاصة للتعلم[25]، “تجاوزنا حتى فكرة العيش المشترك إلى الاندماج الكامل بين السوريين.. لا تعايش بعد اليوم، بل تكامل وتجانس”، تلك المقولة المستقاة من خطاب الكراهية التي ألقاها بشار الأسد في وجه معارضيه ومواليه، مستهينًا بالخسائر التي طالت الرأسمال الاجتماعي السوري خلال سنوات الصراع التي تلت الثورة على نظامه. وإذ يروج المنهاج لفكرة الغنى الثقافي والتنوع في المجتمع السوري، تأتي المفارقة بذات الصفحة: ” التنوع الثقافي من أبرز سمات المجتمع العربي السوري … التنوع الثقافي في المجتمع السوري مصدر غنى وتفاعل حضاري”[26]، ويتضح حرص مؤلفي المنهاج على عدم ذكر المكونات التي يتشكل منها المجتمع السوري وتغيّبهم في متن الكتاب، بينما ذات الطريقة المتبعة في الخشية على الطالب/ة من معرفة كامل الحقائق والاكتفاء بالمعلومات المنقوصة، ومصادرة أهلية المجتمع، عبر الطلاب/ الطالبات ومنع إكسابهم الرؤية النقدية التحليلية. كما يحرص المنهاج على تجريم الحرية بشكل ضمني عبر الترويج للاستقرار كنقيض للفوضى والصراع، ” كلما كان المجتمع مستقرًا استطاع تسخير إمكاناته المتاحة في تحقيق التنمية وإنتاج عوامل تطوره، أما في حالات الصراع فإن المجتمع يوجه كل إمكانياته وطاقاته من أجل حسم الصراع لصالحه والحفاظ على بقائه”، والمقصود بالمجتمع حتى نفهم العبارة بشكل دقيق هو (النظام)، فهو الذي وجه كل الطاقات للحرب ضد شعبه، وفي عبارة أخرى في نفس السياق يرد: ” أسوأ استقرار أفضل من أي صراع”[27]، هذا الإيحاء للطالب/ة هو رفض التغيير الذي يعتبر الهدف الأساس لعملية التعليم برمتها. أما عن الهوية السورية، فرغم أن مراعاة المساواة الجندرية بين الجنسين هذه المرة موجودة في الكتاب شكلانيًا، لكن اللغة لم تراعِ قيم المساواة، بقيت كما هي في الكتب المدرسية لغة المذكر، في صورة من الصور القلائل في الكتاب، وعلى عكس قيم التنوع التي ساقها المنهاج، كان التنوع غائبًا تماماً، ولم تمثل الصورة هنا أيضاً سوى ذات الفئة المدينية، رجال بربطات عنق، عدد اثنان، ونساء غير محجبات نفس العدد[28]، وهنا لا يمكن تبرير غياب التنوع بداع السهو، فمن قام بتأليف الكتاب هم فئة من (المختصين)، ويفترض أنهم سوريون/ات، وعلى اطلاع بالنسيج الوطني السوري.
أما تحليل أسباب عدم تجاوز الانتماءات الفرعية يرد كما يلي: ” يسهم الجهل والتخلف والتعصب لدى بعض أفراء المجتمع في إنتاج حالة عدم القدرة على تجاوز الانتماءات الفرعية الضيقة ( الطائفية، المناطقية، القبلية، العشائرية، …”[29]، يحاول المنهاج القفز فوق أسباب الجهل والتخلف والتعصب، التي تتحمل الدولة والسلطة مسؤولية رئيسية حيالها إن وجدت، ليصم فئات من السوريين/ات بوصمة العار تلك نتيجة لعدم تجاوز انتماءاتها الفرعية، فالأمر الجدير بالملاحظة أن “التنوع” الذي يسوقه الكتاب بحد ذاته يصبح لاحقا المتهم بالتخلف والتعصب والجهل. بينما في الثلث الأخير من الكتاب يوجه الكتاب الطالب/ة نحو شطر الممانعة والعروبة[30]، ويليه مباشرة أشكال من انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها العدو الصهيوني، دون أن يترك مجالًا أمام الطلاب/الطالبات، للاستنتاج أن هذه الحقوق واحدة في كل العالم، وواجب التصدي للانتهاكات يشمل أي بقعة في العالم بما فيها سوريا! ويحتوي مربع لأجزاء من بعض مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي يطلب من الطلاب/الطالبات، أن يحددوا الانتهاكات التي ارتكبها (الاحتلال الصهيوني) بحق أهلنا في فلسطين، “أعمل على تجريم الاحتلال الصهيوني بوضع المادة المناسبة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مقابل كل جرم ارتكبه”[31]، فالمنهاج إذ يدّعي بناء العقل النقدي، لا يثق بأهلية عقول جيل المستقبل في اختيار قضية ما بأنفسهم، وتحديد الانتهاكات التي وقعت بحقهم، وكأن الإعلان العالمي محدد فقط لفئة الممانعة ولقضية واحدة، في محاولة لإلغاء الفكر النقدي التحليلي في رصد القضايا وتفكيكها. من ضمن سبع مواد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وضعت ضمن مستطيل ملون، كان النظام السوري منتهكًا لجميعها دون استثناء، الحرمان من الجنسية، والتهجير القسري، والتعذيب والاعتقال التعسفي، ….الخ[32]، ولكن المنهاج يوجه عقل الطالب/ة نحو جهة وحيدة خارجية بالضرورة تقوم بكل هذه الانتهاكات.
من خلال هذين النموذجين يمكن تشكيل تصور أولي حول المناهج التي يعتمدها النظام، ويجند لتصميمها خبرات منتقاة وفق مبدأ الولاء لأجندات النظام الأيديولوجية، ليصيغوا بدورهم استدامة تدجين المستقبل، حيث نهج التلقين هو المتبع، “مهمة التعليم البنكي تتركز في تقليل القدرة الإبداعية عند الطلاب أو إلغائها تمامًا من أجل خدمة أغراض القاهرين الذين لا يرغبون في أن يصبح العالم مكشوفًا لهؤلاء ويصبح موضوعًا للتغيير”[33]، إذًا فالتلقين الذي يعتبر في أحد أوجهه حائلًا أمام حدوث التغيير لم يكرّس عن عبث، وإنما لدواعي تثبيط الإبداع وكبح المتعلمين/ات من التفكير النقدي الحر، فبين الشكل والمضمون والواقع ثمة هوة كبيرة يصعب ردمها، والسياسات التعليمية جلّها تركزت على ديمومة الهيمنة واتقاء دوران عجلة التغيير.
ثامنًا: معوقات تعليم المرأة في منطقة الفرات والجزيرة السورية
تتشابه الظروف الموضوعية المتعلقة بتعلم المرأة بين مختلف دول المنطقة وتكاد تصل لدرجة التطابق في المناطق الريفية، وتقل هذه الفروقات في المدن الكبيرة ذات العلاقات الاقتصادية الواسعة، وقبل الخوض في معوقات وصعوبات تعلم المرأة في منطقة الفرات والجزيرة السورية لابد من الإشارة إلى ما يميز هذه الصعوبات عن غيرها من المناطق السورية الأخرى والتي يمكن إجمالها بثلاثة نقاط:
- طبيعة العلاقات الاجتماعية داخل مدن الفرات والجزيرة السورية لا تختلف كثيراً عن الأرياف المحيطة بها، عكس الريف السوري الغربي حيث تغدو الفروقات أوسع بين الريف والمدينة.
- الحامل الاقتصادي في الجزيرة السورية يعتمد على الزراعة والرعي، بينما في مناطق ريفية أخرى يتداخل الزراعي مع الصناعي والتجاري بحكم قربها وسهولة الوصول للمدن الكبرى.
- بعد مناطق الجزيرة السورية عن العاصمة والمدن الكبرى الأخرى، جعلها مهملة إدارياً وخدمياً وأثر ذلك في التعليم تحديداً، مما خلق فجوة معرفية بالدرجة الأولى وثقافية عن محيطها السوري.
ولتسهيل عملية البحث في معوقات تعليم المرأة في الجزيرة السورية سنقوم بتقسيم هذه الصعوبات على ثلاثة محاور رئيسية، الأولى تمثل ما هو ثابت وراسخ ومكرس عبر العادات والتقاليد التراث اللا مادي، والمحور الثاني يتعلق بدوائر العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي ضد المرأة.
* الثابت والراسخ/ التراث الثقافي اللامادي: وجاء تعريفه بحسب نص اتفاقية اليونسكو لعام 2003 كما يلي: “يقصد بالتراث الثقافي غير المادي، الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات- وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية- التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانًا الأفراد، جزءًا من تراثهم الثقافي… ولا يؤخذ في الحسبان لأغراض هذه الاتفاقية سوى التراث الثقافي غير المادي الذي يتفق مع الصكوك الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان ومقتضيات الاحترام المتبادل بين الجماعات والمجموعات والأفراد والتنمية المستدامة”[34] ، ويصنع هذا التراث الأدوات الذهنية التي تنتج الثقافة المحلية والقيم السائدة، تلك التي يتم التسليم بها، وتكون بديلًا عن المعرفة في ظل ضعف مؤسسات الدولة التعليمية والقانونية.
الجانب المميز في الإرث اللامادي أنه يأخذ كلياً دور الناظم والمحكم في تسيير الحياة العامة لدى أغلب الدول التي تعاني من التخلف والأمية، ويؤثر بقوة في صياغة القوانين الوضعية ويرفض تطبيقها في أحايين كثيرة ويجعلها عائقًا أمام عجلة التغيير. كما يساهم في رسم الملامح التي تميز شعب ما عن غيره، وتصنع الفروقات البينية المحلية وتميزها عن غيرها، وتشكل ما يعرف بالهويات الفرعية ذات الطابع المحلي الخاص، وكلما كانت تداخلات ومشتركات الإرث اللامادي متينة داخل البلد الواحد كلما تميزت مجتمعاتها بالصلابة والتماسك، و هنا لا بد من الإشارة أنه ليس بالضرورة أن تأخذ الصلابة منحى إيجابيًّا على الدوام، بمعنى الهوية الوطنية الجامعة، إنما قد تأخذ منحى سلبيًا وعدائيًا، سيما تجاه الجوار المختلف، وقد ينتهي الأمر بالتزمت والتقوقع على الذات، ورفض العالم الخارجي.
ويكمن جوهر خطورة هذا التراث وأثره على وضع المرأة عمومًا، وأثره في تمرير وتدوير التمييز ضدها باسم التراث اللامادي، ويمكن تلخيص أثره في الثقافة السورية بأربع نقاط مهمة:
- التداخل والتشابك القوي بين التراث اللامادي والدين، وفي بعض الأحيان يتغلب بشدة أحكامه وأعرافه على الدين، وهذا التداخل يمنحه حصانة وقداسة تجعله فوق النقد، وفاقدًا للمرونة.
- تعارض الكثير من أحكام هذا التراث، خاصة الجوانب المتعلقة بالمرأة، مع الكثير من قوانين ومواثيق حقوق الإنسان عمومًا والمرأة خصوصًا، والقائمين على متابعة تلك الاتفاقية الدولية يعترفون بقصور وضعف السياسات الجنسانية ومنظوره من آليات تطبيق بنود الاتفاقية[35].
- تصاعد المخاوف من ثورة الاتصالات والعولمة[36] دفعت البعض إلى التمترس خلف هذا التراث اللامادي واعتباره أداة المواجهة ضد أي تغيير، لصالح المزيد من التقوقع والانغلاق على ما هو محلي.
- فشل تحقيق الديمقراطية بعد موجات الربيع العربي والصراعات المسلحة التي خلقت المزيد من الفوضى عززت الماضوية بشكل عام، وكبحت محاولات التنوير وأفقدت الثقة بمفاهيم حقوق الإنسان والدمقرطة، الأمر الذي برر القفز على الشرط الأساس في حماية وصون التراث اللامادي، “التماشي مع حقوق الإنسان”.
وكانت واحدة من أهم نتاجات الحرب السورية هي تلك الردة القوية للتراث اللامادي بديلًا حاسمًا عن فقدان مؤسسات الدولة وانهيارها، وأحيانًا تمت الردة على ما تم تجاوزه في مراحل سابقة من تطور إيجابي في المجتمع السوري، وساهم غياب التعليم والتسرب من المدارس لاعتماد التراث اللامادي كبديل ومصدر للعلوم والمعارف، كوجهة نظر وحيدة لتفسير وتفكيك الظواهر الاجتماعية والطبيعية.
إلا أن النقطة الأخطر راهنًا هو أن تنوع التراث اللامادي في منطقة مثل الجزيرة السورية قد يتحول أداة للصراع والتناحر بين البيئات المحلية المتنوعة والمتجاورة، على الرغم من أن بدايات الحراك السلمي حمل مؤشرات إيجابية ارتقت درجات كثيرة، إلا أن وحشية النظام وعنفه والعنف المضاد، دفع الأمور نحو الفوضى واستخدام السلاح ما نتج عنه تدويراً وتوظيفاً للتراث اللامادي، ومنحه أبعادًا إثنية أو دينية وزج به في الصراع، عدا عن تعميم العنف كوسيلة وحيدة لحل مشاكل الاختلاف.
وتعد مناطق الجزيرة السورية بحكم طبيعة الحياة الريفية والزراعية وتنوع مكوناتها أرضًا خصبة للتراث اللامادي بكل تجلياته وتشعباته، وتعبر بوضوح عن “البيئة الريفية … التي تعد الحامل الموضوعي للتراث غير المادي”[37]، وتأخذ المرأة حيزًا واسعًا من إسقاطات هذا التراث، وتكاد أن تكون مادته الخام لتمرير العنف والتمييز ضدها، ويظهر ذلك واضحًا من خلال أشكال الزيجات المنتشرة في تلك البقعة الجغرافية، زواج الحيار ” تسمية الفتاة لابن عمها منذ الولادة، وله أن يوسمها بأن يقطع كمّها، وهي طفلة كإشارة تحديد فيقولون مثلهم (قطع ردنها) ومنهم من يسميها له وهي طفلة، وقد يعقد قرانها وينتظر إلى أن تكبر فيتزوجها”[38]. عدا زيجات المقايضة/ البدل التي تجيز للأقارب الذكور بتبديل الأخت أو البنت بزوجة لهم دون مهر، بالإضافة لزواج المهر المتعارف عليه بالدفع العيني أو النقدي، وزواج العقد على يد المشايخ (الزواج العرفي)، الذي لا يسجل في الدوائر المدنية إلا بعد قدوم أول مولود في بعض الأحيان.
* دوائر العنف القائم على النوع الاجتماعي: تعريف العنف بحسب الإعلان العالمي بشأن القضاء على العنف ضد المرأة الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1993 هو، “أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس، ويترتب عليه أو يرجح أن يترتب عليه، أذىً أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية، بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة “[39]. وعلى نحو أدق هو العنف الذي تبرره الثقافة المحلية ضد المرأة بسبب نوعها الاجتماعي، ويختلف من ثقافة لأخرى، فالنوع الاجتماعي هي الخصائص والأدوار المبنية اجتماعيًّا للرجال والنساء، مثل الأعراف والأدوار والعلاقات بين الذكر والأنثى. سلوكيات تمييزية مرتبطة بالسلطة المكتسبة للأفراد بحسب نوعهم الاجتماعي، عبر نسق وسلوك ثقافي في المجتمع، قابل للتغيير فيما لو توفرت الظروف المناسبة المواتية من قبل الأفراد والجماعات، عبر توزيع عادل للنفوذ والسلطة والموارد وسبل التنمية.
يتجلى العنف الممارس ضد المرأة الفراتية، في الحرمان من المساواة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية بالدرجة الأولى، نتيجة تركيز التقاليد والأعراف للحفاظ على استمرار النسب والثروة في آن معًا بيد زعيم العشيرة أو رجالات القبيلة كسلطة موازية لسلطة الدولة، قائمة على التمييز الذكوري، فالمرأة طاقة تشغيلية مجانية مستنزفة ومستغلة من قبل العائلة أو القبيلة، وما ارتفاع المهر في مناطق الجزيرة السورية سوى أحد أوجه الاستغلال الأشد ذكورية، التي تنقل ملكية النساء من الآباء إلى الأزواج، “المرأة تشكل مثالا صارخا على .. الاستلاب. إنها ملكية اجتماعية (العشيرة، أو القرية، أو الأسرة، أو الزوج وقبله الأب والابن والعم والخال)، كيانها ليس ملكًا لها. ليس لها أن تختار، وبالتالي ليس لها أن تناقش، أن تفكر وتحلل. عليها أن ترضخ للسلطة، أن تكون موضوعة وأداة”[40]. حيث إن قسمًا كبيرًا من الأعمال الزراعية وتربية الماشية مسنودة بكليتها إلى المرأة، بالإضافة إلى الأدوار الرعائية والإنجابية في الأسرة، كواجبات تقع على عاتقها وحدها، أما المتحكم والمتصرف بالثروة والسلطة وأوجه الإنفاق هو الرجل فقط.. ويتضح حجم استغلال المرأة الريفية في سوريا عموما مقارنة بحجم سكان الريف الذين يشكلون 47 بالمائة[41] من عدد سكان سوريا ويتركزون في الجزيرة.
تتبدد صورة النظام السوري بوجهه العلماني المناصر للمرأة، بمجرد الاطلاع على قانون الأحوال الشخصية الذي يشكل إجحافًا وتمييزًا مقوننًا ضد المرأة، ” باعتباره القانون الأعلى والدستور الموازي الذي يحكم النساء، لم يعدّل ليواكب المتغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتطوراتها … إنما أخذ قدسيته كقانون ديني عبر اختيار أقوال الفقهاء الذكور والأكثر موافقة للعرف”[42]. إن تواطؤ وتقاطع عنف التشريعات مع عنف الأعراف عقّد أوضاع المرأة، وجعل إمكانية أي تغيير إيجابي في أوضاع المرأة غير محتمل في الأمد القريب. في 2019 قام النظام بتعديل بعض قوانين الأحوال الشخصية، في محاولة لتغيير صورته للعالم الخارجي، أكثر منه لاستجابته لضغوط مطالب التغيير من الداخل، لكن الخطوة كانت مجرد إجراء شكلي لم يتضمن تغييرًا جوهريًا اتجاه إنصاف المرأة وإلغاء كافة أشكال التمييز ضدها، بل كنوع من التضليل المعتاد وقفز فوق استحقاقات المرحلة، “يبقى القانون بمجمله متطابقًا في جوهره مع القانون الأصلي الذي وضع عام 1953 والذي لا يختلف بمضمونه الإجمالي عن مجلة الأحكام الشرعية الموضوعة في عهد الإدارة العثمانية عام 1876، وقرار حقوق العائلة (أو كتاب الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية على مذهب أبي حنيفة النعمان لقدري باشا) الموضوع عام 1917 من قبل الإدارة نفسها، اللذين اعتمدا المذهب الفقهي الحنفي أساسًا لهما.[43]” ومدلول ذلك أن هناك إصرار على إبقاء وضع المرأة مترديًا، بغض النظر عن الاحتياجات المتزايدة للتغيير، وتغير الأدوار النمطية للمرأة السورية في السنوات الأخيرة، عدا عن التحديات التي أظهرت عيوبًا جمة في القوانين والتشريعات التي تخص المرأة. مازال النظام يعتقد أن تنميق بعض العبارات سيكون بديلًا عن استصدار قوانين منصفة، لا تمييزية بخصوص المعوقات التي تقف في وجه المساواة بين الجنسين، فتعدد الزوجات بقي مباحًا، والقوامة بقيت كسلطة أبوية حكرًا على الرجال، باقي القوانين التي تخص التزويج المبكر والولاية والطلاق والحضانة والإرث، كلها تعطي امتيازات للرجال على النساء، عدا عن القانون المخفف لعقوبة الجرائم التي ترتكب ضد النساء باسم الشرف، والتي بموجبها يقيض حياة المرأة كاملة للرجل. بوجود هكذا قوانين كان ومازال العنف الأسري تحصيل حاصل في إطار العائلة يمارسه ذكور العائلة ضد الإناث كحق مكتسب اجتماعيًّا وقانونيًّا.
* غياب خطط التنمية المستدامة في منطقة الفرات والجزيرة السورية
يدرك السوريون/ات أن جيش النظام يكلفهم بين 70% إلى 80% من ميزانية بلدهم، ودون أن تظهر تلك الأرقام للعلن، لكن ربما ما لا يعرفه البعض أن ميزانية وزارتي التربية والتعليم العالي كليهما لا تشكل سوى ربع ميزانية قطاع الصحة وفق ميزانية عام 2020[44]، رغم أن لكليهما نفس الأهمية والأثر على المواطنين/ات، إذ يمكن اعتبارهما أساسًا للتنمية المستدامة، ومعيارًا لقياس التقدم المحرز في تقدم المجتمع. أما عن القطاع الذي يهم منطقة الفرات والجزيرة بالدرجة الأولى، وزارة الزراعة، فقد كانت حصتها من تلك الميزانية عشرة مليارات، أدنى بأربع مليارات من حصة وزارة الإعلام! أي أن حصة الإعلام الذي يروج للنظام تفوق الزراعة بنسبة 40%، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن التعليم والزراعة مازالا يحتلان موقعًا متأخرًا في سلم أولويات النظام، وهذا يفسر عدم الاستقرار في حياة الفلاحين بسبب التعرض لموجات الجفاف والاعتماد على أساليب الزراعة القديمة، وضعف استخدام التكنولوجيا، الأمر الذي يقع جلّ تبعاته لاحقاً على النساء والأطفال.
لقد ألغى النظام الفضاء العمومي بموجب قانون الطوارئ المعمول به منذ 8 آذار 1963، فلم يعد لقانون الجمعيات الصادر لعام 1958 أي معنى بعد هذا الإجراء التعسفي، ما جعل إمكانية تشكيل منظمات نسائية/ نسوية تعمل على تحسين شروط عيش النساء غير ممكنة. وحده الاتحاد النسائي العام الرديف لحزب البعث، كاتحاد سلطة أسند له مهمة القيام ببعض دورات محو الأمية ودورات الخياطة والتجميل ورياض الأطفال، دون الاقتراب من القوانين التمييزية التي أعاقت وصول النساء إلى الموارد، والتحكم بها وبناء شخصيتها المستقلة. استطاعت بعض الجمعيات والمنظمات الرديفة لبعض أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية أن تنشط بمحدودية، بحيث لا تشكل خطرًا منافسًا للاتحاد النسائي الرسمي. جملة هذه المعوقات كانت السبب الذي أدى إلى استمرار تراجع تعليم المرأة الفراتية، أما الراهن فله تحدياته المضاعفة بفعل الصراع الدامي وانتقلت هياكل التعليم الرسمي الرثة إلى ضفاف سلطات الأمر الواقع مع اختلاف توجهاتها الأيديولوجية.
تاسعًا: الخاتمة والتوصيات
يحتاج واقع المرأة الفراتية لمزيد من الاهتمام من صناع السياسات، فحين يقال إن الجزيرة السورية هي سلة الغذاء السوري، فمعنى ذلك أن النساء وأطفالهن هن من يقدمن هذه السلة من الناحية العملية، “بغير خروج الفلاحة من دارها كل يوم قبل شروق الشمس لما كان في استطاعة الرجال المعارضين لتحرير المرأة (وغير المعارضين أيضاً) أن يتنالوا فطورهم كل صباح ولا أن يجدوا من الملابس ما يستر أجسادهم ولا يجدوا الورق الذي يكتبون عليه أفكارهم المتخلفة عن المرأة”[45]. فظروف القهر والاستغلال والاستلاب، تغيّب احتياجاتهن الأساسية، ضمن خطط التنمية الهادفة لتحسين أوضاعهن، خصوصًا في مجال التعليم كشرط أساسي وملزم لبدء عجلة التنمية المستدامة. في الوقت الذي يتم القفز على معاناتهن، واعتبار العنف الممارس ضدهن إرثًا ثقافيًا ثابتًا غير قابل للتغيير، عبر جملة معقدة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية التمييزية ضدهن، فتتبدد معادلة المساواة بين الجنسين، أمام مطرقة العادات والتقاليد وسندان القوانين التمييزية ضد المرأة، في حلقة متكررة من العنف المشرعن ضد النساء. عبر ثنائية من التواطؤ بين المجتمع والسلطة الحاكمة. ما يدعونا للاستنتاج أن النظام لم يكن معنيًّا بتحسين واقع المرأة كما حاول تصوير نفسه، وإلا فإن خمس عقود من التفرد بالسلطة كانت كافية لإحداث التغيير، وربما لمرات عدة، ما لم يكن هو نفسه أداة القهر الكبرى. لذا يمكن اعتبار هذا البحث نافذة صغيرة على قضية التعليم الرسمي ومعوقاته أمام الفتيات والنساء، ولا بد من تناول الموضوع بدراسات كمية ونوعية أوسع، ترصد المحيط باستفاضة، وتجعل من قضية التعليم عمومًا وتعلم الفتيات خصوصًا مجالًا للتعمق في سبر مشكلات التعليم وأثره على الدمقرطة وبناء دولة القانون والعدالة والمساواة، وجسور الثقة والتعافي ودولة المواطنة المتساوية الخالية من التمييز على أي أساس كان، الجنس أو العرق أو الدين. يمكن اختصار التوصيات بما يلي:
* تحتاج مؤسسة التعليم في سوريا إلى إعادة إعمار شاملة تهدف إلى مراجعة مفاهيمية شاملة، وتعيد صياغتها لخلق إجماع وطني هدفه لم شمل السوريين/ات وتعكس مستقبلاً صورة المواطن/ة السوري/ة الفاعل/ة في محيطه/ا.
* التركيز على التنمية الأفقية في مجال التعليم كحق أساس لجميع السوريين/ات، بغض النظر عن أماكن سكناهم ومناطقهم، أو أي اعتبارات أخرى.
* العمل على إلغاء كافة أشكال التمييز والعنف ضد المرأة في كلا الفضاءين العام والخاص، وتطبيق المعاهدات والمواثيق الدولية التي وقعت عليها سوريا ولم تدخل حيز التطبيق على رأسها اتفاقية سيداو، والإعلان العالمي للقضاء على العنف ضد المرأة، والقرار 1325 ورسم خطط وطنية تعمل على تعزيز مشاركة المرأة الفعالة في جميع المجالات.
* ضرورة وضوح سياسات التعليم العامة في بنود الدستور السوري القادم، بصياغة واضحة لا تقبل هيمنة أو وصاية أية جهة سياسية.
* رسم سياسات جدية تقدم حلول مستدامة لمشكلة العنف ضد المرأة كمقدمة لمعالجة تفشيه في المجتمع عمومًا، لأجل بناء السلام المستدام، القائم على الاحترام المتبادل وقبول الاختلاف.
* اعتماد المنهج النقدي التحليلي في المناهج الدراسية لبناء الفكر الحر المبدع، لبناء سوريا الحضارية ابتداء ببناء الإنسان السوري/ة القادر على مواجهة تحديات المستقبل.
* رصد احتياجات كافة الشرائح المتنوعة في عملية إعادة إعمار التعليم، مع الأخذ بعين الاعتبار مبدأ وحدة سوريا أرضًا وشعبًا، وسيادة الشعب السوري على البنى الفوقية المجتمعية.
* بناء ثقافة المواطنة والتنوع والسلام عبر التعليم، وتوكيد مبدأ تكافؤ الفرص المتساوية لجميع المواطنين/ات.
عاشراً: المراجع والمصادر
- العربية لغتي، الصف الثاني الأساسي، كتاب التلميذ، الفصل الأول، الجمهورية العربية السورية، وزارة التربية، مديرية العامة للطباعة، عام 2017-2018، طبع لأول مرة عام 2010-2011
- التربية الوطنية الصف التاسع، وزارة التربية-الجمهورية العربية السورية المركز الوطني لتطوير المناهج التربوية، تأليف فئة من المختصين، حقوق الطباعة والتوزيع محفوظة للمؤسسة العامة للطباعة، حقوق التأليف والنشر محفوظة للمركز الوطني لتطوير المناهج الوطنية، طبع أول مرة للعام الدراسي 2020-2021
- حجازي مصطفى، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المجلد 1، موقع جامع الكتب الإسلامية، الطبعة التاسعة، 2005.
- خدّاج هوازن، السوريات بين الشريعة ودستور الشريعة، المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، سلسلة دراسات نسوية، إصدار آذار 2022
- شرابي هشام، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، الدار المتحدة للنشر بيروت الطبعة الثالثة، 1984.
- فرايري باولو، تعليم المقهورين، ترجمة الدكتور يوسف نور عوض، دار القلم بيروت لبنان، موقع مكتبة شفق، بدون تاريخ من المصدر.
هوامش
[1] قرية تابعة لمنطقة الباب، ناحية دير حافر، بلغ عدد سكانها 4,190 نسمة في عام 2004. https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AD%D9%85%D9%8A%D9%85%D8%A9_%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B1%D8%A9
ملاحظة: جميع المواقع الالكترونية المذكورة في هوامش البحث تمت زيارتها في الفترة الواقعة بين 20-02 و 15-04-2022
[2] شفان إبراهيم، واقع الزراعة في محافظة الحسكة قبل وبعد الإدارة الذاتية، مركز حرمون، 10 كانون الثاني 2021
[3] عبدالله البشير، الجفاف يهدد مزارعي الجزيرة السورية: خسائر تطاول نصف المحاص، موقع العربي الجديد، 23 يناير 2021. https://cutt.us/pGJal
[4] وجيهة مهنا، أزمة الجفاف في إقليم الجزيرة السورية، جريدة السفير، 27.11.2013
[5] زكي الأرسوزي، موقع المعرفة.
ميشيل عفلق، موقع فلاسفة العرب. [6]
[7] منظمة طلائع البعث، معلومات عن المنظمة
http://www.syrianpioneers.org.sy/node/5
[8] أحمد الزعتر، مأساة الجامعة السورية في ظل نظام الأسد، الحوار المتمدن، العدد 2389، تاريخ: 30.08.2008
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=145554
[9] الصراع على التعليم وجيل سوريا الضائع، خولة دنيا، موقع سوريا حرية. 27 أيار 2015
[10] التصحيح .. فكر وإعمار وانتصار، موقع صحيفة الوحدة، العدد: 9469، الأحد 17.11.2019
http://wehda.alwehda.gov.sy/first-page/143281-2019-11-16-15-21-45.html
[11] سـوريا وفرنسـا: التعليم الأساسي واقعاً وتطبيقاً- دراسة مقارنة، مرصد نساء سوريا، 2007.10.12
https://nesasysy.wordpress.com/2007/10/12/4069/
[12] تسرب التلاميذ في سوريا، ظاهرة يفاقمها الفقر والعادات وغياب تفعيل القانون، عفراء محمد/ حلب، موقع دويتشه فيله، 21.02.2010
[13]ص 6 النظام التعليمي في سوريا واقعًا وتحديات رئيسة وارتقاءً، د. محمود السيد، نسخة بي دي إف.
http://www.arabacademy.gov.sy/uploads/magazine/mag86/mag86-4-1.pdf
[14] المدارس المهنية النسوية.. ورش منتجة وأيد عاملة مدربة ومحترفة-فيديو، دمشق-سانا، 11.03.2019
[15] العربية لغتي، الصف الثاني الأساسي، كتاب التلميذ، الفصل الأول، الجمهورية العربية السورية، وزارة التربية، مديرية العامة للطباعة، عام 2017-2018، طبع لأول مرة عام 2010-2011
http://moed.gov.sy/uploads/pdf-curricula/0-2/arabic-book-1.pdf
[16] هشام شرابي، مقدمات لدراسة المجتمع العربي، الدار المتحدة للنشر بيروت الطبعة الثالثة، 1984. ص 24
[17] العربية لغتي، كتاب الصف الثاني، ص 6
[18] نفس المصدر ص 82
[19] المصدر نفسه، ص 52، 56
[20] المصدر نفسه، ص 13
[21] نفس المصدر، ص 38
[22] المصدر نفسه، ص 71
[23] المصدر نفسه، ص 60، 78
[24] التربية الوطنية الصف التاسع، وزارة التربية-الجمهورية العربية السورية المركز الوطني لتطوير المناهج التربوية، تأليف فئة من المختصين، حقوق الطباعة والتوزيع محفوظة للمؤسسة العامة للطباعة، حقوق التأليف والنشر محفوظة للمركز الوطني لتطوير المناهج الوطنية، طبع أول مرة للعام الدراسي 2020- 2021
http://moed.gov.sy/curricula-new/09/National.pdf
[25] نفس المصدر، ص 40
[26] نفس المصدر، ص 42
[27] نفس المصدر، ص 48
[28] نفس المصدر، ص 49
[29] نفس المصدر، ص 54
[30] نفس المصدر، ص 72- 79
[31] المصدر نفسه، ص 81
[32] المصدر نفسه، ص 81
[33] باولو فرايري، تعليم المقهورين، ترجمة الدكتور يوسف نور عوض، دار القلم بيروت لبنان، موقع مكتبة شفق، بدون تاريخ من المصدر، ص 53
https://shaqhaf.com/read481.html
[34] اتفاقية بشأن التراث الثقافي غير المادي، موقع منظمة اليونسكو، ملف بي دي إف، ص 4
https://ich.unesco.org/doc/src/01852-AR.pdf
[35] باربارا تروغلر إيكاترينا سدياكينا – ريفيير مرفق الإشراف الداخلي، شعبة التقييم جانيت بليك خبيرة استشارية، تقييم الأنشطة التقنينية لقطاع الثقافة في اليونسكو، الجزء الأول: اتفاقية عام 2003 لصون التراث الثقافي غير المادي، التقرير النهائي، تشرين الأول/أكتوبر 2013، ص 9-10-36
https://ich.unesco.org/doc/src/IOS-EVS-PI-129_REV.-AR.pdf
[36] التراث الثقافي غير المادي، تراث الشعوب الحي، د. طلال معلا، سلسلة أوراق دمشق، عدد 4، مداد مركز دمشق للأبحاث والدراسات، 7 حزيران 2017، ص 6
[37] تقاليد الزواج في الجزيرة السورية، محمد السموري، موقع ديوان العرب، 1 حزيران 2012
[38] نفس المصدر السابق
[39] إعلان بشأن القضاء على العنف ضد المرأة، قرار الجمعية العامة 48/ 104،
https://www.unodc.org/pdf/compendium/compendium_2006_ar_part_03_03.pdf
[40] مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المجلد 1، موقع جامع الكتب الإسلامية، الطبعة التاسعة، 2005، ص 160
[41] وجيهة مهنا، أزمة الجفاف في إقليم الجزيرة السورية، جريدة السفير، 27.11.2013
[42] هوازن خداج، السوريات بين الشريعة ودستور الشريعة، المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، سلسلة دراسات نسوية، إصدار آذار 2022، ص 80
[43] د. مية الرحبي، ما الذي تعدّل؟، دراسة في تعديلات قانون الأحوال الشخصية في سوريا 2019، مساواة/مركز دراسات المرأة، نسخة بي دي إف، ص 4
[44]، موقع عنب بلدي، 27.11.2019 كيف تتوزع موازنة سوريا لعام 2020 على القطاعات الرئيسة
https://www.enabbaladi.net/archives/345291
[45] المرأة والاشتراكية، نوال السعداوي، الحوار المتمدن-العدد: 7183، 07.03.2022
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=567976
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.