تحاول هذه الورقة قراءة ما جرى خلال سنوات الربيع العربي العجاف، الذي مثّل لنا فرصة كبيرة؛ ليس لقراءة وتأمل هذه الحركات المؤدلجة دينياً، لجهة علاقتها وشهوتها نحو السلطة فحسب، بل أيضاً تجاه البيئات الاجتماعية التي حكمت؛ أو نمت بينها؛ وأيضا تجاه علاقتها مع المعارضة؛ والخارج؛ والكثير من القضايا التي ادعت أنها تحملها أو تدافع عنها، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، حيث رأينا على سبيل المثال لا الحصر، أن حكومة حزب العدالة والتنمية في المغرب قبل رحيلها، هي من أقدمت على التطبيع مع إسرائيل، بما يعني وجود ازدواجية كاملة هنا. كما كشف لنا اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل؛ زيف دعوة الممانعة والمقاومة التي صدّع بها رؤوسنا حزب الله اللبناني.
لكن بالمقابل نجد أن هذا حزب الإسلاموي وذاك، هما من عائلة الإسلام السياسي الذي دخل إلى السلطة عبر الانتخابات ورحل عبر الانتخابات أيضاً، مقابل أحزاب أخرى تنتمي إلى نفس العائلة، وصلت السلطة عن طريق الانتخابات، ولكنها رفضت مغادرة السلطة؛ وسعت لبناء استبداد جديد خلال فترة تواجدها في السلطة، كما فعل الإخوان المسلمين في مصر مثلا أيضاً.
هذه كلها نحاول قراءته من خلال المحاور التالية:
- المدخل
- التيارات الإسلاموية وانتماؤها
- تيار الإسلام الجهادي
- المدرسة الجهادية والأدلجة
- مدرسة الإسلام السياسي التقليدي
- تيار الإسلام الليبرالي/السياسي
- وقفة مع هذه المدارس والتيارات الإسلاموية
المدخل:
تشكلُ سنوات الربيع العربية الماضية؛ والعجاف بقسوة على مجتمعاتنا؛ تشكل مرآةً يمكن من خلالها رؤية تطيّفات وتموجات الحركات الإسلاموية على السواء، وتياراتها ومدارسها المختلفة والمتخالفة؛ حيث أظهر الربيع العربي بكل ما صاحبه من أحداث صاخبة خلال العقد المنصرم فرصة لتعبّر هذه الحركات الإسلاموية عن نفسها بوضوح من جهة، وفرصة لاختبارها من جهة أخرى، وبالتالي المقارنة بين برامجها التي تعلنها وكيفية تنزيل هذه البرامج على الأرض. فهذه التيارات الإسلاموية ليست شكلاً واحداً؛ إنما تنتمي لمدارس مختلفة ومتخالفة.
التيارات الإسلاموية وانتماؤها
ما سبق، يدفعنا لمحاولة تقسيم التيارات المنتمية إلى عائلة الإسلام التي ظهرت خلال العقد المنصرم، أو عقد الربيع العربي إن صح التعبير، إلى ثلاث تيارات رئيسية، علماً أن داخل كل تيار هناك تنوعات واختلافات؛ سنطلع على شيء منها وفق ما تتيحه هذه الورقة.
وعليه يمكن تقسيمها إلى ما يلي: الإسلام الجهادي، والإسلام السياسي، وإسلام السلطوي أو ما بعد الإسلاموية. ولا شك أن هناك إسلامات أخرى كثيرة، كالإسلام الصوفي والإسلام الشعبي والإسلام السلفي الذي يعتمد الهداية بعيداً عن أي عنف أو أهداف سياسية، وهذه ليست ضمن دائرة اهتمام هذه الورقة، التي تعنى فقط بدراسة الإسلام الحركي الساعي لتحقيق أهداف سياسية أو عقدية، سواء عبر الاستيلاء على السلطة؛ أو أسلمة المجتمع؛ أو تحقيق أهداف سياسية عبر المشاركة في العملية الديمقراطية.
تيار الإسلام الجهادي
يمكن تعريف أو تمييز الإسلام الجهادي عن سواه، بالقول إنه ذلك الإسلام الذي يؤمن بالعنف سبيلاً لتحقيق أهداف سياسية (الوصول إلى السلطة وإقامة الدولة الإسلامية) وعقيدية (تحكيم شرع الله بحسب فهمه في المجتمع الذي يحكمه)، وأحيانا أحدهما دون الآخر، سواء كان هذا العنف مضبوطاً بحدود معينة؛ أو منفلتاً، وسواء كان موجهاً نحو سلطة محددة؛ أو نحو المجتمع؛ أو نحو الذات (العمليات الانتحارية مثالاً).
يعلن هذا الإسلام عداءه للمجتمع والغرب وقيم الحداثة، ساعياً إلى استعادة الزمن الماضي السعيد ـــ بحسب رؤيته ـــ عصر السلف الذي يعتبره المثال لكل بناء، فالمستقبل كامن في الماضي الذي يجبّ كل ما بعده، وليس كل ما جرى من تطور وحضارة في الزمن سوى وهم، ينبغي نسفه للعودة إلى أصول الزمن الحقيقي الذي أفسده الزمن الحديث، الذي ينصبّ عداء هذه التيارات عليه دون أن يستطيع الخروج منه.
وهنا تكمن مفارقة هذه التيارات الجهادية الصارخة التي ترفض العصر الحديث؛ وتستخدم كل منجزاته لمحاربة خصومها، بل وتضطر أحياناً للأخذ بشيء من هذا وذاك في أدبياتها السياسية، وطريقة إدارتها الحكم حين تصل السلطة.
ويشكل كل من تنظيم القاعدة وحركة طالبان في نسختها الأولى؛ وجبهة الإنقاذ في الجزائر والطليعة المقاتلة في سورية؛ وبعض الجماعات التي انشقت عن الإخوان المسلمين في مصر؛ وحركة حماس في فلسطين؛ وحزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن، ثم جاءت الولادة الثانية لهذه المدرسة متمثلةً بجبهة النصرة وداعش في سوريا.
هذه الحركات بشكل أو آخر؛ تشكل المُعَرّف الأساس للإسلام الجهادي، الذي تفرعت منه لاحقاً تيارات أخرى، مثل داعش وجبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام وجماعة خراسان وأنصار الشريعة؛ والحزب التركستاني، في الجهة السُنية.
والحشد الشعبي وحزب الله العراقي وعصائب الحق؛ وكل المليشيات الشيعية التي أنشأتها إيران؛ والأخيرة في الجهة الشيعية.
ومعظم هذه الحركات الجهادية؛ ولدت تقريباً في سياق العقد المنصرم، وداخل إطار حركة الاحتجاجات العربية الساعية لبناء دولة الحريات، لتجهضها من الداخل، وتكون إحدى فكي الكماشة الذي أجهض الربيع العربي إلى جانب كماشة سلطات الاستبداد.
المدرسة الجهادية والأدلجة
قبل أن ننتقل إلى العائلة الثانية من عائلة الإسلامويات، يترتب علينا توضيح مسألة متعلقة بحركات مثل حماس وحزب الله والجهاد الإسلامي والحوثيين في اليمن، هي لا شك حركات جهادية من حيث الجانب العقائدي الذي يرى أن الزمن السعيد كامن في الماضي، سواء كان ماضي الأئمة فيما يخص الحركات الشيعية؛ أو ماضي السلف الصالح فيما يخص الحركات السنية.
لكن هذه الحركات تجمع بين الانتماء إلى الجهادية والانتماء إلى حركات التحرر من الاستعمار باعتبار أن عدوها الأساسي الذي تحاربه الآن هو المحتل، ونفس الأمر ينطبق على بعض الحركات التي قاومت الاحتلال الأميركي في العراق بداية قبل أن يجرفها التيار الجهادي بالمطلق.
لكن ما يجعلنا نصنف هذه الحركات (حماس، حزب الله، الجهاد، الحوثيين..) ضمن عائلة الإسلام الجهادي، أن المحرّك الأساسي أو البنية العميقة الناظمة لوعيها؛ تصدر عن هذا المعتقد الجهادي الذي يمثل الأصل.
أو بتعبير آخر إن مقاومتها للمحتل لا تصدر عن رؤية حركة التحرر التي يعرفها العالم أجمع في مقاومة الاحتلال؛ إنما تصدر عن البنية العميقة الحاكمة لوعيها، فهي لا تحاربه كونه محتلاً؛ بقدر ما تحاربه كونه كافراً، ولهذا لا تتردد هذه الحركات عن توجيه سلاحها نحو الداخل حين يعارضها في الرأي.
وقد رأينا هذا في تهديد حزب الله بلبنان دائماً لخصومه في الداخل؛ فيما يخص التحقيقات الجارية حول مرفأ بيروت؛ حيث يعمل على تعطيل التحقيق! وفي استخدام حركة حماس لسلاحها ضد خصومها! وفي توجيه الحوثيين سلاحهم ضد اليمنيين، إضافة إلى سعي هذه الحركات لفرض أنموذجها الديني على كافة القاطنين في المناطق التي تحكمها.
إن العيش في ظل حركة حماس أو حزب الله أو الحوثيين؛ لا يختلف عن العيش في ظل حركة طالبان فيما يخص النساء والالتزام بالشريعة؛ مع الاختلاف الثقافي الديني والطائفي بين بيئة وأخرى، حيث كل منها يرى أن تطبيق الإسلام يتخذ صيغة مختلفة؛ تتماهى في نهاية المطاف مع الشكل الثقافي الاجتماعي الذي اتخذه الدين لنفسه في كل منطقة، وهو ما نراه أيضاً في المناطق كافة التي تحكمها عائلة الإسلام الجهادي هذه، كما حدث في غوطة دمشق إبان سيطرة جيش الإسلام عليها؛ أو شمال غرب سورية حيث تحكم جبهة النصرة ذات الأصول القاعدية التابعة للسلفية الجهادية.
مدرسة الإسلام السياسي التقليدي
يُعَبّر عن هذه المدرسة دائماً تنظيم الإخوان المسلمين، ويمكن أن نضم إلى هذه العائلة أغلب حركات الإسلام السياسي المعروفة باسم تنظيم الإخوان المسلمين في سورية واليمن (حزب الإصلاح) والسودان (البشير والترابي).
لقد ولد هذا الإسلام ضمن المخاض الذي عاشه شرقنا البائس في بداية القرن الماضي (القرن العشرين) بين انبثاق حركات التحرر ضد المحتل؛ وتيارات الحداثة، وولادة القومية العربية، وسقوط ثمار الثورات الفرنسية والروسية في سورية، ليتشكل حزب سياسي يعتمد الإسلام مرجعية له ويؤمن بالعمل السياسي مع رؤية دعوية للعمل ضمن المجتمع عبر أسلمته بالتدريج وبشكل ناعم وخفي.
من حيث المبدأ لا يؤمن أفراد هذه العائلة باستخدام العنف الذي يستخدمه الجهاديون؛ ولا يفرضون على المجتمعات أو البيئات التي يحكمونها اجتماعياً أي سلطة اجتماعية/ دينية متشددة، لأن البيئات التي يحكمونها هي نفسها البيئات التي ولدت في سياقها وإطارها هذه العائلة من الإسلاموية.
لكن هذا لا يعني أبداً أن أفراد هذه العائلة لا يستخدمون العنف؛ أو لا يجنحون نحو فرض شريعتهم؛ أو يتشددون بها، فالأمر هنا نسبي، وقابل للنقاش؛ ومنوط بالسياق الذي تجد كل عائلة نفسها في سياقه، لكنهم يجيدون المناورة فيه؛ ويستخدمون التقيّة في مراحل الضعف وقبل التمكين.
شارك أفراد هذه المدرسة في البرلمانات السياسية والانتخابات؛ وتحالفوا مع أحزاب معارضة أخرى؛ وأحيانا كانوا في صف السلطة، بما يعني أن السياسة تشكل ركنا أساسياً من ركن هذه العائلة، والسلطة همها واهتمامها؛ على خلاف مدرسة الإسلام الجهادي التي لا تشكل السياسة ـــ حتى إن مارسوها أحياناً ـــ سوى أداة لتحقيق مشروعهم في العودة إلى زمن الإسلام الأول، زمن السلف التليد.
ولقد طرح أفراد هذه المدرسة أفكاراً حول الديمقراطية؛ والدولة المدنية؛ وشكل الدولة؛ وطبيعة الحكم السياسي، وقد اختلف أفراد هذه العائلة فيما بينهم حول كل فكرة من هذه الأفكار المطروحة؛ وحول موقع الإسلام نفسه من الدولة والسلطة.
رغم أن ممارستهم لأفكارهم بعد تمكينهم في الربيع العربي ــ مصر وتونس مثالاً ـــ يبرهن على أن مفهوم الديمقراطية والمدنية والحكم مفهوم براغماتي؛ أكثر من كونه استراتيجية حقيقة تؤمن بها.
أما فيما يتعلق بالعنف، فالملاحظ خلال فترة الربيع العربي أن أجنحة كثيرة من هذا التيار جنحت نحو العنف رغم أنها سبق وأعلنت انتمائها إلى التغيير السلمي الديمقراطي، ونجد أنها تراجعت عن الكثير من البرامج التي طرحتها حول الديمقراطية وقبول الأخر، ما جعل الالتباس يحيط بها خلال العقد الأخير، وشكل عامل نفور كبير منها
تيار الإسلام الليبرالي/السياسي
ما بعد الإسلاموية وفق تعبير “آصف بيات” أو ما بعد الإسلام السياسي وفق تعبير الباحث الأردني “محمد أبو رمان”. ينتمي هذا التيار بوضوح لا لبس فيه حزب العدالة والتنمية التركي؛ والمغرب وحركة النهضة وبعض الأحزاب الإسلامية الليبرالية كما تقدم نفسها.
يؤمن أفراد هذه العائلة بالدولة وعدم الخروج عليها، سواء تمثلت في بنية دولة مركزية (تركيا) أو سلطة دكتاتورية (حالة حزب العدالة والتنمية المغربي مع المخزن)، فالعمل هنا يتم في إطار الدولة والقانون، ويكتفى من الإسلام أن يكون مرجعية ثقافية وأخلاقية، حيث يقترب هذا التيار من نمط الأحزاب المسيحية الديمقراطية في الغرب.
فهي تشارك في الانتخابات؛ وتقيم التحالفات؛ وتمارس السياسة بما فيها من تنازلات وتوافقات، ولو أدى ذلك أحيانا إلى التضاد مع عقيدتها وأيديولوجيتها، وتغادر السلطة عبر الانتخابات، ولعل حالة حزب العدالة والتنمية المغربي تشكل مثالاً واضحاً لهذا النوع من الإسلام، فهو وصل السلطة عبر الانتخابات، واتخذ خطاً مغايراً في العمل السياسي حين رفض الانضمام إلى الشارع وحركة ٢٠ فبراير/شباط في المغرب مفضلاً المشاركة في الانتخابات التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة لمدة عشر سنوات، اتخذ خلالها قرارات لا شعبية سواء من الناحية المعيشية؛ أو ضد الرأي العام، حين وافق على التطبيع مع إسرائيل، ليخرج من السلطة في النهاية عبر الانتخابات مثلما دخلها دون أي عملية احتجاج.
وهذا ينطبق حتى الآن نسبياً على حركة النهضة التونسية وحزب العدالة والتنمية التركي؛ وإن كنّا لا نعرف بعد أن كان حزب العدالة والتنمية التركي سيغادر السلطة يوماً بطريقة سلمية.
لا يعني هذا أيضاً أن هذه العائلة تلتزم التزاماً مطلقاً بما يمكن أن يوصف بما بعد الإسلاموية، بل لا تزال تحمل الكثير من موروث عائلة الإسلام السياسي في طياتها.
فإذا كان حزب العدالة المغربي ينتمي إلى هذه العائلة بوضوح لا لبس فيه، فإن حزب العدالة والتنمية التركي وبعد طول إقامة في السلطة بدأ ما بعد إسلاموياً، ولكنه أخذ يعود تدريجياً إلى عائلة الإسلام السياسي من خلال ممارساته وسياساته وسعيه لتعديل الدستور والنظام السياسي وفق مقاسات؛ تتلاءم وسعيه للهيمنة على السلطة.
الأمر الذي يشير إلى مدى التداخل والتضاد بين هذه العوائل، وبما يعني أن التقسيم المتخذ أعلاه يبقى تقسيماً نسبياً، إذ يمكن لبعض الأحزاب أو الحركات أن تكون من جهة العقيدة في العائلة الأولى! ومن جهة السياسة الممارسة في العائلة الثانية أو الثالثة، ولهذا سنعمد إلى تقديم دراسة حالة لهذه العوائل، تحاول أن تقرأ هذه التحولات في إطارها الأوسع وتشرح مدى التداخل ومدى انتقال أحدها من مكان إلى أخر تقدما وتراجعا.
وقفة مع هذه المدارس والتيارات الإسلاموية
قبل الدخول في دراسة حالة هذه المدارس والتيارات، لا بد من القول إن أهم درس تقدمه لنا سنوات الربيع العربي أن الحركات المنضوية تحت اسم الإسلاموية/ الجهادية على اختلاف أنواعها، هي تيارات مختلفة ومتنوعة، ولا يمكن وضعها جميعاً في سلة واحدة.
بل حتى تلك التي تنتمي إلى عائلة واحدة من حيث الجذور التأسيسية؛ تخترقها اختلافات شديدة في بعض الأحيان، الأمر الذي يحتّم على أي دارس أو مهتم بشؤون هذه الحركات أن ينظر إلى هذا الطيف بتنوعه الكثيف والمتعدد وعدم إطلاق حكم قيمة؛ يضع الجميع في سلة واحدة، لأن هذا خطأ جسيم.
ويجب ألا ننسى أن هذه الحركات ليست حركات جامدة وثابتة على طول الخط؛ كما يوحي ظاهرها، بل هي تخضع للتغير والتحوّل وفقا للشروط التي تعمل بها؛ والظرف الدولي المحيط بها، فحركة مثل طالبان مثلاً، ليست هي نفس الحركة التي كانت في الأمس، بل قد تغيرت وأصبحت أكثر قدرة على فهم العالم والسياسة من حولها، رغم أنها ما زالت تنتمي إلى عائلة الإسلام الجهادي البعيد كل البعد عن إطار الحداثة وروح العصر، ما يعني أن حركة مثل طالبان، قد تشكل عودتها إلى الحكم فرصة للانتقال من عائلة الإسلام الجهادي إلى عائلة الإسلام السياسي.
في حين أن حركة مثل الإخوان المسلمين في سورية مثلاً، لاحظنا كيف أنها انتقلت رجوعا إلى عائلة الإسلام الجهادي في بعض سياساتها وممارساتها، فهي مثلاً في سورية شكلت كتائب مسلحة خاصة بها؛ وتحالفت مع كتائب جهادية؛ وانضوت ضمن الجناح التركي ضد المصلحة الوطنية السورية، حين أعلن ناطقون باسمها أن الوجود التركي لا يشكل احتلالاً! وأن لواء اسكندرون ليست محتلة من قبل تركيا، ناهيك عن تراجعها فيما يتعلق بمسألة الديمقراطية وممارستها السياسة بطريقة الهيمنة لا الشراكة.
والأمر نفسه قامت به جزئياً جماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ عندما وصلت السلطة؛ وأيضا حزب العدالة والتنمية في تركيا، في حين نلاحظ أن حركة النهضة مثلاً انتقلت خلال العقد الأخير من عائلة الإسلام السياسي إلى عائلة ما بعد الإسلام السياسي دون أن تتخلص من مورث الإسلام السياسي بالمطلق بعد.
وهنا حين نتحدث عن الموروث، قد نكون وصلنا إلى لب القصيد في دراسة الحالة هذه، ونعني بذلك الجذر المؤسس لكل عائلة من هذه العوائل يبقى الحاكم لها، ويبقى يظهر هنا وهناك حتى بعد انتقالها إلى عائلة أخرى، وإن عملية انتقالها بالمطلق من عائلة إلى أخرى هي رهن التحولات السياسة والدولية المحيطة.
لمعرفة أثر هذه التحولات، يمكن الانتباه إلى الثمار التي بدأت تسقط عن شجرة وصول طالبان إلى السلطة في أفغانستان، إذ إن هذا الحدث سيدفع كافة الأحزاب المنتمية إلى الجهادية الإسلاموية وما بعدها، إلى إعادة النظر في سياساتها مجدداً، ومن المؤسف أن هذه المراجعة لن تصب في صالح ما بعد الإسلاموية بل في صالح الارتداد نحو الخلف، حيث ستتأثر الكثير من الحركات بكيفية وصول طالبان إلى السلطة، معتقدة أن التشدد والعنف والثبات على المواقف والمرجعيات يحقق من الأهداف أكثر من محاولة التحول والتكيف، خاصة أن هؤلاء يشهدون اليوم تراجع كل الأحزاب الإسلامية التي قدمت نفسها باعتبارها ما بعد إسلاموية (النهضة في تونس، العدالة والتنمية في المغرب) مقابل عودة طالبان إلى السلطة!
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.