تصطدم عملية التأريخ للتيارات والجماعات السرية، غالباً، بعدد من المعوقات المنهجية، ليس أقلها غياب المراجع. وعامل السرية يزيد من صعوبة الكتابة التاريخية حولها ويجعل الخروج بمادة يقينية أمراً مُستحيلاً. يضاف إلى ذلك، طبيعة الفاعلين في مسار الجماعات الدينية التي استخدمت العنف الذين لا يصرحون عادةً بتجاربهم كتابةً أو مشافهةً ولا يؤرخون لها حتى بعد أن تستوفي التجربة كمالها، إلا نادراً. لذلك كان اعتمادنا في هذه الورقة على المواد الصحافية وبعض المصادر الثانوية في تتبع مسار التيار الجهادي في تونس منذ نشأته في سبعينات القرن الماضي حتى عام 2010، أي قبل موجة الثورات العربية، وهي المرحلة الغائمة من تاريخ هذا التيار في تونس التي يمكن تسميتها بمرحلة «المنافي»، وصولاً إلى ما بعد ذلك من صعود كبير لهذا التيار، داخل البلاد وخارجها.
خلال هذه المرحلة، تشكل تيار من التونسيين المؤمنين بمنهج التغير العنيف للدولة وفقاً لتصورات الإسلام السياسي القائمة على اعتبار الإسلام «ديناً ودولة»، لكن هذا التشكل كان في بيئات خارجية، وليس في الداخل التونسي، مستلهماً من تجارب ومرجعيات مشرقية في المنهج وفي التنظّيم. لذلك فهذه الورقة تحاول تتبع تيار «الجهادية» التونسي ومسار تطوره فكراً وتنظيماً.
ويمكن مسايرة التحقيب الآتي في هذا التتبع:
- الجذور (1970-1983) بدايات إخوانية.
- المرحلة الأفغانية (1984-1993).
- المرحلة البوسنية والشتات الأوروبي (1993 – 2000).
- الجماعة التونسية المقاتلة (2000 – 2001).
- الإفاقة (2002 – 2010) نهوض الداخل.
- الانفجار الكبير (2011 – 2015).
الجذور (1970-1983): بدايات إخوانية
أخذ التيار الجهادي التونسي في التشكل على مدى سنوات وفي خضم تجارب محلية ودولية سياسية وفكرية وصلت به اليوم إلى ما هو عليه في نسخته «الداعشية». لكن المؤكد، أن التيار الجهادي لم يوجد في تونس، لا فكرياً ولا تنظيمياً، قبل ظهور تيار الإسلام السياسي في بداية سبعينات القرن الماضي.
خلال تلك المدّة ظهر تنظيم إخواني باسم الجماعة الإسلامية ضمت طيفاً واسعاً من المؤمنين بأن «الإسلام دين ودولة» على اختلاف توجهاتهم المذهبية والطائفية وتصوراتهم لــ«منهج التغير». فالحركة الإسلامية التونسية كانت خليطاً بين: مجموعة إخوانية تقليدية تتبع منهج جماعة الإخوان عقيدةً وسياسةً، بما فيها أفكار سيد قطب عن الحاكمية والجاهلية. ومجموعة سلفية صغيرة متأثرة بحركة المد السلفي الذي ظهرت في بداية السبعينات في مصر والخليج على يد الشيخ ناصر الألباني والجمعية الشرعية المصرية ومجموعة إسلامية عقلانية انشقت في أواخر السبعينات بقيادة صلاح الدين الجورشي وحميدة النيفر وبعض العناصر ذات التوجه الصوفي ولاحقاً ظهر تيار شيعي داخل الحركة في عقب انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية بقيادة آية الله الخوميني. هذا المزيج جعل من الصعب على الحركة تحديد منهج التغير في مواجهة الدولة والمجتمع. لكن التيار الغالب فيها كان متأثراً بأفكار الجناح القطبي في جماعة الإخوان المسلمين القائل بــ«الحاكمية»، وتكفير الحُكام و«الجهاد ضدهم من أجل إقامة الدولة الإسلامية».(1)
كانت الحركة الإخوانية في نسختها الأولى، الجماعة الإسلامية، ولاحقاً حركة الاتجاه الإسلامي، الحاضن الطبيعي للأفكار الجهادية ومن ثمة لنواة التيار الجهادي الأولى. وهذا شائع في أغلب المنطقة العربية، فقد كانت فروع جماعة الإخوان المسلمين في سوريا وليبيا والجزائر والمغرب والجماعة الأم في مصر حاضناً لأغلب التنظيمات الجهادية التي برزت لاحقاً.
المرحلة الأفغانية (1984-1993)
في كانون الأول /ديسمبر 1979 قامت قوات الجيش السوفياتي باجتياح أفغانستان للقضاء على التمرد الذي تقوده الجماعات الإسلامية ضد الحكومة الموالية لموسكو. كان التدخل السوفياتي شرارةً في موقد جاهز. إذ استغلت الولايات المتحدة الأمر لدعم الحركات الإسلامية لإلحاق الهزيمة بأعدائها السوفيات وبدأت المخابرات المركزية الأمريكية تعمل بالتعاون مع باكستان على دعم هذه الحركات عسكرياً وسياسياً.
بدأت الساحة الأفغانية تشكل ساحة جذب للجماعات الإسلامية في المنطقة العربية، وبخاصة بعد استقرار القيادي الإخواني الفلسطيني، عبد الله عزام في بيشاور الباكستانية على الحدود مع أفغانستان وتأسيسه معسكراً لاستقبال المتطوعين في «الجهاد ضد الروس» أطلق عليه اسم «مكتب خدمات المجاهدين»، ليتحول المعسكر، بدايةً من عام 1984، إلى نقط حشد لشباب الحركات الإسلامية وبخاصة الإخوانية. حضرت إلى الساحة الأفغانية خلال الحرب ثلاثة تيارات إسلامية كبرى هي: المدرسة التقليدية السلفية، جماعة الإخوان المسلمين بفروعها، المدرسة الجهادية المصرية من خلال جماعة الجهاد والجماعة الإسلامية، لتشكل مجتمعة ما سيعرف لاحقاً بظاهرة «الأفغان العرب».
بخلاف بقية مكونات الأفغان العرب التحق التونسيون متأخرين بالساحة، إلى حدود أواخر الثمانينات كان أغلب الشباب المتأثر بالأفكار الإسلامية ينتمي إلى حركة الاتجاه الإسلامي التي كانت منشغلة في الصراع مع السلطة، ولم تكن تعطي أولوية لإرسال عناصرها إلى الساحة الأفغانية. لاحقاً ومع توتر العلاقة مع السلطة بداية من عام 1989 بدأت الحركة الإسلامية في تسهيل خروج شبابها إلى «الجهاد» هرباً من الملاحقات الأمنية التي طالت بعضهم. ولكن قبل ذلك وفي منتصف الثمانينات، التحقت مجموعة صغيرة من التونسيين بالأفغان العرب أفراداً متطوعين لا ينتمون إلى أي تنظيم، وبينهم مهاجرون في فرنسا تأثروا بالدعاية التي كانت تنشرها الجماعات الإسلامية هناك، وبخاصة جماعة التبليغ والمراكز الإسلامية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين.
عام 1988 أسست الجبهة الإسلامية التونسية للإنقاذ، بوصفها تنظيماً سياسياً سرياً يحمل أفكاراً سلفية حركية، تجمع بين العقيدة السلفية التقليدية والأفكار الإخوانية القطبية القائمة على الحاكمية والجهاد وتعمل من أجل إقامة الدولة الإسلامية. وكانت مقربة من الجبهة الإسلامية الجزائرية للإنقاذ. تولى مؤسسها محمد علي حراث مسؤولية العلاقات الخارجية، ما مكن عدداً من عناصرها من المغادرة إلى الجزائر ومن ثم إلى بيشاور في باكستان والالتحاق بمكتب خدمات المجاهدين. كان أغلب عناصر الجبهة من أنصار حركة الاتجاه الإسلامي ومتحزبيها، لكنهم بلوروا في ما بينهم تصوراً حركياً أكثر راديكالية لأفكار الإسلام السياسي، أقرب إلى ما كان يعرف بتيار الصحوة الذي ظهر في السعودية في ثمانينات القرن الماضي على يد قيادي منشق عن جماعة الإخوان المسلمين السورية يدعى محمد سرور بن نايف زين العابدين، ويجمع بين أفكار سيد قطب ومنهج السلفية التقليدية في السعودية.
نشطت الجبهة الإسلامية بكثافة في تجنيد الشباب التونسي للقتال في أفغانستان وربطت علاقات متينة مع الحزب الإسلامي الأفغاني وزعيمه قلب الدین حكمتيار الذي كان يتلقى دعماً مباشراً من باكستان. إذ تشير وثائق معتقلي غوانتنامو التي سربها موقع ويكيليكس عام 2011 إلى وجود علاقة بين المعتقل التونسي عبد الله الحاجي القيادي في الجبهة، وأحد عناصر حزب حكمتيار، وتغمز الوثائق إلى جهة علاقة هذا الأخير بمسؤول في المخابرات الباكستانية. وقد لعبت عناصر الجبهة في تونس وبيشاور دوراً كبيراً في تنسيق وصول عشرات من الشباب التونسي والمغاربي إلى ساحات الجهاد الأفغاني.
بالتوازي مع نشاط الجبهة، ساعدت حركة النهضة بعض الشباب على مغادرة تونس نحو أفغانستان، هرباً من الملاحقة الأمنية أولاً، وخدمة لمشروع التنظيم العالمي في مقام ثان. وساعدت عناصر التيار الإسلامي الليبي على الوصول إلى بيشاور. ففي مطلع عام 2013 كشف المقاتل السابق في الجماعة الليبية المقاتلة، ناصر الورفلي «دعماً تلقاه من زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، ولعدد من رفاقه وكيف سهل لهم عملية دخول أفغانستان للقتال» بعدما فروا من قبضة معمر القذافي عام 1989.(2)
إلى جانب المشاركة في القتال ضد القوات السوفياتية حاول الجهاديون التونسيون في أفغانستان إنشاء جماعة جهادية، إذ يكشف أبو مصعب السوري –القيادي في الجهاد الأفغاني- في شهادته عن ذلك بالقول: «أدى وصول بعض الشباب الجهادي التونسي إلى ساحة أفغانستان في آخر الثمانينات ومطلع التسعينات إلى محاولة بعضهم تشكيل نواة لتجمعات جهادية، فقامت محاولات فاشلة متكررة لضم تلك المجموعات الصغيرة في تنظيم موحد على غرار ما فعل الليبيون والجزائريون من الأفغان العرب. وقد فشلت كل تلك المحاولات لعدم وجود كوادر مؤهلة بين أولئك الشباب».(3) ويشير السوري في الشهادة ذاتها إلى أن «فيروس التطرف والتكفير الذي أصاب التونسيين، أعاق تلك المحاولات» وفي هذا السياق، نشأت جماعة في بداية التسعينات، تبنت منهج التكفير والهجرة في بيشاور انتسب إليها عدد من الأفغان العرب وبخاصة التونسيين والجزائريين.
المرحلة البوسنية والشتات الأوروبي (1993 – 2000)
كانت الحرب الأفغانية قد وضعت أوزارها، وانطلقت حرب أخرى في البلاد بين الأحزاب الإسلامية التي قاتلت السوفيات من أجل السلطة، وبدأت خيبة الأمل والإحباط يتسربان إلى مجموعات الأفغان العرب الذين كانوا يمنون النفس بقيام «دولة إسلامية» تحتضنهم من حالة الشتات التي يعيشونها، هرباً من الدول التي أتوا منها ومن الملاحقات الأمنية. تفرق هذا الجمّع إلى دروب شتى. يطلق القيادي في القاعدة أبو مصعب السوري على هذه المرحلة اسم مرحلة الشتات والملاذات الآمنة المؤقتة. قسم كبير من هذا الجمع عاد إلى بلده من دون أي مشكلات ومن دون ملاحقة أمنية، كدول الخليج، بما أن هذه الدول كانت راعية «للجهاد الأفغاني» وقسم آخر عاد إلى بلاده ليطلق حركة جهادية ضد الدولة من أجل إسقاطها وبناء الدولة الإسلامية المُحتكمة إلى الشريعة الإسلامية كما حدث في الجزائر. القسم الثالث فضّل الاستفادة من فرص اللجوء السياسي التي كانت بعض الدول الأوروبية تمنحها آنذاك، كبريطانيا وإسبانيا والدول الاسكندنافية. «وتوجهت مجموعة أخرى إلى السودان التي كانت حكومة البشير وحليفه الترابي قد استولت فيها على الحكم موصلة الحركة الإسلامية الرئيسة فيها إلى السلطة التي كان من سياستها خلال مرحلة (1991-1995)، فتح الباب للتنظيمات الجهادية للانتقال إلى السودان، حيث انتقل عدد مهم من الجهاديين إلى هناك وكانت في طليعتهم قيادة تنظيمات الجهاد المصري والجماعة الإسلامية في مصر، وأسامة بن لادن وقياديي تنظيم القاعدة، إضافة إلى الكتلة الرئيسة من قيادة الجماعة المقاتلة في ليبيا وجهاديين من جنسيات أخرى».(4) في هذه الأثناء، وتحديداً عام 1992، اندلعت الحرب العرقية في منطقة البلقان، فشكلت للأفغان العرب هبة من السماء، لمواصلة «الجهاد» فتوجه القسم الأخير من الجمع الذي تفرق على أبواب كابل إلى «البوسنة» «نصرةً للمسلمين». وكما حدث في أفغانستان، أخذ الصراع هناك طابعاً دينياً مقدساً. هذا القسم ضم داخله جمعاً كبيراً من الجهاديين التونسيين الذين قاتلوا في أفغانستان، ولم يجدوا غير البوسنة وجهة لهم بسبب الملاحقات الأمنية التي تنتظرهم في تونس، فقد كان أغلبهم من المنتمين إلى الجبهة الإسلامية التونسية المحظورة.
نشط عناصر تونسيون عدة في الساحة الأفغانية. كان الكادر القيادي فيها مكوناً من عناصر الجبهة الإسلامية للإنقاذ (التونسية) ومن أصحاب الخبرة الجهادية في أفغانستان. إلى جانب تجنيد عناصر جديدة وبخاصة في أوساط الشباب التونسي المهاجر في إيطاليا. وقد استفادت شبكات التجنيد من الأوضاع الاجتماعية السيئة لهؤلاء المهاجرين، وبعض منهم كان ملاحقاً في قضايا جنائية يتعلق أغلبها بتجارة المخدرات. وقد لعبت المراكز الإسلامية في إيطاليا التي هيمنت عليها جماعة الإخوان المسلمين، دوراً كبيراً في تقديم يد العون لشبكات التجنيد التونسية.
لا يمكن الوقوف على عدد الشباب التونسي الذي انخرط في القتال ضمن المجموعات الجهادية العربية في البوسنة، بسبب غياب توثيق التجربة من طرف من عاشها وغياب الكتابات البحثية والأكاديمية في الموضوع، فالوسيلة الوحيدة لتوثيق بعض الحالات هي سجالات المحاكمات التي تعرضوا لها في مراحل لاحقة في تونس وفي إيطاليا.
في عقب التوقيع على اتفاقية الإطار العام للسلام في البوسنة والهرسك، المعروفة باسم اتفاقية دايتون للسلام التي انتهى بموجبها الصراع المسلّح الذي دار في البوسنة والهرسك بين 1992 و1995، قررت العناصر الجهادية التونسية الاستقرار في عواصم أوروبا الغربية، مستفيدةً من فرص اللجوء السياسي التي كانت تمنحها هذه الدول، كبريطانيا وبلجيكا وإيطاليا وألمانيا وتفرغت لدعم «مشروع الجهاد في الجزائر» من خلال تقديم كل أنواع الدعم اللوجيستي والمالي والإعلامي للجماعة الإسلامية المسلحة التي كانت تعيش «ربيعها الدامي» في الجزائر. في لندن استقر عشرات من الجهاديين التونسيين وعملوا في المركز الإعلامي للجماعة الإسلامية الجزائرية المسلحة الذي كان يرعاه أبو قتادة الفلسطيني (عمر محمود عثمان) وساهم بعضهم في تحرير مجلة الأنصار وإخراجها، لسان حال الجماعة، بينهم تلميذ أبو قتادة، سيف الله بن حسين، المعروف بأبي عياض. فيما وصل الأمر ببعض عناصر الجبهة الإسلامية التونسية إلى المشاركة في عملية نفذتها الجماعة المسلحة الجزائرية في شتاء عام 1995، واستهدفت مركز سندس الحدودي في منطقة الجريد في الجنوب الغربي أدت إلى مقتل سبعة عناصر من الحرس الوطني.(5)
في المقابل، فضّل كثير من الجهاديين التونسيين العودة إلى أفغانستان، وبخاصة مع تعاظم قوة حركة طالبان وحلفائها في الحزب الإسلامي بقيادة قلب الدين حكمتيار وتنظيم جلال الدين حقاني. بالتوازي مع ذلك، كثفت العناصر التونسية المقيمة في أوروبا من نشاطها الداعم للجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر وذلك في إطار «الجبهة الإسلامية التونسية» التي كانت وقتها تمثل قاطرة العمل الجهادي التونسي حتى عام 2000، فقد نجحت الأجهزة الأمنية الأوروبية خلال هذه المدّة في تفكيك عشرات الخلايا التي ينشط فيها تونسيون تعمل في دعم المجموعات الجزائرية المسلحة، في بلجيكا وفرنسا وإيطاليا خصوصاً.
خلال النصف الثاني من عقد التسعينات، بلور تيار السلفية الجهادية أفكاره ومنهجه عالمياً، بعيداً عن مدرستي الإخوان والسلفية التقليدية. وقد بدأت عملية المفاصلة في عقب حرب الخليج الثاني (1991) ودخول القوات الأمريكية إلى منطقة الخليج، هذا الحدث الذي مثل قطيعة نهائية بين السلفية الجهادية والسلفية الوهابية، وظهرت خلال تلك المدّة كتابات أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني وأعلن -كل من الجهادي السعودي، أسامة بن لادن أمير تنظيم قاعدة الجهاد، وأيمن الظواهري أمير تنظيم الجهاد المصري- تأسيس «الجبهة العالمية للجهاد ضد اليهود والصليبين» التي قدمت تحليلاً جديداً في الساحة الجهادية مفاده أن السنوات التي قضتها الجماعات الإسلامية في قتال الأنظمة العربية (العدو القريب) ما جنت منها إلا الملاحقات الأمنية والموت، فهذه الأنظمة تستمد قوتها من دعم الولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وعليه يجب على الجماعات الجهادية توجيه بنادقها إلى العدو البعيد وهو الولايات المتحدة. لتبدأ مرحلة جديدة من «عولمة الجهاد» والحرب المفتوحة في ساحات متعددة بين الجهاديين والدول الغربية.
الجماعة التونسية المقاتلة (2000 – 2001)
بعد تجارب تنظيمية صغيرة في شكل خلايا دعم للجماعات الإسلامية في الجزائر، قررت العناصر الجهادية التونسية المنتشرة في أوروبا التوجه نحو تأسيس تنظيم جهادي هرمي يضم داخله الطيف الجهادي التونسي المشتت في بلدان كثيرة ويعمل من أجل «العودة بالمشروع الجهادي إلى الداخل التونسي وإسقاط النظام القائم وتأسيس الدولة الإسلامية المُحتكمة إلى تعاليم الشريعة الإسلامية». وبذلك ولدت «الجماعة التونسية المقاتلة» إطاراً تنظيمياً جامعاً للجهاديين التونسيين في الخارج، بقيادة سيف الله بن حسين، المكنى بأبي عياض التونسي. وضمت قيادات خلايا دعم الجماعة الإسلامية المسلحة، كسامي الصيد وطارق المعروفي وخليل جراية والمختار بوشوشة والمهدي كمون ورياض الجلاصي وكمال الحمراوي وفيصل البوغانمي وكامل بن موسى.
بدأت فكرة تأسيس تنظيم جهادي تونسي مستقل، في العاصمة البريطانية لندن على يد أبي عياض (سيف الله بن حسين) مع مجموعة صغيرة من الشباب التونسي. في البداية ظهر التنظيم حاملاً اسم «أهل السنة والجماعة» يشبه في تنظيمه الهرمي «الجماعة الإسلامية» في مصر و«الجماعة الإسلامية المسلحة» في الجزائر، وبدأ يصدر من لندن مجلة باسم «النهج» ويحمل فكراً سلفياً جهادياً. وكانت الجماعة الوليدة، ترسل عناصرها إلى اليمن للتعليم الديني، فيما تُرسل أعضاءها إلى أفغانستان للتدريب على حرب العصابات بالتنسيق مع طالبان.
أسست الجماعة رسمياً عام 2000 في مدينة جلال أباد الأفغانية على يد سيف الله بن حسين وطارق المعروفي. وتركز نشاطها في مجال تجنيد المتطوعين للتدريب في معسكرات ذات صلة بتنظيم القاعدة في أفغانستان. وخضع أفرادها معظمهم للتدريب في أفغانستان قبل عودتهم إلى أوروبا. وكغيرها من الجماعات الجهادية، يومذاك، فتحت «التونسية المقاتلة» معسكراً تدريبياً لها في أفغانستان التي كانت تحت حكم طالبان، واستفادت من وجود عشرات من القيادات الجهادية العالمية ذات الخبرة العسكرية والحركية الطويلة. «وخلال عام 2000 كانت المعسكرات والمضافات العربية قد انتشرت في مدن أفغانستان الرئيسة ولا سيما العاصمة كابل، والعاصمة الروحية لطالبان (قندهار)، والمدن الشرقية مثل خوست وجلال أباد. وبدأ المهاجرون الجدد والمحاربون القدماء من الأفغان العرب حملة إعلام واتصالات لاستقبال مزيد من المهاجرين. ونشطت حركة القدوم على الرغم من الحصار السياسي والاقتصادي والحملة الإعلامية والدولية التي أحاطت بالإمارة الإسلامية الوليدة من كل جانب».(6)
ساهمت الجماعة في هذه الأثناء في إرسال عشرات من الشباب التونسي المقيم في أوروبا والشباب المغاربي إلى معسكرات التدريب في أفغانستان، بل إن بعض الشباب قد تفرقت بهم السبل وطوحت بهم أهواء الجهاد إلى آفاق بعيدة نحو جنوب شرق آسيا والصومال واليمن، عام 1999 فككت الأجهزة الأمنية اليمنية تنظيماً جهادياً يسمى «جيش عدن – أبين الإسلامي» يقوده يمني، يُعدّ من رموز الأفغان العرب، هو أبو بكر المحضار. وضمن الكادر القيادي للتنظيم اعتقل التونسي حسين محمد صالح (أبو هريرة) الذي شارك في عملية خطف السياح الغربيين في منطقة أبين في العام نفسه.
دعمت الجماعة المقاتلة التونسية من خلال خلاياها النائمة في أوروبا الجماعات الجهادية الأخرى ويعدّ اغتيال القائد الأفغاني، أحمد شاه مسعود، هي أهم العمليات التي نفذتها الجماعة وذلك دعماً منها لحركة طالبان وتنظيم القاعدة اللذين كانا في صراع مع تحالف الشمال الذي يقوده مسعود.
لم تسعف أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، الجماعة التونسية المقاتلة بكثير من الوقت للتمدد أكثر وتكوين عناصر متدربة بشكل جيد. فلم يمض على تكوينها أكثر من عام حتى دخلت أفغانستان في حرب شاملة انتهت بتشتت الجماعات الجهادية في الكهوف والجبال وسقوط أغلب مناطق البلاد في يد تحالف الشمال المدعوم من القوات الأمريكية وسقطت عشرات القيادات الجهادية العربية والأفغانية بين قتيل سجين في السجون المحلية والأمريكية. ففككت الجماعة بعد مقتل أغلب عناصرها في أفغانستان واعتقال 11 منهم في سجن غوانتنامو وتشتت شمل البقية في العواصم الأوروبية.
كانت هذه المرحلة القصيرة من عمر الجماعة التونسية المقاتلة كفيلة بإيجاد نواة تنظيم جهادي سيكون له شأن بعد سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي في 2011. وكان مشروع الجماعة منذ البداية موجهاً إلى تونس بخلاف التجارب السابقة في أفغانستان الثمانينات والبوسنة التي كانت مقتصرة على ممارسة الجهاد والفرار من الملاحقة الأمنية. في هذه التجربة في تلك المرحلة بدأ «الجمّع الجهادي التونسي» في العودة إلى أفغانستان، مهد الجهاد الأول، وكان الهدف هذه المرة الإعداد والتدريب وجمع الشباب التونسي بغية العودة بالجهاد إلى تونس كما نقل ذلك القيادي في تنظيم القاعدة أبو مصعب السوري في سفره الكبير حول تاريخ الحركات الجهادية في العالم الإسلامي ويضيف السوري قائلاً: «وابتدؤوا محاولة جديدة لإنشاء تجمع جهادي خاص بهم وبدت بعض بوادر النجاح على تلك المحاولة على الرغم من التعثر والتشرذم وفيروس التطرف والتكفير الذي أصاب بعض الإخوة… واستطاع بعض الناضجين منهم أن يؤسسوا لأنفسهم معسكرا مستقلا وإدارة لا بأس بمستواها». ويتابع السوري حديثه: «و على الرغم من وجودهم تحت حماية طالبان إلا أن الأفغان التونسيين كان هدفهم العودة بالجهاد إلى تونس لذلك لم يعيروا كبير اهتمام لمعركة طالبان ضد تحالف الشمال الذي كان يقوده أحمد شاه مسعود الذي اغتيل على يد خلية جهادية تونسية قادمة من بلجيكا تحت غطاء صحافي أياماً قليلة قبل الحرب الأمريكية على أفغانستان سنة 2001 إلا أن أخدود أيلول/ سبتمبر وما تبعه لم يمهل الشباب التونسي للعودة بالجهاد إلى تونس بل فرض عليهم القتال على قمم طورا بورا، هذه المعركة التي أتت على أكثرهم نظراً إلى قلة عددهم أصلاً». (7)
الإفاقة (2002 – 2010): حرب العراق ونهوض الداخل
قبل نهاية القرن العشرين رسم تنظيم قاعدة الجهاد بقيادة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري خطة استراتيجية تمتد على مدى 20 عاماً (2000-2020)، كشف تفاصيلها الصحافي الأردني، فؤاد حسين في كتابه الصادر عام 2005 بعنوان «الزرقاوي؛ الجيل الثاني للقاعدة». في المرحلة الأولى للخطة التي تمتد من عام 2000 إلى عام 2003 كان التنظيم يهدف من خلال هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر إلى استفزاز الولايات المتحدة من أجل إعلان الحرب على العالم الإسلامي، ومن ثم «إفاقة» المسلمين. وكان تنظيم «القاعدة» يأمل أيضاً في أن تساعد الهجمات على بث رسالته لجمهور عالمي.(8) ذلك ما حدث فعلاً، فقد استفاق المسلمون ومعهم العالم على آلاف من الخلايا النائمة في جميع أصقاع العالم ودوت انفجارات الجهاديين في أمريكا وبريطانيا ومدريد وبالي والمغرب وتونس ومصر وامتدت الحرائق طولاً وعرضاً. في هذا السياق برز عدد من الأسماء التونسية، تقود العمل الحركي الجهادي وتنفذه، وجاءت عملية احتلال العراق في ربيع عام 2003 لتفتح آفاقاً جهادية أوسع لهؤلاء. وفي المرحلة الثانية من خطة القاعدة هي «فتح العيون، 2003-2006. في هذه المدّة، كان التنظيم يأمل في أن يحوّل نفسه من منظمة إلى حركة أوسع نطاقاً، فضلاً عن نشر قاعدته إلى بلدان عربية أخرى. ووفقاً لهذه الخطة يكون العراق مركز الجهاد لإعداد الكوادر للميادين المستقبلية».(9(
في عقب ضربات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، بدأت الأجهزة الأمنية التونسية في تفكيك بعض الخلايا الجهادية الصغيرة. ولاحقاً انخرط النظام بكليته في ما عرف بالمجهود العالمي لمكافحة الإرهاب الذي أطلقته إدارة المحافظين الجدد بقيادة بوش الابن والتنسيق الأمني مع بقية الأنظمة العربية لملاحقة الشباب التونسي المتجه نحو العراق عبر سوريا، ونجح نسبياً في تفكيك عشرات خلايا تسفير الشباب والخلايا الناشطة في الأوساط الطلابية. وعلى الرغم من هذا العمل الأمني فإن أفكار القاعدة وأخواتها كانت عصية على المنع فقد ازداد رواجها بفعل السياسة الإعلامية الناجحة التي توختها حيث اعتمدت على شبكة الإنترنت وأطلقت عشرات المنتديات والبوابات الإلكترونية وروجت مئات من الأشرطة المصورة لقيادات الجهاد العالمي والعمليات التي كانت تقوم بها ضد قوات الاحتلال في العراق وأفغانستان، مدعومةً بقنوات عربية وفرت لها نافذة كي تُطل بها على العالم، وبذلك فشلت كل أشكال الرقابة في الوقوف أمام تسونامي الأفكار الجهادية وتحول بن لادن إلى أيقونة لدى قطاعات كبيرة من الشباب التونسي وبخاصة أمام انسداد الأفق السياسي في البلاد.
خلال هذه المرحلة عزز نشاط التيار الجهادي التونسي في الداخل وبدأت تظهر مؤشرات توحي بأن الأفكار العنيفة المعادية للأنظمة وللغرب والواعدة بمدينة فاضلة تحكمها «خلافة وفقاً للشريعة»، قد تحولت إلى عنصر جذب واستقطاب للشباب الغاضب من الأنظمة والحاقد على الغرب الذي يعيش فراغاً ثقافياً كبيراً. ففي 11 نيسلان/ أبريل 2002، قام انتحاري بتفجير شاحنة مفخخة قرب الكنيس اليهودي، راح ضحيتها 19 شخصاً، في جربة جنوب شرق البلاد. وفي كانون الأول/ ديسمبر 2006، تمكنت خلية جهادية تسمى «أسد بن الفرات» من التسلل إلى بلدة سليمان، ودخلت في مواجهات مسلحة مع قوات الأمن التونسي. فكانت هذه العمليات مؤشراً واضحاً على تعاظم نشاط التيار، لكن موازين القوة في مواجهة الدولة كانت مختلةً إلى أبعد الحدود، فقد استطاعت المخابرات التونسية السيطرة على حركة التيار الجهادي سنوات، وتجفيف منابعه المالية والبشرية مبكراً من خلال الحملات الأمنية الدورية وشبكة المخبرين المنتشرة بإحكام كبير في مختلف أرجاء البلاد إلى جانب الرقابة الشديدة على شبكة الإنترنت.
وبعد احتلال العراق عام 2003، تصاعد عمل الخلايا الجهادية التونسية في أوروبا التي كانت تنشط أساساً في تجنيد المقاتلين وتسفيرهم إلى العراق، إلى تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين تحديداً. عام 2005 فككت أجهزة الأمن الفرنسية خلية جهادية في «الدائرة الـ 19» عرفت بشبكة «بوت شومون» التي نشطت في إرسال متطوعين لمحاربة القوات الأمريكية في العراق منذ عام 2004.
وفي العراق بدأت العناصر التونسية تأخذ مكاناً متقدماً في قيادة الجماعات الجهادية بخلاف حضورها الثانوي في الساحات الجهادية السابقة في أفغانستان والبوسنة والقوقاز وذلك بعد أن راكمت تجربة حركية كبيرة في عقد التسعينات من القرن الماضي من خلال النشاط الخلفي للعناصر التونسية في أوروبا التي كونت بعدها جيلاً ثانياً كان جاهزاً للعمل مع دخول الاحتلال الأمريكي. خلال هذه المرحلة توافد عشرات من الشباب التونسي على الساحة العراقية. قسم منهم كان قادماً من تونس والقسم الثاني، والأكثر تجربة، جاء من الجالية التونسية المقيمة في أوروبا. فالساحة العراقية ستتحول إلى مكز تدريب كبير للجهاديين التونسيين، الأمر الذي ستظهر نتائجه لاحقاً في ساحات أخرى.
عام 2008 اكتشفت القوات الأمريكية وثائق سرية تعود إلى تنظيم القاعدة في بلدة سنجار شمال العراق في ما عرف بــ «سجلات سنجار» وهي عبارة عن وثائق تخص 606 من المقاتلين الأجانب الذين دخلوا العراق في المدّة بين أغسطس/ آب 2006 وأغسطس/ آب 2007 وفيها تفاصيل عن نوعية المقاتلين الذين ذهبوا إلى هناك لتنفيذ عمليات انتحارية. من بين هؤلاء، عشرات من العناصر التونسية التي التحقت بالتنظيم عبر الحدود السورية. شكلت سوريا يومذاك، المعبر الوحيد للجهاديين التونسيين الذين سيحتلون لاحقاً مناصب رفيعة في «قاعدة الجهاد ببلاد الرافدين» وتالياً في «دولة العراق الإسلامية».
الانفجار الكبير (2011 – 2015)
في عقب سقوط نظام بن علي في 2011، سقطت معه قبضة الدولة المركزية وأجهزتها الأمنية الصلبة، فأصبح التيار الجهادي ينشط علناً ويسيطر على عدد كبير من المساجد ممارساً دعايته الحركية والعقائدية جهاراً من دون عوائق أمنية على الرغم من المضمون الخطر لهذه الدعاية المضادة للدولة ومؤسساتها. ليعلن التيار في مؤتمره الأول في تونس -ربيع عام 2011- تأسيس تنظيمه الخاص باسم جماعة «أنصار الشريعة» يقودها زعيم الجماعة التونسية المقاتلة المنحلة، سيف الله بن حسين، المعروف بأبي عياض التونسي، ومعه مجموعة من المعتقلين الجهاديين السابقين وعناصر قاتلت سابقاً في أفغانستان والعراق وعناصر شبابية حديثة العهد بالتيار الجهادي.
في الوقت نفسه بدأ التيار في توجيه مئات من أنصاره وعناصره إلى الجبهة السورية والعراقية والليبية، لتتحول تونس إلى أكبر مُصدر للمقاتلين الأجانب. وفي شهر أبريل/ نيسان 2012 بدأت أخبار القتلى تظهر في وسائل الإعلام، حيث قضت أول مجموعة تونسية في مدينة حمص السورية خلال قصف جوي للجيش السوري على المدينة استهدف معسكراً للجيش السوري الحر، وكان أغلب الملتحقين في تلك المدّة ينضمون إلى كتائب ذات توجه إسلامي منضوية تحت لواء الجيش الحر. لاحقاً ومع تشكل «جبهة نصرة الشام» الفرع السوري لتنظيم القاعدة، بدأت الأعداد في الارتفاع، وأصبح الجميع ينضمون إلى النصرة ثم داعش. أما عملية التجنيد فكانت تجري بطرائق مباشرة من خلال المساجد أو العلاقات القرابية والصداقة أو بصورة غير مباشرة من خلال الإنترنت. وفي حالات عدة يتكفل المقاتل بمصروفاته شخصياً، وفي أغلب الحالات يتكفل الوسطاء بذلك وبتوفير الدعم اللوجيستي (النقل، الوثائق، الاستقبال…). ويمكن أن يحصل الشاب على دعم مالي لعائلته في غيابه كانت دوافع السفر المعلنة خلال التدقيق الأمني في المعابر والمطارات هي العمل أو الدراسة وفي أقصى الحالات ادعاء الانضمام إلى منظمات إغاثية.
وصولاً إلى عام 2013، تضخم عدد المجندين التونسيين في الجماعات السورية المسلحة وخلال المدّة نفسها (2012 – 2013) لم تكن المجموعات الجهادية في تونس متوافقة حول قضية الجهاد في سوريا. في حين كان المجتمعون حول الشيخ الخطيب الإدريسي، أحد القيادات التاريخية للتيار السلفي في تونس، يبادرون إلى السفر نحو سوريا، كانت مجموعة أبو عياض (أنصار الشريعة) تعدّ النفير إلى سوريا سياسة ممنهجة من «أطراف غربية ومحلية» لإفراغ «الساحة الجهادية»، وهنا تبرز فرضية تشجيع تيار الإدريسي من طرف السلطة السياسية وقتئذ وهي حركة النهضة الإخوانية، حيث قامت فلسفتها في إبعاد ما يمكن إبعاده من هؤلاء الشباب لساحات القتال، ويمكن أن تتسق هذه السياسة المحلية مع سياسة عالمية في الاتجاه نفسه، في ذلك الوقت. وبرز هذا التشجيع في سهولة الحصول على جوازات السفر، وعمل بعض الجمعيات ذات التوجه الإسلامي، من دون رقابة وبحرية مطلقة، والتعبير عن مواقف سياسية علنية مشجعة على الذهاب إلى الجهاد من طرف قيادات في حركة النهضة وحكومة الترويكا، وبخاصة المرور السلس عبر المعابر والمطارات بصورة تثير الريبة.
لاحقاً، ومع تأسيس تنظيم الدولة الإسلامية في 2014، تحول نسق التسفير من الأفراد إلى الجماعات. وقبل ذلك، ومنذ أيلول/ سبتمبر 2013، تاريخ تصنيف أنصار الشريعة منظمة إرهابية وبداية الملاحقة الشاملة لعناصره، في عقب اغتيال النائب محمد البراهمي، لم تعد عمليات التسفير تقتصر على الشباب اليافع القادر على القتال، بل شملت عائلات بأكملها وكانت كلها من دون استثناء تمر عبر ليبيا ثم سوريا. ثم مع بداية تشكل منطقة نفوذ جهادي في ليبيا ولاحقاً ظهور ولاية لداعش، بدأت ليبيا تتحول من منطقة عبور نحو الشرق وتدريب إلى منطقة استقرار.
الخاتمة
داخل الحركة الإسلامية الإخوانية ولد التيار الجهادي التونسي. وهي ولادة طبيعية ومشابهة لكل التيارات الجهادية في المنطقة العربية التي وجدت في جماعة الإخوان المسلمين بئية خصبة كي تنمو وتبلور أفكارها وتطور مناهجها التغيرية القائمة على العنف (الجهاد) من خلال مدونة راديكالية إخوانية، رائدها سيد قطب وأبو الأعلى المودودي. لاحقاً ومع اندلاع الحرب الأفغانية، شكلت هذه الساحة عنصر جذب للمؤمنين بمنهج التغير الجهادي كي يضعوا أفكارهم في ساحة التجربة التطبيقية. شكلت هذه الحرب، التي دعمتها الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية، مناخاً ملائماً لنشأة التيار الجهادي العالمي القائم على المزاوجة بين أفكار سيد قطب والأفكار السلفية التقليدية والمؤمن بالجهاد منهجاً لإقامة الدولة الإسلامية. وفي هذه البيئة تشبع كثير من الشباب التونسي بأفكار السلفية الجهادية وخاضوا تجارب حركية وجهادية لاحقة في البوسنة والجزائر والعراق وراكموا خبرات قتالية وحركية جعلت بعضهم يصبح في مراكز متقدمة في قيادة العمل الجهادي.
وبخلاف التيارات الجهادية العربية الأخرى التي نشأت في الداخل ثم هاجرت إلى ساحات أرحب، فإن التيار الجهادي التونسي تشكل تقريباً في الساحات الخارجية فكراً وتنظيماً. فقد ولد أول تنظيم جهادي تونسي، خارج البلاد عام 2000، باسم الجماعة التونسية المقاتلة. ولم يبرز أي نشاط جهادي في الداخل إلى حدود هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001 التي أيقظت المارد الداخلي ولكن الإفاقة الكبيرة حصلت في عقب سقوط النظام عام 2011، عندما وجد الجهاديون سلطة الدولة في أضعف حالاتها، فاستغلوا الفرصة لإعادة بناء تيارهم تنظيمياً وفكرياً، وتمددوا طولاً وعرضاً في البلاد هدفهم إسقاط الدولة وبناء دولة إسلامية وفقاً لتصوراتهم الراديكالية والحرب ما زالت مفتوحة.
الهوامش:
(1) في مقالة له منشورة ضمن كتاب “الحركات الإسلامية المعاصرة في الوطن العربي” (منشورات مركز دراسات الوحدة العربية – ط 5، بيروت 2004 – ص 300) يشرح راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة، بأكثر تفصيل ومن موقع المعايش، الخليط افكري الذي كان موجوداً داخل الحركة الإسلامية التونسية.
(2) يقول ناصر الورفلي، إن القبضة الأمنية التي فرضها القذافي على الجماعة المقاتلة، أجبرتهم على التوجه إلى تونس للقاء راشد الغنوشي، الذي يعدّونه الملهم والمنقذ الذي أمن لهم المسكن والإقامة بعيداً عن أعين النظام آنذاك. وفي معرض حديثه، قال الورفلي، إن صعوبات واجهته ورفاقه في الحصول على التأشيرة اللازمة للسفر إلى باكستان ومنها إلى أفغانستان، حيث الوجهة المقصودة/ مشيراً إلى أن وساطة الغنوشي مكنتهم من تأمين التأشيرات اللازمة من خارج تونس، حيث كان من المفترض أن يحصلوا عليها من بلدهم الأصلي ليبيا، وبعد حصولهم على التأشيرات دخلوا باكستان ومنها إلى ساحات القتال في أفغانستان. المصدر: (حديث لبرنامج “صناعة الموت” على قناة “العربية” – الجمعة 4 يناير/ كانون الثاني 2013.)
(3) أبو مصعب السوري (مصطفى عبد القادر) – دعوة المقاومة الإسلامية العالمية –الجزء الأول– نسخة إلكترونية
(4) المصدر السابق
(5) كشف رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، في تصريحات لمجلة «لبوان» Le Point الفرنسية ضلوع إسلاميين تونسيين من الجبهة الإسلامية في العملية، وفقاً لرسالة من القيادي في حركة النهضة سابقاً، محمد العماري، إلى راشد الغنوشي، مؤرخة في 8 أغسطس/ آب 1995. أرشيف “المعهد التونسي للعلاقات الدولية”.
(6) أبو مصعب السوري – دعوة المقاومة – ج1 – ص 93.
(7) المصدر السابق
(8) هارون ي. زيلين، الجهاد عام 2020: تقييم خطة تنظيم «القاعدة» لـ 20 عاماً – معهد واشنطن -11 أيلول/ سبتمبر 2013.
(9) المصدر السابق
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.