تناقش هذه الدراسة الفرق بين العقوبة الدنيوية والعقوبة الآخروية في المفهوم الإسلامي؛ وتفند أفعال الجماعات المتشددة التي تعمل على إنزال العقوبة الدنيوية بتارك العبادات على الرغم من عدم وجود نص قرآني فيها.
من خلال المحاور الآتية:
- هل ما تقوم به الجماعات المتشددة من وحشية في تطبيق العقوبات ناتج من جهل أم مقصود؟.
- الفارق اللغوي والقرآني في مفهومات الذنوب والسيئات والإثم والمعاصي.
- تعريفات في أنواع ما يرتكب.
- هل يجوز إقامة الحد على من ينطق الشهادة؟.
- أدلة نبوية تعارض سلوك الجماعات في إقامة الحدود.
- “الولاء والبراء”، أساس الثواب والعقاب عند الجماعات المتشددة.
- هل يحل قتل تارك الصلاة؟.
- مجادلة من ينفذ الحدود بحجة إقامة الدين؟.
- هل يجوز مقاتلة مانع الزكاة؟.
- العقاب في الولاء والبراء.
- النتيجة
تمهيد
عن قصدٍ أو جهل، راحت الجماعات الإسلامية المتشددة اليوم، تخلط بين الحساب الإلهي -في الآخرة وفي الحياة الدنيا- المتعلّق بارتكاب (الذنوب) تجاه واجبات العبادة وفروضها عند الأفراد والجماعات، وبين (الجرائم) المرتكبة بحق الأفراد والمجتمع وما يحوط بهما من كائنات وعناصر في الطبيعة. وعلى أساس هذا الخلط بَنَت تلك الجماعات نظرياتها ضمن مفهوم ثيوقراطي إسلاموي جديد، يتمثل في السعي لانتشار حكمهم للبلاد والعباد بوصفهم نوّاباً عن الله و(خلائف) له في الأرض.
وإذا ما سلّمنا بآلية احتكام أنظمة الدول الإسلامية الأولى إلى آيات واضحة من القرآن الكريم، والسنن النبوية، للفصل في القضايا الجنائية –إن صح التعبير- من خلال تطبيق الأحكام المنصوص عليها فيهما، كقضايا القتل والسرقة والإيذاء والزنى وقول الزور والرشوة وشرب الخمر.. إلخ، نظراً إلى طابع الدولة الإسلامي المحض آنذاك، واستنادها إلى النهج المتّبع في ظل النبوّة، وما طبّقه النبي (ص) خلال حياته من أحكام.
لن ندخل في صحة جواز استخدام أحكام القصاص من عدمه في ظل الدول المعاصرة المستمَدة من القوانين السماوية أو الوضعية وآليات تطبيقها للعقوبات الجنائية المذكورة، والخاضعة في مجملها إلى أحكام السجن والغرامات والتجريد من الحقوق المدنية، إضافة إلى أحكام الإعدام بالطبع في بعض حالات القتل العمد والخيانة العظمى عند بعض الدول.
إلا أننا سنتناول ما عرجت عليه التنظيمات الإسلاموية الراديكالية في معالجتها لمرتكبي الذنوب والمعاصي. وسؤالنا هنا، على الرغم من تأكيد كلّ من النص القرآني والحديث النبوي ارتكازَ البناء الديني الإسلامي على أركان العبادة الخمسة المعروفة: هل جاء في المصدرين التشريعيين الرئيسين (القرآن والحديث) ما ينصّ على معاقبة تارك أحد تلك الفروض بالموت أو غيره؟ ونظراً إلى اتفاق العلماء على خلوّ آيات الذكر الحكيم من إنزال القصاص الدنيوي البشري بتارك أحد الفروض أو المقصّر فيها، وإجماعهم في الوقت نفسه على معاقبته وتطبيق الحدود عليه من خلال استنادهم إلى نصوص الحديث –كما سيمر معنا- فهل طُبِّقت تلك الحدود، المرتبطة بالأركان وتاركها، فعلياً، على المسلمين في الدولة الإسلامية الأولى؟
ثم، وبافتراض جواز تطبيق الحدود على تارك أحد الفرائض، فمن سيقوم بالتنفيذ، وهل يجوز تنفيذها على مسلمين خاضعين لأنظمة مختلفة في تاريخنا المعاصر؟
تعريفات في أنواع ما يُرتكب
قبل الخوض في غمار الحديث عن الفارق بين الذنوب والسيئات، وأحكامهما وعواقبها، علينا أولاً المرور على معانيهما:
السيئة: نقيضها الحسنة، هي: كل ما يسوء الإنسان في دنياه أو آخرته، قال تعالى:
وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ(النساء:78).
ما أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً(النساء:79).
أما الذنب في اللغة: الذنب في الأصل الأخذ بذَنبِ الشيء، ويستعمل في كل فعل تستوخم عقباه اعتباراً بذنب الشيء، والذنب عند أهل الله: يحجب عن الله ([1]) وهو التقصير وترك الأمر حتى يفوت([2]).
والذنب هو السيّئات المُكررة عن عمد٬ ويُعد الكفر أكبر الذنوبِ وأعظمها٬ ولا تكتب للكافر حسنات٬ ولمحو الذنوب عن المسلم المذنب يحتاج إلى المداومة على الذكر والاستغفار والتوبة لكل ما قام به من عمل يُخالف ما شرَّعه الله في القرآن، والسنّة النبوية؛ إذ يقول الله في كتابه:
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(آل عمران:135).
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ(آل عمران:11).
أكثر ما يهمنا في بحثنا هذا، هو موضوعنا الرئيس الذي يتناول الحديث عن الفارق بين الذنوب والمعاصي من جهة، وبين السيئات والآثام (التي أطلقتُ عليها تسمية الجرائم في مقدمة البحث). واستنتاجنا العام لتعريفهما كما يأتي:
الذنب: هو أي فعلٍ يخالف أوامر الله التي وردت في الشَّريعة الإسلاميَّة، ويكون ذلك بترك أحد الواجبات والفروض المفروضة على المسلم أو كلّها، أو ارتكاب المعاصي وما حرم الله التي يعاقب الله تعالى على إتيانها، وبعض الأفعال يعتبرها الإنسان ذنباً بسيطاً، لكنّه عظيمٌ لأنه خالف فيه أوامر الله سبحانه، وخرج على طاعته وعبوديته، والذنب يُصلح بالتوبة وطلب المغفرة من الله.
أما السيئة (الجرم): فتتناول كلّ فعلٍ يسيء إلى آخر(عاقل أو غير عاقل)؛ بمعنى أنه الفعل الذي يسيء إلى الإنسان أو الحيوان أو عناصر الطبيعة، والخطأ والسيئة من الصفات الطبيعية عند الإنسان؛ لأنه لا يوجد من هو معصوم عن الوقوع في الخطأ؛ والسيئة إذا عظمت تغدو إثماً. والسيئة (الجرم) هي من اختصاص القضاة ومن ينوب عنهم في إطلاق الأحكام وتنفيذ العقوبات استناداً إلى الشرع أو القوانين الوضعية، بحسب الدول وأنظمتها، وذلك لتحقيق العدل وإعطاء كل حق حقه. والقصاص العادل في الحياة الدنيا -إن حصل- يُذهب عن مرتكب السيئة حساب الآخرة بما يشاء الله.
وبعد تبيان الفرق، نسبياً، بين مفهومي الذنب والسيئة، وقولنا إن الذنوب هي المعاصي التي يرتكبها المسلم بحق خالقه وفروض عبادته، من دون أن يتعرض بالإساءة إلى الأطراف الدنيوية. وبالنظر إلى أعظم الذنوب، بعد الشرك بالله، وجدنا أنها تتعلق بإهمال المسلم أحد أركان الإسلام الخمسة الرئيسة، فارتأينا أن تكون تلك الأركان نقاط بحثنا لما لها من درجات عليا في الدين الإسلامي. ولأن الركن الأول المتمثل في “شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله” هو الركن الذي لا يتم من دونه إسلام المرء، وهو الحد الفاصل بين إشراكه وإسلامه، يجب علينا التوقّف لمناقشته أولاً قبل الدخول إلى عماد الدين “الصلاة”، وما يليها:
أولاً: الشهادة؛ هل يحلّ قتل إنسان نطق الشهادة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال، يجب أن نشير إلى أننا في هذه الفقرة نناقش مسألة الشهادة ضمن إطارها الزمني والمكاني لتوضيح ارتباط هذا الركن بذلك الإطار كونه يعتبر المصدر الرئيس والحجّة التاريخية للجماعات الإسلامية المعاصرة.
وهنا، يكفينا أن نذكر بعض الأحداث التي جرت في زمن النبي، وأولها قصة خالد بن الوليد حين أرسله الرسول إلى بني جذيمة يدعوهم إلى الإسلام، فلما طلب منهم خالد إعلان إسلامهم، لم يُحسِنوا أن يقولوا “أسلمنا” لعدم معرفتهم معناها، فقالوا: صبأنا .. صبأنا، فلم يعتبر خالد ذلك إسلاماً، بل أمر بقتلهم. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، رفع يديه إلى السماء قائلاً: “اللهم إني أبرأ إليك مما فعل خالد”. ثم أرسل علياً فوداهم بنصف ديّاتهم.
وروي عن عمران بن حصين قال: “بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فِي سَرِيَّةٍ فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ أبِي عَلَى رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ، فَلَمَّا غَشيَهُ بِالرُّمْح قَال: إِنِّي مُسْلِم فَقَتَلَهُ، ثُمَّ أتَى النَّبِيِّ فَقالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي قَدْ أذْنَبْتُ فَاسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: إِنِّي حَمَلْتُ عَلَى رَجُلٍ، فلَمَّا غَشِيَهُ بِالرُّمْح قَالَ: إِنِّي مُسْلِمٌ فَظَنَنْت أَنَّهُ مُتَعَوِّذ، فَقَتَلْتُهُ، فَقَالَ: أَفَلَا شَقَقتَ عَنْ قَلْبه حَتَّى يَستَبينِ لَكَ؟ قَالَ: وَيَسْتَبِينَ لي؟ قَالَ: قَدْ قَالَ لَكَ بِلِسَانِهِ فَلَمْ تصَدِّقْهُ عَلَى ما فِي قَلبه، فلَمْ يَلْبَثِ الرَّجُلُ أَنْ مَاتَ فَدُفِنَ فَأصْبَحَ عَلَى وَجْهِ الأرْض فقلنا عَدُوٌّ نَبشه، فأمَرْنَا عبيدنا وَمَوالينا فحرسُوهُ، فأصْبَح عَلَى وَجْهِ الأرض، فقلنا فَلَعَلَهُم غَفلُوا، فحَرَسْنَا فَأَصْبحَ على وَجه الأرض، فأَتَيْنَا النبيّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأَخْبَرْنَاهُ فَقَالَ: إِنَّ الأرْضَ لَتَقْبَلُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ وَلَكِن أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يخْبِرَكم بِعِظَم الدَم، ثَمّ قَالَ: انتَهُوا بِهِ إلَى سَفْح هَذا الْجَبَل، فَأَنْضِدُوا عَلَيْهِ مِن الْحِجَارَةِ فَفَعَلْنَا”. إنَّه إنما قتله بعد أن علم أن قتله لا يجوز بقيام الحجة عنده على ذلك. والدليل على ذلك من الحديث قوله فيه للنبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِنِّي قَدْ أَصَبْتُ ذَنْباً فاسْتَغْفِرْ لِي([3]).
ويروى أيضاً أن رجلاً قال للنبي: “أرأيت إن قطع رجل من الكفار يدي، ثم أسلم، فلما أردت أن أقتله لاذ مني بشجرة أأقتله؟ فقال: إن قتلته كنت بمنزلته قبل أن يقول ما قال، وكان بمنزلتك قبل أن تقتله”([4]).
وأيضاً قصة الصحابي أبي عامر الأشعري في يوم “أوطاس”، كان كلما لقي رجلاً دعاه إلى الشهادة فيرفض، فيقول اللهم اشهد عليه، ثم يجهز عليه. فلا يقتل أحداً قبل أن يُشهد عليه الله، وفعل هذا مع عدد من الرجال، لكن أحدهم حين أدرك موته وهو يسمع أبا عامر يقول اللهم اشهد عليه، فقال الرجل: اللهم لا تشهد علي، فتركه أبو عامر من دون أن يقتله، فأسلم الرجل في ما بعد. وكان الرسول كلما رأى ذلك الرجل قال: هذا شريد أبي عامر.
ما سبق كله، يؤكّد أن الرسول قد نهى عن قتل أي امرئ نطق الشهادة، ليس ذلك فحسب، بل في الحديث الثالث، والوارد في صحيح مسلم، جعل الرسول من القاتل مشركاً لو أنه أقدم على قتل من نطق الشهادة خوفاً من السيف.
ثانياً: الصلاة؛ هل يحل قتل تارك الصلاة؟
تُعتبر الصـلاة في الإسلام عماد الدين، والنطق بالشهادة هو الفارق بين المشرك والمسلم، أما الصلاة هي الفاصل بين الكفر والإيمان. قال النبي في الحديث الذي رواه مسلم: “إن بين الرجل وبين الكفر، أو الشرك، ترك الصلاة”. وقوله: “العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر”([5]).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “لا حظّ في الإسلام لمن ترك الصلاة”، وقال عبد الله بن شقيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون من الأعمال شيئاً تركه كفر إلا الصلاة، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “من ترك الصلاة فقد كفر”([6]). ولا يخفى أن هذه العقوبة لمن ترك الصلاة بالكلية، أما من يصليها لكنه يتكاسل في أدائها، ويؤخرها عن وقتها، فقد توعده الله بالويل فقال:
فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ 5 (الماعون/4- 5).
ونكتفي بهذا القدر من الأحاديث، الصحيح منها والحسن، لنأتي إلى ما يعتمده مشرّعو الجماعات الإسلامية اليوم في تحليل قتل تارك الصلاة أو المتهاون فيها، مستندين بالطبع إلى ما جاء في الأحاديث الأخيرة السابقة، والقائلة إن تارك الصلاة كافر.
وأول استدلالاتهم على وجوب قتل تارك الصلاة، هو الحديث الذي رواه الشيخان، البخاري ومسلم، وهو قول النبي: “لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة”. فاعتبر المشرّعون أن تارك الصلاة هو من بين المفارقين للجماعة أو التاركين دينهم، ومن ثم فهو (مرتدّ) يجب قتله.
إلا أن تارك الصلاة ليس بالضرورة أن يكون جاحداً أو منكراً لها بوصفها ركناً رئيساً وفرضاً أساساً من فروض الإسلام، بل إن هناك بعض المنافقين ممن عاصروا الرسول في المدينة كان يبطن الكفر ويدّعي الإسلام والصلاة، ومع ذلك نهى النبي الصحابة عن قتله كما سيمر معنا.
وقد تكلم العلماء باستفاضة عن عقوبة تارك الصلاة، كمعصية كبرى، ومن العلماء من كفَّر تارك الصلاة، كما جاء في الحديث، وأباح دمه، كما في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومن العلماء من رأى أن تارك الصلاة يقتل حداً لا كفراً، وبذلك قال الإمامان مالك والشافعي. ومنهم من رأى أنه يحبس حتى يصلي، وهو الإمام أبو حنيفة. وبعضهم قال إن تارك الصلاة يستتاب، فإما أن يتوب أو يقتل على أنه مرتد.
وقد ذكر وهبة الزحيلي في مؤلفه “الفقه الإسلامي وأدلته” أن باقي الأئمة رأوا أن تارك الصلاة بلا عذر، ولو ترك صلاة واحدة يُستتاب ثلاثة أيام كالمرتد، ويقتل إن لم يتب حداً لا كفراً عند المالكية والشافعية، أي لا يحكم بكفره وإنما يُعاقب كعقوبة الحدود الأخرى على معاصي الزنى والقذف والسرقة ونحوها، وبعد الموت يُغسّل ويصلّى عليه، ويدفن مع المسلمين([7]).
مجادلة من ينفذ الأحكام باسم الدين
ما دام الفقهاء بعضهم، والجماعات الإسلامية التي أخذت منهم، يصرون على إنزال أقصى درجات العقوبة (الموت) بتارك الفريضة، استناداً إلى التفاسير والأحاديث السابقة واللاحقة باعتباره كافراً أو مرتداً يجوز قتله، أو تطبيق الحدّ عليه من دون تكفيره، كما جاء في عقوبة تارك الصلاة، باعتباره (مجرماً) ارتكب سيئة -إثماً كالقاتل والسارق والزاني، وليس باعتباره (مذنباً) كافراً لعدم وجود الدليل القاطع على ذلك، ما يضعهم أمام إحراجات جمّة- وما دامت تلك الجماعات وفقهاؤها اعتبروا أنفسهم ينفذون عقاب الله بأولئك المذنبين. فهل باستطاعتهم منح الثواب، الدنيوي والآخروي، لمن يقيم شعائر الله وفروضه، بدلاً من الله –جل وعلا- في الدنيا والآخرة؟
فكما أن الله تعالى توعد عباده بعقاب أليم سيطالهم في حال تقاعسهم عن أداء فروضه، كذلك بشّر المتمسكين بتعاليمه بثواب عظيم في الآخرة، وكذلك بحياة هانئة في الدنيا لمن يختار من عباده.
ونستدل على ذلك من خلال قوله تعالى:
وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ(طه/124).
وفي ثواب الله للمصلين وعقابه في الدنيا، يقول النبي: “من حافظ على الصلاة أكرمه الله بخمس خصال: يرفع عنه ضيق العيش، وعذاب القبر، ويعطيـه بيمينـه، ويمـر علـى الصراط كالبرق ويدخل الجنة بغير حساب. ومن تهاون بالصلاة عاقبه الله بخمس عشرة عقوبة: ست في الدنيا وثلاثة
عند الموت وثلاثة عند دخوله في القبر وثلاثة عند لقاء ربه”. وبادّعاء مشّرعي الجماعات الإسلامية أنهم ينفّذون عقاب الله في الدنيا بقتلهم تارك الصلاة، أفلا يجب عليهم العمل بالمثل في مسألة الثواب الدنيوي من خلال “رفع ضيق العيش” عن المصلين كما ورد في الحديث، أم إن اختصاصهم ينحصر فقط في الجانب العقابي الإلهي؟.
وفي الحديث نفسه يذكر النبي العقوبات الثلاث التي ينالها تارك الصلاة عند موته، فيقول: “فالأولى: أن يموت ذليلاً والثانية: أن يموت جائعاً والثالثة: أن يموت عطشاناً ولو سقي بحار الدنيا”. لكنه لم يذكر بأن يُقتل، أو يموت مقتولاً، أو وجب قتله. وكل هذا يتعلّق بالصلاة التي هي عماد الدين، فكيف ببقية الفروض والشعائر الدينية؟
واختلف العلماء في مسألة قتل تارك الصلاة، وفي كيفية قتله، بل حتى في كفره. فأفتى سفيان بن سعيد الثوري وأبو عمرو الأوزاعي وعبد الله بن المبارك وحماد بن زيد ووكيع بن الجراح ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأصحابهم: بأنه يقتل، ثم اختلفوا في كيفية قتله، فقال جمهورهم: يقتل بالسيف ضرباً في عنقه، وقال بعض الشافعية: يضرب بالخشب إلى أن يصلي أو يموت، وقال ابن سريج: ينخس بالسيف حتى يموت، لأنه أبلغ في زجره وأرجى لرجوعه.
ومن الأحاديث التي وردت في الصحيحين، حديث أبي سعيد الخدري إذ قال: “بُعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو ظاهر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية فقسّمها بين أربعة، فقال رجل: يا رسول الله اتق الله، فقال: ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟، ثم ولى الرجل فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه، فقال: لا لعله أن يكون يصلي، فقال خالد: فكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقّب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم”([8]). ومن هذا الحديث استدلّ مشرّعو الجماعات الإسلامية أيضاً على وجوب قتل تارك الصلاة، على الرغم من أن دافع قتل الأعرابي كان سببه التشكيك في أمانة النبي، وإنما رد الرسول على خالد لم يكن سوى لنهره عن قتل ذلك الأعرابي من افتراض تأديته للصلاة: أي إنه من المسلمين والمصلين وهذا يمنع قتله، لكنه لم يؤكّد بهذا الحديث أبداً قتل كل من لا يصلّي، كما فسّره بعضهم حين قالوا إن النبي دلّ على أن من لم يصلّ يقتل.
وفي حديث آخر ورد في مسند الإمام أحمد ومسند الإمام الشافعي، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار قال: أن رجلاً من الأنصار حدثه أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس، فسار يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “أليس يشهد أن لا إله إلا الله”، فقال الأنصاري: بلى يا رسول الله ولا شهادة له، قال: “أليس يشهد أن محمدا رسول الله”، قال: بلى ولا شهادة له، قال: أليس يصلي الصلاة؟ قال: بلى ولا صلاة له، قال: أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم”([9]). وكذلك راح المفسرون يستدلون من خلال هذا الحديث على وجوب قتل تارك الصلاة، من دون أن يروا بأن الدافع الرئيس لطلب القتل هو أن الرجل كان من (المنافقين) كما جاء في الحديث، فنهاهم الرسول عن قتله ما دام يدّعي الإسلام، ولم يأمرهم بصراحة بقتل تاركي الصلاة.
في الحقيقة، لم يرد في القرآن الكريم ما يحرّض على قتل تارك الصلاة أو المستهين بها، ولكن الله توعّده بعقاب شديد في الآخرة. وأحاديث النبيّ التي أوردناها، وعلى اعتبار صحتها جميعها، لم يأمر أصحابه من خلالها بقتل تارك الصلاة بصراحة ومباشرة، وإنما كانت تنهى عن قتلهم في حال ارتكاب أحدهم سيئة أو معصية أو شبهة، والفرق شاسع بين هذا وذاك.
ثالثاً؛ في ركن الزكاة وقتال مانعيها
لعل القضية الفقهية المتعلقة بركن الزكاة هي من أشد القضايا تعقيداً وحساسية في التاريخ والفقه الإسلاميين، لما تمخّض عنها من قتال داخلي ضمن ما يعرف بـ”حروب الردّة” التي كان سببها الأول والأخير امتناع جزء كبير من قبائل الجزيرة العربية، المسلمة في الأصل، عن أداء فريضة الزكاة إلى بيت مال المسلمين في زمن خلافة أبي بكر.
فصارت تلك الحروب مستنداً فقهياً وتاريخياً لغلاة الجماعات الإسلامية، قاموا على أساسها بمقاتلة الأطراف جميعها بحجة الردّة، معتبرين أن أبا بكر، الخليفة الأول لرسول الله، قد قاتل القبائل بدافع (ذنب ومعصية) اقترفوها بحق فرض من فروض الله.
لكن الحقيقة التي يجهلها أولئك الغلاة أن أبا بكر حارب أطراف (الردة) في حقّ من حقوق الدولة الإسلامية الوليدة، ومجتمعها ومؤسساتها التي هي في أمسِّ الحاجة آنذاك إلى أموال الزكاة للمحافظة على سيادتها ومنعتها. فكان أبو بكر بذلك يتعامل مع الأمر من باب تحقيق العدل وإحقاق الحقوق، وليس فقط لأجل الدفاع عن فرض من فروض الإسلام. إضافة إلى ذلك، أن قيادات تلك القبائل أعلنت امتناعها عن أداء فريضة الزكاة مصحوباً بإعلان الحرب على دولة الخلافة إذا ما أجبرتها على الدفع. فلم يكن أمام أبي بكر سوى قتالهم وإعادة الأمور إلى نصابها.
إذاً، فإن ركن الزكاة من بين باقي الأركان، يجمع ما بين الصفتين: الشعيرة الإلهية بوصفه فرض عبادة من جهة، والالتزام الدنيوي نحو المجتمع المسلم من جهة أخرى، ومن ثم فإن إنكاره أو عدم الالتزام به يستوجب مقاضاة الأطراف المرتكبة لهذا (الجرم) لما له من انعكاسات سلبية في الحالة المعيشية للأفراد وللمجتمع وللدولة ككل.
وعلى الرغم من هذا كله فقد اتفق الصحابة على قبول توبة المرتدين ومانعي الزكاة([10]).
نكتفي عند هذا الحد من الحديث عن الأركان والفروض، ولا سيما أن الركنين الباقيين: الصوم والحج، تتفاوت فيهما أحكام الشريعة، وتتعدد فيهما أوجه الثواب والعقاب ودرجاتهما، ولكن مجملها لا يصل إلى حد القتل كما في الأركان الثلاثة التي مررنا عليها.
“الولاء والبراء”، أساس الثواب والعقاب عند الجماعات المتشددة
حقيقة الأمر، إن الجماعات الإسلاموية راحت تبتدع نظرياتها الخاصة لإنزال العقاب وإقامة الحدود على الآخر، وإن توافرت لديه معايير تأدية الفروض، التي مررنا عليها، والالتزام بتعاليم الشريعة بشقّيها، الإلهي والبشري، وأقصد من الناحية الجزائية أو الحسابية.
ومن أخطر تلك النظريات على الإطلاق نظرية “الولاء والبراء”.
و”الولاء والبراء”، في المفهوم الإسلامي العام، معناه محبة المسلمين المؤمنين (جميعاً) وموالاتهم، وبُغض الكافرين ومعاداتهم، والبراءة منهم ومن “دياناتهم”.
إلا أن هذا المفهوم متبوع بشروط وأسس أهمها: عدم ظلمهم أو التعدّي عليهم في حال لم يكونوا محاربين، والاكتفاء ببغضهم ومعاداتهم فكرياً وعاطفياً، وعدم مصاحبتهم، وردّ السلام في حال إلقائهم السلام، وتوجيه النصح لهم وإرشادهم إلى طريق الصواب. هذا من ناحية التعريف العام لمفهوم الولاء والبراء في الإسلام الذي استند إلى ما جاء به القرآن الكريم:
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ (سورة الممتحنة: 1).
إلا أن منظور تلك الجماعات إلى المفهوم حوّل المعنى الأول المتعلّق بالولاء للمؤمنين، إلى الولاء لـ “الجماعة”، وأميرها، وشرعيها، بالمطلق، وتنفيذ الأوامر الصادرة منهم كلها من دون تشكيك أو مجادلة، على أنهم يمثلون الشرع الأعلى على الأرض، واستناداً إلى ذلك قامت بتحويل المعنى الثاني الذي يخص البراء وتحويره، فوجّهته صوب المسلمين والمؤمنين المخالفين لآرائهم، انطلاقاً من مفهوم: نحن نمثّل الصواب المطلق، والآخر (المختلف) يمثل الضلال المطلق، وعلى هذا الأساس كُفِّرت باقي الجماعات، الصوفيّة والأشاعرة على سبيل المثال، وقوتلت فصائل الجماعات الأخرى، لا سيما فصائل الجيش الحر خلال الثورة السورية. فأمرت بإقامة الحدود عليهم والاقتصاص منهم بصفتهم “منافقين ومرتدين وخارجين على الجماعة (جماعتهم).
ومن هنا نستدلّ على أن رابطة “الولاء والبراء” عند تلك الجماعات تتربع فوق قمة هرمهم العقائدي بما يرتبط بمسألة الجريمة والعقاب.
النتيجة
قام أغلب الفقهاء، والجماعات الإسلامية المتشددة التي أخذت عنهم، بتحويل (المغفرة- التوبة) التي يطلبها المذنب من بارئه العِلويّ عز وجل في حال تقصيره بالواجبات والفروض الإلهية، إلى (استتابة) تُطلب من الحاكم أو الولي أو الشرعي الأرضي –هذا إن قبلوا بحكم الاستتابة- باعتبارهم الحاكمين باسم الله على أرضه. أما السيئات- الجرائم فقد غضوا النظر عنها على الرغم من تشديد الأحكام والقوانين الشرعية التي تستوجب القصاص والعدل في الدنيا لردّ الحقوق إلى أصحابها من البشر كما نصّ عليها القرآن الكريم والأحاديث النبوية، حال انضمام صاحب الجريمة إلى جماعتهم. ثم ابتدعوا بعد ذلك مسوّغات عدة ليحللوا قتلهم، للناس بعامة وللمسلمين بخاصة، من دون عقاب بمسمى (القتل للضرورة)، واستحلوا سرقة أملاك المدنيين والعزّل بمسمى (الغنائم)، وزنوا ببناتهم ونسائهم بمسمى (ملك الأَيمان)، واحتلوا أرضهم تحت بند (الجهاد والفتوح).
ومن هنا نلاحظ أن أغلب عناصر تلك الجماعات هم من أرباب السوابق، والمجرمين، والمغالين في تنفيذ العقوبات، ومعظمهم من أصحاب (الذنوب) غير الملتزمين بتعاليم الدين الإسلامي وفروضه، بشهادة من يعرفهم من أبناء المناطق التي سيطروا عليها، في بلدان الربيع العربي معظمها.
المراجع:
[1] – الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، تحقيق صفوان الداوودي، دار القلم/ دمشق، ص180
[2] – أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي، مجاز القرآن، مطبعة الخانجي 1970، ج1 ص104
[3] – رواه الطبراني، 18/ 562، وقيل بأنه حسن.
[4] – صحيح مسلم، باب الإيمان، ص275
[5] – رواه أحمد وأبي داوود والترمذي، صحيح الجامع الصغير وزيادته : ( ط:3) ـ ( رقم : 4143)
[6] – المنذري، الترغيب والترهيب، 1/439
[7] – وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق 1997، ص503
[8] – البخاري (3610) ومسلم (1064)
[9] – محمد بن نصر المروزي، تعظيم قدر الصلاة، حديث رقم 844
[10] – علاء عريبي، مجلة التحرير، القاهرة، 3-7-2015
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.