هناك خلاف فلسفي/ فكري؛ شغل وما يزال يشغل ساحات الفكر والفلسفة طيلة العقود الماضية، حول الحداثة وما بعدها؛ تمثل بمجموعة أسئلة؛ لم تُحسم أجوبتها! هل ما بعد الحداثة هي انفصال كلي عن الحداثة أم استمرار لها؟ هل هي نقد من داخل الحداثة أم أنها نقد من خارجها؟ وهل نحن إزاء مرحلة جديدة من التاريخ تقطع مع مرحلة الحداثة لتبدأ مرحلة ما بعد الحداثة؟ وهل ما نزال نعيش في خضم هذه المرحلة؟ أم أننا خرجنا منها أيضاً نحو مكان جديد؟ أم هي تتجه نحو الاكتمال بدلاً من التحول الذاتي وفق ما يقول أهم ناقدي ما بعد الحداثة والمدافع الشرس عن مشروع الحداثة؟ ونعني بذلك صاحب “العقل التواصلي” “يورغن هابرماس”؟ أم نحن “بصدد الدخول في مجتمع فائق الحداثة؟ أيْ بصدد الدخول في مجتمع يعي قدرته على خلق نفسه وتحويلها، فضلاً عن هدمها الذاتي بدون حدود” وفق ما يقول “رولان بارت”؟ وإذا كان ثمة مكان جديد، فما هو هذا المكان؟ خاصة أن ثمة مدارس جديدة استندت إلى مرحلة ما بعد الحداثة؛ لتعلن عن نفسها؛ ونعني بذلك مرحلة ما بعد الاستعمار التي يمكن اعتبار كل من “إدوار سعيد” و”حميد دباشي” وغاياتري سفيباك” أهم أعلامها؟
تحاول هذه الورقة مناقشة تلك الأسئلة؛ والبحث فيها من خلال المحاور التالية:
- المدخل
- السياق التاريخي للحداثة وما بعدها: الولادة، الاختلاف والتوافق
- الحداثة والحتميات وتطور وسائل الإنتاج
- نقد الحداثة؛ والحديث عن انحرافاتها الخطيرة
- مجالات نقد الحداثة من تيار ما بعد الحداثة
- أولاً: سرديات متعددة لا سردية واحدة.
- ثانياً: حتمية التقدم التاريخي.
- ثالثاً: الاختلاف والتنوع والتعدّد بدلاً من الكلية والأحادية.
- رابعاً: الخصوصية المحلية والكونية العالمية.
- الخلاصة
- الخاتمة
المدخل
منذ أن كتب الفيلسوف الفرنسي “جان فرانسوا ليوتاز” كتابه “الوضع ما بعد الحداثي تقرير عن المعرفة” سنة 1979 ورواد الفكر والفلسفة على مستوى العالم، يعيشون في صراع فكري وفلسفي محموم لا تغيب عنه السياسة، إذ انقسم المفكرون منذ تلك اللحظة ما بين حداثيين وما بعد حداثيين، بين من يرى أن مشروع الحداثة الكلي والكوني والعالمي قد انتهى إلى غير رجعة لصالح صعود ما بعد الحداثة، التي صوبت اتهاماتها نحو مشروع الحداثة متهمة إياه بالإقصائية والانحراف وحتى البربرية في بعض الأحيان ـــ صعود التيارات الفاشية والنازية ـــ معتبرة أن عصر ما سماه “فرانسوا ليوتار” “السرديات الكبرى” قد انتهى إلى غير رجعة. [1]
ويقصد “فرانسوا ليوتار” بذلك أن الحداثة فرضت سردياتها الكبرى على العالم بأسره، وهي سرديات غير صحيحة، بدءاً من سردية الاشتراكية إلى سردية الليبرالية؛ فسردية التقدم التاريخي والغائية التاريخية والإنسانية والكلية واليقين المعرفي وأحادية المعرفة، مفككة مع الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدرا” كل إرث الحداثة، بعد أن تمكن “ميشيل فوكو” من التصويب على مشروع التنوير، وتابع أعماله في نقد الحداثة الأوروبية خلال مشروعه الفلسفي، وكذا فعل مفكرو ما بعد الحداثة، الذين يمكن اعتبار كل من (ليوتار وفوكو ودريدا) أهمهم في الجانب الفرنسي، حيث بدأت تطغى مفردات مثل الاختلاف والتنوع والثقافة والواقعية وحقوق المرأة والهوامش.
فما هو هذا الخلاف الفلسفي/ الفكري الذي وسم ساحة الفكر والفلسفة طيلة العقود الماضي؟
وهل ما بعد الحداثة هي انفصال كلي عن الحداثة أم استمرار لها؟ هل هي نقد من داخل الحداثة أم أنها نقد من خارجها؟ وهل نحن إزاء مرحلة جديدة من التاريخ تقطع مع مرحلة الحداثة لتبدأ مرحلة ما بعد الحداثة؟ وهل لانزال نعيش في خضم هذه المرحلة؟ أم أننا خرجنا منها أيضا نحو مكان جديد؟ أم هي تتجه نحو الاكتمال عوضا عن التحول الذاتي وفق ما يقول أهم ناقدي ما بعد الحداثة والمدافع الشرس عن مشروع الحداثة؟ ونعني بذلك صاحب “العقل التواصلي” “يورغن هابرماس”؟ أم نحن “بصدد الدخول في مجتمع فائق الحداثة؟ أيْ بصدد الدخول في مجتمع يعي قدرته على خلق نفسه وتحويلها، فضلاً عن هدمها الذاتي بدون حدود” وفق ما يقول “رولان بارت”؟ وإذا كان ثمة مكان جديد، فما هو هذا المكان؟ خاصة أن ثمة مدارس جديدة استندت إلى مرحلة ما بعد الحداثة؛ لتعلن عن نفسها؛ ونعني بذلك مرحلة ما بعد الاستعمار التي يمكن اعتبار كل من “إدوار سعيد” و”حميد دباشي” و”غاياتري سفيباك” أهم أعلامها؟ [2]
السياق التاريخي للحداثة وما بعدها: الولادة، الاختلاف والتوافق
يرى “رولان بارت” أن الحداثة أو المجتمعات الحديثة تعرف عن نفسها من خلال قدرتها على التغير، إي الانتقال من وضع إلى آخر، “كونها عملت على توفير جزء كبير مما تراكم من مواد أولية في ابتكار تقنيات أكثر نجاعة وفعالية، بدلاً من أنْ تستهلك جميع مواردها المُنتَجة. إنها خلقت وحولت ذاتها علاوةً على هدمها أيضاً”، فبرأي “رولان بارت”: “لا تُعرف المجتمعات الحديثة من خلال النظام ولا البنية؛ وإنما تعرف من خلال التغير“. [3]
حيث عدّ هذا الأمر مستنداً على ثلاثة جذور/ أسس أساسية، أولها “الحضارة بكونها نمط إنتاج”، أي نمط الإنتاج المادي، والثاني هو “التاريخانية، التي تُعرف على نحو أفضل بوصفها تأويلاً ثقافياً للفاعلية البشرية، بمعنى تأويلاً لهذه القدرة على خلق التاريخ بما هو تعريف أعم للحداثة”، والثالث هو البعد الاجتماعي من حيث إنه لا يوجد هناك انفصال بين من يديرون الإنتاج ومن يعملون عليه، وبالتالي فهذا يترك أثره في المجتمع.
في فهمه لهذه الأسس الثلاثة التي يعتبرها أسس الحداثة، يقول رولان بارت: “من أجل فهم معمق لفكرة العلاقة المتبادلة بين هذه الأسس الثلاثة الرئيسية، التي لا غنى عنها لوجود المجتمع الحديث، يجب الاعتراف بأن العلاقة بين المُتغلِّبِين والمُتغلَّبِين تتغير بتغير نمط الحضارة، بمعنى بتحول البيئة والذات نفسها”. [4]
الحداثة والحتميات وتطور وسائل الانتاج
إذن إن فكرة “رولان بارت” لمشروع الحداثة تقوم على فكرة التغيّر، أي الانتقال من زمن إلى زمن أخر، وهو ما يمكن أن نسميه الزمن الحديث، وهو الزمن الذي يمكن أن نقول عنه أنه ولد مع الرأسمالية والتقدم وعصر الثورات والمركزية الأوربية والإيمان بالعلم، وعلى ضفاف هذا التغير ولدت مفاهيم الحتمية التاريخية والطبقة والغائية والثورة والتنوير، الذي منها انبثقت الحداثة أيضاً بهذا الشكل أو ذاك، بكل ما عنى ذلك من تحول في شكل وسائل الإنتاج التي تسارع تطورها مع تقدم الحداثة في ميادين الاقتصاد، وهو الأمر الذي ترك أثره في الثقافة والمعرفة والاجتماع، والتي لا يمكن فصله بهذا الشكل أو ذاك أيضاً عن المركزية الأوروبية والاستعمار وتاريخ طويل من نهب الشعوب الفقيرة والمستضعفة، لينتج عن كل هذا مشروع الحداثة المعبر عن نفسه سياسياً في مشروع الليبرالية والديمقراطية من جهة ومشروع الحتمية الاشتراكية من جهة أخرى، مما أدى إلى حربين عالميتين والمحرقة اليهودية وصعود الفاشية والنازية والنهب الاستعماري للعالم الثالث، إلى جانب الثورات والتقدم العلمي وتطويع الطبيعة وتراجع الإيمان الغيبي لصالح الإيمان بالعلم، ونهاية عصر الإمبراطوريات لصالح عصر الدولة والتنظيم والنظام، وهو الذي حقق تقدما كبيراً للبشرية قياساً بماضيها، على صعد متعددة، وقد انعكس هذا التقدم في كافة مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. وهذا ما يسميه البعض بمشروع الحداثة.
لا شك أن ما تحدثنا عنه أعلاه لا يختصر مشروع الحداثة بأكمله، إلا أنه قد يعطي فكرة وافية عنه، لنواصل تقدمنا في هذه الورقة التي تحاول استكشاف حدود المشروعين؛ وما يمكن أن ينتج عنهما في المستقبل، أو ربما اليوم.
نقد الحداثة؛ وانحرافاتها الخطيرة
ضمن هذا السياق، بدأ يظهر تيار نقدي داخل مشروع الحداثة إياه، تيار ولدت أسئلته النقدية مما يسميه بعضهم بانحرافات الحداثة التي تمثلت بالحربين العالميتين والمحرقة اليهودية والنازية والفاشية والتي ولدت في قلب موطن الحداثة، ثم جاء انهيار “الحلم الاشتراكي” عبر تحوله نحو دكتاتورية متسلطة سحقت الإنسان وحداثته معاً، لتبدأ مرحلة من التفكير النقدي في المشروع الحداثي، مرحلة بدأت بالإشارة إلى انحرافات الحداثة؛ وانتهت إلى مساءلة مسلماتها وأفكارها وأسسها، ليتبلور تيار واسع النطاق أعلن عن نفسه تحت اسم ما بعد الحداثة، وهي المفردة التي كان الفيلسوف الفرنسي “جان فرانسوا ليوتار” أول من استخدمها، لتبدأ مرحلة النقد الجذري لمرحلة الحداثة على يد “فوكو” ثم تفكيك “دريدا”، ولنصبح إزاء مدرسة أو تيار مستقل أصبح يعرف باسم ما بعد الحداثة، وقد ركز انتقاده على جملة من مفاهيم أو التركة الفكرية للحداثة، وهنا نتحدث عن بعضها، كي نشكل صورة واضحة عما تعنيه ما بعد الحداثة وعما تختلف بذلك عن الحداثة.[5]
مجالات نقد الحداثة من تيار ما بعد الحداثة
هناك عدة محاور تم نقد الحداثة من خلالها، منها:
سرديات متعددة لا سردية واحدة
أول وأهم الأفكار التي يصوب عليها نقد تيار ما بعد الحداثة؛ أن الحداثة خلقت سردية واحدة وأحادية وعممتها على كل العالم، باعتبارها السردية الوحيدة التي تمثل العالم والحداثة والزمن الحاضر، وهي سردية المركزية الأوروبية التي اعتبرت نفسها مركز الكون الوحيد، وأن سرديتها هذه صالحة لأن تعمم على كافة البشر، وحين نقول السردية الواحدة الكلية للحداثة، فإن ذلك يمتد ليشمل البعد الاقتصادي (اقتصاد السوق) والبعد السياسي (الليبرالية) والبعد الثقافي والاجتماعي.
وهنا رأت ما بعد الحداثة أن هذه السردية، هي سردية مضللة، لأنها تعتبر نفسها ممثلة للعالم ككل في حين أنها ليست كذلك، ولأنها تنفي السرديات الأخرى خارج مناطق هذه الحداثة، حيث لهذه المناطق (الجنوب، إفريقيا، الشرق الأقصى، أمريكا الجنوبية، العالم العربي..) سردياتها الخاصة إزاء كل مسألة من المسائل التي احتكرتها الحداثة، وهنا وصلت ما بعد الحداثة إلى نسف المعنى الواحد الكامن خلف كل مسألة من المسائل التي فكرت بها الحداثة، لصالح تعددية المعنى أو المعاني المتعددة، لتنفي في نهاية المطاف سردية الحداثة الكليانية لصالح سرديات متعددة.
حتمية التقدم التاريخي
يقوم مشروع الحداثة على أن التقدم التاريخي أمر حتمي، فالمجتمعات تتقدم حين تتغير؛ والتغير جوهر الحداثة وفق “رولات بارت”، وهذا التقدم يحصل بشكل خطي مستقيم نحو المستقبل. إلا إن ما بعد الحداثة تزدري هذا المفهوم وترى فيه خطأ كبيراً متخذة من انحرافات الحداثة دليلاً على ذلك، وذاهبة نحو فكرة العود الأبدي التي سبق للفيلسوف الألماني “فدريدك نيشته”؛ ويكاد يتفق أغلب مفكري ما بعد الحداثة على أهمية “نيشته”، فأفكاره حاضرة لدى كل “فوكو ودريدا وليوتار”.
كما يعتبر بعضهم أن طلائع الأفكار ما بعد الحداثية تجد جذوراً لها في كتابات كانط وهايدغر وماركس؛ ما يعطي فكرة واضحة أن أفكار ما بعد الحداثة؛ قد ولدت داخل المشروع الحداثي وليس خارجه، فهي لحظة انبثقت من داخله وليس خارجة عليه بالمطلق، والقائلة بأن كل ما يحصل لنا اليوم قد حصل سابقاً في تكرار أبدي، وأن هذا الذي تسميه الحداثة تقدماً ليس إلا فكرة ماضوية مكررة ومستعادة، أي أن ما تقدمه الحداثة باعتباره حديثاً، ليس سوى قديماً مكرراً، يعاد تقديمه تحت اسم الحديث، وهو ما جعل ما بعد الحداثة، تبدو باعتبارها “عودة للحداثة باعتبارها جديداً، وهذا يعني رغبة متجددة دوما لتكرار أخر”.
الاختلاف والتنوع والتعدّد بدلاً من الكلية والأحادية
ترفع مدرسة ما بعد الحداثة من شأن التعدد والتنوع والتناثر والتبعثر؛ إذ ترفع من شأن الاختلاف والمعاني المتعددة على حساب المعاني الواضحة والحقائق الواضحة التي قدمتها الحداثة تحت اسم العلم والحقيقة والتنوير والعدالة والتقدم التاريخي والغائية التاريخية، التي تشكل بدورها موضع خلاف بين الحداثة وما بعدها، حيث ترى الأولى أن هناك غائية تحكم التاريخ؛ الذي يتقدم وفق منطقه الخاص نحو غاية كامنة داخله في استمرار، في حين ترفض ما بعد الحداثة هذا الكلام، معتبرة إياه خطأ من أخطاء ما بعد الحداثة، وهو ما جعل “تيري إيغلتون”، يشن هجومه على ما بعد الحداثة، قائلاً: “فما من أحد تقريباً يؤمن بأن التاريخ ينشر شراعه ليبحر بسلالة صوب غاية محددة مسبقاً، لكن ما من أحد أيضاً إلا ويؤمن بمقاصد ونيات تاريخانية، وبمشاريع محددة وموجهة من غاياتها المحددة”، معتبراً أن الإيمان بالغائية لا يعني نهائياً هذا المنحى الذي ذهب إليه ما بعد الحداثيين، إنما يعني أننا انطلاقاً من الحاضر والمعرفة المتكونة عن هذا الحاضر، وسعياً للظلم الحاصل فيه، فإنه يمكن تفعيل مقاومتنا لتحسين الوضع نحو غاية محددة يمكن وصفها بدقة، بمعنى أن التفاوت الطبقي مثلاً (وهي مفردة لا يحبها ما بعد الحداثيين) بين الأغنياء والفقراء بين الشمال والجنوب؛ بين من يملكون ومن لا يملكون، لا يمكن العمل على حلها دون وجود غاية تضع أهدافها وسياساتها لحل هذه المسألة، ودون ذلك يتحول العالم إلى مكان عارم للفوضى والظلم. [6]
الخصوصية المحلية والكونية العالمية
تقرُّ ما بعد الحداثة من شأن الخصوصيات المحلية وتزدري مفهوم الكونية أو العالمية، معتبرة أن العالم مكون من مجموعة خصوصيات لكل منها سرديتها، ويرد الحداثيون على هذا الأمر أن وجود هذه الخصوصيات والثقافات والهويات المختلفة والمتنوعة لا ينفي وجود كونية أو إنسانية عالمية تجمع بين البشر في نهاية المطاف، فالاستغلال الواقع على العمال في كل مكان هو مسألة عالمية، ولعل ما تطرحه مسائل البيئة اليوم من تحديات على الكرة الأرضية بأسرها، هو مسألة عالمية لا يمكن حلها دون وضع غاية/ هدف لذلك.
هناك أيضاً الكثير من المسائل التي تختلف حولها الحداثة وما بعدها، منها مسألة الهوية والثقافة والنظام، إنما نكتفي بما تحدثنا عنه أعلاه، مع التأكيد أن ما بعد الحداثة تقدم أيضاً من مسائل النسوية وحقوق المثليين والدفاع عن الأقليات والإثنيات المهمشة على اختلاف أشكالها، باعتبارها ضحية لمشروع الحداثة.
الخلاصة
يرى بعضهم أن القرن التاسع عشر هو قرن الحداثة؛ باعتباره تتويجاً لعصر الأنوار وسيادة العلم والرأسمالية ورأس المال والصناعة وولادة ثقافة السلعة، في حين يرى ما بعد الحداثيين أن القرن العشرين، خاصة في نصفه الثاني هو عصر ما بعد الحداثة، وهو ما بدأ يظهر بعد إطلاق “ليوتار” لكتابه (الوضع ما بعد الحداثي عام ١٩٧٩)، إلا أن قسم كبير من الخبراء المختصين بمسائل الحداثة وما بعدها، يرى أن ما بعد الحداثة بدأت تتبلور بعد انهيار الاتحاد السوفياتي على يد مجموعة من ذوى التفكير اليساري الذين انشقوا، وكانوا قد بدأوا نقد اليسار قبل ذلك بزمن طويل، بدافع من خيباتهم الكبرى، وهو ما دفع “تيري إيغلتون” للقول إن ما بعد الحداثة، ليست أكثر “إيديولوجيا حقبة تاريخية محددة في الغرب، حقبة شرعت فيها جماعات مذلة ومهانة باستعادة شيء من تاريخيتها وذاتيتها”. [7]
إذن في نهاية المطاف يختلف الحداثيون عما بعد الحداثيين، من حيث يرى الأوائل أن الحداثة مشروع لم يستنفذ بعد، وأن كل ما طرحته ما بعد الحداثة من مسائل هي موجودة بطريقة أو بأخرى ضمن مشروع الحداثة إياه، وهو يعمل على ضمها وهضمها لإدراجها في جداول عمله والمضي قدما نحو تحقيقها، بدءاً من مسائل الهوية إلى الثقافة والإثنيات والمهمشين والاختلاف والبيئة، أي أن ما بعد الحداثة ليست سوى لحظة من لحظات تحديث الحداثة نفسها، ويدافع عن هذه الفكرة كل من “هابرماس وإيغلتون” وآخرين.
في حين يرى ما بعد الحداثيين أن الحداثة استنفدت فرصها، وأننا إزاء جديد يكرّر نفسه باستمرار، وأن ما تقدمه الحداثة، ليس سوى “جديد” مكرر، وأن اعتراف الحداثة بأن ما تطرحه ما بعد الحداثة جزء من مشروعها، هو اعتراف ضمني بما بعد الحداثة أولاً، ومحاولة للمصادرة على مشروع ما بعد الحداثة ثانياً، ومكابرة عن إعلان الهزيمة ثالثاً.
الخاتمة
إن تأمل ما سبق، يوضح لنا أن ثمة ما هو مشترك بين لحظتي الحداثة وما بعدها، وثمة ما هو مُختَلف عليه كثيراً، لكن بكل الأحوال، يمكن للتاريخ البشري الذي نعيش لحظته الحالية الآن (سواء كان له غاية أم لم تكن له غاية) الاستفادة من كل هذا الجدل للأخذ بالبشرية نحو ما يمكن أن يكون عالماً أفضل، سواء سميناه تقدما تاريخياً بلغة الحداثة أو تحسين وضع الأقليات أو المهمشين في لغة ما بعد الحداثة، وهو أمر ممكن حقاً عبر استبعاد كل ما هو سيء فيهما لصالح الأخذ بكل ما هو جيد، على أن يكون الإنسان والطبيعة محور هذا الجيد، وهو أمر بدأنا نراه عمليا من خلال النتائج التي تجلت عن هذا الصراع بين الطرفين، فعلى ضفة الحداثة، بدأنا نرى نقداً ضمنياً لمشروع الحداثة، ومحاولة لاستيلاد مفهوم جديد للحداثة الذي قدمه الحداثة “آلان تورين”. [8]
وهذا ما كان ليكون لولا النقد الهائل الذي صوّبته ما بعد الحداثة نحو أمها الحداثة، ومن جهة ما بعد الحداثة بدأنا نرى تيارات جديدة تقدم نفسها على ساحة العالم، ولعل مدرسة ما بعد الاستعمار التي تدعو للخروج من ميراث التفكير الذي فرضه الاستعمار على العالم للتفكير بالعالم من موقع من كانوا ضحية هذا الاستعمار، أي أن تروي الضحية/ التابع/ المحلي/ روايتها بنفسها، ما يشكل انتصاراً لمدرسة ما بعد الحداثة في هذا المجال.
المراجع
[1] ـ https://hekmah.org/%D9%84%D9%8A%D9%88%D8%AA%D8%A7%D8%B1/
[2] ـ حميد دباشي، ما بعد الاستشراق..
[3] ـ رولان بارت من بريخت إلى موت المؤلف: حياة عادية لفكر استثنائي مدهش: إبراهيم العريس.
[4] ـ رولان بارت من بريخت إلى موت المؤلف: حياة عادية لفكر استثنائي مدهش: إبراهيم العريس.
[5] ـ ما بعد الحداثة: عرابي عبد الحي عرابي.
[6] ـ راجع يورغن هابرماس (محاضرة)، الحداثة مشروع لم يكتمل.
[7] ـ راجع تيري إيغلتون، أوهام ما بعد الحداثة.
[8] ـ ألان تورين، الحداثة المتجددة.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.