الملخص النفيذي:
تحاول هذه الورقة تقديم مقاربة بين مقاصد الإسلام والديمقراطية والعلمانية؛ حيث تجعل من أساسيات المنهج الإسلامي مادة ملهمة لتلك المقاربة، وتطرح ضرورة تأويل النص بما يتناسب مع التطور في قضايا العدل والحرية والمساواة وكرامة الإنسان عبر وسائل جديدة؛ قدمتها شعوب غير مسلمة كالعلمانية والديمقراطية وحقوق المرأة والأقليات.
تطرح تلك الضرورة لكونها أفضل حالاً من تضييق النص ومنعه من المشاركة في مثل هذه الفعاليات التي ساهمت في تطور البنية الاجتماعية، وفي أساليب الحكم وتداول السلطة، والمشاركة في الحقوق، ومساواة المرأة في مسائل الإرث والولاية، وفي دور المجالس التشريعية وإدارة الدولة، وقبول التعددية واختلاف الرأي، والتنافس على موقع القرار، وغير ذلك.
ثم تقدم هذه الورقة صحيفة المدينة كمثال لتلك المقاربة مع الديمقراطية والعلمانية؛ كما تجري مقاربة أخرى لتوافق سمات الديمقراطية العامة مع مقاصد الإسلام. ثم تتوقف عند الأسس الإنسانية لتحقيق الديمقراطية والعلمانية والمواطنة إسلامياً. وتضع توصية لتحقيق ذلك كله، من خلال المحاور التالية.
المحاور:
- المدخل
- المنطلقات الأساسية التي تحكم المنهج الإسلامي
- الإسلام دين للحياة
- الإسلام دين عالمي
- الإسلام دين التنوع والتعددية
- الإسلام دين يؤكد نسبية الفهم البشري
- في مسألة الديمقراطية والإسلام
- صحيفة المدينة مثالاً على ديمقراطية وعلمانية الإسلام
- مقاربة لسمات الديمقراطية بالإسلام
- الأسس الإنسانية لتحقيق الديمقراطية والعلمانية والمواطنة إسلامياً.
- الخاتمة والنتيجة
المدخل:
في التوجه نحو فهم ديمقراطي للإسلام؛ نحاول الإجابة على تحديات الواقع وتساؤلات المرحلة، ومن خلال هذا التوجه نسعى لنؤكد أن الإسلام دين رحمة للعالمين يدعو إلى الإخاء الإنساني وكرامة الإنسان، والفضيلة والعفاف، والحرية. وأن الإسلام يمتلك شريعة قانونية شاملة يمكن أن ينبثق عنه نظام؛ يستوعب الآخر وفق ما جاء في دستور المدينة الذي أكد على المواطنة والمساواة، وأعلن قيامه على المصالح المشتركة بين الناس لا على انتماءاتهم الدينية، وعلى حقوق المواطنة بالمعنى المعاصر وحقوق الإنسان وحرية التدين من غير إكراه؛ وعلى معيار الكفاءة؛ وليس على الولاء.
وإنّ كلَّ ما يتناقض مع هذه المبادئ هو تشويه للإسلام، فالدعوات الفاضلة تكون بالإقناع، وخير وسائل الاقناع التداول وسماع الرأي الآخر والاحتكام للتصويت، وهذه مبادئ الديمقراطية التي تسعى للإنجاز على أساس الفطرة والعدل، ومن أجل ذلك المطلوب نقلة نوعية تصحح العلاقة بين الإسلام والدولة.
لكن تيارات الإسلام السياسي لعبت دورًا سلبيًا؛ إذ تعمل على إنتاج أنظمة استبدادية بشعارات إسلامية وبترويج عموميات مفرغة من محتواها عن العدالة والمساواة وقبول الآخر، ولذلك نرى أن الذين يطرحون أن الإسلام هو الحل يؤدلجونه وفق نظراتهم السياسية، وبالتالي يقولون: نحن الحل.
بينما الإسلام دين للحياة وللبناء ولحسن الجوار؛ وهو دعوة؛ وليس مشروع دولة، وبالتالي يلتقي هنا مع العلمانية التي هي حركة منفتحة على التحول والصيرورة بلا نهائيات؛ وهي تسعى إلى استقلال المجتمع المدني استقلالاً نسبياً، وهنا يأخذ الاسلام دوره في نشر مشروعه الأخلاقي ديمقراطياً؛ بدلاً من قهر الدولة التي من المفروض أن تكون حيادية حياداً إيجابياً تجاه جميع أبنائها؛ وترى الملامح الجوهرية لإنسانية الإنسان وحقوق الجميع في إطار توافقي وعصري؛ لا يفرق بين المكونات؛ ولا يستصغر أو يحقر أحداً.
المنطلقات الأساسية التي تحكم المنهج الإسلامي
الإسلام يدعو إلى إنسانية شاملة، لكنه ليس مشروع دولة كونية، بل هو مشروع ديمقراطيات تتعدد بتعدد المجتمعات، وتشترك في فضاء الحرية، وتعمل على اختراق الحضارات للتكامل بينها؛ والتواصل والتعارف والمثاقفة.
وأما الدافع لهذا التقديم فهو منطلقات أساسية تحكم المنهج الاسلامي:
الإسلام دين للحياة
فالإسلام ليس مجرد طقوس تعبدية يقوم بها كاهن؛ فيربط الفرد بالخالق أو الواهب أو المتحكم بالقدر، إنما يمتاز الإسلام بالاختيار الحر والاحتكام إلى العقل، حيث الشهادة بالتوحيد لا يقبل فيها التقليد وإنما الاقتناع الحر، والطقوس التعبدية يمكن تحميلها أهدافاً للتماسك الجمعي وللتعاضد البشري إضافة إلى ربطه للدنيا بالآخرة؛ حتى يمكن أن يكون ديناً من أجل الحياة الأفضل؛ ولذلك جاء قوله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ. الأنفال:24.
وهذه الآية تتضمن أموراً متعددة ذكرها أبو علي الجرجاني قائلاً ([1]):
“والرسول داع إلى الإيمان وإلى الجنة، فهو داع إلى الحياة في الدنيا والآخرة. والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة:
- حياةُ بدنٍه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على ما يضره. ومتى نقصت فيه هذه الحياة ناله من الألم والضعف بحسب ذلك. ولذلك كانت حياة المريض والمحزون وصاحب الهم والغم والخوف والفقر والذل دون حياة من هو معافى من ذلك.
- وحياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغي والرشاد، والهوى والضلال، فيختار الحق على ضده. فتفيده هذه الحياة قوة التمييز بين النافع والضار في العلوم والإرادات والأعمال. وتفيده قوة الإيمان والإرادة والحب للحق، وقوة البغض والكراهة للباطل. فشعوره وتمييزه وحبه ونفرته بحسب نصيبه من هذه الحياة، كما أن البدن الحي يكون شعوره وإحساسه بالنافع والمؤلم أتم، ويكون ميله إلى النافع ونفرته عن المؤلم أعظم. فهذا بحسب حياة البدن، وذاك بحسب حياة القلب. فإذا بطلت حياته بطل تمييزه. وإن كان له نوع تمييز لم يكن فيه قوة يؤثر بها النافع على الضار”. ([2])
وحياة البدن تتطلب العناية بشؤون الدنيا من إعمار واقتصاد وإدارة العلاقات على الوجه الذي يضمن السلامة للجميع؛ فاقتضى أن تتطور الإدارة إلى ما نراه من دول تبني وتعمر وتسوس العلاقات والمصالح بتطور الحاجات.
الإسلام دين عالمي
إن خطاب القرآن تضمن حديث التكريم للبشرية كلها دون تشميل لدين، تكريمَ خلقٍ واختيار (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ) وجاء التمييز فيما بعد للالتزام بالنهج الالهي في التعارف والتواصل لقوله تعالى:
12 يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. الحجرات:13.
وإن فاتحة الكتاب الحمد لله رب العالمين وختامه سورة باسم الناس(قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ) لدليل أنه خطاب للناس يبشرهم؛ ويتوقع منهم خيراً؛ ويدعوهم لممارسة مفهوم الحرية الذي هو ميزة التكريم؛ وسر الاستخلاف؛ وهو الأمانة التي حملها الإنسان؛ ولا تستطيع حملها بقية الكائنات.
الإسلام دين التنوع والتعددية
وما يتطلبه ذلك من صيانة والتزام وقبول للآخر ويشرح ذلك من خلال مِنّة أمتنها على الناس يبين فيها نعمة التنوع:
وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ. البقرة:251.
وحتى لو اختلفوا ولم يجتمعوا على دين؛ فهذا متروك شأنه لله؛ يفصل فيه يوم القيامة؛ ولا يحق لبشر أن يقهر أحداً على تغييره:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. الحج:17.
فالآية واضحة تختصّ بحسابهم يوم القيامة؛ أي أنها تعني تركهم وامتدادهم على مر الزمان.
غير أن ضيق الخطاب الذي فصل في قواعد التعامل مع المختلفين ومن الفصائل التي لا تحتمل الآخر؛ فقد سار سيرًا معاكسًا لمقاصد النص القرآني الذي يتحدث في الحرية الاعتقادية في أكثر من (500) آية تتحدث عن حرية الضمير والتنوع في النحل والمعتقدات، وهذا ما دعا لإدارة الظهر لهذه الآيات؛ واستدعى شطبها عبر آليات تعمل على ابطال النصوص كآلية النسخ، وذلك بسبب من عقلية الهيمنة والسيطرة التي استخدمت النص لأهدافها متذرعة بوحدة الدين وضرورة فناء المختلف؛ أو إخضاعه.
الإسلام يؤكد نسبية الفهم البشري
اعتبار أن الله ﷻ مطلق تعني نسبية البشرية، وهذا يقود إلى تدافع الأفكار ما يوصل إلى الأفضل باستمرار، بنفي النفي حتى تتقدم البشرية؛ ولا تتوقف عند حد معين، وهذا يدعو لتواضع المسلم وعدم التعالي والانتفاخ، ويدعوه لقبول التعلم من الآخر، فالدورة الحضارية لا تتوقف على أمة من الأمم، وكما كنا أساتذة في تعليم البشرية معالم حضارية متقدمة، صار علينا أن نتعلم فنون الحياة واستعمالاتها في أزمة التراجع والانحطاط التي نحن عليها.
إن النسبيين يقررون أن كل شيء بإمكانه أن يخلق واقعه؛ وأن ينتج إدراكًا لذاته فيما لا يكون لغيره، وإذا كان الصراط المستقيم هو الحقيقة المطلقة، فإن طلب الهداية نحوه دليل صعود مستمر باتجاهه، وتعبير عن نسبية إدراكه وتفاوت هذا الإدراك في السير نحوه.
ولابد من إدراك أن الحقيقة لها عدة وجوه؛ وهي موجودة عند كل أمة من زاوية تكشف عن نسبية الرؤية وتعدد وجوهها.
في هذا الخضم الزاخر نجد في تعبيرات مثل الليبرالية، العلمانية، الديمقراطية، حقوق الإنسان، علاقات مركبة، تواصلية، متداخلة، لها علاقة مع حركية الاجتماع الإنساني، وتتلاقى أو تتصادم مع النظرة الدينية والولاءات الاعتقادية بحسب الحامل لها إن كان سكونياً أو ديناميكياً قابلاً للتفاعل مع الجديد المنبعث من الحاجات المستجدة للمجتمعات.
في مسألة الديمقراطية والاسلام
إن تأويل النص بما يقارب التطور في العدل والحرية والمساواة وكرامة الإنسان عبر وسائل جديدة قدمتها شعوب غير مسلمة، كالعلمانية، والديمقراطية، وحقوق المرأة والأقليات، هو أفضل حالاً من تضييق النص ومنعه من المشاركة في مثل هذه الفعاليات التي ساهمت في تطور البنية الاجتماعية، وفي أساليب الحكم وتداول السلطات، والمشاركة في الحقوق، ومساواة المرأة في مسائل الإرث والولاية، وفي دور المجالس التشريعية وإدارة الدول، وقبول التعددية واختلاف الرأي، والتنافس على موقع القرار، وغير ذلك.
وعلى قاعدة أن الأحكام تتغير بتغير النظام المعرفي التي يجب أن تحكم رؤيتنا التجديدية، وحلّ الاشكاليات التي نعيشها وفق الأنظمة المعاصرة من غير تقييد ولا تجميد عند حدود ما رآه الأقدمون وفق تصوراتهم المعرفية؛ فهم اجتهدوا وفق معارفهم؛ وهذا زمان لمعارف مختلفة أكثر تطوراً، والنص مفتوح عليها ينتظر قراءات جديدة.
إن الديمقراطية تضمن السلم الأهلي؛ وتحل مشكلة المشروعية والاجتماع الشعبي للنظام السياسي، وهي تضمن ممارسة السياسة كأسلوب متحضر في إدارة شؤون الناس وحل مشكلاتهم وتناقضاتهم، وإقامة نظام سياسي يقوم على الحوار، والتفاهم السياسي، وتداول السلطة، ونبذ العنف بكل صوره، والاحتكام إلى نتيجة الانتخابات النزيهة والشفافة، وهذا يتطلب ثقافة ديمقراطية بمواجهة فوضى التقليد والتطرف الديني.
والإسلام يمتلك شريعة تمثل ثروة قانونية شاملة لمكونات الحياة، ومن ثمة يمكن أن ينبثق عنه نظام ديمقراطي أو أن ينسجم مع الديمقراطية؛ ويمكن أن يحل محل الأنظمة الحاكمة؛ ويتجاوزها باستيعاب الآخر وفق ما جاء في دستور المدينة الذي أكد على المواطنة وعلى المساواة. ([3])
إن أنظمة كثيرة قامت باسم الإسلام فرضت رؤية أصحابها، وعمل علماء السلطة وفقهاؤها على ربطه بمصالح السياسيين، خلافاً لروح الإسلام ودعوته، وبعيداً عن تطبيق الرسول ﷺ في بداية الدعوة التي قامت عليها حكومة المدينة المنورة.
صحيفة المدينة مثالاً على ديمقراطية وعلمانية الإسلام
صحيفة المدينة التي جعلها الرسول بينه وبين سكان يثرب بمختلف انتماءاتهم، كانت أول دستور أعلن أن الدولة تقوم على مبدأ المصالح المشتركة بين الناس، ولا تعتمد مرجعية المشايخ والكهان؛ وهي احتوت على مبدأ دستوري يدور حول حقوق المواطنة ويؤكدها، وحول حقوق الإنسان، وحرية التدين، وقامت على معيار الكفاءة لا الولاء.
والصحيفة التي تأسست عليها دولة المدينة كانت إعلاناً “دستورياً” يتفق مع التوجه العلماني الأصيل للإسلام: ففيها: “هذا كتاب من محمد النبي رسول الله بين المؤمنين والمسلمين من قريش وأهل يثرب، ومن اتبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس، وإن من اتبعنا من يهود فإن له النصرة والأسوة غير مظلومين، ولا متناصر عليهم”. ([4])
لقد كانت الصحيفة دستورًا “ملزماً” لأهل المدينة، من المسلمين والأربع عشرة قبيلة الأخرى الوثنية واليهودية ([5])
والصحيفة أكدت نقطتين رئيستين تجمعهما العبارة الشهيرة اليوم (الدين لله والوطن للجميع).
وقد جعلت كل الفئات المختلفة دينياً وحدة وطنية سياسية متعايشة، حيث الجميع أمة واحدة من دون الناس، يجمعهم وطن واحد هو يثرب، يتساوون في الحقوق أمام الحكومة بصرف النظر عن معتقداتهم الدينية، ويتضامنون في الدفاع عنها إذا تعرضت لأي اعتداء خارجي.
بهذه الروحية ــ روحية الصحيفة ــ يمكن التقارب مع الرؤية العلمانية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة، حيث أن الدولة ضرورة، ومنشأ ضرورتها النظام والأمن والإعمار، لأن عدمها جور مطلق على حد قول الإمام علي: لابد للناس من أمير بر أو فاجر. بل قيل في مأثورات العرب: سلطان غشوم خير من فتنة تدوم. وعلينا أن نلاحظ أن رؤيتهم لوجود أمير فاجر أو غشوم يتعارض مع الأمان الاجتماعي الذي هو من وظيفة الدولة، وهو الذي ينشده الإسلام لحامليه، لكنهم قالوا ذلك وفق وعي اجتماعي؛ لا وفق فقه إسلامي.
والوعي الاجتماعي يتغير تبعاً لتغير وعي الأفراد لأدوارهم ومواقعهم وحقوقهم وواجباتهم حيث تتغير المفاهيم والوظائف، وبذلك يتغير شكل الدولة أداءً وأدواراً ومصدر شرعية وآليات تطبيق، هذا التغيير هو مصدر عدم تنميط الدولة بكونها إسلامية أو ليبرالية أو اشتراكية بشكل مطلق، إن تنميط الدولة يصادر حق المشاركين فيها في التعبير عن انتماءاتهم أو رؤاهم أو معتقداتهم، ويلغي التنوع الذي هو من سمة الإنسان، ومصدر حيوية العالم. ([6])
والعلمانية ليست خياراً ايديولوجياً، إنما واقع تاريخي وموضوعي، وهي حركة منفتحة أبداً على التحول والصيرورة بلا نهائيات ولا غائيات، وتؤدي إلى الاستقلال النسبي للمجتمع الديني والمساواة الكاملة للمواطنين أمام القانون، وتعمل على حيادية الدولة الإيجابي اتجاه جميع أبنائها، وتسعى إلى رؤية تحمل ملامح جوهرية لإنسانية الانسان، تعبر عن طموحه إلى السيطرة على المعوقات التي تقف في طريق تقدمه وسعادته.
وإن الاعتراف بالتعدد والتنوع البشري سمة أساسية في الإسلام؛ لا تقوم دولة بدونه، ولا تبنى إلا على أساس الاعتراف به وبوجوده، وقد لحظ الإسلام مدى التنوع البشري، ودعا إلى احترامه وجعله مصدر حيوية للعالم بقوله:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. الحجرات:13.
ومفهوم التعارف غاية في ذاته، وهو نابع من التنوع لقوله تعالى: وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً. المائدة:48.
بهذا المنظور يمكن أن نرى أن تطور النهضة الإنسانية قاد إلى ثقافة؛ تستمد مرجعيتها من العالم المحيط وضرورات التعايش معه وفيه، هذه الضرورات أرست مفاهيم جديدة؛ وأدت إلى تحديث المجتمع، وتحديث المجتمع قاد إلى الفصل بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية، وهو ما أدى إلى إعادة تنظيم المجتمع على أسس الحرية والمساواة والعدالة والعقلانية والحقوق المدنية، وهي عملية لا تتوقف على جيل معين، بل هي في صلب المستقبل الذي لا يتوقف، وتجعل الإنسان من دون النظر إلى عرقه وجنسه أو دينه أو لونه نقطة ارتكاز في المجتمع، وتقدم له الضمانات القانونية اللازمة لممارسة تلك الحقوق واستقلاليته.
مقاربة لسمات الديمقراطية بالإسلام
يمكن تحديد سمات الديمقراطية العامة باستقراء تجارب الديمقراطية في العالم وتطورها التاريخي، وما أصبح يعدّ مبادئ مشتركة للديمقراطية مثل: تداول الحكم بطريقة سلمية، وعملية انتخابية دورية سواء كانت برلمانية أم رئاسية أو كليهما، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء ومجموع الحريات العامة اللازمة لتكون مثل هذه العملية ذات معنى، وأهمية حرية التعبير عن الرأي وحرية الاجتماع، ومجموعة القوانين التي تمنع تعسف السلطة، وتأكيد المواطنة المتساوية هي العلاقة بين الفرد والدولة، ومشاركة المرأة ومساواتها في العمل والمنصب والحقوق. ونفي التمييز بكل أشكاله.
نحن هنا لا نأتي بجديد خارج الإسلام بل هو من صلب سماحة الإسلام، إننا فقط نحتاج إلى تجديد فكرنا وفهمنا الديني، وفتح الأفق أمام الديمقراطية، ونبذ الوصاية على الشعب؛ وهذا يدفع كل مستلهم للحرية إلى أن يساهم بدوره في استبعاد الأحكام الفقهية التي تضع العقبات في طريق تطور الانسان بإيقافه على حدود المدينة المنورة والصحراء العربية مكاناً وعلى وجود الصحابة زماناً، وكأن الدنيا توقفت لديهم.
وبالتالي فإن المنهج التشريعي يفترض به أن يحقق التطور في المجتمعات الإسلامية، ويزيل عنها الإشكالات الفقهية التي تتخبط فيها، ويفترض باعتماد هذا المنهج على ما جاء في الهدي السماوي والكتاب الحكيم بوضع قانون مدني عصري يتناسب مع معطيات الواقع وظروف وحاجيات كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، ليرفع غبن القوانين في الأحوال الشخصية والتجارية وغيرها.
إننا نعول على إعادة النظر في فهم النص الديني وعلاقته بالناس، وعلى تطوير الثقافة، والتكيف مع العالم، وإعادة الصلة بالمكتسبات التي صنعتها الشعوب، وما حققته من نهضة تقوم على تأمين كرامة الانسان وحريته، ما يعني أن إقامة دولة إسلامية من أجل تطبيق الشريعة بالمعنى المطروح من حركات الإسلام السياسي غير قابل للتطبيق في زماننا، وهو مفهوم متجاوز وتاريخي يلغي عالمية الإسلام، وكذلك يعني أن بند الإسلام دين الدولة لا حاجة له في الدساتير، وإنما يمكن اعتماد المرجعية الأخلاقية للدولة والمجتمع.
والدولة المدنية المنشودة، ذات المرجعية الأخلاقية، لا بد أن تكون فيها حقوق للملحد كما هي حقوق المؤمن مصانة، فكلمة الله العليا هي الحرية لجميع الناس، بغض النظر عن معتقداتهم، وأهم مبدأ يجب تطبيقه هو احترام حرية الآخر المختلف معك بالمعتقد، والحفاظ على حقوق الإنسان وكرامته، وهو الهدف النبيل الذي يستحق التضحية، وإلا أصبحنا ندور في حلقة مفرغة؛ والشعوب ضحت بالغالي والرخيص لتعيش حريتها، لا لتستبدل طاغية بآخر.
الأسس الإنسانية لتحقيق الديمقراطية والعلمانية والمواطنة إسلامياً
إنّ نجاح أي توجه ديمقراطي يتطلب التأكيد على مفهوم المواطنة الذي يعمل على ضبط التدافع الاجتماعي وتمتين قواعد الوحدة المجتمعية وضمان الخصوصية والتكافؤ في الحقوق والواجبات وتأكيد الحريات الشخصية للأفراد وعدم التمييز بين الأعراق والأجناس وهذا يتطلب التأكيد على:
- بناء الدولة على عقد اجتماعي يضمن حدود العلاقة بين السلطة والمواطنين.
- التنافس يقوم على البرامج؛ وليس على الهويات والانتماءات.
- قبول مبدأ تداول السلطة والمشاركة في الترشيح والانتخاب والتقدم للمناصب دون قيد إلا قيد المواطنة.
- لا تمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات على أساس الدين أو القومية أو العرق أو الجنس.
- احترام الثقافات وضمان حرية المعتقد والاختيار لكل فرد وإلغاء أشكال العنصرية ومفهوم أهل الذمة كونه مفهوماً تاريخياً غير مرتبط بأصل الدين.
- المساواة بين الذكور والإناث في العمل والكسب والمسؤولية والقوامة والإرث.
- المعارضة تعبير عن احترام الرأي الآخر وضرورة لتطبيق الديمقراطية وتأكيد التعددية، وهي بنية أساسية تضمن حقوقها الدولة والدستور عبر حرية التعبير والتعددية الحزبية وتنوع الآراء واحترامها.
- المرجعية الأخلاقية تقوم على قيم انسانية فطرية أكدتها الوصايا الإنسانية في سورة الأنعام (151ــ152ـــ153) ونحن نؤكد عليها لتبقى فوق الدستور، والعالم كله اليوم يؤكد على هذه الوصايا، ويعمل بها إلا من بعض تزيّد نحن نرفضه.
ويخطئ من يظن أن الطريق ممهد نحو الديمقراطية، ولابد للديمقراطية من ديمقراطيين يعلمون ما يفعلون؛ وماهم عنها بغائبين؛ فالنخب التي تحدثت في المواطنة والديمقراطية والمجتمع المدني؛ لم تبنِ هذه الأفكار على مضامين عملية؛ فبقيت في علب مستوردة دون اسقاط على الواقع؛ لأنها تهمل تكوينات المجتمع وبناه الأساسية حيث المواطنة الحقّة تعترف بمكونات المجتمع المتدين وغير المتدين، والديمقراطية تراعي المشاركة؛ وليس التبعية.
والمجتمع المدني يحتاج لدولة قوية؛ ليكون قوياً بمواجهة التغول؛ ويكون معبراً عن المواطنية؛ وليس مجرد تجمعات في مؤسسات إنسانية خدمية.
وأما مفهوم فصل الدين عن الدولة فهو رؤية إسلامية، لكون الاسلام دين ودنيا؛ وبالتالي البنية الإسلامية هي من صلب المواطنة لأنها تمثل غالبية الناس؛ وإنْ لم تستوعب في العملية السياسية؛ فهذا يعني دعوة إلى تهميش الأكثرية! وهذا غير منصف.
الخاتمة والنتيجة
قبل أن نكثر من النقد وندخل في جدالية المعنى؛ علينا أن نفكر بالمحاولة والمواجهة لصور التدين الخاطئ والممارسة السياسية الخاطئة؛ فالإسلام السياسي فشل؛ لأنه ارتكب إثم العيش في الماضي، ولم يواكب العصر وحاجاته، لذلك تحول إلى حركات تطرف وتشدد وتكفير دون أن يساهم في البناء والتعمير والتغيير.
وفي الإسلام يمكن أن تقوم أحزاب عدة بتوجهات مختلفة، لأنه لم يكن هناك حزب واحد جامع لحاجات المسلمين؛ ولن يقوم حزب بحاجاتهم المتنوعة، وقيام أحزاب بهوية دينية؛ ليس معناه فرض الايديولوجيا الدينية لأن مبادئ الديمقراطية ستحكم العملية، وليس الديمقراطية الشكلية التي هي تكرار المقولات دون مضامين.
النظام الديمقراطي لا يعني حكم الأغلبية السكانية؛ وإنما الأغلبية البرامجية التي تلتزم بالمبادئ الديمقراطية، فالأغلبية الديمقراطية لا علاقة لها بالهويات؛ ولا بألوان الناس ومذاهبهم، وإنما علاقتها بصراع الأفكار والأحزاب ومصالح الأطراف، والحلول الوسط، والائتلافات بين القوى، والتوافقات المتغيرة بتغير المعادلات في المجتمع.
بمثل هذه التأكيدات يمكن للمسلمين أن يشاركوا بتنظيم أنفسهم؛ ويساهموا في بناء بلادهم كمواطنين يتساوون مع الآخر ويعترفون به؛ ويبقى التأكيد أن الطريق إلى الديمقراطية ليست مفروشة بالورود؛ وعلينا أن نقتلع الأشواك بأيدينا؛ ونحن نشمر ونجتهد إليها.
والله من وراء القصد.
مراجع
[1] ـ أبو علي الجرجاني: الحسن بن أبي الربيع المُحَدِّثُ، الحَافِظُ الصَّدُوْقُ، أبي عَلِيٍّ بنُ يَحْيَى بنِ الجَعْدِ العَبْدِيُّ الجُرْجَانِيُّ نَزِيْلُ بَغْدَادَ. سَمِعَ أَبَا يَحْيَى الحِمَّانِيَّ، وَيَزِيْدَ بنَ هَارُوْنَ وَعَبْدَ الرَّزَّاقِ فَأَكْثَرَ، وَوَهْبَ بنَ جَرِيْرٍ وَشَبَابَةَ بنَ سَوَّارٍ وَعَبْدَ الصَّمَدِ بنَ عَبْدِ الوَارِثِ، وَطَبَقَتَهُم. حَدَّثَ عَنْهُ: ابْنُ مَاجَهْ وَأبي بَكْرٍ بنُ أَبِي عَاصِمٍ وَمُحَمَّدُ بنُ عَقِيْلٍ البَلْخِيُّ وَأبي بَكْرٍ بنُ أَبِي دَاوُدَ وَأبي بَكْرٍ بنُ زِيَادٍ، وَأبي عَبْدِ اللهِ المَحَامِلِيُّ وَالحُسَيْنُ بنُ يَحْيَى القَطَّانُ وَآخَرُوْنَ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: صَدُوْقٌ.
[2] ـ راجع كتاب الفوائد لابن القيم. ص:125
[3] ـ راجع حول ذلك كتاب الديمقراطية في الاسلام لعباس محمود العقاد الذي يقرر فيه أن الشريعة الإسلامية كانت أولى الشرائع السباقة إلى تقرير الديمقراطية الإنسانية؛ وهي الديمقراطية التي يكتسبها الإنسان كحق له يخوله أن يكون فاعلًا في اختيار حاكمِيه، وليست مجرد حيلة من حيل الحُكم لاتقاء شر أو حسم فتنة. فهو يتناول شتى مفردات تلك الديمقراطية، شاملةً مجالات: الاقتصاد، والاجتماع، والأخلاق، والتشريع، والسياسات الداخلية والخارجية، ويَخلُص في النهاية إلى أن للإسلام ديمقراطيته الخاصة، التي تتفرد بمبادئ وغايات تمنح مطبِّقيها رؤية أوسع وأكثر شمولًا، تخرج بهم من الصِيغِ المحلية الضيِقة، إلى الصِيغة الإنسانية، بل العالمية.
[4] ـ فيما يلي نص صحيفة المدينة كاملاً:
[5] ـ بقي بنو أوس اللات في الحلف؛ ولم تغير اسمها إلا بعد معركة أحد حين أعلنت الإسلام فأسماها الرسول “أوس الله”.
[6] ـ وبالتالي تنميط الدولة باسم الاسلام ليس مقصودًا وإنما المراد النظام واسم المصدر المأخوذ منه.