تأتي هذه الدراسة في سياق تحقيق مزيد من التعارف والتثاقف بين أعضاء المجتمع السوري، الأمر الذي يساهم في إتاحة الفرصة للتعرف إلى (الآخر)، كما يقدم هو نفسه، ومن ثم تقليص المسافة بين ما هو عليه وتصوراتنا عنه، فهذه المسافة في جانب كبير منها حصيلة لمسار تاريخي طويل ومعقد ساهم في رفع حواجز عالية بين الجميع وأنتج مصفوفة سمات أو قوالب وفي كثير من الأحيان أحكاماً نمطية عن ذلك (الآخر).
في السياق ذاته، علينا قبل الخوض في هذا الموضوع (السريان الآشوريين في سوريا)، أن ندرك ألّا وجود لسردية واحدة فقط عن (النحن) في مستوى الهوية، وبخاصة عندما يكون الحديث عن هويات تاريخية موغلة في القدم ما تزال علوم التاريخ والأنثروبولوجيا عاجزة عن تقديم سردية واحدة متماسكة عنها وفق أدوات المنهج العلمي، وعليه فنحن في تعريفنا لهوياتنا سنكون أقرب إلى الحديث عن السرديات الأكثر حضوراً في وعي أي جماعة لذاتها وعن السمات أو الملامح العامة لهذا الوعي.
وعلينا أن ندرك أيضاً، أن الهويات بتمظهراتها وتعبيراتها عن ذاتها هي غير ثابتة بل متبدلة تبعاً لطبيعة القيم والمفهومات السائدة في كل عصر من العصور (التعريف بدلالة الدين والقومية نموذجاً).
أولا: تمهيد تاريخي
يعد الآشوريون بتسمياتهم المختلفة (السريان، الكلدان، الآراميين) من أقدم الشعوب التي استوطنت المشرق، وتحديداً وادي الرافدين وبلاد الشام، وتؤكد ذلك المكتشفات الآثارية في عدد من دول المنطقة.
ويعتز أبناء هذا الشعب –أغلبهم- اليوم بأنهم يشكلون امتداداً واستمراراً حياً ومتواصلاً للأكاديين والآشوريين والبابليين والآراميين الذين بنوا حضارة عريقة في هذه البلاد، وأقاموا دولاً وممالك منظمة لها دساتيرها وقوانينها وأنظمتها المميزة مدة تتجاوز 3000 عام قبل الميلاد. وهم يشكلون بما يحملونه من ملامح ثقافية واجتماعية الوارث الأكثر محافظة على ذلك الموروث الذي ظل متصلاً بوساطتهم ليربط الماضي بالحاضر، ويعدّهم بعض الحبل السري الذي ما يزال يربط سوريا باسمها.
بعد سقوط آخر دولهم (بابل) عام 539 ق.م، بقي السريان في المنطقة وانتشروا على كامل رقعتها الجغرافية، حيث سادت ثقافتهم ولغتهم الآرامية ـ السريانية قروناً طويلة على الرغم من فقدانهم السلطة في بلادهم. الأمر الذي يفسر جانباً مهما من غيابهم أو تغييبهم عن مسرح الأحداث التي شكلت لاحقاً ما نحن عليه اليوم، وتضارب السرديات حول طبيعة وجودهم ودورهم وعلاقاتهم بمحيطهم، وربما تفسر أيضا جانباً مهماً من نزوعهم اللاحق لاعتناق المسيحية بما حملته من أفكار إنسانية أممية لا تخص أمة أو سلطة بعينها ويتساوى فيها الجميع في علاقة الأخوة مع البشر في رعاية الله الأب. وقد عزز ذلك أيضاً ما لمسوه من انسجام مع الميتافيزيقيا النهرينية التي يتقاطع عدد من مروياتها ومفهوماتها مع جوهر المسيحية وعمودها الفقري القائم على سرّي التجسد والفداء عدا عن التشابه الكبير بين السردية التوراتية في التكوين والخلق مع الأساطير الراسخة في البلاد منذ عهود سحيقة.
لذلك كان الآشوريون (السريان) من أوائل الشعوب التي اعتنقت المسيحية، وساهموا في انتشارها وأوصلوها إلى تخوم الهند والصين، (إذ ما يزال هناك في الهند أكثر من 3 مليون من أتباع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية يتبعون بطريركية السريان في دمشق) وبنوا كثيراً من الكنائس والأديرة في وادي الرافدين والشام. وأنشؤوا عدداً من المراكز الحضارية والثقافية، أشهرها مدارس نصيبين والرها وقنشرين.
في الحقبة المسيحية رُسخت التسمية السريانية بوصفها تسمية لجميع مواطني ASSYRIA التي تعني آشور وسوريا وكذلك لجميع الأمم التي اعتنقت المسيحية، لأن المسيحية جاءتهم من سوريا وأهلها هم السريان، وطغت على غيرها من التسميات وعرف هذا الشعب بالاسم السرياني. وهكذا أصبح الاسم السرياني في هذه الحقبة حصيلة تاريخية وثقافية جامعة لمجمل حضارة سوريا وما بين النهرين.
تعرّض هذا الشعب لنكسة قاسية في القرنيين الرابع والخامس للميلاد، تمثلت في الانقسامات التي شهدتها الكنيسة، وغذّاها كل من الفرس والبيزنطيين، واتّخذوها ذريعة للإمعان في اضطهاده. توالت بعدها الانقسامات في كل كنيسة، فظهر عدد من الطوائف المسيحية.
يتوزع السريان اليوم على كنائس وطوائف عدّة هي: 1 . كنيسة السريان الأرثوذكس. 2. كنيسة السريان الكاثوليك. 3. كنيسة بابل الكلدانية. 4. كنيسة المشرق القديمة. 5. كنيسة المشرق الآشورية. 6. الكنيسة السريانية المارونية. كنيسة السريان الملكيين (روم أرثوذكس وكاثوليك)، كذلك السريان من أتباع الكنيسة الإنجيلية.
بعض هذه الكنائس بسبب عوامل جغرافية وسياسية وعقائدية طرأت عليها تبدلات وتحوّلات طالت هويتها ولغتها وانتماءها القومي مثل طوائف الروم وغيرها، بينما بقيت الكنائس الأخرى وأتباعها، متمسكة بأصولها وهويتها وثقافتها ولغتها، ومكّنها هذا من خلق وعي قومي، تبلور لاحقاً في الأوساط الشعبية ولدى النخب العلمانية التي تنتمي إلى هذه الكنائس، في قيام جمعيات ومنظمات وأحزاب قومية تسعى سلمياً وديمقراطياً للحصول على الحقوق الثقافية والاجتماعية، وتثبيت هويتها وخصوصيتها ضمن إطار وحدة الدول التي تعيش فيها.
وبعد دخول جيوش العرب المسلمين البلاد، أدى السريان دوراً مهماً في إرساء دعائم الدولة الإسلامية وبناء حضارتها في عهد الخلافتين الأموية والعباسية، بمشاركتهم في الدواوين والإدارات الحكومية، وترجمة العلوم والفلسفة اليونانية إلى العربية، وبرز رجال أمثال سرجون بن منصور في العهد الأموي، وآل بختيشوع وحنين وغيرهم في العهد العباسي.
عموماً نعم الآشوريون (السريان) بشيء من الأمن والاستقرار في ظل الدولة الإسلامية، لكنهم عانوا بوصفهم ذمّيين، وأرهقت كواهلهم الجزية، ولم يسلموا من الظلم والتمييز في عهود بعض الخلفاء من دون أن يتحول ذلك إلى اضطهاد عام أو ممنهج وفق أغلب المصادر التاريخية، لكنه بعد قرن من الزمان تقريباً دفع كثيراً منهم لاعتناق الدين الإسلامي، والتخلّي عن ثقافتهم ولغتهم السريانية، وحدث ذلك في المدن الكبرى أكثر من الأرياف البعيدة عن مراكز السلطة والمصالح المرتبطة بها، الأمر الذي قد يفسر استعراب أغلب السريان في سوريا مقابل استمرار المسيحية واللغة السريانية في الأرياف قروناً لاحقة عدة. وهو موضوع ما يزال يحتاج إلى مزيد من البحث ومقارنة مختلف الروايات حوله. وقد ازداد وضعهم سوءاً في إثر الاجتياح المغولي للمنطقة، ومن ثم في ظل السلطنة العثمانيية.
في أواخر الحكم العثماني، وإبّان الحرب العالمية الأولى 1915 ـ 1919 تعرّض الآشوريون (السريان) على أيدي الحكومة الاتحادية التركية لواحدة من أبشع حملات الإبادة الجماعية مع الأرمن وباقي مسيحيي السلطنة العثمانية، أودت بحياة ما يقارب نصف مليون إنسان من أبناء هذا الشعب، وتشريد مئات آلاف منهم إلى سوريا والعراق وفلسطين ولبنان والى أمريكا الشمالية والجنوبية، وغيرت وجه المنطقة الديموغرافي وساهمت في تشكيل ذاكرة مثخنة بالجراح والمآسي والخوف والحذر من الآخر.
ثانياً: مسميات عدة لهوية واحدة
الانشقاقات في الكنيسة المسيحية، ببعديها السياسي واللاهوتي، ابتداء من القرون الميلادية المبكرة، كان لها الدور الأبرز في تمزيق هذا الشعب إلى مِلل وطوائف حتى بدت كأنها تسميات لشعوب عدّة، نتيجة للتأثير الطاغي للعقيدة الدينية واحتلالها مركز الهوية في ثقافة هذا الشعب وبقية شعوب المنطقة مراحل تاريخية طويلة، يضاف إلى ذلك الدور المشبوه للبعثات التبشيرية الكاثوليكية والبروتستانتية في تغييب الحس بالهوية والثقافة الخاصة والتأسيس لمرجعيات روحية ومن ثم ثقافية غربية ساهمت بدورها في تعميق الانقسام”. هذا عدا عن “سياسة العثمانيين في تكريس نظام (الملة) التي تعني (شعباً) بصيغة وسياق مطابق للطائفة. لذلك تبرز التسميات التي تطلق اليوم على هذا الشعب من كثير من أبنائه والشعوب المحيطة به متطابقة مع اسم الكنيسة التي يتبع لها كالسريانية أو الآشورية أو الكلدانية”. فمثلاً يعرف اليوم لدى العامة الآشوري بأنه فقط من رعية كنيسة المشرق أو الكنيسة الآشورية الشرقية والأمر نفسه بالنسبة إلى الكلدان والسريان.
اسم سوريا والسريان: لا يعرف على وجه التأكيد من هو الذي أطلق اسم سوريا على هذه البقعة الجغرافية، لكن ما ذهب إليه كثير من المؤرخين ومنهم المؤرخ اليوناني الشهير هيرودوت (أبو التاريخ) أن اليونانيين هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم ابتداء من القرن الرابع قبل الميلاد، فدعوها آشوريا أو أسوريا نسبة إلى الآشوريين. ووفق اللفظ اليوناني الذي لا يحتوي على اللفظ (شين)، لفظت ASSYRIA وسكانها ASSYRIAN ونحت هذا اللفظ الجديد في اللغة الآرامية التي كانت لغة عموم الإمبراطورية الآشورية بـ (سورويو) أو (سورايا) بحسب اللهجة السائدة في كل منطقة، ومنها جاءت لفظة (السريان) إلى اللغة العربية، وقد أكد هذا الاشتقاق اللغوي بين الاسمين السرياني والآشوري كثير من المؤرخين والباحثين الثقات” (هبرودوت وهوميروس وثيودور نولدكه وآباء الكنيسة السريانية ورواد النهضة القومية عند السريان الآشوريين)، وباللغة الأرمنية يطلق لفظ (آسوري) على السريان الآشوريين جميعهم. أما لفظ (آثوري) فليس إلا اللفظ السرياني لكلمة آشوري، إذ يعبر عن الكلمة (آشوري) باللغة السريانية بلفظة (أوثورويو أو أثورايا)، وهي التسمية التي يطلقها العراقيون على الآشوريين.
وعلى الرغم من وجود روايات أخرى تقول إحداها بأن الاسم سوريا مشتق من أصل بابلي نسبة إلى مقاطعة شمالي الفرات كانت تسمى (سوري) وأخرى تنسبها إلى مدينة صور إلا أن نظرية أن اسم سوريا وآسيريا وآشور وتسمية سكانها سريان وآشوريين ألفاظاً لمسمى واحد، هي التي تدفع كثيراً من النخب السياسية والثقافية الآشورية إلى إيراد الاسم الآشوري مرادفاً للسرياني أو استخدام إحدى المفردتين بحسب السياق ولكن بدلالة واحدة من دون أن يعني ذلك تغييب أي تسمية تاريخية لهذا الشعب العريق من الأكادية إلى البابلية فالآشورية والآرامية والسريانية والكلدانية مدلولاً قومياً أو إثنياً مع الانتباه إلى أن التسمية الكنسية وبخاصة السريانية تتجاوز تلك الحدود إلى شعوب ومم أخرى كالعرب والفرس وغيرهم.
ملاحظة: هناك خلاف داخل البيت السرياني حول أصل السريان هل هم آشوريون أم آراميون، ويبني دعاة الاصل الآرامي اعتقادهم على قناعة تقول بأن الآراميين دُعُوا سرياناً بعد اعتناقهم المسيحية مع اعتقادهم أيضاً بأنها جميعاً تسميات لشعب واحد، بينما يذهب بعض آخر إلى افتراض أن الآشوريين الحاليين هم آراميون أيضاً وبأن الآشوريين القدماء انقرضوا ولم يبقَ لهم أي وجود.
أما التسمية الكلدانية فتعود بمدلولها المتداول اليوم إلى منتصف القرن الخامس عشر، عندما أعلن نساطرة قبرص المؤمنين بعقيدة الكنيسة الشرقية النسطورية خضوعهم للكنيسة الكاثوليكية الرومانية وقبولهم لمعتقدهم اللاهوتي، في حينها أصدر البابا أوجين الرابع في 7 آب/ أغسطس من سنة 1445 م براءته الشهيرة في شأن هؤلاء المهتدين وفيها يأمر بألّا يسموا نساطرة في ما بعد بل كلداناً.
عموماً؛ فإن أصدق تعبير عن اسم أي شعب هو ما يتداوله العامة بلغتهم الأم فأتباع كل تلك الكنائس يعرفون عن أنفسهم بلفظة سورويو (باللهجة الغربية) وسورايا (باللهجة الشرقية) وهي تعني حرفياً (سوري) باللغة العربية.
ثالثا: الآشوريون (السريان) في سوريا
يرتبط الآشوريون (السريان) ــــــأياً كانت جنسياتهم الحالية والبلدان التي يعيشون فيهاــــ برباط عاطفي متين بسوريا، كونها حملت اسمهم، وكونهم يحملون اسمها، وينظرون إليها بوصفها وطن الآباء والأجداد. وفي الحقيقة فإن الوجود الآشوري (السرياني) في سوريا يمتد آلاف السنين، وهناك مئات من المواقع الأثرية في الجزيرة وعلى امتداد رقعة الوطن السوري، تدلّ على آثارهم، وتشير بوضوح إلى عراقة الوجود الإنساني والحضاري الآشوري وقِدَمِه في هذه المنطقة، حيث تزدان المتاحف الوطنية السورية والمتاحف العالمية بكنوز هذه المواقع. لهذا يعدّ الآشوريون (السريان) أنفسهم جزءاً أساسياً وأصيلاً من النسيج الوطني الاجتماعي في سوريا. ما يزال الموروث الثقافي واللغوي والميافيزيقي للثقافة واللغة السريانية حاضراً في وقتنا الحاضر في الموسيقى والغناء الشعبي وعدد من التعابير في اللهجة المحكية وفي أسماء مئات المدن والقرى التي لا يمكن فهم معانيها إلا باللغة السريانية. فعلى سبيل المثال تدمر تعني الأعجوبة.
يعيش الآشوريون (السريان) في عدد من المدن السورية كدمشق، وحلب، وحمص (وريفها)، وتعدّ الجزيرة السورية من أهم معاقلهم، حيث نزحوا إليها من مدنهم وقراهم (التي هي اليوم ضمن حدود تركية الحالية) مثل ماردين وديار بكر وأورفة ومديات ومن جميع قرى طور عبدين وبرية نصيبين ومن مئات القرى الأخرى بعد المذابح التي تعرضوا لها. ففي مدن القامشلي والحسكة وعامودا والمالكية ورأس العين والقحطانية تسمع لحد الآن بأن فلانا ميردلي والآخر دياربكرلي أو أورفلي أو مدياتي أو عين وردي أو أزخيني أو غرزي أو بشيري أو تمرزي …… ويتردد أيضاً صدى هذه التسميات المكانية ولو بشكل أقل في حلب ودمشق وزحلة والقدس، وأغلب هؤلاء هم من أتباع كنيسة السريان الأرثوذكس.
أما سكان الخابور فهم بأغلبهم من أتباع كنيسة المشرق والكنيسة الشرقية الآشورية والكلدانية (وهم من يطلق عليهم بالتعبير الدارج (الآشوريين). أما مكان قدومهم فهو من العراق وتركيا الحالية حيث هجّرتهم الحكومة العراقية بعد المجزرة التي ارتكبتها بحقهم القوات العراقية النظامية مع بعض المرتزقة من العشائر الكردية في 7 آب/ أغسطس 1933 في بلدة سيميلي فرُحِّلوا بعدها إلى سوريا وأسكنتهم سلطة الانتداب الفرنسي في مخيمات على ضفتي نهر الخابور ليحولوها خلال بضع سنوات إلى مساحات خضراء تزرع بجميع أنواع المحصولات وبخاصة كروم العنب (ما يزال الآشوريون يطلقون عليها الكمبات، أما أسماء القرى العربية فيقابل كل منها اسم المنطقة التي جاؤوا منها أو العشيرة التي ينتمون إليها).
وقد شهدت مدن محافظة الحسكة وبلداتها -قياساً بعمرها القصير- نهضة كبيرة، وعرفت واحدة من أخصب المراحل، وأكثرها حيوية في تاريخ السريان المعاصر، وفي مختلف المجالات الفكرية والثقافية واللغوية والاجتماعية. وأدى الآشوريون (السريان) دوراً أساسياً في بناء عدد من المدن والبلدات في الجزيرة: مثل القامشلي والقحطانية والمالكية (ديريك) وعامودا والدرباسية، وأعادوا إعمار رأس العين والحسكة، وذلك بالتعاون مع شركائهم وإخوتهم من العرب والأكراد والأرمن ومن مختلف الأديان مسلمين ومسيحيين ويهود وإيزيديين . وساهموا في إعمار عشرات القرى في حوض الخابور. وكان لهم دور فاعل في إحداث الفورة الاقتصادية التي عرفتها الجزيرة آنذاك على الصعيد الزراعي والصناعي والتجاري، ولم تقتصر اهتماماتهم على هذا المجال بل سعوا وبكل قوّة لبناء المدارس، والأندية الرياضية، والكشفية، والجمعيات الخيرية وساهمت هذه المؤسسات في إنشاء جيل متعلم واع ومدرك لواقع وطنه واحتياجاته.
وعلى الصعيد الوطني، كان للآشوريين (السريان) دور مهم في النضال من أجل الاستقلال، وتفويت الفرصة على المستعمر الفرنسي في فصل الجزيرة عام 1937.
وكان لهم دور بارز في تثبيت دعائم الحكم الوطني وترسيخ مؤسساته بعد الاستقلال، وذلك من خلال انخراطهم في الأحزاب الوطنية ومشاركتهم في الحياة العامة، والاستحقاقات الوطنية المختلفة كالانتخابات النيابية وغيرها، وخلال هذه الحقبة سعوا بكل إمكاناتهم للاستقرار والتجذّر في أرض الوطن معتمدين على حيويتهم وإمكاناتهم الذاتية وشراكتهم القائمة على الأخوّة والاحترام مع الشرائح الوطنية كافة.
تعدّ اللغة السريانية، اللغة الأم لكثير من الآشوريين (السريان) في منطقة الجزيرة، إذ تنتشر اللهجة السريانية الغربية (لهجة طورعبدين) في مدن القامشلي والقحطانية والحسكة ورأس العين والدرباسية والمالكية وبصورة أساسية لدى أتباع الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وتنتشر اللهجة السريانية الشرقية في قرى الخابور لدى أبناء الطائفة الشرقية الآشورية وعند طائفة الكلدان أيضاً. وما يزال بعض أهالي معلولا وجبعدين وبخعة يتحدثون بلهجة سريانية (أقرب في اللفظ إلى اللهجة الشرقية).
وعلى الرغم من صعوبة التفاهم بين متحدثي اللهجتين الغربية والشرقية نتيجة دخول كثير من المفردات العربية والفارسية والتركية (بحسب منطقة الاحتكاك ولغة السلطة) إلا أن الجميع يشترك باللغة الفصحى التي تسمى (كثوبونويو) وهي وفق معظم المصادر لهجة مملكة (أورهي) وبالعربية الرها المعروفة حاليا بأورفة. وتكتب بخطوط عدّة.
تنشط في صفوف السريان الآشوريين تنظيمات وأحزاب قومية تتبنّى نهجاً سلمياً مطلبياً، وتدعو إلى الاعتراف بالشعب الآشوري (السرياني) بوصفه أحد المكونات القومية للشعب السوري وعدّ التراث والثقافة واللغة السريانية تراثاً وثقافة ولغة وطنية، وذلك ضمن إطار السيادة والوحدة الوطنية للبلاد، وعلى الصعيد الوطني تدعو إلى بناء مجتمع ديمقراطي علماني ينعم أبناؤه جميعهم بالعدالة والمساواة على قاعدة الشراكة والمواطنة الكاملة، وهي تنظيمات غير مرخصة ومن أبرزها المنظمة الآثورية الديمقراطية، وحزب الاتحاد السرياني والحزب الآشوري الديمقراطي، ولهذه التنظيمات امتداد لدى الجاليات السريانية الآشورية في المهجر.
- نزيف الهجرة
شكل السريان الآشوريون نسبة ربع إلى ثلث محافظة الحسكة وأكثر من 60 إلى 70 في المئة في مراكز المدن الرئيسة كالقامشلي والحسكة ورأس العين والمالكية والقحطانية والدرباسية وذلك حتى عقد السبعينيات لكنها تراجعت كثيرا ابتداء من منتصف الثمانينيات، إذ تزايدت معدلات الهجرة تزايداً ملحوظاً. وتعود بدايات الهجرة إلى عقد الستينيات وترافقت مع عمليات التأميم لمنشآت زراعية وصناعية ومدارس خاصة وإغلاق بعض المؤسسات الثقافية والرياضية للسريان كنادي الرافدين وبروز دور الأجهزة الأمنية وتدخلاتها في حياة المواطنين التي تغولت تغولاً ملحوظاً في الثمانينيات وتعرض كثيرون من الناشطين السريان الآشوريين من كوادر المنظمة الآثورية الديمقراطية للاعتقال والتعذيب، إضافة إلى الأسباب العامة الدافعة إلى الهجرة كالحالة الاقتصادية المتردية في الثمانينيات والتسعينيات، ومع دخول الألفية الجديدة تراجعت معدلات الهجرة تراجعاً ملحوظاً وبدت ملامح تعزيز الاستقرار عبر التوسع العمراني وإقامة عدد من المشروعات الاقتصادية بالتعاون مع المغتربين إلا أن ما حملته السنوات الثماني الماضية كان كافياً لتهجير نسبة كبيرة ممن تبقى منهم في الجزيرة وحلب ودمشق ودير الزور وحمص والرقة وغيرها.
- العلاقات الاجتماعية
ما يميز هذه المحافظة هو أنها تجمعات سكانية جديدة قامت على الشراكة والتكامل بين مختلف الأطياف والريف والمدينة، ويشعر فيها الجميع بأنهم شركاء وإخوة. وساهم النشاط الزراعي في خلق علاقات اجتماعية تجاوزت حدود الهويات الدينية والقومية في مشهد قل نظيره من الثقة والاحترام والتعاضد الاجتماعي والأمثلة كثيرة جداً وفي المستويات كافة. لكن المراقب للوضع يلحظ تراجعاً وتصدعاً في بنية هذه الشبكة الاجتماعية الاقتصادية ابتداء من منتصف التسعينيات؛ إذ بدأت تتصاعد شيئاً فشيئاً هواجس وحساسيات هوياتية دينية وقومية نتيجة جملة من العوامل الذاتية والموضوعية وتأتي على رأسها ممارسات النظام الأمني التي استغلت كل مكامن الهشاشة في المجتمع والدفع للإمعان في إخضاع الناس ورفع الحواجز بينهم. وأيضاً تأثرت شيئاً فشيئاً بما تبثه القنوات الفضائية الدينية التي أثرت سلباً باتجاه ارتفاع مستوى التدين وما ترافق معه من مظاهر لم تكن منتشرة بصورة ملحوظة في المجتمع مع نزوع أكثر نجو الانغلاق في ما يشبه الغيتوات ضمن الأحياء، لكن بالمقابل شهدت أيضا تزايداً وتعميقاً للعلاقات الثقافية والسياسية في مستوى النخب لكنها ما تزال غير قادرة على نقله إلى المستوى الشعبي بالصورة المطلوبة.
- المشهد السياسي
تنطوي البيئة الاجتماعية للسريان الآشوريين على تنوع في الانتماءات والمواقف السياسية مثلهم مثل بقية أطياف الشعب السوري. ومنذ تأسيس الدولة السورية انخرطوا في الأحزاب السورية بتنوعها قبل الاستقلال وبعده، وأيضا بعد استلام البعث السلطة؛ فكان منهم الشيوعي والبعثي والسوري القومي. ويشهد لهم بالتفاني والإخلاص ونكران الذات. وتجربتهم في هذا لا تختلف كثيراً عن رفاقهم في بقية المحافظات ومن بقية ألوان الطيف السوري. إلا أنهم -بفعل العوامل الموضوعية التي لم تعد تخفى على أحد- فشلوا في النفوذ إلى عمق المجتمع والتأثير فيه وهنا أيضا المشهد متشابه في أنحاء البلاد كلها.
قد يتساءل بعضهم مستفهماً أو مستنكراً؛ لماذا نشأت أحزاب على أساس قومي. وللإجابة عن هذا السؤال علينا العودة قليلاً إلى الماضي للتعرف إلى تلك الأسباب وفهم طبيعة النزعة القومية الآثورية ومنشئها، إذ لا تختلف كثيراً عن طبيعة النزعات القومية لدى بقية الشعوب الأخرى المجاورة كالعرب والأكراد وغيرهم من الشعوب التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية.
- إرهاصات نشوء الوعي القومي
مثل الشعوب جميعها التي خضعت للسلطنة العثمانية، تأثر السريان الآشوريون بالأفكار القومية، وأفكار النهضة والتنوير الآتية من أوروبا وانتشرت في أواسط القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. وارتكز نمو الفكرة القومية وتطورها لديهم بدايةً على نهضة ثقافية ولغوية، عززت الشعور بالوحدة والانتماء المشترك، انطلاقاً من المشترك الثقافي المتمثل في اللغة السريانية التي تربط الطوائف كلها وكذلك الشعور المشترك الذي عززه الظلم والاضطهاد الذي وقع عليهم من حكومة الاتحاد والترقي التركية في أثناء الحرب العالمية الأولى بسبب انتمائهم القومي والديني. إضافة للتاريخ المشترك سواء قبل المسيحية أو بعدها. هذا التاريخ الذي خلق منظومة ثقافية حضارية أغنت الإنسانية جمعاء. وظّلت على الدوام مثار فخر واعتزاز لأبناء هذا الشعب الذي أفصح عن إرادة وتطلع مشتركين للتحرر والانعتاق من الحكم العثماني أسوةً بشعوب المنطقة التي خضعت له.
هذه التطورات دفعت السريان الآشوريين إلى إنشاء جمعيات اجتماعية وثقافية، صدر عنها صحف ومجلات قومية، دعت إلى الإصلاح والنهضة. أسست في مدن آمد (ديار بكر) وخربوت وأورميا على أيدي رواد النهضة القومية، في زيادة زخم المد القومي الذي ما لبث أن توقف بفعل سيف الاضطهاد الذي طال هذا الشعب على أيدي السلطات التركية، فقد سقط حوالى نصف مليون شهيد، وهجّر وشرّد مئات الألوف من أبنائه، وأبعدوا عن مدنهم وقراهم، وجرى تدمير تجمعاتهم السكنية واغتصابها، ما أدى إلى تغيير الخريطة الديموغرافية لكثير من هذه المناطق.
وجاءت اتفاقية سايكس بيكو لتفصل بين أبناء الشعب الواحد في دول عدة: تركيا والعراق وسوريا وإيران، بعد أن ساهم الآشوريون في انتصار قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى في مسعى للتخلص من نير العثمانيين ولتحقيق تطلعاتهم التي تجلت بالمطالبة بالحكم الذاتي حينها واصطدمت بخيانة البريطانيين لوعودهم (كما فعلوا مع بقية شعوب المنطقة) ومن ثم فشلت كل محاولات حصولهم على حقوقهم القومية. واستكملت فصول المأساة على يد الحكومة العراقية في مذبحة سيميلي في آب/ أغسطس 1933 التي شكلت (لمعظم المراقبين والمؤرخين الموضوعيين) بداية التحول نحو الفكر الشوفيني والإقصائي الذي دفع إلى بناء مشوّه للدولة العراقية، فرض لاحقاً أثماناً باهظة ما زال يدفعها الشعب العراقي بمكوناته المختلفة القومية والدينية.
- تأسيس أول حزب سياسي للسريان الآشوريين
عاش السريان في الجزيرة السورية بمختلف طوائفهم حالة من الاستقرار أنستهم الآلام والمآسي التي ألمّت بهم طوال العقود الماضية. وكان من نتيجة ذلك أن بلغوا في عقد الخمسينيات مرحلة من التطور في المجالات كافة؛ السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، عززت حالة الاستقرار، وقوّت روابط الانتماء إلى المكان، وزادت التفاعل بين طوائفه من جهة ومع شركائه في الوطن من جهة أخرى، إلا أن تصاعد الخطاب القومي العربي الناصري والبعثي الذي مثل نهجاً وفكراً أحادياً ألغى حقيقة التنوع القومي والثقافي وواقعه في البلاد وسعى لصهر الآخر ضمن البوتقة العربية، إضافة إلى فشل الحكومات والأحزاب الوطنية في إنجاز عملية التحول الديمقراطي وتحقيق العدالة والمساواة لجميع المواطنين، وتنامي النزعة القومية وصعودها لدى الشعوب الأخرى في الوطن. دفعت الشباب المثقف إلى التفكير بتشكيل حركة سياسية خاصة بالسريان الآشوريين، قادرة على تجسيد طموحاتهم وتطلعاتهم القومية والوطنية. فجاء ميلاد المنظمة الآثورية الديمقراطية في الخامس عشر من تموز/ يوليو عام 1957 بصفته أول تنظيم سياسي في تاريخ هذا الشعب، على يد مجموعة من الطلاب المتحمسين، ولم تكن مصادفة أن يأتي ذلك بعد شهر واحد من تأسيس أول حزب كردي في سوريا على الرغم من عدم وجود أي علاقات سياسية في حينها فهي تشير إلى تشكل متغير موضوعي يدفع بهذا الاتجاه داخل المجتمع السوري في حينها.
أكدت المنظمة الآثورية الديمقراطية منذ نشأتها الربط بين النضالين القومي الآشوري والنضال الوطني الديمقراطي مستندة إلى قاعدة أنه لا يمكن للسريان الآشوريين العيش بحرية وكرامة إلا في ظل الدولة الوطنية والنظام الديمقراطي. وقد واجهت في مسيرتها كثيراً من التحديات منها ما هو ذاتي متصل بطروحاتها في المستوى الفكري، فقد مثل فكرها القائم على وحدة هذا الشعب بمختلف طوائفه ومسمياته تحدياً وثورة فكرية على واقع طائفي ترسخ عبر قرون وشكل لكل طائفة عالمها الخاص، وأيضا ما مثلته من منافسة وتهديد لدور البنى التقليدية الاجتماعية وهيمنتها وبخاصة لدور مؤسسة الكنيسة الذي تكرس ممثلاً لأبناء هذا الشعب أمام السلطات الحاكمة على مر العصور، أما التحديات الموضوعية فهي لا تختلف كثيراً عن تجربة بقية أحزاب المعارضة السورية التقليدية (أو المحظورة) وإن تميزت بطبيعة خطاب السلطة ومحاولتها التهويل من خطورة هذا الطرح القومي ووسمه بالانفصالية والعمالة للصهيونية والرجعية وتقاطعت في حينها مع خطاب مماثل من الأحزاب الشيوعية والقومية العربية والسورية القومية موالاة ومعارضة وألصقت به تهم الشعبوية والانغلاق والماضوية. لذلك كله كانت العقود الأولى حتى منتصف الثمانينات مرحلة تبشير قومي ثقافي تمكن من إحداث تحولات بارزة على صعيد نمو الوعي القومي والارتقاء بالمستوى الثقافي لدى جيل الشباب، فشهد توسعاً تنظيمياً كبيراً خصوصاً بين صفوف الشباب الجامعي وشكلت كل من جامعتي حلب ودمشق مناخاً نموذجياً لتمدد المنظمة وتوسعها تنظيمياً. وفي منتصف الثمانينيات تعرضت المنظمة إلى حملة اعتقالات شملت الدفعة الأولى منها اعتقال 22 من قيادات الصف الأول والثاني تعرضوا إلى تعذيب شديد ما زال قسم منهم يدفع ثمنه من وضعه الصحي حتى هذا اليوم، على الرغم من قصر مدة اعتقالهم. هذا الأمر شكل هزة للمنظمة وبث الرعب في أوساط مناصريها وباتت الآثورية تهمة جاهزة لدى الأجهزة الأمنية وأزلامها للانقضاض على أي شخص لا ترضى عنه الأجهزة الأمنية. عام 1990 استطاعت المنظمة أن تصل إلى مجلس الشعب باسمها وبمقدراتها المتواضعة وكانت المرة الأولى التي تختبر فيها رصيدها الجماهيري. وعلى الرغم من أن الاعتقالات والمضايقات الأمنية والفصل من الوظائف لم تتوقف؛ إلا أن تلك التجربة أكسبت المنظمة مزيداً من الجرأة والثقة بالنفس ووسعت من دائرة علاقاتها الوطنية. وكانت جاهزة للمشاركة بفاعلية في مختلف نشاط الحراك السياسي والثقافي السوري الذي تصاعد بعيد استلام بشار الأسد السلطة في ما سمي بربيع دمشق عبر المنتديات ولجان الدفاع عن الحريات ولجان إحياء المجتمع المدني وصولاً إلى إعلان دمشق.
ومع انطلاقة الثورة السورية لم تتردد المنظمة الآثورية في الانخراط في الحراك الشعبي المطالب بالحرية والكرامة وكانت عضواً مؤسسا في المجلس الوطني ومن ثم في الائتلاف وفي هيئة التفاوض ولها حالياً ممثلين في اللجنة الدستورية.
السريان الآشوريون والثورة السورية
يمكنني اختصار الموقف لعامة الناس من السريان الآشوريين بالقول إن بناء دولة القانون والمؤسسات القائمة على المواطنة واحترام حقوق الإنسان هي في مركز تطلعاتهم ومبتغاهم ومصالحهم. ولكي نكون دقيقين أكثر، فإن توصيف الموقف الذي بدا مسانداً للنظام لا يصف حقيقة موقفهم، بل يمكن القول إن غالبية نسبية منهم بالنهاية لم يساندوا الثورة، وإن كان لقسم منهم في بداياتها مواقف إيجابية وتطلعات لإنجاز التغيير الديمقراطي المنشود.
في القامشلي وعامودا أطلق الشباب الكرد شرارة التظاهرات الأولى ابتداء من الأول من نيسان/ أبريل 2011 وجاءت أول تظاهرة حاشدة ومنظمة في 8 نيسان/ أبريل وشهدت مشاركة من أطياف المجتمع وقواه السياسية كلها وإن كانت مشاركة متواضعة مقارنة بالكرد ثم عمت التظاهرات في كل مدن المحافظة وشارك فيها الجميع.
- كيف تعامل الشارع السرياني مع الحدث؟
لم يكن المزاج العام لدى الشارع السرياني مرتاحاً لأسباب عدة أهمها الخشية من وقوع العنف والانفلات الأمني، الأمر الذي يذكرهم بما حدث لأهلهم في العراق حيث كانوا الخاسر الأكبر. لكن لم يجرِ التعبير عن ذلك بوضوح في الأيام الأولى التي يمكن توصيفها بمرحلة الترقب لمآلات هذه الانتفاضة، وبخاصة أن الكنيسة السريانية كانت قد أصدرت بياناً طالبت فيه النظام بإجراء إصلاحات وربما كانت المرة الأولى التي تستخدم تعابير تشير إلى إصلاحات سياسية أيضا وليس فقط اقتصادية. ثم إن الكنيسة الكبرى وهي السريانية في المحافظة نجحت في الأشهر الأولى في مقاومة ضغط النظام وأزلامه عليها لإخراج تظاهرات تأييد له من أمام أبوابها. ودفع مطران أبرشية الجزيرة والفرات للسريان الثمن لاحقاً واضطر إلى الفرار بعد تعرضه للتشبيح والتهديد بالقتل أكثر من مرة لانتقاده بعض ممارسات النظام وتراخيه في حماية أمن الناس وسلامتهم وتلميحه إلى وجود أصابع للنظام في عمليات الخطف التي تعرض لها أبناء رعيته وأيضا لتركيزه في أكثر من خطبة على إرسال رسائل إيجابية لكل من الكرد والعرب وأهمية التلاحم بين الجميع من دون أن يمالئ النظام في تعابيره كما جرت العادة لدى رجال الدين عموماً.
مطران حلب للسريان المختطف منذ عام 2013 مع مطران الروم، كانت له مواقف وتصريحات على نطاق واسع في وسائل الإعلام العربية والدولية إن لم نقل إنها كانت معارضة لكنها على الأقل وجهت انتقادات لاذعة للنظام، عدا عن التحركات الكبيرة والعلاقات الإيجابية الواسعة التي بناها المطران مع عدد من فصائل المعارضة أزعجت النظام الذي تحوم حوله كثير من الشكوك في أنه وراء تغييبه.
كان النظام حاضراً عبر إعلامه الذي ركز على نظرية المؤامرة والبديل المتطرف وأيضا عبر أزلامه حيث لجأ إلى بعض ضعاف الأنفس والمرتهنين لأوامره لبث الذعر في الأنفس وإشاعة المخاوف من الآخر وتضخيمها.
هكذا كان الحال خلال الأشهر الأربعة الأولى، بعدها غيبت أجهزة الشرطة والأمن الجنائي وشرطة المرور نفسها عن المشهد وانزوت في مربعها الأمني في المدن الرئيسة القامشلي والحسكة وأعطت إشاراتها لكل المكونات لملء الفراغ وغضت الطرف عن التسلح وانتشار السلاح الفردي في الشوارع. بالمقابل شهدت التظاهرات زيادة نسبية في مشاركة السريان الآشوريين ليس فقط من أنصار المنظمة الآثورية بل من أعضاء حزب الاتحاد السرياني وأفراد آخرين آمنوا بشعارات الثورة وأهدافها مع تراجع النظام وانكفائه وعدم وجود خطر على المتظاهرين كبقية المحافظات، على الرغم من الاعتقالات التي طالت عشرات من كوادر المنظمة الآثورية وناشطيها في محافظة الحسكة وحلب.
سياسياً شاركت المنظمة الآثورية الديمقراطية في تأسيس المجلس الوطني السوري في الوقت الذي لم تكن الأحزاب الكردية قد حسمت خيارها تجاه الانضمام إلى أي من أطر المعارضة. ولم يكن ذلك الخيار سهلاً على المنظمة أمنياً واجتماعياً أيضاً، فجميع قياداتها مقيمون في القامشلي والحسكة في ظل وجود النظام أمنياً وعسكرياً.
الضربة القاصمة للثورة وتصاعد العداء لها والخوف منها بدأ يظهر بصورة بارزة مع انتشار عمليات الخطف وطلب الفدية حيث تعرض أكثر من 65 شخصاً للاختطاف وطلب الفدية تلا ذلك في أواخر عام 2012 دخول بعض الفصائل المسلحة إلى رأس العين ومن ثم قرى الخابور الآشورية وقيامها بممارسات مسيئة جداً بعيدة كل البعد عن شعارات الثورة هذا عدا عن تسمياتها وراياتها الإسلامية وكان من بينها جبهة النصرة، الأمر الذي عزز هواجس الناس ومخاوفهم من المستقبل، وأضفى على جانب كبير من المشهد سمات إسلامية متطرفة، عززت لدى البعض قناعات مسبقة بأنها ثورة ذات طابع إسلامي، ومثلت انحرافاً خطراً لدى بعض الآخر، وقدمت بالمقابل كثيراً من المسوغات لسردية النظام، ما دفع بكثير من المترددين والمراقبين إلى مناهضة الثورة وعدّ بقاء النظام أفضل من بديل إسلامي متشدد.
- التسلح
شكلت هيئة أهلية للسريان باسم هيئة السلم الأهلي شاركت فيها الكنيسة والأحزاب وبعض الروابط والتجمعات المدنية بداية عام 2013 وسارعت لوضع خطة لتقديم الخدمات ولحماية الأحياء المسيحية والأملاك العامة والخاصة خشية من أعمال أو اعتداءات بمرجعية جنائية وأيضاً لضبط الشباب المسلح الذي يجوب الشوارع للقيام بأعمال الحراسة والحماية (كان قسم منهم مرتبطاً بالنظام) وتشكل مكتب الحماية (سوتورو) وتعني الحماية، كحالة شرطية لا ترفع أي علم لا النظام ولا الثورة. لكن سرعان ما تدخلت أجهزة النظام وشقت صفوفه، فانسحب قسم، ووجد من تبقى نفسه مضطراً إلى الانضمام إلى ميليشيا الدفاع الوطني إما عن قناعة لدى بعضهم، أو لكونه الخيار الأفضل من بين الخيارات المتاحة لدى بعض آخر. القسم الذي رفض الانضمام إلى الدفاع الوطني وهم من أنصار حزب الاتحاد السرياني حافظ على الاسم نفسه (سوتورو) وانضم لاحقاً إلى الإدارة الذاتية والأسايش ووحدات حماية الشعب التي يسيطر عليها الـpyd. باسم المجلس العسكري السرياني.
مع توالي الأحداث وبروز داعش خطراً مهدداً بدأ بالاقتراب من تخوم المحافظة ومن ثم سيطرته على جزء كبير منها بموازاة تصاعد حالات الفصائلية والخطاب التحريضي والطائفي في الإعلام وتصاعد الخشية من بديل إسلامي متطرف، وعدم نجاح المعارضة السياسية في تقديم سلوك وخطاب مقنع، ساهمت كلها في دفع الأغلبية من العامة إلى مناهضة الثورة.
كان النظام ابتداء من عام 2012 قد بدأ بتسليم القرى والمدن لحزب الاتحاد الديمقراطي pyd الذي قمع بدوره التظاهرات والسيطرة على أماكن التجمع والانفراد بطرح شعاراته الخاصة، والتحضير لإنشاء الإدارة الذاتية ثم مشروع فدرالية روج آفا ومن ثم سوريا الديمقراطية. هذا أيضا لم يلقَ قبولاً لدى أغلب السريان الآشوريين حيث اقتصرت المشاركة على حزب الاتحاد السرياني.
بموازاة ذلك فشلت مبادرة المنظمة الآثورية في بداية عام 2013 في عقد مؤتمر وطني لأبناء المحافظة من أجل تشكيل الهيئة الوطنية في الجزيرة السورية بعد دعوتها لممثلين عن مختلف القوى الكردية والعربية والسريانية الآشورية حيث عقدت اجتماعات عدة للتشاور وإعداد ورقة مبادئ ورؤية سياسية منسجمه مع أهداف الثورة من جهة ومن جهة أخرى تجنيب المحافظة أن تتحول إلى ساحة اقتتال، وتجريم الاقتتال بين فصائل الجيش الحر ووحدات الحماية الكردية بوصف لا يخدم إلا النظام، إلا أن المشروع لم يكتمل.
كذلك الأمر ساهمت الأحزاب والكنائس السريانية في تشكيل هيئة السلم الأهلي في المحافظة التي ضمت ممثلين عن جميع الفاعليات السياسية والدينية والاجتماعية والمدنية التي سعت لإنشاء شبكة حماية اجتماعية ولتوسيع دائرة إدارة الخدمات وتوزيعها وأيضا لتشكيل وحدات حماية من كل المكونات للقيام بأعمال الحراسة وحماية المنشآت الخاصة والعامة لكنها اصطدمت بتفرد الـpyd وإصراره على إدارتها بمفرده.
في نهاية عام 2013 وبداية 2014 أعلن عن تشكيل الإدارة الذاتية من الـpyd ولم ينضم إلى المشروع من السريان سوى حزب الاتحاد السرياني ولاحقاً عام 2016 انضم الحزب الآشوري الديمقراطي إلى مجلس سوريا الديمقراطية وفدرالية شمال سوريا.
في 23 شباط/ فبراير 2015 اجتاح تنظيم داعش قرى نهر الخابور (34) قرية ودمر عدداً من الكنائس والأديرة واختطف حوالى 235 من النساء والشيوخ والشباب ليجري إخراجه بعدها من قبل الوحدات الكردية، واليوم هو تحت سيطرة قسد وأفرغ من اهله وسكانه الذين فروا إلى مدن أخرى وهاجر أغلبهم إلى أوروبا وأستراليا وأمريكا. ولم تسلم الأحياء السكنية في كل من القامشلي والحسكة من التفجيرات الإرهابية التي راح ضحيتها عشرات الشباب.
حتى عام 2013 قلة قليلة من السريان قررت الهجرة وبقيت الأغلبية على أمل انتهاء الأزمة إلا أن زيادة العنف وانسداد آفاق الحل دفع بكثيرين -ابتداء من عام 2014- إلى مغادرة البلاد. اليوم لا يتجاوز عدد السريان الآشوريين في محافظة الحسكة 30 ألف نسمة بعد أن كان تعدادهم يقارب 150 ألف نسمة عام 2011.
إن ما ذكرته على الرغم من أنه يركز على محافظة الحسكة إلا أنه متشابه في كثير من جوانبه مع واقع السريان في بقية المحافظات.
وبمكن تكثيف الموقف من خلال تناول مواقف كل من الأحزاب والكنائس.
- موقف الأحزاب السياسية القومية الناشطة بين صفوف السريان الآشوريين.
تأتي المنظمة الآثورية الديمقراطية في مقدمة هذه الأحزاب وأعضاؤها ومناصروها هم من كافة الطوائف والمناطق. وقد انخرطت في صفوف الثورة والتحم كوادرها بصفوف المتظاهرين منذ الأيام الأولى. وتعرضت للاعتقالات والملاحقات ومداهمة مقراتها، ولحملة تخوين واتهامات طالت ناشطيها في الجزيرة وحلب. وموقفها هذا جاء استمراراً لمواقفها السابقة ولنهجها السياسي في النضال من أجل التغيير الديمقراطي وكانت من أوائل من رفضوا التسلح وعسكرة الثورة، ولم يقتصر دورها في الحراك الشعبي والسياسي والمدني والإغاثي على سوريا، بل أدّت -وما تزال- دوراً بارزاَ في سوريا وعبر ناشطيها وفروعها في أوروبا وأمريكا لدعم مطالب الشعب السوري ومساندته في كافة المستويات.
وينشط أيضا حزب الاتحاد السرياني وهو حزب ظهر مع بداية الثورة وأعلن موقفا واضحاً ضد النظام وشارك في التظاهرات والحراك السياسي. وهو تاريخياً قريب من حزب العمال الكردستاني وحالياً هو جزء من الإدارة الذاتية ومن مجلس سوريا الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية ممثلاً بالمجلس العسكري السرياني بوصفه جناحاً عسكرياً وقوات السوتورو بوصفها قوات أمن داخلي. وقد زاد حضوره في أوساط السريان نسبيا أكثر من مرحلة ما قبل الثورة.
الحزب الآشوري الديمقراطي: يقتصر حضوره ومناصروه على أبناء الكنيسة الآشورية وينشط في الخابور، هو أقرب إلى ما يسمى قوى معارضة الداخل على الرغم من انضوائه مؤخراً ضمن مجلس سوريا الديمقراطية.
- الكنيسة
يمكن تلخيص موقفها عبر مرحلتين؛ المرحلة السلمية في الأشهر الأولى ولغاية صيف 2011 كانت تدعو إلى ملاقاة مطالب المتظاهرين وإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية، لكنه سرعان ما تحول إلى موقف مناهض للثورة ويعود ذلك إلى انحراف الثورة عن مسارها السلمي وعناوينها الوطنية الجامعة، والخشية من البديل المتطرف والدولة الدينية. بالمقابل لا يمكن فهم بعض المواقف الداعمة والمساندة للنظام بعيداً عن فهمنا لطبيعة مؤسسة الكنيسة بوصفها مؤسسة خاضعة تاريخياً للسلطات الحاكمة وحرصها على العمل ضمن قواعد السياسات الرسمية وشروطها، على افتراض أنّ الكنائس هي مؤسسات رسمية معترف بها، ومن ثم لا تخرج عن التوجهات والخطوط المرسومة لها، فتقبل في أحيانٍ كثيرة مسايرة المواقف الرسمية للنظام، وتبنّي سردياته، وطبعا هذا لا يسوّغ مغالاة بعض رجال الدين في دعم النظام والتطبيل له بصورة تخرج عن حدود الدور الروحي المنوط بهم وحدوده.
أخيراً
يعتز السريان الآشوريين على اختلاف مسمياتهم بأن يجري التعاطي معهم بدلالة اسمهم القومي وليس الديني على الرغم من اعتزازهم بعقيدتهم المسيحية التي هي جزء من ثقافتهم وشخصيتهم.
يفخر السريان الآشوريون بانتمائهم إلى هذه البلاد، يحملون اسمه ويحمل اسمهم، ومن حقهم أن يحظوا باعتراف دستور بلادهم بهم بوصفهم أحد المكونات القومية للشعب السوري. الأمر الذي سيحول ملايين منهم إلى طاقات داعمة للدولة السورية وحماية سيادتها واستقلالها وخدمة مصالحها السياسية والاقتصادية لما يمتلكونه من طاقات هائلة اقتصادية وعلمية وعلاقات سياسية واجتماعية وأيضا سيوفر لسوريا جيوشاً من السفراء غير الرسميين المعبرين عن مصالح سوريا وخدمة تطورها وازدهارها.
يتطلع السريان الآشوريون لقيام دولة القانون والمؤسسات التي تبنى وتدار على قاعدة المواطنة الكاملة والمتساوية للجميع. دولة تحترم حقوق الأفراد والجماعات وتصونها وفق المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، دولة الإدارة والخدمات لا الدولة الأمة، بوصفها منتجاً قانونياً وفضاء مشتركاً للجميع بعيداً عن أي ملحق أو صبغة دينية أو قومية أو أيديولوجية، وهي بهذا المعنى دولة المواطنين السوريين كلهم الذين يشعرون جميعهم بالانتماء إليها بقدر ما يتكرس ذلك في مؤسساتها العامة، التعليمية والإعلامية والقضائية والتشريعية، وفي رموزها الرسمية، من شعور لدى الجميع بأنهم جزء حقيقي منها، الدولة التي تحترم الأديان والعقائد وتقف على مسافة متساوية منها وتنظم مكان تفاعلها وتدعم نشاطها وتنظمه في المجتمع المدني. فالدين والقومية والأيديولوجيا هي سمة الأفراد وليست سمة للدول.
ولا يستقيم الحديث عن هوية سورية جامعة ومتصالحة مع ذاتها من دون أن تنهل من حالة التنوع القومي والديني والثقافي ومن مجمل المسار الحضاري والتاريخي لسوريا.
وأيضا فإن الاقرار بالحقوق والحريات يجب أن يرتكز على ما جاءت به المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان ومتمماتها وألّا ترتبط بعدد أفراد الجماعة القومية الإثنية أو الدينية أو اللغوية وعكس ذلك يعني دولة الغلبة لا دولة الحقوق والحريات مع الابتعاد عن منطق المحاصصات الطائفية والقومية التي تكرس البنى ما دون الوطنية.
إن الاهتمام بإحياء اللغة السريانية ونشرها وتدريسها بوصفها لغة وطنية سورية اختزنت ثقافة وحضارة المنطقة عصوراً طويلة، ليس شأن السريان الآشوريين وحدهم بل هو مسؤولية وطنية تقع على عاتق السوريين كلهم.
ويعمل السريان الآشوريون بالتشارك مع كثيرين من أبناء الشعب السوري لبناء دولة تنتفي فيها ثنائية الأكثرية والأقلية بدلالة الهويات، إلى أكثرية وأقلية بالمعنى السياسي، وفق قيم النظام الديمقراطي ومفهوماته وجوهره.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.