فتحت أزمة إدلب المستمرة منذ شهور، جروح الألم الإنساني الذي تكرر عبر الحروب العديدة التي شهدتها العقود الأخيرة، والتي كان المدنيون العزل والأطفال والعجزة ضحاياها الأبرز في سوق المتاجرات الدولية والمهاترات السياسية التي تستمر غير عابئة بألم أب فقد أطفاله، أو أم خسرت زوجها وأهلها ومعيلها، أو شابة فقد عرضها وحلمها في حياة كريمة.. أو طفل صغير تشرد عن بيته وأهله والتحف السماء ليقتله البرد والجوع.
هذه لعنة الحروب التي لم تجد دولة كبرى تعمل على حلها أو تخفيف وطأتها سوى الشعارات.. هذا حال إدلب التي سكت ضمير العالم أمام مجازر النظام والدعم الروسي الذي تسبب بنزوح مئات الآلاف ومقتل المئات في أقسى الظروف الجوية وأقل التضامن الأممي والدولي.
ولم تعدم الأزمة الإنسانية الكبرى في سورية عمومًا والشمال الإدلبي خصوصًا، بعض من يناقش هذا السقوط الأخلاقي للدول المعاصرة التي وقفت ساكتة عاجزة عما جرى، فانبرى “راينر هيرمان” من صحيفة “فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ”، شارحًا من وجهة نظره، الإفلاس الأخلاقي الكامل في ادلب، ليربط بين الانسحاب الأمريكي العملي من المستنقع السوري وامتناع أوربا من التدخل، بالعواقب الكارثية التي نشهدها في ادلب والشمال السوري.
افناء كامل للحجر والبشر
اتبع النظام السوري، المدعوم من الطيران الحربي الروسي والميليشيات الإيرانية، استراتيجية الأرض المحروقة في إدلب، إذ تُلقي المروحيات قنابل فوسفورية على المستشفيات والمدارس والأسواق كما المنازل. فتحول مجمعات سكنية كبيرة إلى مدن أشباح، في رسالة واضحة مفادها: في المستقبل، يجب ألا تقوم هنا حياة أخرى!
تدفع آلة الحرب السورية بمئات الآلاف من المدنيين العزل إلى النزوح، إذ تقدر منظمات الإغاثة الانسانية عدد الأطفال النازحين بما لا يقل عن 290 ألف طفل، يعاني عدد منهم كل ليلة من البرد القارص.. والموت.
النظام السوري يعتبر كل شخص يعيش في إدلب “إرهابيا”، وهي المحافظة التي لجأ إليها عدد كبير من السوريين في السنوات الماضية، هرباً من بطش قوات الأسد وأتباعه. أما اليوم فلم يعد أمامهم مكان آخر يلجؤون إليه.
الروس مسؤولون ومتعمدون لما جرى
يذكر ما يجري في ادلب بسياسة موسكو الاعتيادية في مواجهة كل طرف تعتبره متمردًا عل سلطاتها ومصالحها، وتدعم حلفائها للقيام بكل أنواع المجازر الإنسانية لتثيبت حكمهم وإقامة أنظمتهم على جماجم شعوبهم، ومن أحداث الشيشان وسياسة الأرض المحروقة التي اتبعها سلف بوتين وأكملها بوتين، إلى دعم مجازر الصرب ضد المسلمين في يوغسلافيا السابقة.
القيادة الروسية وفق بعض القراءات، تعمل بنوع من السخرية في الاستخفاف بـحياة أهل إدلب، استخفاف سبق وأن مارسته في غروزني عاصمة الشيشان. ومن كان يأمل في التفاوض مع نظام دمشق حول المستقبل السياسي لسوريا عليه التخلي عن هذه السذاجة تماما. الأسد وأركان نظامه يقصفون بلدا كي يعيش فيه السوريون الموالون فقط. بلد يتم تطهيره من جميع مثيري الشغب المحتملين. غير أن ذلك – يقول راينر – لن يجلب السلام للبلاد.
خشية تركيّة وابتزاز روسي لأوروبا
إن المعضلة التركية معقدة في التعامل مع الأحداث الحالية في ادلب، بين مخاوف داخلية وأزمة حدودية مجاورة ومتطلبات عديدة تواجه أنقرة التي تخشى من أن يلجأ إليها نصف سكان منطقة إدلب البالغ عددهم حوالي أربعة ملايين نسمة إذا تم فتح الحدود المغلقة بجدار مرتفع. فمن شأن استقبال المزيد من اللاجئين زعزعة استقرار البلاد. كما أنها تسعى لمنع تدفق موجة جديدة من اللاجئين.
وتعكس تلك المواقف، موقع القوة التي باتت تملكها روسيا تجاه أوروبا، فكما هو الحال الآن في ليبيا، فهي باتت تتحكم في إحدى المحطات الرئيسية في طريق الهجرة.
ومع فشل محادثات الرئيسين الروسي والتركي “فعليّاً”، بدأت تركيا لعبة محفوفة بالمخاطر من وجهة نظر الكاتب، حيث تحاول إجبار الجيش السوري على الوقوف وراء مراكز المراقبة الاثني عشر باستخدام القوة العسكرية. نقاط تم إنشاؤها فعلا من ضبط ومراقبة وقف إطلاق النار في إدلب ووافقت عليه كل من روسيا وتركيا وإيران.