لطالما شكلت السويداء إشارة استفهام كبرى منذ مطلع الثورة السورية، فالمدينة المترددة بين رفض نظام الأسد وبين الحياد الصامت من مجريات الثورة السورية، أصبحت لغزاً محيرًا مع تكرار انتفاضة شعبها، ورفضهم العديد من قرارات سلطة الأسد وميليشياته.
ولعل أبرز مظاهر الرفض عدم خدمة أبناء المحافظة خارج حدودها، وتشكيلهم قوات خاصة بهم لحمايتهم.. الأمر الذي أضاف أبعادا خاصة حول تلك التساؤلات.
تاريخ وتساؤل
يعتبر بعض الناشطين السوريين، أن المحافظة بقيت على ولائها لنظام الأسد منذ انطلاق الثورة 2011.. لتشكل احتجاجاتها وتصرفات بعض أفرادها مثار تساؤلات خاصة عن الموقف الحقيقي لمحافظة ذات بعد خاص، الطائفة فيه تتحكم وتغاير ما يراه البعض صراعًا سنيًّا علويًّا، فيما اعتبره البعض انحياز أقلية نحو أقليه
واستغرب آخرون كون الثورة السورية ثورة كرامة وليست ذات بعد طائفي أو ديني بمفهومها العريض، الأمر الذي يجب أن يدفع السويداء للانتفاضة بوجه النظام منذ البداية!.
لكن الذي يبدو من مختلف التقاطعات، أن السويداء ومع تحولها لساحة تنافس بين الموالين والمعارضين، اتبعت سياسة نأي بالنفس “حياد” بهدف حماية الطائفة خارج دائرة الصراع المعقد في سورية، لكن ابتعادها جعل الصراع ينتقل إليها.
النظام والاصطياد بالماء العكر
تمثل نهج نظام الأسد ومنذ تسلم حزب البعث السلطة في سورية، تدمير المجتمع السوري بطرق ممنهجة ومدروسة بأقذر الوسائل وأحط الأساليب، فعمل على بث الفرقة والانقسام بين المجتمع وطوائفه وبين أبناء المجتمع والطائفة الواحدة، وهذا كان تعامله مع السويداء.
وشكل الحياد الذي التزمه أهالي الجبل في الثورة، غضبًا لدى الأسد يرقى لدرجة اعتبارهم ثائرين ضده، فلجأ لتكتيكات مختلفة حسب الظرف والمناسبة في مختلف مفاصل الثورة.
نُشرت شائعات بتدخل أبناء السويداء في اقتحامات استهدفت مناطق درعا الثائرة، والهدف صنع فتنة واقتتال بين أبناء المحافظتين وقيام عمليات انتقامية تسمح للأسد بالعودة والسيطرة.
تكتيك ثانِ اتبعه الأمن السوري، بتنفيذ تفجيرات مختلفة والقيام بعمليات خطف وخطف متبادل وصولاً للتهديد والتخويف ممن أسماهم التكفيريين والجهاديين ومحاولة صنع عدو واضح المعالم لدى أهل السويداء هم التيارات الاسلامية، أو حتى من الشعب السوري “السني” بما يعزز الهالة التي أطلقها الأسد عن نفسه بأنه حامي الأقليات.
صدامات ومواقف
لم يقبل النظام – كما أشرنا – بحياد الدروز وأهل السويداء، فاتبع كل الأساليب الملتوية لجرهم إلى صفه في معاركه التي يخوضها ضد الشعب السوري، بدأت عمليات الترهيب لأهالي السويداء مع اغتيال شيخ العقل الأول للطائفة “أحمد سلمان الهجري” بداية عام 2012 بسبب مواقفه المضادة للنظام وتراجعه عن دعم أي توجهات أو خطوات من قبل نظام الأسد.
واغتالت قوات الأسد الشيخ “وحيد البلعوس” في حادثة اعتبرت مفصلية في حراك السويداء، ما قبلها ليس كما بعدها.
لينتقل النظام بعدها لتسهيل وصول داعش وفزاعة الإرهاب في جبل العرب والتي نتج عنها ما عرف حينها “الأربعاء الأسود”.
البلعوس.. موقف ثائر
أطلق الشيخ الدرزي “وحيد البلعوس” مقولة هزت السويداء كلها ومعها نظام الأسد، ” لا لحرق الدروز في سبيل معركة الأسد”.
وترافق تصعيد البلعوس ضد النظام مع انحياز الشارع الدرزي تجاه الثورة ضد الأسد، رغم الحذر العميق من حيثيات الثورة السورية “لأسباب عديدة” لكن يبدو أن الدروز اقتنعوا أن شر النظام أكبر وأشد وأخطر من أي شر محتمل للمعارضة ويكفي حالات استنزاف شباب الطائفة كدليل ودافع لذلك.
قرر النظام عام 2015 تصفية البلعوس والانسحاب من السويداء ليستبدل بالسيطرة على الدروز، خيار الفوضى واللعب على اوتارها في السويداء.
تردد درزي
تتعدد الأسباب التي جعلت من أهالي السويداء منقسمين في موقفهم من الثورة والنظام والميل نحو الحياد الذي يتأرجح بين السلبي والايجابي.
العوامل والأسباب متداخلة، بين ضياع طاقات الشباب وأعداد أفراد الطائفة لعوامل الهجرة والفقر وغيرها.. يضاف لذلك استغلال النظام لمختلف الأحداث لإذكاء النار الطائفية مع ضعف في إدراك المعارضة وقياداتها لأهمية ملف الأقليات والاختلافات الدينية والأثر المرتبط بذلك.
حياد إيجابي واضح
رغم محاولات النظام جر الدروز للاصطفاف الكلي وراءه واتباع سياساته بشكل كامل، لكن السمة الأبرز في التحرك الدرزي وأهل السويداء ما يمكن أن نطلق عليه مسمى الحياد الايجابي، الذي تعددت وتنوعت مظاهره وخطواته الصدام المباشر مع قيادات أمنية تابعة للنظام، أثناء تحرير مطار الثعلة، أصدر الشيخ وحيد البلعوس وتشكيل “مشايخ الكرامة” عام 2015 بياناً اعتبروا فيه العميد وفيق ناصر رئيس فرع الأمن العسكري التابع للنظام، اعتبروه مطلوبًا، لدوره وخططه في بث الفتنة بين الدروز وجيرانهم في درعا وبين الدروز أنفسهم!.
وبعد اغتيال البلعوس، ثار الشعب الدرزي في السويداء، وتوجهت مظاهرة غاضبة فاقتحمت فرعي الأمن العسكري والجنائي ، بعد تحطيم تمثال حافظ الأسد، حيث سقط عشرات الجرحى والقتلى لكن المتظاهرين نجحوا برفع علم الثورة.
حمّل تشكيل “رجال الكرامة” مسؤولية هجمات داعش على المحافظة للنظام السوري، حيث رفض الدروز حينها، حضور اجتماعات دمشق برعاية قاعدة حميميم ومشاركة فعاليات اجتماعية من المناطق الجنوبية.
رفض مشايخ الكرامة لمحاولة الروس تهجير بدو السويداء إلى درعا، حيث اعتبروا أن خطط النظام تريد إجراء تغييرات ديمغرافية برعاية روسية الأمر الذي رفضه الدروز.
هذا ويعتبر الموقف الشعبي الأبرز والأهم، رفض أهالي السويداء إرسال أبنائهم “حوالي 50 ألف شاب” للخدمة في قوات النظام، ورفض تسليم المنشقين والفارين من خدمة العلم، لتصبح تلك النقطة بين مد وجزر بين الأسد والسويداء وتقديمه خيار جيشه أو داعش، حيث بقي يسعى لإدخال جيشه والسيطرة على المدينة.
تطورات أخيرة
في فلم “دم النخيل” الذي أنتجته مؤسسة السينما التابعة للنظام، ظهر جندي في جيش النظام من أبناء محافظة السويداء، بمظهر الجبان الخائف.. الأمر الذي تسبب باستفزاز أهالي السويداء واعتبروه محاولة مخابراتية للانتقام من أهالي الجبل، لرفض شبابهم الانخراط في جيش الأسد.
وانتشرت رسائل رافضة لهكذا تصرف، وتداولت الشخصيات الدرزية على وسائل التواصل رسائل بينت أسباب حقد الأسد على الطائفة التي رفضت دعم جيشه الطائفي، لتصفه تلك الرسائل بذيل الكلب!.
ومع تدهور الاقتصاد السوري وانحدار العملة بشكل مرعب، خرجت مظاهرات احتجاجية في السويداء تحت مسمى “بدنا نعيش” تضامنت معها مناطق وشخصيات أخرى، مما سبب رعبًا للأسد ونظامه حملتها تصريحات المسؤولين المتململة والخائفة من مجريات الأمور ومآلاتها هناك.
وبما أن قدرة الأسد الفعلية على تحسين الواقع الاقتصادي تكاد تكون معدومة، فإن الاحتجاجات في السويداء لا يستبعد أن تكون شرارة جديدة تنطلق نارها لتحمل بقية محافظات سورية على الانتفاضة ضد نظام مجرم لم يعد يملك حتى إطعام من يحكمهم بالحديد والنار, فعل نشهد نارًا جديدة تشعل الجماهير السورية وتذكي نار الثورة بشكل يشابه لما قامت به درعا قبل تسع سنوات.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.