لم يُتح للسوريين أن يحوزوا على حقهم في ممارسة السياسة منذ عقود من الزمن، وذلك بفعل قانون الطوارئ وتداعياته الأمنية التي فُرضت على البلاد منذ عام 1963، ثم كان لانقضاض الأسد على السلطة عام 1970 الدور الحاسم في تعزيز التسلّط والاستبداد الذي بدأ –تدريجياً– بتحويل سورية إلى بلد مسكون بالرعب والخوف، والتوجس من أي نشاط اجتماعي أو سياسي أو ثقافي يمكن له مقاربة الشأن السوري العام من خارج منظار السلطة. ولعل إحداث ما يسمى بـ(الجبهة الوطنية التقدمية) عام 1974 بقرار سياسي من حافظ الأسد، وليس بموجب مرسوم أو قانون، لم يكن في جوهره سوى بداية لتقنين العمل السياسي وتكريسه ضمن منظومة السلطة المُحاطة بوسائل القمع والبطش كلها، ثم انتهت حالة التقنين إلى مرحلة التحريم القطعي عام 1980، في عقب المواجهة المسلحة بين نظام الأسد وجماعة الإخوان المسلمين، إذْ جعل الأسد من تلك المواجهة ذريعةً لاستئصال أشكال العمل السياسي المناوئ لنظامه كلها، وقد شهدت المرحلة الممتدة من 1980 إلى 1990 نجاحاً باهراً لأجهزة المخابرات السورية -المدعومة بالجيش النظامي- في تصفية الأحزاب والكيانات السورية المعارضة جميعها، وذلك بأشكال مختلفة من الاستئصال تراوح بين التصفيات الجسدية والسجن سنوات طويلة، فضلاً عن أساليب الحصار والتضييق الأمني والاجتماعي، ولم يُستثنَ من حالة الاستهداف هذه أي طرف معارض لنظام الأسد مهما كان انتماؤه الأيديولوجي أو توجهه السياسي، ذلك أن معايير السلطة في سخطها أو رضاها عن أي جهة سياسية هي معايير الولاء أو العداء لرأس النظام، وليس ثمة شيء آخر.
لقد أوجدت العقود الطويلة للاستبداد حالة من الموات السياسي لدى السوريين، كان من أخطر تداعياتها تكريس ثقافة الخوف والتماهي مع الحالة الراهنة باعتبارها أمراً واقعاً لدى أغلب شرائح المجتمع، وبات يغيب عن وعي كثير من السوريين أن الحالة التي عزّزها نظام الأسد ليست هي الحالة الطبيعية، وأنها حالة من العدوان الصارخ على حقوق السوريين، وبات منحى التفكير لدى كثير من الناس يميل إلى التصالح مع واقع السلطة القائم، إما بدافع الخوف من عقاب سلطوي مفتوح الاحتمالات، وإما بدافع الحرص على المصالح، وقد نجد –في أحيان أخرى– حالات كثيرة من النأي بالنفس عن أي شأن عام يثير حساسية السلطة، لقناعة عند أصحاب هذا الاتجاه بعدم جدوى أي مواجهة مع نظام أمني لا رادع لعدوانه المتوحش والمخيف.
لعلها من أهم العلامات الفارقة في 11 مارس/ آذار 2011 أنْ بدأت حالة التحرر الجمعي من الخوف بالنمو، ومع الانتشار السريع للتظاهرات في المدن والبلدات السورية وزوال هيبة الآلة القمعية للنظام، أخذت تتعافى أنفس كثير من السوريين من حالة رهاب السلطة المفروضة عليهم منذ أجيال، ما أتاح للمواطن السوري أن يتحدث بصدق ومن دون خوف من رقيب، عن مواجعه وهمومه وحقوقه المنتهكة منذ عقود، وباتت أحاديث السوريين تزخر بعدد من العبارات والمفهومات والمعاني التي كانت غائبة أو محظورة سابقاً، من مثل (حقوق الإنسان – المساواة – حرية التعبير والاعتقاد – لا شرعية قانون الطوارئ – إلخ).
لعلّ زوال الكوابح الحقيقية لحيازة السوريين حقوقهم المشروعة أو تصدّعها، وفي طليعتها حقهم في ممارسة السياسة، يجعلنا نتوقع انفتاحاً اجتماعياً نحو استرداد الحق المنهوب، وذلك من خلال انتظام الناس في أطر وكيانات سياسية، لتتمكن من التعبير عن آرائها وتوجهاتها وقناعاتها، بعيداً عن أشكال القسر والإكراه التي كانت تعانيها، إلّا أن ذلك لم يحصل بالشكل الذي كان متوقعاً، إذْ ما زال التعاطي مع الشأن السياسي، والقبول الاجتماعي بممارسة السياسة، وكذلك الانتظام ضمن أحزاب سياسية أمراً محاطاً بكثير من الريبة أحياناً، والتوجس والاستهجان أحياناً أخرى. ولئن كان أي نشاط سياسي في ظل سلطة الأسد يُعد فعلاً آثماً باعتباره اجتراحاً للمحظورات، الأمر الذي غرس انطباعاً مريباً لممارسة العمل السياسي في أذهان كثير من السوريين، إلّا أن هذا الانطباع لم يتغيّر كثيراً، على الرغم من زوال مسبباته ودواعيه، وبخاصة لدى فئة الشباب، تلك الشريحة المؤهلة أكثر من سواها لبناء نوى سياسية في سوريا، وكما كان التبرؤ من أي انتماء سياسي هو أحد أشكال الدفاع عن النفس في مواجهة بطش السلطة، فما زلنا نجد أن هذا النزوع ذاته ما زال موجوداً، ليس لدى قطاعات عامة الناس، بل لدى عدد ممن يُعدّون من المثقفين وربما المهتمين بالشأن العام، بل لعله بات أمراً اعتيادياً ومتوقعاً ان يبدأ أحدهم حديثة عن أي قضية ما، مستفتحاً كلامه: (أنا لا علاقة لي بالسياسة، ولا أنتمي إلى أي حزب) مدخلاً يبعده عن الشبهات، فما تفسير ذلك؟.
يمكن لنا الحديث بإيجاز عن أربعة عوامل، لا نراها حجةً قطعية، بقدر ماهي معاينات واقعية لحالة واكبنا نشوءها وتداعياتها:
- أولاً: لم يرث السوريون مُنجزاً سياسياً تراكمياً أنتجته الأحزاب التقليدية في المعارضة السورية، ذلك أن الأحزاب السورية التي ناهضت نظام الأسد (الأب والابن) جميعها كانت تعمل ضمن أوضاع صعبة، قوامها الملاحقات والاعتقالات والتصفيات الجسدية، ما جعل العمل السياسي أقرب إلى حالة الانتحار أو المغامرة الحياتية –وفقاً لانطباعات كثير من الناس- إضافة إلى ذلك عدم بلوغ هذه الأحزاب مرحلة من النضج التنظيمي والبرامجي معاً، فضلاً عن هشاشة البنى الفكرية الحاملة لأفكار تلك الأحزاب، ولئن كان من الصحيح أن المعارضة التقليدية السورية قد جسّدت موقفاً أخلاقياً شجاعاً في وجه الاستبداد والتسلط الأسدي، ودفعت ثمناً باهظاً من جرّاء ذلك، إلّا أن النتائج المتوخاة لم تكن توازي تلك التضحيات الهائلة، إذْ كشفت الانتفاضة السورية العظيمة أن البنى التقليدية للمعارضة السورية لم تكن عاجزة عن رفد الوعي الاجتماعي السوري بطاقات إبداعية خلّاقة فحسب، بل كانت عاجزة –أيضاً– عن الالتحاق بالشارع السوري المنتفض، بدلالة حالة الذهول والصمت التي انتابت عدداً من الأحزاب السورية في بداية انطلاقة الانتفاضة. ولعل الأهم من ذلك أن أحزاب المعارضة السورية –وبفعل عوامل القمع والتضييق الأمني– لم تكن تمتلك حاضنة شعبية تعكس تطلعاتها، وتعزز وجودها ضمن الوسط الجماهيري، وفي أحسن الأحوال لم تكن حاضنة أي حزب تتجاوز مئات من الأشخاص، باستثناء تنظيم الإخوان المسلمين الذي أتاحت له الأيديولوجيا الدينية وصولاً أسرع من سواه إلى الوجدان الشعبي العام، إلّا أن هذا التعاطف الشعبي مع الإخوان المسلمين فقد كثيراً من نسبته بعد بداية الانتفاضة.
- ثانياً: كان المأمول من انتفاضة مارس/ آذار 2011 ألّا تكون انتفاضة تهدف إلى إسقاط نظام سياسي متسلّط فحسب، بل أن تكون فرصةً للتغيير الاجتماعي بالمعنى العام، أي انتقال المجتمع السوري من حالة الرهاب والتصحّر والانغلاق إلى أفق الحرية والإبداع الثقافي والفكري والفني، وكذلك الانتقال من حالة التماهي مع القهر إلى حالة وعي الحقوق المنهوبة والسعي إلى استردادها. وبالفعل شهدنا في الأشهر الأولى من انطلاقة الانتفاضة ملامح حراك ثوري اجتماعي تظهر فيه رغبة السوريين في تجاوز شعارات التطرف والتمذهب، وكذلك يظهر فيه نزوع السوريين وتطلعهم إلى بناء دولة حديثة تتأسس على مفهومات المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون، ولكن هذا الطور الذهبي من عمر الانتفاضة سرعان ما راح ينحسر شيئاً فشيئاً، وذلك بفعل اجتياح العسكرة للمشهد السوري، وسعيها الحثيث لتجفيف واحات الحراك المدني السلمي معظمها، ما أدى إلى هيمنة السلاح هيمنة كاملة على مفاصل الحراك كلها.
وما ينبغي تأكيده بقوة هو أن إشكالية العسكرة تكمن في كون البندقية التي وُجدت على الأرض السورية لم تكن حاملة لمشروع وطني سوري واضح الملامح، ولم يكن نشاطها منسجماً مع تطلعات السوريين ونزوعهم نحو التحرر والخلاص من الاستعباد، بل كانت في أغلب أطوارها حاملة لأجندة الداعم المحلي أو الخارجي الذي يبحث عن تحقيق مصالحه من خلال استثمار دماء السوريين. وبحلول عام 2014 تحولت الأرض السورية إلى مرتع لمرتزقة العالم ومتطرفيه جميعهم، وباتت حالة العنف والدموية في الداخل السوري تحول دون لغة المنطق والسياسة، وبذلك يكون السوريون –وبخاصة فئة الشباب– قد حُرموا من فرصة استثمار المعطيات الثقافية والتوعوية للانتفاضة واستلهامها.
- ثالثاً: منذ الأيام الأولى لانطلاقة الانتفاضة، أدرك السوريون بحسّهم الفطري، ضرورة إيجاد بنى تنظيمية تعمل على إدارة عملها، وكانت تجربة (التنسيقيات) في الداخل السوري مثالاً رائداً، ثم بدأ التطلع إلى ضرورة إيجاد كيانات سياسية تقود الحراك، وتمثّل انتفاضة السوريين في المحافل الدولية، فكانت تجربة تشكيل المجلس الوطني 2012 ثم الائتلاف 2013، إلّا أن تشكيل هذين الكيانين وتجربتهما في إدارة القضية السورية كان له أثر بالغ السلبية في الوعي السوري المتطلع إلى آفاق العمل السياسي، ذلك أن المجلس الوطني والائتلاف معاً، قد اتسما –وفقاً للشارع السوري المنتفض– بما يأتي:
- عدم حيازة الإرادة الوطنية، ومن ثم ضياع القرار الوطني السوري.
- الخضوع التام للإرادات الإقليمية والدولية، والانصياع للأجندات الخارجية، ما أدى إلى التفريط بمصالح السوريين الوطنية.
- عدم القدرة على مأسسة العمل السياسي والإداري في هذين الكيانين، ومن ثم خضوعهما للإرادات والأمزجة الشخصية، فضلاً عن غياب الشفافية ومبدأ المساءلة …إلخ.
ولعل الأهم من ذلك كله، هو نزعة الاستبداد التي ظهرت لدى معظم الذين تنطعوا لقيادة السوريين، فالائتلاف مثلا، لم يجر أي تغيير جوهري في أعضائه منذ تشكيله، وذلك على الرغم من حالات الفشل والإخفاق التي واجهها، وكذلك على الرغم من حالة الشلل التي تحوط به. علماً أن الائتلاف يضم في صفوفه عدداً من الشخصيات ذات التاريخ الوطني، وربما كانت تملك هالة مضيئة في أعين السوريين، إلّا أن سلوكهم السياسي خلال ثماني سنوات من عمر الانتفاضة، أظهر للسوريين نزوعهم السلطوي الذي لا يختلف كثيراً عن النزوع السلطوي الأسدي.
إن الانطباع السيء للكيانات السياسية الرسمية في المعارضة السورية، ساهم في افتقاد جيل الشباب إلى الثقة بجدوى عمل الأحزاب، بل يرى عدد من السوريين أن التشكيلات السياسية الرسمية معظمها باتت عبئاً على الحراك.
- رابعاً: أتاح واقع النزوح الكبير الذي تعرض له السوريون، وبخاصة في بلدان الجوار (تركيا – لبنان – الأردن) لعدد من الأطراف الدولية أن تعمل على إنشاء منظمات وكيانات تدعى (إنسانية) بهدف خدمة السوريين وتقديم العون لهم، إذ إن قسماً من هذه المنظمات يعمل على خدمة السوريين في بلدان النزوح، ويعمل قسم آخر على دعم مشروعات يسميها (تنموية) في الداخل السوري، وهذه الكيانات جميعها تحمل مسمى (منظمات مجتمع مدني)، ولا يتسع سياق هذه المقالة لمناقشة دقة هذا المفهوم وصحة إطلاقه على هذه المنظمات، ولكن ما هو مؤكد أن هذه المنظمات استقطبت القسم الأكبر من الفئات الشبابية، بفضل ما تملكه من أموال طائلة، وبفضل الرواتب المغرية التي تقدمها، ولكن في موازاة ذلك كانت تفرض عليهم شروطها الصارمة، ولعل أهم تلك الشروط الحيادية في السياسة، بحجة أن عمل تلك المنظمات إنساني بحت، ويجب ألّا يخضع للتسييس، ونتيجة هذا الشرط وكذلك نتيجة ضغوط الحياة المادية والمعيشية في بلدان اللجوء، يضطر الشباب العاملون في تلك المنظمات معظمهم إلى إخفاء انحيازهم إلى الانتفاضة، والتماهي مع رغبة الجهات القائمة على تلك المنظمات، حرصاً على ما تقدمه لهم من مكاسب مادية، قد لا يجدونها حتى في بلدانهم في أيام الرخاء.
ومع امتداد هذه الحالة سنوات نتيجة غياب أي حل سياسي للقضية السورية، تتحول حالة الاعتياش السهل على ما تقدمه المنظمات من أمر استثنائي مؤقت إلى حالة اعتيادية أو طبيعية، وكذلك تغدو حالة الاضطرار إلى طي العمل الوطني والانحياز إلى الانتفاضة من حالة حرج أخلاقي إلى وضع مألوف لا يثير أي غصة ضمير. ومن ثم تصبح عملية إقناع هذه الفئات الشبابية بالخروج من حالة إفراغ الوعي الوطني التي أغرقهم بها المال مسألة غير يسيرة.
وعلى الرغم من استمرار وجود العوامل السابقة وفاعليتها في بقاء العمل السياسي داخل دائرة الشبهات، إلّا أنه لا مناص للسوريين من بذل الجهد الجبار والمخلص لإخراج مفهوم السياسة من عوالقه التي راكمها الاستبداد والتخلف إلى مدلوله الصحيح بوصفه حقاً حياتياً مشروعاً لكل فرد، يكفل له التعبير عن رأيه والمطالبة بحقوقه، وليس ميزةً متاحة لإنسان من دون آخر، وليس وسيلة لممارسة السلطة وحسب، وذلك لن يتأتى إلا بمزيد من الغنى المعرفي والجهد الثقافي الذي يستلهم حاجات الناس ومواجعهم، ولا يكتفي بالتغريد على مشارف فواجعهم.
وإني لعلى يقين من أنّ المال الذي قُدّم للفصائل العسكرية، وكذلك المال الذي قدمته ما تسمى (منظمات المجتمع المدني) لو جرى استثماره في بناء أحزاب سياسية سورية وفقاً لمعايير صحيحة ونظيفة لكان للحراك السوري وجه آخر.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.