أجرينا طيلة الأشهر القليلة الفائتة، مقابلات مع خبراء أوروبيين وأميركيين. هذه المرة، سعدنا بإجراء مقابلة مع الدكتورة نجاة السعيد، خبيرة شؤون الشرق الأوسط والباحثة الإعلامية المقيمة في دولة الإمارات العربية المتحدة. أجرى المقابلة دينيس كولسنيك، مستشار ومحلل فرنسي.
ما هي حسب رأيك الديناميكيات الرئيسية التي شكلت منطقة الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة؟ وما هي التحديات الجديدة التي يجب مواجهتها، ناهيك عن هجوم حماس الأخير على إسرائيل؟
حسب اعتقادي، فإن الديناميكية الرئيسية التي شكلت دول الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة كانت الجهود الرامية إلى تقليص المشاكل إلى لا شيء. ولهذا السبب نراهم يحاولون حل القضايا مع معظم الدول التي كانوا في صراع معها، على سبيل المثال سوريا أو تركيا. حتى أنهم بدأوا في نهاية عام 2020، أو في بداية عام 2021، بالتصالح مع قطر. وبذلك انتهى الحصار.
حدث مهم آخر صار مؤخراً وهو المصالحة بين السعودية وإيران بوساطة الصين. والسبب الرئيسي لهذه المصالحة هو إيجاد حلول للمشاكل، لأن كل هذه الصراعات أثرت بشكل كبير على المنطقة أمنيا واقتصاديا. فبكل بساطة، لا يستطيع الشرق الأوسط الاستمرار في القتال إذا كان يعتزم تطوير وتعزيز اقتصاده. ولهذا السبب بدأوا في تقليل النزاعات أو حلها، خاصة مع الدول التي كانت في صراع لفترة طويلة، على سبيل المثال المملكة العربية السعودية وإيران. وبخصوص هجوم حماس الأخير على إسرائيل، يجب أن نتذكر أن حماس ليست دولة، ونحن لا نعتبرها حتى حزبا سياسيا. هذه ميليشيا تقوم على أيديولوجيات متطرفة، بصراحة، هي أيديولوجيا إرهابية. وبمثل هذه العقلية، هم لا يريدون السلام ولا الاستقرار، لأنهم ينمون على الصراع وعدم الاستقرار. التوقيت هو كذلك مسألة نستطيع التفكير فيها؛ لماذا فعلوا ذلك الآن؟ من أكثر العناصر التي تثير غضب حماس هي المناقشات حول عملية التطبيع بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية. وكان من الواجب إخفاء هذه المناقشات حسب رأيي، لتجنب مثل هذا الوضع.
العنصر الآخر هو ضعف إدارة بايدن. أو الضعف الملحوظ على الأقل. ولم يسفر الموقف الأمريكي إلا عن تشجيع هذا الهجوم الإرهابي، حيث قامت واشنطن بإزالة الحوثيين من قائمة الإرهاب وكانت تلاحق النظام الإيراني للعودة إلى الاتفاق النووي. لقد سلمت إدارة بايدن أفغانستان إلى حركة طالبان. و منحت ملايين الدولارات للسلطة الفلسطينية وقطاع غزة. بمعنًى آخر، كانوا يحاولون القيام بالأشياء بشكل مختلف تماما عن إدارة ترامب، فقط لإثبات أن إدارة هذا الأخير ارتكبت خطأ ما. كل هذا يمكن وصفه بالسياسة الخارجية الفوضوية. فإعطاء المتطرفين “الضوء الأخضر” لمواصلة أجندتهم ثم الحديث عن السلام ليس الخيار الأفضل لتجنب الصراع، في رأيي. إن الافتقار إلى التماسك في السياسة الخارجية بين الإدارات الأميركية يشكل أحد أسباب المشاكل العديدة في الشرق الأوسط وخارجه. ولهذا السبب أرادت حماس وإيران وقف عملية التطبيع، عملية السلام، لأنهما، في البداية، لم يخشيا رد فعل الولايات المتحدة أو الغرب. ومن ناحية أخرى، هذا النوع من التطبيع، خاصة مع دولة كبيرة مثل المملكة العربية السعودية، أو محادثات السلام لإيجاد حل للصراع بين فلسطين وإسرائيل، من شأنه أن يضع حداً لهذا النوع من الميليشيات، وخاصة حماس. فالسعي إلى السلام يعني أنه لم يعد لديهم سبب مشروع للوجود لأنهم لا يريدون حتى حل الدولتين. بصراحة، لا يريدون أي حل؛ إنهم يريدون أن تستمر هذه الفوضى إلى الأبد. وأنا أرى أن هجوم حماس الأخير هو سببه السياسة الخارجية الأمريكية بصفة عامة، وإدارة بايدن تحديدًا. بالنسبة لي، هذا ليس خطأ الدول العربية على الإطلاق.
وهو ما يأخذنا إلى السؤال الثاني: لقد كان التطبيع في الشرق الأوسط تطوراً مهماً في الآونة الأخيرة. أريد أن أتحدث عن إعادة دمج النظام السوري في الجامعة العربية، واتفاقات إبراهيم، مع تقارب أفضل للمصالح بين الدول العربية. وأتساءل ما هي احتمالات أن يؤدي هجوم حماس على إسرائيل إلى عرقلة هذه العملية؟
حسناً، بعض الاتجاهات والتطورات يمكن أن تتأثر. كدخول سوريا إلى الجامعة العربية مثلًا، ما لم تكن سوريا متورطة في هذه الحرب. ولا أعتقد أن الأسد سيكون مجنونا بما فيه الكفاية لجلب المزيد من الدمار إلى بلاده التي دمرت بالفعل اقتصاديا وأمنيا وبكل الطرق الممكنة. وفي هذا الإطار، تحاول تركيا اللعب بلغة معينة. فأنقرة تريد مغازلة الرأي العام. لكنني أشك كثيراً في أن تركيا ستتدخل عسكرياً. وأحد الأسباب التي تجعلني أعتقد ذلك هو أن سياسة أردوغان هي إعطاء صوت للمسلمين، من خلال دعم جماعة الإخوان المسلمين على سبيل المثال، التي تدعم سكان قطاع غزة. لكنه في الواقع يعمل جنباً إلى جنب مع الإسرائيليين. أضف على ذلك، تصدر تركيا المنتجات الزراعية إلى إسرائيل.
نأتي إذًا إلى اتفاقيات إبراهيم. لن ينهي هجوم حماس الأخير هذا الأمر، فهو لم ينه كامب ديفيد أو اتفاق السلام الأردني. فلماذا ينهي هذا اتفاقات إبراهيم؟ لكن المؤكد أنها ستتحول إلى سلام بارد تماما بين الحكومات وحدها، في حين سيتضرر السكان المحليون. منذ بداية هذا الاتفاق، كانت المشاركة العامة محدودة. والآن سوف تتقلص بهذا الهجوم. وحتى عندما يتعلق الأمر بالاتفاقيات الحكومية، فقد يؤدي ذلك إلى إبطاء العملية قليلاً، لكنه لن ينهيها. وهذا أمر مؤكد، لأن هذه الاتفاقيات كانت مبنية على اتفاقيات أمنية وجوانب أخرى كثيرة، غير أن الاتصالات بين الأشخاص سوف تعاني بشكل كبير. هكذا أرى الأشياء.
ولكن، أود أن أسلط الضوء مرة أخرى على عدم التناسق والسياسة الخارجية الفوضوية للولايات المتحدة وإدارة بايدن والتي هي سبب الديناميكيات السلبية المختلفة في الشرق الأوسط. ومن المعروف أن النظام الإيراني يرعى ويدعم حماس والحروب بالوكالة. فلماذا لم تظهر الولايات المتحدة الصلابة منذ البداية؟ لماذا ننتظر حدوث هذه الكارثة للرد؟ وهذا ما نقوله كعرب معتدلين وما نسمعه باستمرار من العالم الغربي: أين الصوت المعتدل؟ حسنا، أنت لا تستمع إلينا. وحين تقع الكارثة فقط، يبدأ صوتنا مسموعًا. أمّا الرسالة فهي أن استرضاء المتطرفين والأنظمة مثل إيران ما كان ينبغي أن يحدث. وحقيقة أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة تتغير بشكل كبير من إدارة إلى أخرى لا تساهم في استقرار الشرق الأوسط.
يبدو أن عدم الترابط في السياسة الخارجية الأميركية لا يؤدي إلى تحسين الوضع الأمني في الشرق الأوسط وأوروبا. كما تعلمون، نفذت روسيا غزوًا واسع النطاق لأوكرانيا، سنة 2022. ولم تنضم المملكة العربية السعودية، حليفة الولايات المتحدة، إلى المعسكر الغربي، بل وجهت سياستها من أجل تحقيق أقصى استفادة من النزاع. كيف أثر هذا الصراع على الديناميكيات الإقليمية؟ وكيف يمكن تفسير موقف القوى الإقليمية الرئيسية؟
نعود للمشكلة التي أتيت على ذكرها سابقا. على سبيل المثال، عندما لا تتشاور الولايات المتحدة مع البلدان بشأن قراراتها ولا تشارك بنسبة 100% في نتائجها، فإنها تخلق المشاكل. عندما قررت الولايات المتحدة خوض مثل هذه الحرب، مثلًا، لم تأخذ بعين الاعتبار رأي دول الخليج. أما دول الخليج، بما فيها المملكة العربية السعودية، لا تحاول أن تقول إنها تدعم الغزو الروسي في هذه الحالة، لكنها لم ترى أن الولايات المتحدة عملت بجد على الحلول الدبلوماسية لهذه الأزمة التي تحولت إلى الحرب. هذه الأخيرة لها عواقب على الاقتصاد وأسعار النفط وأشياء أخرى كثيرة. ولا يمكن حسب رأيي، الدخول في حرب إلا بعد استنفاد جميع الجهود الدبلوماسية، فعندها فقط يمكن تبريرها. وهذا ليس ما رأيناه من إدارة بايدن، وكأنها كانت تخطط لخوض حرب مع روسيا منذ البداية، حتى قبل الغزو. لذلك، لعبت السعودية، في هذه الحرب، دور الحياد وجهود الوساطة والمساعدات الإنسانية للاجئين الأوكرانيين. بمعنى آخر، يمكن القول إن الرياض اتخذت موقفاً محايداً. ومع ذلك، أدان السعوديون الغزو الروسي لأوكرانيا. لقد حاولوا تقديم المساعدات الإنسانية لهذه الأخيرة مع الحفاظ على العلاقات مع روسيا. هذا هو موقفهم. بعبارة أخرى، وضعت المملكة العربية السعودية نفسها كوسيط محتمل في الحرب وروجت لعلاقاتها مع موسكو وكييف. فعندما تكون هناك حرب، يجب على شخص ما أن يلعب دور الوسيط، لأن هذه الحرب في نهاية المطاف لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. وإذا ذهب الجميع إلى الحرب فمن سيكون الوسيط في هذه الحالة؟ لذلك، لدى المملكة العربية السعودية في هذه المرحلة كل الأسباب للحفاظ على موقفها الحيادي في الحرب، وبالتالي الهروب من الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة. وتسعى الرياض جاهدة للعب دور دبلوماسي أكبر في الشؤون العالمية. فمن ناحية، لم يتوقف تعاون السعودية مع روسيا على الإطلاق. حيث تعاون البلدان في مجالات الطاقة والاستثمار وغيرها. من ناحية أخرى، أيدت المملكة العربية السعودية قرار مجلس الأمن الدولي المُدين للغزو الروسي والضم غير القانوني للأراضي في شرق أوكرانيا. وهذا ليس موقف المملكة العربية السعودية فحسب، بل موقف الإمارات العربية المتحدة ومعظم دول الخليج أيضًا. والآن، بعد هجوم حماس على إسرائيل، نستطيع رؤبة التركيز الذي يتحول من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط. والحقيقة أن الغرب يحاول حفظ ماء وجهه بعد فشله في أوكرانيا. هناك تركيز أقل فأقل على هذه الأخيرة. ويمكنني أن أستنتج هنا أن موقف السعودية المحايد منذ البداية كان صحيحا.
هي وجهة نظر مثيرة للاهتمام. وأعتقد أن مثل هذا الموقف من طرف المملكة العربية السعودية ومعظم دول الخليج يسلط الضوء أيضًا على رغبة المنطقة في الحفاظ على سياسة خارجية أكثر استقلالية. ألا تعتقدين أن هذا هو الحال؟
أجل، بالمختصر. ونتذكر أن المنطقة كانت سابقًا، وخاصة المملكة العربية السعودية، أكثر انحيازاً إلى المعسكر الغربي في العديد من القضايا ودعمت سياسات الولايات المتحدة. أمّا اليوم، هناك رغبة أكبر في تنفيذ سياساتهم وتشكيل مستقبلهم. فالمنطقة لها مكانها في العالم. والمملكة العربية السعودية تريد، كزعيم إقليمي، أن يكون لها مكان أفضل تحت الشمس. ونعود مرة أخرى إلى عدم التناسق في السياسة الخارجية للإدارات الأمريكية المختلفة، الأمر الذي جعل المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي الأخرى لا تثق في السياسة الخارجية الأمريكية. هو أمر مربك، بل ومزعج، لأنه يسبب قدرا كبيرا من عدم الاستقرار في المنطقة عندما يكون هناك نهج واحد يستمر أربع سنوات في ظل إدارة واحدة، ثم لمدة أربع سنوات أخرى هناك نهج مختلف في ظل إدارة أخرى مع سياسة خارجية جديدة تماما.
ولذلك فإن هذا النوع من التناقضات هي التي أسلط عليها الضوء وأكتب عنها دائماً، وهي التي ستعرض المنطقة للخطر وتقلل من مصداقية دور الولايات المتحدة في المنطقة، إذ لها عواقب. فماهي هذه العواقب؟
في البداية، سعت دول الخليج إلى إقامة تحالفات متعددة الأقطاب. ولهذا السبب، عززوا علاقاتهم مع الصين وروسيا والهند، وكذلك مع بعضهم البعض. ولنفس السبب أيضًا بدأوا في حل النزاعات في المنطقة. إن افتقار السياسة الخارجية الأميركية إلى المصداقية، بسبب صراعاتها الداخلية وتناقضاتها، جعل منها شريكاً لا يمكن الاعتماد عليه.
بما أنك ذكرت الصين، وقد أصبحت تلك الدولة لاعباً أجنبياً مهماً في المنطقة. كيف يمكن تفسير دور بكين في التأثير على الوضع الإقليمي؟
يجب ان نذكر هنا أن الرؤية والتوجه الصيني يختلف عن رؤية الأميركيين والغربيين عموماً. لقد قدمت الصين نفسها في موقف لم تعد فيه السياسة الخارجية غير المترابطة للولايات المتحدة خيارًا موثوقًا به بالنسبة لدول الخليج، التي بدأت بالتالي في تطوير علاقات أفضل مع بكين سعيًا وراء هذا النهج متعدد الأقطاب الذي تحدثت عنه سابقًا. وعلى عكس الولايات المتحدة، فإن الصين متناسقة في كل شيء. بداية، كانت العلاقات بين الصين ودول الخليج العربي اقتصادية، لا أكثر. ونظراً لعدم موثوقية السياسة الخارجية للولايات المتحدة، انتقلت الصين من كونها شريكاً اقتصادياً إلى شريك أكثر دبلوماسية. وقد رأينا ذلك في عملية الوساطة التي ترأستها الصين في اتفاق السلام السعودي الإيراني. وبالتالي، فهي نقطة تحول، من جهة فاعلة اقتصادية إلى جهة فاعلة أكثر دبلوماسية، كانت في السابق، طوال العقود الماضية، تركز فقط على الولايات المتحدة. ولكن إذا تغيرت السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فسنرى الدول العربية تعود إلى شراكة أفضل معها. وحين يتعلق الأمر بدورها في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، مثلًا، أعتقد أن الولايات المتحدة ستلعب دوراً أكبر. فهذا نزاع معقد للغاية، بادئ ذي بدء. ومن ناحية أخرى، هو أكثر عالمية مما يبدو. يتمتع الإسرائيليون على سبيل الذكر، بعلاقات وثيقة مع الغرب، وخاصة مع الأميركيين. ويحمل العديد منهم جنسية مزدوجة، ولهم تأثير قوي على جماعات الضغط التي ينتمون إليها في الولايات المتحدة. لذلك لا أعتقد أنهم سيقبلون أن يكون مثل هذا القرار في يد الصين، لأنه يختلف عن اتفاق السلام بين السعودية وإيران. ولكن على صعيدٍ آخر، أياً كان الدور الذي تلعبه الصين، فإنه سيظل محدوداً. آمل ألا تلعب الصين دورًا مهمًا، وأنا أتحدث هنا كمواطنة أمريكية. أرغب أن يجعل الأمريكيون سياستهم الخارجية أكثر تماسكاً وأن يحاولوا حل انقساماتهم الداخلية، لأن ذلك سيكون له تأثير على سياستهم الخارجية. ولكن مع مرور الوقت، قد تلعب الصين دورا أكبر، خاصة إذا استمرت الانقسامات داخل الحكومة الأمريكية. لو شهدنا هذه الصراعات بين الجمهوريين والديمقراطيين كل أربع سنوات، كل ثماني سنوات، وفي كل مرة تكون هناك إدارة جديدة، إذًا، كلما زادت الانقسامات في الولايات المتحدة، زادت قوة الصين في المنطقة.
فلنتحدث عن دولة الإمارات العربية المتحدة. ما هي سياستهم الخارجية؟
تُركز سياستهم الخارجية بشكل أكبر على “القوة الناعمة”. وفي الواقع، لم تشارك دولة الإمارات العربية المتحدة قط في صراعات إقليمية ، منذ البداية. وهذا هو سبب تطور البلاد إلى هذا الحد، لأنها حاولت الابتعاد عن النزاعات الإقليمية وركزت أكثر على التنمية الداخلية. وهو ما سمح لدولة الإمارات العربية المتحدة بالتفوق على الدول الكبرى في المنطقة من حيث الاستثمار والأعمال والتعليم والترفيه وكل شيء تقريبًا. ومع ذلك، كان الربيع العربي هو الذي دفع الإمارات إلى التورط إلى حد ما في الصراعات الإقليمية. وأود أن أذكركم بأن الربيع العربي كان مدعوما بشكل رئيسي من قبل الدول الغربية لتمكين جماعة الإخوان المسلمين. غير أن هذه الجماعة تشكل التهديد الرئيسي للأمن القومي لدولة الإمارات العربية المتحدة. وبالتالي بدأت دولة الإمارات العربية المتحدة في التورط في النزاعات الإقليمية حيث أنها كانت قلقة بشأن هيمنة الإسلاميين في المنطقة. أمّا فيما يتعلق بحل هذه النزاعات، تعتمد أبوظبي على “قوتها الناعمة”، أي على الدبلوماسية وقبل كل شيء على الجانب الإنساني للصراعات. وقد رأيناه مثلًا، في العمل أثناء الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا. لقد شدّدت الإمارات في المقام الأول على المساعدات الإنسانية، حتى عندما انخرطت مع السعودية في التحالف الذي يقاتل الحوثيين في اليمن، إذ سحبت قواتها من اليمن في عام 2019 وبدأت “تشارك فقط في المساعدات الإنسانية”. وهو نفس الشيء عندما حاولوا حل الصراعات الإقليمية، كالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فقد انخرطوا في اتفاقيات إبراهيم لأن سياستهم الخارجية الرئيسية كانت تقول إنه بدلاً من عدم المضي قدماً في التطبيع قبل الحل الفعلي للصراع، يمكن للتطبيع أن يكون حلاً لهذا الصراع في حد ذاته. بالمساهمة في حل هذه النزاعات بهدف تقليصها. وبخصوص علاقاتهم مع بعض الدول، نجد الحياد؛ فنحن نراهم يجتمعون مع ممثلين من الصين وروسيا. وفي الوقت نفسه، يحتفظون بعلاقات وثيقة للغاية مع الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا. وقد التقى الشيخ محمد بن زايد مؤخراً مع العديد من الممثلين من الولايات المتحدة وفرنسا. فهي بالتالي علاقة متوازنة تماماً بين الدول الغربية ودول الشرق، لأن الحياد بالنسبة للأخيرة سيمنعها من الانخراط في الصراعات. تسعى دولة الإمارات العربية المتحدة دائمًا إلى تجنب محاربة أي نوع من البلدان. فاستراتيجيتهم الرئيسية تكمن في عدم وجود مشاكل مع جميع البلدان. ولهذا السبب، فحتى مع دول كإيران، على سبيل المثال، التي غزت ثلاثًا من جزرها، هي لم تقاتل أبدًا من أجلها. وحتى في دبي، كذلك، تعتبر التجارة بين الإمارات وإيران كبيرة. ولتلخيص مقاربتهم في جملة واحدة، نستطيع القول أنهم لا يختارون المواجهة العسكرية.
لدي سؤال آخر: في أوروبا، نحن حذرون من التأثيرات الأجنبية الخبيثة، وخاصة أثناء الانتخابات. فغالباً ما يقرر الرأي العام ما يحدث في الديمقراطيات. وفي سنة 2022، نشرت كتابًا عن دبلوماسية تويتر والاستقطاب الإعلامي. فكيف يبدو الأمر في الشرق الأوسط وكيف يمكنك تفسير دور وسائل الإعلام، بما في ذلك وسائل التواصل الاجتماعي، في تشكيل عقول الناس في الشرق الأوسط؟
من المؤكد أن وسائل الإعلام لها تأثير كبير على ما يفكر فيه الناس. ولكن عندما تصبح الأمور فوضوية، أثناء الصراعات بالخصوص، يميل الناس إلى متابعة وسائل الإعلام المتوافقة مع وجهات نظرهم. هناك نظرية في الإعلام تسمى “نظرية الإشباع”؛ يختار الجمهور بإختصار، القناة التي تتوافق مع أيديولوجيته وطريقة تفكيره. وخلافاً لما كان عليه الحال في الستينيات، لم يعد لدينا قناة واحدة أو بضع قنوات وصحف، بل أصبح لدينا عدد كبير منها. زد على ذلك، لدينا وسائل التواصل الاجتماعي، مما يعني أنه لم يعد هناك جمهور سلبي، بل جمهور نشط. في زمن السلم، يشاهد الناس قنوات معينة لمعرفة ما يحدث في العالم. أمّا في أوقات الصراع، يلجأ الناس إلى قناة يعرفونها جيدًا، ولا تتعارض مع أيديولوجيتهم أو موقفهم السياسي. مثلًا، لن أشاهد قناة الجزيرة باللغة العربية أثناء النزاعات لأن ذلك قد يضايقني. أما القنوات الغربية فأنا أفضل مشاهدة فوكس نيوز ونيوزماكس مثلًا، لأنها تتوافق مع آرائي السياسية. وهذا هو بالضبط ما يحدث لمعظم الناس. لكن إذا سألتني كيف تؤثر وسائل الإعلام على الناس في عصر المعلومات والتفاعل بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، سأقول لك أنها لا تخبرك بماذا تفكر، ولا تجبرك على ذلك، لأنك حر في اختيار ما تريد. لكنهم يقررون ما تفكر فيه أو تتحدث عنه أكثر. لذا، عندما يحصل موضوع ما على الكثير من وقت البث، فذلك يعني أنه مهم حقًا. حيث أن وسائل الإعلام تتمتع بالقدرة على جعل القصة الصغيرة كبيرة والقصة الكبيرة تبدو غير ذات أهمية. على سبيل المثال، حظيت الحرب في أوكرانيا بالكثير من الاهتمام في الآونة الأخيرة، لكن الاهتمام تحول الآن إلى الوضع في غزة. وبالتالي فإن أوكرانيا لم تعد القضية الأولى، رغم أنها في الواقع ربما تكون أكثر أهمية من غزة. إذًا، حولت وسائل الإعلام تركيزها، وهو ما دفع الناس إلى فعل الشيء نفسه. انظر هنا كيف يكون لوسائل الإعلام تأثير كبير على الناس، حتى لو كانوا يعتقدون أنهم أحرار، وحتى لو كانت وسائل التواصل الاجتماعي تجعل الناس يبدون أحرارًا. فوسائل الإعلام لديها القدرة على تحديد جدول الأعمال. أرغب في أن أقدم مثالاً مثيراً للاهتمام: إن أغلبية العرب هم أكثر توجهاً نحو قناة الجزيرة. لكن حين كشفت قناة الجزيرة أن الصاروخ الذي هاجم مستشفى غزة لم يأت من إسرائيل، بل من الجناح العسكري في حماس، رأيت رد فعل الناس؛ هم لم يصدقوا ذلك. حتى أنهم هاجموا قناة الجزيرة واتهموها بالكذب. إذًا، يرغب الناس في تصديق ما يعتقدون أنه الشيء الصحيح ولا يريدون الاستماع إلى الجانب الآخر. أنت تميل إلى تصديق قناة الجزيرة، وعندما لا تتوافق الأمور مع ما تريد أو تعتقد، تصبح الجزيرة كاذبة. وينطبق الشيء نفسه على إسرائيل وأماكن أخرى من العالم. من المهم جدًّا أن تلتزم وسائل الإعلام التقليدية بمبادئ الموضوعية والحياد في أوقات الحرب والمشاعر المتصاعدة، ويجب تطبيق نفس المعيار على “Twiplomats” (الدبلوماسيون والسياسيون على وسائل التواصل الاجتماعي) بهدف تخفيف الاستقطاب في مجال الإنترنت. زيادة على ذلك، ينبغي أن يظهر المسؤولون الإسرائيليون على القنوات التلفزيونية في الدول العربية والعكس كذلك لتعزيز التفاهم.
على كل حال، تبقى أحد التحديات الرئيسية التي يواجهها المسؤولون والخبراء العرب عند الظهور في وسائل الإعلام الإسرائيلية هي خطر ردود الفعل العنيفة، حيث يمكن وصفهم بالخونة أو اعتبارهم مدافعين عن الصهيونية، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى اتهامات بإهمال القضية الفلسطينية. ويكتسب هذا السؤال أهمية خاصة بالنظر إلى العدد الكبير من الضحايا المدنيين في أوقات النزاع.
من الضروري إذًا، أن نستوعب مدى أهمية الرأي العام في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ومن المؤسف أن الجماعات المتطرفة مثل حماس وأنصارها ماهرون في استخدام وسائل الإعلام لتشكيل الرأي العام، وكثيراً ما يستخدمون الضحايا المدنيين كأداة للعلاقات العامة. في المقابل، فإن أولئك الذين يسعون إلى حل النزاع غالباً ما يكافحون من أجل الحصول على الدعم الشعبي واستخدام وسائل الإعلام بشكل فعال. في الحقيقة، من الأسهل مناشدة المشاعر في وسائل الإعلام بدلاً من الانخراط في خطاب منطقي وعقلاني.
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.