متكئاً على دراجته الهوائية الصدئة، يلتفت ابراهيم يُمنى ويُسرى لعله يجد في الحي الذي اختاره في جولته اليوم ما يملأ كيسه المهترء وقد اعتاد كتفه على حمله منذ ثلاث سنوات. يحذوه الأمل بأن تكون مخلفات الحي من العبوات الزجاجية والبلاستيكية القابلة لإعادة التدوير، أفضل من الأمس، ففي منزله المُستأجر على أطراف مدينة إدلب تتزاحم الأفواه على مائدة بسيطة، لا يملؤها سوى عمله اليومي المُضني.
كيف يبدو الوضع في إدلب؟
حال هذه الأسرة النازحة من الغوطة الشرقية يشبه إلى حد كبير حال عشرات الآلاف من العائلات التي اختارت إدلب وأريافها مكاناً للإستقرار والإقامة، سواء بشكل طوعي أملاً بـ “حرية و كرامة” لا تزال مفقودة في معظم أرجاء البلاد، أو قسراً تحت وطأة سياسة التهجير التي انتهجها النظام السوري وحلفاءه على مدار السنوات الماضية ضد المعارضين المسلحين، وأيضاً المدنيين الذين اعتبرهم “بيئة حاضنة للإرهاب”.
يقول ابراهيم، الموظف السابق في إحدى الدوائر الحكومية، خلال حديثه مع “مرصد مينا”، إنه كآلاف الأشخاص الذين اضطروا إلى مغادرة الغوطة الشرقية في شباط فبراير من العام 2018 بعد رفضهم “تسوية” أوضاعهم مع النظام السوري، تفاجئ بالواقع المزي في المنطقة، حيث يعاني النازحون من تردي الوضع الإنساني والاجتماعي بشكل كبير وعدم القدرة على تلبية احتياجاتهم ومتطلباتهم، في ظل تفشي البطالة بشكل مرتفع وانعدام سبل المعيشة لدى نسبة كبيرة منهم ووقوعهم تحت خط الفقر المدقع. أضف إلى ذلك المشكلات المرتبطة بانهيار البنية التحتية والوضع الصحي المتردي وغياب المأوى وارتفاع الأسعار والظروف الأمنية الخطرة التي يعيشون ضمنها في ظل سيطرة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) على المنطقة.
وبينما يحمّل ابراهيم المجتمع الدولي مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في سوريا، نتيجة “التساهل مع جرائم الحرب التي ارتكبها النظام”، يعتقد الناشط السوري، سامر (46 عام)، وهو الإسم الذي اختاره في حديثه لـ “مرصد مينا”، أنّ الفصائل الإسلامية والشعارات التي رفعتها أدت إلى نفور دولي وغربي عن دعم وتأييد الثورة السورية “رغم مشروعية مطالبها”، واستشهد الناشط المقيم في مدينة سرمدا بحادثة لاتزال عالقة في ذهنه، وهي طرد فصائل كانت توصف بالمعتدلة، إبان عملية “درع الفرات” عام 2016، قوات أمريكية من بلدة “الراعي” (جوبان بي) التابعة لمحافظة حلب، بعد اقتراح الأخيرة تقديم الدعم لعملية استعادة مدينة “الباب” من قبضة تنظيم “داعش”.
إبراهيم وسامر جزء من مجتمع مكوّن من قرابة 4 ملايين شخص، معظمهم من النازحين، يسكنون في المنطقة الخاضعة لسيطرة “هيئة تحرير الشام”. وتدير الهيئة التي تشكلت عام 2017 من اندماج عدة فصائل متشددة، شؤون التعليم والاقتصاد والخدمات العامة في المنطقة عبر ذراعها المسماة “حكومة الإنقاذ”. بيد أنها فشلت في تخفيف مصاعب الحياة اليومية في رقعة كبيرة من الأرض تضم أجزاء من محافظة إدلب وأرياف حلب وحماه الغربي، وجزء من ريف اللاذقية الشمالي الشرقي.
وتفرض “تحرير الشام” هيمنتها الأمنية وسلطتها العسكرية على السكان المحليين والنازحين عبر (جهاز الأمن العام). بينما تتولى “حكومة الإنقاذ” إدارة المعابر التجارية، وتتحكم في الأسعار، وتفرض الإتاوات على التجار وأصحاب المهن والمعامل والمشاريع، كما تُتهم من قبل الأهالي باحتكار السلع الاساسية مثل المحروقات والطحين والسكر والزيوت لصالح تجار يعملون لصالح الهيئة.
ورغم المحاولات اللافتة لـ “هيئة تحرير الشام” خلال الأشهر الماضية في تحسين صورتها وتعزيز شرعيتها المحلية عبر إظهار نوع من الإنفتاح واستخدام خطاب معاد للتطرف والإرهاب والترويج لمشاريع الحوكمة والإدارة المحلية، يعتقد سامر أن التحول الحاصل في نهج وسياسة “تحرير الشام” ماهو إلا محاولة من قبل الهيئة وقائدها “أبو محمد الجولاني” لإقناع المجتمع الدولي بأنها جماعة “معتدلة” يمكن التعاون معها على المستوى الدولي وإشراكها في الحل السياسي بسوريا بعد شطبها من قائمة الإرهاب.
تتفق سلمى، العاملة في إحدى المنظمات المجتمعية شمال سوريا، مع ما طرحه سامر، وتشير إلى أنّ الهيئة، ورغم محاولاتها الإدعاء بتغيير نهجها المتشدد، إلا أنّ ذلك “غرضه إعلامي صرف”. وتضيف لـ “مرصد مينا” بأنّ الجولاني زار مؤخراً قرى تقطنها أبناء الطائفة الدرزية في جبل السماق، إضافة لزيارة أخرى لقريتي اليعقوبية والقنية التي تسكنها أعداد قليلة جداً من المسيحيين وسمح لهم بإحياء ذكرى القديسة آنا الأحد الأخير من أغسطس (آب) بعد حظر دام 10 أعوام، إلا أنّه في الوقت نفسه لايزال يسمح بتجاوزات وحتى جرائم “الحزب التركستاني” المكوّن من عناصر جهادية ضد المدنيين في جبل السماق، كما يتزامن هذا من استمرار التضييق العام على السكان ومنها على سبيل المثال منع “الهيئة” للسياحة على أطراف نهر العدوسية الواقع قرب بلدة بداما بريف جسر الشغور الغربي بحجة الاختلاط بين الذكور الإناث، وهي السياسة المتبعة من قبل الهيئة حتى في المدارس الإبتدائية، متسائلة “كيف يستوي الأمران؟!”.
“سوريا التركية” ترحّب بكم!
يُطلق على الشمال السوري الخارج عن سيطرة حكومة الأسد اسم “المنطقة المحررة”. إلا أنه ومنذ عام 2017، تحوّلت هذه المنطقة إلى منطقتين أو شبه دويلتين تجمعهما الشعارات والممارسات وتفرّقهما المصالح والولاءات، حيث تسيطر هيئة تحرير الشام وذراعها التنفيذية (حكومة الإنقاذ) على مدينة إدلب ومحيطها، بينما تستحوذ “الحكومة المؤقتة” على أرياف حلب والجيب المسمى “نبع السلام” بين محافظتي الحسكة والرقة، بإشراف تركي تام.
وتحت ذريعة “حماية الأمن القومي” وضبط الحدود ومنع نشوء كيان كردي على تخومها الجنوبية، نفَّذت تركيا – بالتفاهم مع موسكو – ثلاث عمليات عسكرية شمال سورية؛ هي: عملية “درع الفرات” في آب/ أغسطس 2016، وعملية “غصن الزيتون” في شباط/ فبراير 2018، وعملية “نبع السلام” في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وهي اليوم تهدّد بتنفيذ العملية الرابعة لـ “إقامة منطقة عازلة أو آمنة بعمق 30 كيلومترا في شمال وشمال شرق سوريا وإبعاد قوات حماية الشعب التي تقود قوات سوريا الديمقراطية عن الحدود”.
وتحاول تركيا بشكل دائم التسويق إلى أن سيطرتها المباشرة أو عبر الفصائل السورية الإسلامية الموالية لها على الشمال السوري هي “عنصر استقرار”، بيد أن الأمر في الواقع على عكس ما تروّج، حيث تسود حالة من الفوضي والانفلات الأمني على المشهد في ظل صراع على النفوذ بين الفصائل الإسلامية “المعتدلة” التي ورغم انضمام معظمها إلى ما يسمى “الجيش الوطني”، إلا أنها لاتزال في حالة اقتتال شبه دائم، وبالتالي لم يسفر هذا الدمج عن تأسيس جسمٍ عسكريّ متوازن، وبقي “الجيش الوطنيّ” مفتقراً إلى التنظيم والمأسسة حتى يومنا هذا.
حالة الفوضى هذه تترافق مع انتهاكات يومية بحق المدنيين العُزّل وتشمل فرض الأتاوات والخطف والإبتزاز ومصادرة الأراضي والمحاصيل وقمع لحرية المعتقدات الدينية وفق تقارير حقوقية وشهادات حيّة. يروي وائل وهو مهندس مدني من المكون الآشوري كان يقطن في حي الكنائس بمدينة رأس العين قبل اجتياحه من قبل الأتراك والفصائل، أنّ عناصر إحدى الفصائل المسلّحة استولوا على منزله وقاموا بحرق جميع الصور والرموز الدينية في الحي الذي كانت تقطنه غالبية مسيحية.
يقول وائل لـ “مرصد مينا”: “استولى فصيل يسمّى العمشات على منزلي في رأس العين. كنت قد غادرت المدينة منذ بدء القصف التركي وتوجهت مع عائلتي إلى بلدة تل تمر ومنذ ذلك الحين تحوّل منزلي إلى مقر عسكري. حاولنا التواصل مع عناصر الفصيل لإخراج بعض الأغراض المهمة من المنزل ولكنهم رفضوا، وقالوا أموالكن وممتلكاتكم حلال لنا.. أنتم كفار”. يضيف الشاب بحُنق: “لقد خُلقت في هذه الأرض وكان جيراني في الحي من مختلف الأديان والقوميات، مسلمين وأكراد وعرب وسريان وتركمان، لم يحصل أي حساسية بيننا، بل على العكس، كنا على الدوام كأسرة واحدة”، وتابع: “أسئلة كثيرة أود طرحها على قادة الفصائل.. هل يصح أن تسمّي نفسك “جيشاً وطنياً” وأنت لاتعترف بحقوق أبناء وطنك؟ هل يصح أن تسمّي نفسك “جيشاً وطنياً” وقد أطلقتم على فصائلكم أسماء السلطان مراد وسليمان شاه ولواء سمرقند وغيرها..أين الهوية السورية في هذه الأسماء؟!”.
توقّفنا عند حديث وائل عن “الهوية السورية” وما تحمله هذه العبارة من دلالات عميقة. الصور القادمة من شوارع عفرين وتل أبيض وجرابلس والراعي وغيرها من المدن والبلدات الخاضة لسيطرة الأتراك تكشف بوضوح أنّ الهوية التركية بدأت تزاحم الهوية السورية، بل وتتجاوزها في كثير من الأحيان. حديقة “الأمّة العثمانية”، ساحة “رجب طيّب أردوغان”، مدرسة “بولانت آل بيرق”، وغيرها من الأسماء التي كرّست الصبغة التركية في مدن وبلدات وقرى ريف حلب الشمالي، أما على المستوى المدني والخدمي، فبات البروتوكول التركي جزءًا من معاملات السوريين في المنطقة، واللغة التركية إلزامية يدرسها الطلاب في المدارس، والليرة التركية هي المستخدمة في البيع والشراء.. .
يقول ناشط حقوقي من عفرين فضّل عدم ذكر اسمه: “من الواضح أنّ هناك سياسة ناعمة وخطة ممنهجة لتتريك المناطق الخاضعة لتركيا، سواء التي يشكل العرب أغلبية سكانها، مثل الباب وجرابلس وأعزاز، وأيضًا المناطق ذات الغالبية الكردية متل عفرين، هذا التتريك نجده في مختلف مناحي الحياة بريف حلب الشمالي، من حالات التغيير الديموغرافي وطمس الهوية الثقافية وفرض التعامل بالليرة التركية، ورفع العلم التركي فوق ساحاتها وميادينها وأبنية مؤسساتها العامة، وتغيير المناهج المدرسية وأسماء البلدات من العربية إلى التركية”.
ويضيف في حديث مع “مرصد مينا”: “حتى المجالس المحلية تدار من قبل الولايات التركية القريبة من الحدود السورية، مثل ولاية كلّس وغازي عينتاب، في ظل غياب أي دور حقيقي للحكومة السورية المؤقتة… باختصار هناك محاولة من حزب العدالة والتنمية وتنظيم الإخوان لنشر الثقافة التركية وإعداد جيل يدين بالولاء لتركيا بهدف ضمان مصالح أنقرة في حال تمّ التوصل إلى اتفاق سياسي مستقبلاً خرجت على إثره تركيا من سوريا”.
وبينما يُلقي “ابراهيم” في كيسه المدموغ بِحرفي “UN” ما وهبته إياه شوارع المدينة، يتمتم قائلاً: “طوبى للغرباء.. نحن الغرباء في وطننا” قبل أن يمضي في طريقه إلى المجهول، المجهول الذي ينتظره وينتظر سوريي الداخل بمختلف انتماءاتهم وولاءاتهم..
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.