قامت الثورة الليبية في السابع عشر من شباط/ فبراير 2011 من أجل إلغاء نظام الاستبداد والدكتاتورية، وكانت ثورةً من مقدمات مختلفة على صعيد الرؤية السياسية والأيديولوجية، وكان الهدف واحداً وهو إزاحة نظام القذافي من حكم البلاد من دون وجود رؤية واحدة للتحول السياسي الجديد نحو دولة مدنية ديمقراطية تحمل عبء تطوير البلاد في مختلف السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهو الأمر الذي فتح الباب على صراعات ما تزال جارية حتى الآن من دون التمكن من إيجاد قاعدة حلٍ وطني ترضى به مكونات المجتمع الليبي وقواه السياسية والمدنية والعسكرية.
هذا البحث يدرس أسباب غياب حلٍ سياسي، وطبيعة العوامل المؤدية إلى استمرار هذا الصراع وطبيعة القوى الداخلية والمصالح الإقليمية والدولية في ليبيا التي تمنع التوصل إلى حل سياسي.
استطاع الضابط الشاب معمّر القذافي المولود في مدينة سرت الليبية في السابع من يونيو/ حزيران عام 1942 القيام بانقلاب عسكري. فلقد “كوّن القذافي مجموعة الضباط الوحدويين الأحرار عام 1964، ولعب دوراً جوهرياً في الانقلاب على الحكم السنوسي في ليبيا في الأول من أيلول/ سبتمبر عام 1969، في ما أُطلق عليه لاحقاً اسم ثورة الفاتح”(1). كان القذافي ناصري الهوى والحماس، لكنّ معرفته بأمور الحكم وتوازن المصالح الإقليمية والدولية كانت غائبة عنه بسبب عمره اليافع آنذاك وقلة خبرته، وهذا ما دفعه إلى نشر “كتابه الأخضر” الذي يلخّص فيه ما أُطلق عليه “النظرية العالمية الثالثة” التي اعتبرها خطّاً ثالثاً يختلف عن الخطين العالميين الرئيسيين (الماركسية والرأسمالية).
الاستفراد بالحكم وتضخيم الذات لعبا دوراً كبيراً في خلق مآزق للدولة الليبية، وأدخل البلاد في مواجهات لا ضرورة لها، إذ أغارت طائرات حربية أمريكية على مقرّ القذافي عام 1986، تبعها حصار اقتصادي لم ينته إلا بعد دفع ليبيا مبلغاً مقداره 2.7 مليار دولار إلى أهالي ضحايا الطائرة الأمريكية التي أُسقطت فوق لوكربي الاسكتلندية. هذه الصيرورة التي انتهجها القذافي أوصلت البلاد إلى طريق تطور مسدود، نتيجة تجفيف العمل السياسي وإضعاف دور الجيش الليبي، وفساد الحكم، ونهب ثروات البلاد، والقمع الشديد.
أطراف الصراع السياسي
قبل الحديث عن الصراع السياسي الليبي والأطراف المشاركة فيه ينبغي فهم أن المجتمع الليبي لم يتجاوز بُناه القبلية على الرغم من أن حكم القذافي له استمر قرابة اثنين وأربعين عاماً. ويمكن القول “إن الإدارة العسكرية البريطانية (1943 – 1951)، والنظام الملكي السنوسي المرتكز في برقة (1951 -1969)، ونظام معمّر القذافي الثوري (1969 – 2010) قد استحدثت جميعها الرتب العليا، وفي المقام الأول من رجال قبائل ذوي خلفيات ريفية”(2).
هذه الحالة يمكن قراءتها بصورة علمية من خلال فهم أن التطورات لم تمس جوهر بنية المجتمع الليبي، مع أن ثروات ليبيا النفطية كانت قادرة على أن تُحدث تحولات اقتصادية كبرى في الصناعة والخدمات والزراعة، لو أنها رُشِّدت من قيادةٍ وطنيةٍ حريصةٍ على تطوير البلاد.
القذافي الذي اعتلى السلطة وعمره أقل من ثلاثين عاماً كان أمامه مجتمع قبلي ما قبل رأسمالي، ومن ثم فحركته العسكرية أتت من خارج سياق تطور بنية المجتمع الليبي، أي لم تأت ضرورة لإعادة بناء هذا المجتمع وفق تراتبية اقتصادية حديثة، بل إن حكم القذافي ثبّت الحالة القبلية في البلاد، وقرّب إلى الحكم الموالين القبليين له، ولهذا عندما انتصرت ثورة 17 فبراير/ شباط كان المنتصرون يمثّلون الجهويات والمناطق والطبقات والقبائل والعائلات والشخصيات والأيديولوجيات المعارضة الأكثر تهميشاً في مرحلة حكم نظام القذافي”(3).
واستطاعت المعارضة الليبية التي كانت تقوم بنشاطها من خارج البلاد أن تضع أقدامها في أحداث ثورة فبراير، وأن تنجح في الوصول إلى حصةٍ في بناء الحالة السلطوية الجديدة في ليبيا بعد سقوط نظام معمر القذافي. هذا النجاح جرى بمساندة عسكرية فاعلة أوروبية وأمريكية مباشرة بعد تدخل حلف شمال الأطلسي في الأحداث الليبية وإسقاط القذافي.
تلا سقوط النظام الليبي تشكيل المجلس الوطني الانتقالي، وهو الذي عبّر عن وجه ليبيا السياسي أمام العالم في مرحلة ما بعد القذافي. ارتبط تشكيل المجلس بمحددات أساسية منها أنه ينبغي أن يمثّل مختلف المناطق الليبية، ولذلك لعب دوراً مهماً وحاسماً في تشكيل حكومة جديدة تسيطر على مقدرات الدولة وأموالها، وهي من يمثّل البلاد في السياسة الخارجية. ولكنّ المجلس الوطني الانتقالي لم يستطع فرض كامل السيطرة على البلاد، فقد “كانت تعترض قدرته على حكم ليبيا ميليشيات إقليمية وأيديولوجية على حدٍ سواء، وتأتي أقوى الألوية من مصراته والزنتان”(4).
هذه الميليشيات كانت ذات اتجاهات سياسية وأيديولوجية مختلفة، بعضها يحمل فكراً إسلاموياً، وبعضها الآخر يحمل فكراً ليبرالياً يعكس اتجاهاً وطنياً. ولعلّ أكثر الوحدات المقاتلة الإسلامية ظهوراً كان مجلس طرابلس العسكري، ولواء 17 فبراير/ شباط من شرق ليبيا.
كان المجلس الوطني الانتقالي يحتاج إلى بناء مؤسسات الدولة من جديد، ووضع إطار لتجميع القوى جميعها داخل ليبيا من أجل رسم خطةٍ وطنية لإعادة بناء الدولة والمجتمع على قاعدة المواطنة الحقيقية. لكنّ الميليشيات كانت تقف ضدّ مركزية الدولة التي لم تقدّم لها بدائل مُرضيةً عما قدّمته من تضحيات، وما حققته من إنجازات، وفي مقدمتها إطاحة نظام معمّر القذافي. كان المطلوب أن يضع المجلس الوطني الانتقالي خطةً شاملةً متوازنةً تخصّ جوانب الأزمة كلها في البلاد، وهذا لم يحدث، إذ كان الاعتقاد أن الحسم العسكري سيحلّ الأمور، ويفرض سلطة الدولة، ويبعث الحياة في مؤسساتها من جديد.
غاب عن المجلس الوطني الانتقالي أن التدخل الدولي في إطاحة حكم معمّر القذافي لم يكن تدخلاً مجانياً، بل كانت تقف خلفه مصالح الدول المشاركة، سواءً على صعيد الفوائد الاقتصادية أم السياسية. فالفرنسيون الذين لعبوا دوراً رئيساً في حملة إسقاط القذافي كانوا متحمسين للتعاون مع المجلس الوطني الانتقالي من أجل الاستثمارات وتعويض تكاليف الحرب التي دفعتها الدولة الفرنسية لمساعدة الليبيين. وكذلك فعل الطليان.
ولكن يمكن معرفة أطراف الصراع الداخلية المتمثلة في تيار تحالف القوى الوطنية ذي الاتجاه الليبرالي من جهة والتيار الإسلامي من جهة أخرى. هذا الصراع يعبّر عن وجود قوى على الأرض ذات مصالح مختلفة، تصل درجة الاختلاف في ما بينها حدّ التناقض.
إنّ حالة الاستقطاب السياسي الكبيرة تجد قاعها في التعبير عن مصالح اقتصادية وسياسية بأدوات تبدو في صورةٍ قبلية أو دينية أو جهوية، هذه الأدوات الصراعية انقسمت إلى اتجاهين عامين ليبرالي – إسلامي. ولكن طفا على سطح الصراع بينها ما يمكن اعتباره انقساماً ما قبل وطني. هذا الانقسام يكشف بنية المجتمع الليبي بعد الاستقلال، وتحديداً في مرحلة القذافي. إذ لم تستطع حركة القذافي “ثورة الفاتح” أن تفكك أسس البنى الاجتماعية التقليدية ما قبل الوطنية على الرغم من وفرة الشروط الاقتصادية في الواقع “الثروة النفطية”، فلم يكن بإمكان القذافي صناعة إمبراطورتيه الاستبدادية إذا قام بتطوير الاقتصاد والمجتمع بما يخدم وحدته وتطوره في أنساقه الرئيسة كلها. ولهذا كانت بنية الدولة الليبية في عهد استبداد القذافي دولةً تهجس بالجانب الأمني أكثر مما تهجس ببناء الجانب الوطني. كان همّ نظام الحكم منع أي تشكيل سياسي أو اقتصادي يمكن أن يشكّل تهديداً لاحقاً على نظام الحكم. وهذا يُظهرُ لماذا أضعف النظام الليبي السابق جيش البلاد، وقدّم عليه ولاء كتائب عسكرية تخضع كل كتيبة منها لقيادته المباشرة.
لقد ورثت الثورة الليبية هذه الحالة، فكانت كتائب غرب ليبيا التي تمثلت في جهتين سياسيتين هما حكومة طرابلس التي يرأسها فايز السرّاج، وجيش اللواء خليفة حفتر المسمّى “الجيش الوطني الليبي” المدعوم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية CIA.
إذاً يمكن القول إن الصراع الجاري حالياً في ليبيا ليس صراعاً بين سلطة حكومة مركزية شرعية ومجموعة من الجماعات المتمردة، وهو أيضاً ليس صراعاً بين تياراتٍ ثورية تختلف في رؤيتها الثورية، ولكن يمكن اعتبار هذا الصراع صراعاً سياسياً أساسه السيطرة الاقتصادية والسياسية بين فرقاء لم يستطيعوا إيجاد تقاطعات توصلهم إلى بنية حكم مقبولة من الأطراف جميعها.
برامج الأطراف المتصارعة
إنّ الخلاف السياسي الذي ما يزال فاعلاً في الوضع الليبي كرّس حالة من تعدد السيادة بين طبرق وطرابلس. فقد صار كل واحد من الكيانين السياسيين الرئيسين المتصارعين يدعي لنفسه الشرعية، وحقّ حكم البلاد. قد تكون إرهاصات هذا الخلاف العميق قد بدأت مع تشكيل المجلس الوطني الانتقالي. ففي هذا التشكيل حدثت انشقاقات سياسية حادة بين كتله، ما أدى إلى خلافات سياسية دُعِمت عسكرياً من خلال التشكيلات المسلحة المختلفة التي بنيت أساساً على انتماءات سياسية في المقام الأول.
كانت الخلافات تتركز في المنطلقات الفكرية، وفي المواقف السياسية، وفي الرؤية المستقبلية للوضع الليبي لذلك يمكن التأكيد “أن الثورات بشكل عام وعلى مدار التاريخ تختلف مُخرجاتها عن أصولها، وتؤول في العادة إلى نتائج تتحكم بها كثير من العوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية”(5).
إنّ الصراع الليبي الحالي يتحمل طرفاه الرئيسيان استمراره، ونقصد بالطرفين هنا التيار الإسلامي والتيار المدني أو غير الديني. إن الانقسام بين هذين التيارين يظلّ عاملاً مؤثراً في بلورة مخرجات ثورة السابع عشر من فبراير/ شباط الليبية.
هذا الصراع يرتكز على قاعدة من فراغٍ سياسي، ويأسٍ اقتصادي، واستقطاب ما قبل وطني، يكشف عجزاً بنيوياً في تكوين المجتمع الليبي الذي ما تزال بناه ما قبل الوطنية هي الفاعلة. فلو نظرنا إلى ما جرى في سرت بعد إطاحة القذافي، سنجد أنّ “بعض القبائل فيها مثل قبيلة القذاذفة وورفلة تعتبر الانتصار الذي حققته ميليشيات مصراته هو غزو أكثر منه تحرير، فاستياؤهم من سيطرة المصراتيين هو الذي أفسح في الأصل المجال أمام تنظيم الدولة الإسلامية لدخول المدينة”(6).
إذاً جوهر الصراع وبرامجه يرتكز على تمثل البنية ما قبل الوطنية، التي تعيشها مكونات المجتمع الليبي القبلية، فلو كانت درجة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي متقدمة في البلاد، لتغيّرت برامج الصراع، وظهرت بصورة سياسية، تعبّر عن فئات طبقية اجتماعية، أكثر مما تعبّر عن قبائلية ترتدي رداءً أيديولوجياً دينياً أو ليبرالياً، هي في الواقع ترتديه لأنها لا تستطيع التعبير عن مصالحها السياسية والاقتصادية في ظلّ غياب أدوات الصراع السياسي الطبيعية وهي الأحزاب التي حاربها بشدة نظام القذافي السابق.
إن استمرار الصراع في ليبيا، تقف وراءه أسباب عدة، أدّت إلى تدهور الوضع العام في ليبيا. وهذا التدهور يرتكز على عوامل أهمها “انتشار الأسلحة لدى الجماعات والميليشيات كافة مع عدم قدرة الجيش الوطني الليبي أو حكومة الوفاق التابعة للمجلس الرئاسي على السيطرة على ذلك الوضع، إضافة إلى عدم وجود مؤسسات دولة كالجيش والشرطة، وعدم وجود حياة سياسية، ما أفرغ البلاد من الكوادر السياسية المؤهلة لقيادة ليبيا في المرحلة الانتقالية الصعبة”(7).
التدخلات في الصراع الليبي
يكشف الصراع الداخلي الليبي، الذي ما يزال مستعصياً على الحل السياسي والتوافق، أنّ ثورة فبراير/ شباط 2011 لقلب نظام حكم العقيد معمّر القذافي كانت مقدمات مختلفة، اتفقت الأطراف فيها على هدف رئيس هو إزاحة نظام الحكم الاستبدادي، لكن القوى التي قامت بهذه الثورة كانت تمتلك مقدمات مختلفة وأهدافاً متباينة. وهذا يكشف تقديم الخلاف الأيديولوجي على الاتفاق الوطني، وهو خلاف قد يدمّر البنية المجتمعية للدولة الليبية ويمزق هذه الدولة. وقد “كان لعدم توافق المجتمع الدولي على صيغة حلٍ تحفظ لمختلف الأطراف الدولية مصالحها في ليبيا أثره في عدم الضغط بقوة على أطراف الصراع الليبي للوصول إلى تسوية تحقق الاستقرار وتنهي النزاع”(8).
فهل كانت ثورة فبراير/ شباط 2011 ثورة جهات عدة منها داخلي ومنها إقليمي عربي ومنها أوروبي وغربي. فالمصريون مثلاً تدخلوا بعد ذبح داعش للأقباط المصريين، هذا التدخل أتى لمصلحة الجيش الوطني الليبي الذي يقوده اللواء خليفة حفتر. التدخل المصري عسكرياً بعث رسائل مختلفة إلى جهات عدة منها إقليمي ومنها دولي تقول إن للمصريين مصالح في ليبيا أولها سلامة أمنها القومي إضافة إلى قضايا اقتصادية تخص البلدين. والجزائر هي الأخرى تُعدّ أكثر الدول المهتمة في الآونة الأخيرة بالشأن الليبي، بسبب مخاوفها الأمنية من انتقال أسلحة وعناصر متطرفة إليها عبر حدودها مع ليبيا وهي حدود طويلة. أما بالنسبة إلى تونس فهي تعاني تدفق اللاجئين الليبيين إليها، والهاربين من مناطق العمليات الحربية، وهذا اللجوء قد يسمح بتسلل ميليشيات مسلحة إلى أراضيها، تكون معادية لاستقرار نظام حكمها، ومؤذية لوضعها الاقتصادي. ولكن تونس التي تتلقى مساعدات أوروبية لاحتواء اللاجئين على أرضها، تفعل ذلك للحدّ من تدفق اللاجئين إلى أوروبا، ولذلك من مصلحتها تأييد اتفاق سياسي وضعت خطوطه الأساسية في تونس في ما سُمي اتفاق الصخيرات. أما المغرب فهو يؤيد التدخل العسكري في ليبيا ويحاول من خلال هذا الموقف الحصول على دعمٍ أوروبي في صراعه مع الجزائر حول قضية الصحراء المغربية.
التدخل الإقليمي يتجاوز الشطر العربي في أفريقيا ليصل إلى دولتين عربيتين خليجيتين هما قطر والإمارات العربية المتحدة، تدخل هاتين الدولتين يأتي من مقدمات سياسية مختلفة تحكم سياسة كل دولة منهما فالإمارات العربية تدعم الاتجاهات الليبرالية. أما التدخل القطري فهو يصبّ في مصلحة قوى ذات اتجاه سياسي إسلامي. إن الغاية من تدخل كلٍ من الدولتين قطر والإمارات العربية المتحدة في الصراع الليبي وانحياز كل منهما إلى جهة صراعية يشير إلى رغبتهما في إيجاد مناطق نفوذ لهما في هذه البلاد. من هنا يمكن فهم موقف قطر الذي ساعد المجلس الوطني الانتقالي في إطاحة القذافي ثم كفّ عن مساعدته لتثبيت سلطته، ويقف خلف هذا الموقف القطري سبب أيديولوجي يحكم السياسة القطرية وهو دعمها للميليشيات الإسلامية التي تحدّت المجلس الوطني الانتقالي من خلال مقاومة خطوات لاستمالة مقاتليها للانخراط في جيش مؤسسي.
ولعلّ أهم المواقف الدولية ما يزال مشوشاً وغامضاً، وهو الموقف الأمريكي الذي لم يسع بجدية إلى دعم التحول السياسي في ليبيا من وضعها المشرذم إلى بنية حكم وطنية ذات مؤسسات حكم ديمقراطية. باستطاعة الأمريكيين الذين ساهموا في إطاحة حكم القذافي أن يتابعوا مساعيهم لترسيخ السلام والمساعدة في بناء الدولة الليبية الجديدة. إن الولايات المتحدة الأمريكية “تستطيع لعب دورٍ حاسم في الأزمة الليبية، والتوفيق بين الأطراف على الأرض، إذ إنها تحظى برضى الأطراف جميعها”(9).
إنّ غياب الموقف الأمريكي، وعدم اتساق مواقف الأطراف الدولية حيال الصراع الليبي يحيل على رؤية محددة وهي “أن المعنيين بالشأن الليبي دولياً جميعهم يعلنون دعمهم للاتفاق السياسي والمجلس الرئاسي والحكومة المنبثقة منه، هذا الدعم ليس موحداً ولا فاعلاً”(10).
الحل واستشرافه
الحل السياسي للصراع الجاري في ليبيا يجب أن يكون جزءًا من قناعة واستعداد فرقاء الصراع الليبيين لهذا الحل، ويمكن أن يصل الليبيون إلى هذه الرؤية إذا استطاعوا الخروج من أسر القبائلية والأيديولوجية والمناطقية. وإذا قدروا على أن يضعوا محددات ولو بالحد الأدنى لمفهوم الدولة الليبية الجديدة التي يجب أن تمثّل الجميع من دون إقصاء سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. هذه الرؤية يمكن وضع نقاط توافق أساسية لها تتمثل في أولوية مرجعية الدولة الجديدة. وليس في مرجعية القوى والميليشيات أو التيارات السياسية. هذا الأمر يمكن تحقيقه إذا توافرت لدى الأطراف جدية اعتماد الحل السياسي. هذا الحل سيفترض مقدماً أن تقدّم أطراف الصراع الرئيسة تنازلات جوهرية لمصلحة بناء الدولة الليبية. وأول هذه التنازلات سحب الأسلحة جميعها من القوى والميليشيات كلها بإشراف دولي فاعل، وحصر هذا السلاح بجيش وطني يجري التوافق على بنائه عبر الحل السياسي. وأن يشمل الحل تذويب حالة الفصائلية ليس بمعناها العسكري فحسب، بل بمعناها الاقتصادي والاجتماعي، أي دمج عناصر الميليشيات وفق خياراتهم في الحياة المدنية أو العسكرية الجديدة، وتأهيلهم وطنياً من أجل خدمة دورهم الجديد. إن الحل السياسي لا ينبغي أن يكون غامضاً أو مشوشاً، بل ينبغي أن يكون واضحاً وعادلاً حيال حقوق مكونات الشعب الليبي كلها؛ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك ينبغي أن يضع خطة لعدالة انتقالية تُعيد الحقوق إلى أصحابها وتزيل الغبن ونتائجه اللاحقة.
فإذا عجز الحل السياسي عن إيجاد صيغة حكم وطنية عادلة اجتماعياً، فهو قد أبقى الإرث السابق للنظام الاستبدادي السابق كامناً وقابلاً للانفجار، وقادراً على تشظية المجتمع والدولة، وهذا يتطلب بناء جيش وطني وظيفته حماية الوطن واستقلاله وحماية الشعب. إن وجود دستور وطني يقرّ بدولة مدنية ديمقراطية، محورها الفرد الوطني، وغايتها حريته وحياته هو من يُلغي الفروق السياسية للصراعات القائمة حالياً في ليبيا. وهو من يمهد للدمج الاجتماعي الجديد، ويُلغي الصيغ الاجتماعية ما قبل الوطنية، ويستبدلها بأدوات صراع وطنية مشروعة كالأحزاب السياسية والنقابات العمالية والمهنية ومؤسسات المجتمع المدني المختلفة. فهل يمضي فريقا الصراع الليبي الرئيسان إلى قاعدة عمل وطنية أساسها تخفيض سقف المصالح الفئوية والقبلية والجهوية من أجل الوصول إلى الدولة الليبية الجديدة؟ أم أن مصالحهم الفئوية والقبلية تتقدم على المصالح الوطنية الليبية، وهو ما يشير لاحقاً إلى تمزيق وحدة الدولة الليبية ويُضعف أطرافها جميعهم؟
المراجع
- www.aljazeera.net معمر القذافي، 22/4 /2013
- معهد واشنطن www.washingtoninstitute، الصراع على ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي 27/ فبراير شباط 2017 جيسون باك، باراك بارفي.
- www.libyaalkhabar.com بنية الصراع في ليبيا إسماعيل القريتلي.
- معهد واشنطن www.washingtoninstitute 27 فبراير/ شباط 2017 جيسون باك، باراك بارفي، الصراع على ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي.
- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. Acpss.ahram.org 17 مايو/ أيار 2017 جذور الأزمة الليبية وآفاق التسوية. د. زياد عقل.
- مركز كارنيغي للشرق الأوسط Carnegie-mec.org 22/2/2017 ليبيا بعد داعش فريدريك ويري، ولفرام لاشر.
- المركز العربي للبحوث والدراسات www.acrseg.org الصراع في ليبيا، فرص الحل والمواجهة، 15 مارس/ آذار 2017 د. طارق ثابت.
- الصراع الليبي والعودة الأمريكية www.arraedlg.net موقع الرائد 16/7/2018، علي أبو زيد.
- موقع نون بوست www.noonpost.org الاستراتيجية الأمريكية في ليبيا لا مزيد من التدخلات، 3 ديسمبر/ كانون الأول 2017 عبد الرحمن إياد.
- Blogs.aljazeera.net مدونات الجزيرة، السنوسي بسيكري.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.