بقلم نورا ناطور
إعداد أحمد الرمح
كثيراً ما نسمع جملة “صور أو مقاطع خادشة للحياء”، فيتبادر لخيالاتنا الذهنية أنها صور إباحية جنسية تثير المشاعر والغريزة الحيوانية لدى الانسان!
لكن في بلادي التعيسة الصور الخادشة للحياء والإنسانية والأخلاق والمنطق؛ تكون هذه الصور لطفل يجرّ أمامه عربة نفايات بعد أن غربلها وفصل العبوات الفارغة وقشور الخضروات والفواكه وأكياس النايلون عن بعضها بعضاً؛ لتهيئتها وإعادة تكريرها من جديد من قِبَل جهات متخصصة بهذا المجال؛ يترأسها “شيخ الكار” بعد أن غدت هذه المهنة مصدراً مهماً للرزق! ولكن على حساب الطفولة ــ الحلقة الأضعف في الوطن ــ الأكثر عمالة؛ والأقل أجراً؛ مقارنة بأجور الشباب والرجال من طبقات المجتمع المشلول العاطل عن العمل!
الصور الخادشة للحياء في بلادنا!
في بلادي المنكوبة الصور الخادشة للحياء هي أن ترى مدارساً خارج الخدمة بعد أن حُوّلت بعضها إلى أنقاض؛ وبعضها الآخر لمراكز إيواء بحجة حماية الناس من التشرّد؛ منذ أربعة عشر عاماً، وما زالت تلك المدارس خارج الخدمة، ومازال التشرّد سيد المشهد، والتهجير على قدمٍ وساق، والطفولة محرومة من التعليم!
في بلادي المنهوبة الصور الخادشة للحياء؛ هي أن ترى أطفالاً تسيح في الشوارع تبيع المعلبات والخضروات وقطع التغيير؛ يفترشون الأرصفة! ويصرخون على بضائعهم! ويتقاتلون؛ ويتناحرون فيما بينهم، وقد يصل الأمر لسفك الدماء حين يأخذ أحد اترابه زبوناً ــ من بين يديه ــ كاد يشتري منه منتجاً من البضائع التي يعرضها!
في بلادي المأزومة الصور الخادشة للحياء؛ أن تجد كتباً ممزّقة وأقلاماً ودفاتراً مرمية في الطرقات، بينما الأحذية و”الشحاحيط” منضّدة مرتّبة على واجهات المحلات التجارية تحاصرها الأضواء والأنوار من كل مكان!
العِلم في وطني حاجة ثانوية، وربما أصبح رفاهية بعد أن غدت المدارس العامة مثل مجالس (شيخ الكتّاب)! والمدارس والجامعات الخصوصية دُوراً لممارسة العلم لا لتعليمه، فهي أوضع من أن تسمى مدارس وجامعات حين تتحول عملية التعليم لعملية مص دماء الأهالي مقابل شهادات؛ لا تمت بصلة للتعليم الحقيقي الذي يعتمد على محاولات البحث والاستقراء والتمحيص والتفكير والتدبّر والتجربة،.
بينما مازالت مدارسنا وجامعاتنا تمارس التلقين والتكرار وتفسير الماء بالماء وتكرير نسخ جديدة من أجيال متشابهة! يندر فيهم الاختلاف؛ ويتكاثر بينهم التقليد والتبعية الببغاوية؛ ويمكنك مشاهدة ولمس هذا الامر عندما تجد عائلة فيها الأب طبيباً فتجد غالبية أبنائه أطباء! وحتى أحفاده، وآخر مهندساً فتجد النسخ مكررة بحرفية عالية، تكاد تصبح متطابقة، والنعّال جميع نسله؛ أو معظمهم حذّائين، والسمكري، والنجّار، والبناء…إلخ…الا ما رحم ربي!
لماذا لا نجد ابن الطبيب عالماً أو موسيقياً او حتى بنّاءً أو نجّاراً؟ الاجابة سهلة وبسيطة، فنحن الشعوب العربية نحب أنفسنا كثيراً، ونقدّسها ونمجدها، ولا نرى أحداً امامنا بل دوننا، لهذا نجد في توريث العلم كما المهنة رسالة سماوية يجب أن تحفظ في العائلة لدرجة القداسة!
التقليد مَقْتَلُ الإبداع!
لا يمكن أن يكون التعليم حراً مالم تتحرر عقولنا من فكرة التبعية التي نراها في مجتمعاتنا العربية بشكل فج وصارخ، حتى أن عمل رجل الدين أصبح مهنة، يرثها أبناؤه من بعده كونها تطعم وتسقي بلا مجهود يذكر طالما هو يدعو للحاكم والحاكم راضٍ عنه؛ ويزكيه في المجالس والمحافل!
التعليم المسخ هو التعليم الذي يخشى من التفكير والبحث عن الحقيقة ومناقشتها وإثباتها أو نفيها، لأن إثباتها يعني أننا كنا على خطأ، ونفيها يحتاج لقراءات كثيرة واستبحار والخروج عن المناهج المعلّبة من قبل الدولة، والسماح للعقول المتعطّشة للمعرفة بالاستنارة والاستزادة والاستفاضة من كتب لا تمت للمناهج بصلة، ودعم هؤلاء العقول بتقديم المساعدات إليهم عبر تأمين الكتب المناسبة للأفكار التي يريدون تطبيقها، أو فتح المجال للكتب المحرّمة فكرياً أن تكون متداولة بين أيدي من يريد التعلّم على الأقل، وفهم حركة الحياة وكيف تطوّر الانسان عبر الزمن من خلال بحثه وتجاربه الخاصة؛ لا من خلال قراءة وتعلّم؛ ما أُعدّ له مسبقاً لتلقيه وتلقينه وهضمه وترسيخه في عقله مدى الحياة.
وطبعاً هذا مالا يمكن للدول العربية أن تُقدِم عليه ما لم يكن بقرار جريء وإرادة حديدية نحو التغيير كما نرى ونشاهد اليوم كيف بدأت المملكة السعودية أو ربما قطعت شوطاً كبيراً في محاربة الفكر الارهابي والتطرّف والحد من نشر الكتب الظلامية التي لا تمت بصلة الى دول الحضارة والمدنية، ومحاولة الانفتاح على الشرق والغرب والشمال والجنوب عبر رؤية وجودية مصيرية نحو التغيير الضروري الذي تحتاجه ان أرادت اللحاق بمراكب الأمم المتحضّرة والمتنورة الساعية نحو تطوير علومها بشتى المجالات.
منذ عامين، عُرِض على شاشات التلفزة العربية والسورية مسلسلاً؛ أُلقى الضوء من خلاله على ظاهرة هروب الأطفال إلى الشوارع من المدارس برضا وعلم ومباركة الأهل ووزارة التربية والتعليم لجمع القمامة وبيعها بعد فرز محتوياتها الى جهات متخصصة كما ذكرت سابقاً.
استبشرت خيراً حين طُرِحت هذه الظاهرة لمعالجتها وتداركها وانقاذ الطفولة قبل فوات الأوان؛ لكن ما حدث فاق كل توقعاتي حين غدت هذه الظاهرة سبباً مباشراً ورئيساً عند بعض النفوس الضعيفة، وذلك بتطويع وتشغيل المزيد من الأيدي العاملة الصغيرة وتوظيفها في خدمة مشاريعهم وأطماعهم التي لا تنتهي، بل من المعيب والمخزي أكثر حين صار بين صفوف الأطفال فتيات بسن الزهر يتجولن مع الصبية بين حاويات القمامة، ويتشارعن معهم إنْ أخذ أحد الصبية حاويتها التي كانت تعمل على إفراغها من القاذورات وفرزها كما يفعل غيرها من قريناتها.
تلك المشاهد خادشة للحياء والانسانية والبراءة والطهارة لا تسيء إلى دولة بعينها، بل تسيء لمجتمع بأكمله وتدينه وتقاضيه لسماحه بمثل تلك الظواهر بالانتشار والتمادي.
من المسؤول عن تلك الظاهرة؟
تلك المشاهد تثير في نفسي القلق والرعب! فيجعلاني في تساؤل دائم من هو المسؤول الأول والثاني والثالث والعاشر؟ هل هي الدولة؟ أم الأهل؟ أم مخاتير الحي واللجان المسؤولة عن كل مدينة؟ أم وزارة التربية والتعليم؟
هل الحل أن نقطع الطريق على مشغلي الأطفال الانتهازيين؟ أم نحاسب الأهل الذين يتقاعسون عن إرسال أبنائهم إلى المدارس؟ أم أن الحل لا يمكن أن يكون مالم نقتلع مشكلة الفقر من جذوره؟ هذا العوز الذي دفع بالغالبية العظمى لانتهاج سلوك غير حضاري من أجل لقمة العيش، أم محاربة الفساد من جذوره وملاحقة الانتهازيين من فئات الشعب التي تصطاد في الماء العكر؟
كيف نستطيع أن نرتقي بالعلم والتعليم والطفولة معاً، مالم يكن هناك إرادة شعبية حقيقية من جميع طبقات المجتمع تريد التغيير والتطور والارتقاء بالوطن والانسان بعيداً عن الشعارات اللّمّاعة والبراقة!
أذكر أن هناك مجموعة شباب وشابات عملوا على جمع عدد لا بأس به من المتطوعين من أجل تنظيف أحياء مدينتهم بشكل دوري من باب نشر ثقافة النظافة العامة ــ المعدومة في وطني ــ وإذكائها وكتابة شعارات جميلة على لافتات ملونة رائعة. وبعد انتهوا اختلفوا فيما بينهم على تسمية المجموعة التي تمثّل تجمّعهم لدرجة الاقتتال، ثم انتهت برمي اللافتات في الطريق وانحلّت المجموعة قبل أن تبدأ!
كيف نرتقي وننهض؟ وما الحل؟
كيف لنا أن نرتقي وننهض طالما خلافاتنا الجوهرية قشورية، والقشور جوهر تحركاتنا! لا أرى بديلاً عن نشر الوعي بين صفوف الأطفال والأهالي؛ ولفت انتباههم إلى خطورة ما يقوم به جيل بأكمله في ابتعاده عن العلم الذي يعني الانسلاخ تماماً عن الحضارة والتطور والتقدم.
معالجة حالات الفقر والعوز لدى العوائل التي لا معيل لها بسبب الحرب وموت الأب؛ وذلك عبر تخصيص لجان نزيهة تقوم على إحصاء عدد تلك العائلات؛ ورصد مبلغ مالي شهرياً يعيلها ويساعدها على كفايتها. وملاحقة ومتابعة الاطفال الفارّين من المدارس بقيادة وزارة التربية، وتطبيق عقوبات وقرارات صارمة بشأن الأهالي قبل أبنائهم كي لا يتهاونوا في إرسالهم إلى المدارس عبر تسرّبهم غير المبرر؛ كلّما غابوا عنها، وعدم توضيح الأهل أسباب الغياب وذلك للحد من هذه الظاهرة المنفلتة المتكررة في مشاهد مدارسنا يومياً.
أخيراً:
هل سيشهد وطني نهضة تعليمية تربوية حقيقية بعد سقوط النظام؟ وفي ظل النظام المرتبك حالياً ما بين عودتنا إلى ما قبل ألف وأربعمائة عام! وبين اللحاق بمركب التطور والنهضة والتكنولوجيا التي وصلت إليها بلداناً كنا ننعتها بالدول المتخلفة! أم أن عصر النوق والخيل والحمير عاد يصرخ في صحراء عقولنا من جديد؟