الملخص التنفيذي:
تنظيم الدولة “داعش”، تنظيم سلفي جهادي مثّل ذروة تطرف التيارات الجهادية، ورفع شعار “إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ” في تفسير تعسفي لمفهوم الآية التي ظل ينتج آثاره على مدار العقود المتعاقبة؛ لتتسع مساحة التكفير عند منظري التيارات الجهادية، وبالأخص تنظيم “داعش” الذي حوّل المفاهيم العقائدية الدينية؛ لتثبيت حضوره السياسي من خلال سعيها للإطاحة بالأنظمة القائمة في كل من سورية والعراق وإنشاء نظام إسلامي عالمي.
تحاول هذه الورقة بعد التعريف بمراحل التأسيس الإيديولوجية للتنظيم؛ الوقوف بالتحليل والدراسة لعوامل تفكك التنظيم؛ والخلافات بين قادته، وفرص إعادة انبعاثه في أكثر من مكان؛ لا سيما في سورية والعراق؛ اللتين ما يزال التنظيم يحتفظ فيهما بخلايا نائمة له، إضافة إلى مجموعات مسلحة تعمل في الصحراء السورية والعراقية.
وهذا ما تناقشه الدراسة من خلال المحاور التالية:
- المدخل
- البناء الإيديولوجي، ويشمل: استراتيجية التوحش وتتمثل بمبدأ الحاكمية والولاء والبراء والعمل المسلّح بوصفه استراتيجية التغيير الكبرى.
- التحولات الاستراتيجية لتنظيم الدولة (أيديولوجية التوحش):
- “كاريزما الزرقاوي
- منظّرو إيديولوجية (التوحش) في تنظيم الدولة أبو عبد الله المهُاجرِ وأبو بكر ناجي
- إيديولوجية التنظيم بعد انهياره والخلاف بين (تيار الحازمية) و(تيار البنعلية)
- البناء الهيكلي لتنظيم داعش
- من البناء الأول إلى الثالث
- أبو إبراهيم الهاشمي القرشي والبناء الثالث
- الانتقال من الخلافة المكانية إلى الخلافة الافتراضية في استراتيجية الهاشمي
- استراتيجية العمل الجديدة لدى داعش
- آليات الاستقطاب والتجنيد للتنظيم (السعار الطائفي)
- عوامل الفشل وفرص الانبعاث من جديد
- فرص الانبعاث واستغلال الظروف السياسية والاستراتيجية والإرث الإيديولوجي للتنظيم
- خاتمة
المدخل
أثار تنظيم (داعش) تساؤلات عديدة في الأوساط الدولية على المستويات الفكرية والسياسية، انطلاقًا من أهمية الجانب الإيديولوجي الذي يشكل امتدادًا لإيديولوجية التيار السلفي الجهادي؛ وزاد على ذلك استنباط “إيديولوجية متوحشة” قدّم نفسه من خلالها كممثّل أوحد للإسلام، ليبرّر ما يقوم به من أفعال وحشية، كالتكفير، والذبح والتمثيل في الجثث، وإقامة الحدود، وسبي النساء، وتنفيذ عقوبات القتل والجلد.
البناء الإيديولوجي
تقوم إيديولوجية “الدولة الإسلامية” كما “تنظيم القاعدة” على قواعد الفكر الجهادي العالمي بأصوله وفروعه، الذي يتضمن “إقامة الحكم الإسلامي” الذي لا يتأتى إلا بالجهاد، ومن هذا الأصل القطعي، توالدت كل المفاهيم والتفاصيل والإجراءات التي أرستها الحركة السلفية العالمية”([1]) وبذلك فإن “وحدة الجذور الإيديولوجية لتنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية مشتركة، فكلاهما ينتميان بجذورهما الدينية إلى التيارات “الجهادية” المهاجرة التي تضم طيفًا واسعًا من المجموعات والشخصيات التي ترمز القاعدة إليها وتمثل فكرتها، وما تنظيم الدولة إلا انشقاق أو نتوء في القاعدة من جهة، لكنه حتمًا تطوّر طبيعي لها من جهة أخرى. إلى هذا الحد قد يمكن تلخيص الإطار الإيديولوجي العام لفكر التنظيم لكنه لا يكشف عن خصائصه، لاسيما وأن مساره العملي يُظهر تباينات واضحة مع القاعدة، واستطاع ببعض العناوين الدينية والجهادية التي تميزه أن يتوسع ويجذب عشرات آلاف المقاتلين إلى صفوفه، وهو ما لم تنجح القاعدة فيه أو لم تعمل به على الأقل.([2])
استراتيجية التوحش
تبنّى تنظيم الدولة (داعش)، استراتيجية “التوحش”، التي يغلب عليها ثلاثة مبادئ شمولية لا تختلف عن إيديولوجية تنظيم القاعدة، والتيار السلفي الجهادي العالمي. وتتمثل بالتالي:
مبدأ الحاكمية:
أي تحكيم الشريعة الإسلامية، وتكفير الحكومات التي لا تلتزم بالشريعة الإسلامية، وبهذا المحتوى الفكري تتجه إلى تمييز نفسها عن الآخرين في مجتمعاتنا بوصفها؛ مجسِّدة في ذاتها وتكوينها إطارًا لحاكمية الله؛ أي إن في داخلها الحركي يكمن الخلاص، فهي دون غيرها مدينة الله! والآخرون مدن الشيطان! ويتداعى المنطق فيسبغ هذا الإطار الحركي على نفسه مشروعية التصرف باسم الله وحاكميته! فيرى في سبيل غاياته تبريراً لكل الوسائل، مستحلًا الأرواح والدماء والأموال، براحة ضمير تامة، فكلّ تصرّف يتمّ بمضمر المشروعية الإلهية، وفي مواجهة الكفر والجاهلية.([3])
ويُعدّ أبو الأعلى المودودي أول من أعطى للمفهوم صبغة عقدية، وذلك عندما ربطه بمفهوم الألوهية؛ إذ يقول: “أول أساس من أسس الدين هو الإيمان بحاكمية الله، فهو مالك السماوات والأرضين، وكل ما فيهما ملك له وحده، تأسيساً على قوله تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. البقرة:283″.([4])
وعلى المنهج ذاته تابعه سيد قطب عندما عدَّ الإسلام “إعلاناً عاماً لتحرير الإنسان في الأرض من العبودية للعباد، وذلك بإعلان ألوهية الله وحده التي تعني: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها والتمرد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض يكون الحكم فيه للبشر بصورة من الصور. إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض.([5])
و”مملكة الله في الأرض.. لا قيام لها إلا بإزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر،([6]) وتحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة أو قهرها حتى تدفع الجزية، وتعلن استسلامها، والتخلية بين جماهيرها.. وهذه العقيدة، تعتنقها أو لا تعتنقها بكامل حريتها.([7])
وبذلك فالجذور الإيديولوجية لتنظيم الدولة، تعود إلى خطاب الحركات الأصولية الإسلامية المعاصرة المرتبطة بفكرة الحاكمية، التي بلغت مداها الأقصى لدى التنظيم في تكفير المسلمين والمجتمعات المعاصرة المناوئة لهذه الإيديولوجية. ومن الواضح أن فكرة استمداد الحاكم للسلطة مباشرةً من الله، فكرة غريبة كل الغرابة عن التصور الإسلامي؛ وذلك ما يؤكده جنوح الفقه الإسلامي إلى جعل الإمامة من المصالح المرسلة، ورفْض التيار العام من المفكرين الإسلاميين من “أهل السنة والجماعة” لفكرة الوصية.
مبدأ الولاء والبراء:
الالتزام بالجماعة المسلمة وعداء المشركين والمرتدين، وكل من يعاديها ضمنياً. ووِفقًا لعقيدة “الولاء والبراء” فليس لِلكُفَارِ أَو أتبَاع الديانات الأخرى إلا الكراهية والعداوة، وحقيقة العداوة وطبيعتها هو اختلاف الدين، وافتراق المنهجين، فإما دين الله واتباع شرعه، وموالاة عباده المؤمنين، وإما دين الباطل واتباع الهوى والشهوات والشيطان والانضمام إلى حزب الشيطان.([8])
يدمج تنظيم الدولة الإسلامية أفكارًا مثل الولاء والبراء والردّة مع قانون جزاء ديني، لتشكيل فكر سياسي ونظرة تصنّف وتكفّر فعلياً مسلمين آخرين. وبهذا المعنى، تبدو الأفكار الدينية الثورية المستمدة من الإسلام السياسي جوهرية في إيديولوجيا تنظيم الدولة كحال الأفكار الأصولية.([9])
مبدأ العمل المسلّح بوصفه استراتيجية التغيير الكبرى:
وقد دفع بها منظرو إيديولوجية تنظيم الدولة إلى أبعد حدّ من الغلو والتطرف، وهذا ما سنأتي على ذكره في الفصل القادم من الدراسة.
التحولات الاستراتيجية لتنظيم الدولة (إيديولوجية التوحش)
بُنيت تحولات الإيديولوجية المتطورة لتنظيم الدولة (داعش) على ثلاث استراتيجيات أساسية تقف على النقيض من كل التيارات السلفية الجهادية ويمكن إبراز ذلك فيما يلي:
“كاريزما الزرقاوي:
رؤية الزرقاوي الإيديولوجية الصلبة الحدّية، التي تغلّب الجانب العقائدي (الخاص بالتيار) في مجمل المواقف السياسية والعلاقة مع الآخرين”.([10]) وإلى الزرقاوي، تعود بدايات التوحش إذ ترجع الخلافات بين تنظيمَي القاعدة والدولة الإسلامية إلى المواجهات المبكّرة بينه وبين أسامة بن لادن. فقد اختلفا عندما كانا في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي، كما يحصل بين خلفائهما اليوم، حول استخدام العنف المُفرط، واستهداف المدنيين الشيعة. ووفقاً لتنظيم الدولة الإسلامية، فإن ألدّ أعداء الإسلام هم أعداء الداخل!
ويُجادل التنظيم بأن التركيز على العدو البعيد (الغرب) وتجاهل العدو القريب (الأعداء المسلمين في المنطقة، وخاصة الشيعة) عديم الجدوى. وبموجب رؤيته، سيتم استدراج العدو البعيد إلى المنطقة، كما خطط أسامة بن لادن، ولكن من خلال مهاجمة العدو القريب. والواقع أن هذا السيناريو تكشّف منذ سيطر مقاتلو تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل في شمال العراق في حزيران/يونيو 2014، واستدرجوا أكثر من 60 بلداً إلى خوض المعركة ضدّه.([11]) ولقد حذر الظواهري الزرقاوي في الرسالة المنسوبة إليه، في2005، من “مشاهد الذبح”؛ لخطورتها في معركة الإعلام التي هي “في سباق على قلوب وعقول أمتنا.([12])
منظرو إيديولوجية (التوحش) في تنظيم الدولة
يرجع تشريع “الغلِظة والشِّدة والتوحش” في تنظيم الدولة إلى شخصيتين رئيسيتين، هما:
أولاً، أبو عبد الله المهُاجرِ (عبد الرحمن العلي)
تأثر الزرقاوي كثيراً بالمهاجِر ودرسَ عليه كتاب “مسائل من فقه الجهاد”، وهو كتاب في “فقه الدماء” وضعه صاحبه “للمستسلمين لشرع الله؛ كاستسلام الميت بين يدي مغسله، بل أشد، وفيه يقرر “المهاجر” أن البلد الذي يحُكمَ فيه بالقانون بلد كفر وتجب الهجرة منه، وأن الإجماع منعقد على إباحة دمَاِء الكافر إباحة ًمطلقة؛ ما لم يكن له أمان شرعي، وأن “مناصرة المشركين ومظاهرتهم عل المسلمين كفر أٌكبر”. وأن الإسلام لا يفرِقّ بين مدني وعسكري، وأن “ما في القتل بقطع الرأس من الغلظة والشدة أمر مقصود، بل محبوب لله ورسوله”.([13])
والمهاجر مصريٌ تخرج من الجامعة الإسلامية في إسلام آباد، وشارك في الجهاد الأفغاني، ودرّس في معسكرات المجاهدين في كابل، وتولى التدريس في معسكر الزرقاوي في هيرات، وكان مرشحًا لتولي مسؤولية اللجنة العلمية والشرعية في تنظيم القاعدة، اعتقلته إيران ثم أفُرج عنه؛ وعاد إلى مصر بعُيد ْقيام الثورة.([14])
ثانياً، أبو بكر ناجي وكتابه “إدارة التوحش”
وهو من أهم الكتب والأدبيات لدى الجماعات المتطرفة في الآونة الأخيرة، وتقوم فكرته الرئيسة على استثمار حالة الفوضى في الدول الفاشلة، لإقامة ما تسمى إمارة التوحش في المناطق التي يسيطر عليها هذا التيار، وتطبيق أحكام الشريعة فيها، وهي مرحلةٌ تسبق ما تسمى إمارة التمكين، أي إقامة الدولة الإسلامية ذات السيادة الكاملة. ([15]) ويعتقد أبو بكر ناجي، أن الجهاد من أهم أبواب هداية الخلق، وأنه “شدة وغلظة وإرهاب وتشريد وإثخان”، وأن “إراقة دماء أهل الصليب وأعوانهم من المرتدين وجندهم من أوجب الواجبات”.([16]) ويقول إن الأوضاع الآن شبيهة بأوضاع حوادث الرِدّة أو بداية الجهاد، فنحتاج إلى الإثخان، وإلى أعمال مثل ما تم تجاه بني قريظة (قتلْ الرجال وسبَيْ الذراري والنساء وأخذ أموالهم) فلا بدّ من “اتباع سياسة الشدة إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذف الرعب”.([17])
وبحسب ناجي فالمشروع الوحيد المؤهل لذلك هو مشروع “السلفية الجهادية”. والملاحظ أن رائحة الدم تفوح من الكتاب كله، ومن الواضح أنّه أوجد المسوغات الفقهية التي تتناسب مع التحول في طبيعة هذه التنظيمات، وأزال من أمامها العوائق الفقهية، فأصبح هنالك تماهٍ وتزاوج كامل بين ثلاثة أمور رئيسة؛ طبيعة الصراع الطائفي الذي يتصاعد في المنطقة، والنسخة الجديدة المتأثرة بشخصية الزرقاوي الحدّية التي تميل إلى درجة أكبر من العنف، وأدبيات فقهية وفكرية، تتجاوز ما وصلت إليه أدبيات القاعدة التقليدية، وتصدم حتى شيوخ الإيديولوجيا الجهادية، ومؤسسيها المعاصرين، مثل أبي محمد المقدسي وأبي قتادة الفلسطيني وأيمن الظواهري.([18])
أيديولوجية التنظيم بعد انهياره
تصاعدت الاختلافات والانشقاقات داخل تنظيم داعش قبل مقتل خليفتهم “البغدادي” واشتملت على خلافات عقدية ومنهجية، أسفرت عن انقسامات وتحالفات متنوعة داخل التنظيم، وأنتجت تنافساً وصراعاً بين تيارين رئيسين داخل التنظيم وهما:
- تيار الحازمية، نسبة إلى أحمد بن عمر الحازمي وهو أحد المشتغلين بالعلوم الشرعية المقيمين في المملكة العربية السعودية وتم القبض عليه عام 2015.
- تيار البنعلية، نسبة إلى “تركي البنعلي” وهو شيخ بحريني وأحد تلاميذ أبي محمد المقدسي، وقُتل في سورية عام 2017 في غارة للتحالف الدولي على مدينة الرقة.
في هذا السياق مثّل الفريقان “الحازمية” و”البنعلية” الاتجاهين الرئيسين داخل تنظيم داعش، ويمكن القول إن الفريقين متفقان إلى حد كبير في معظم المسائل التي تسيطر على بنية العقل الداعشي وتتصدر خطابه، كمسألة تكفير الآخر، والحاكمية، والموقف من السياسة بمفهومها المدني الحديث وما ينبثق عنها كمسائل الانتخابات والديمقراطية.
الانقسامات في مسألة “العذر بالجهل”
أما الانقسامات بدأت تظهر داخل التنظيم، مع تبلور مسألة “العذر بالجهل”، لدى كل طرف، فالحازمية ترى أنه في مسائل التوحيد والشرك لا عذر لأحد، وأن كل من مارس أو قام بفعل من نواقض الدين فهو كافر، دون الحاجة إلى النظر في تحقق الشروط وانتفاء الموانع، ومن لم يقم بتكفير هؤلاء فهو كافر ومرتد! عملًا بالقاعدة السلفية القائلة “من لم يكفّر الكافر فهو كافر”، في حين يتفق معهم الفريق الآخر أنه لا عذر بالجهل في مسائل التوحيد والشرك، لكنهم يرفضون إطلاق “من لم يكفّر الكافر فهو كافر” على الإطلاق، وهو ما ترتب عليه تكفير التيار الأول “الحازمية” للتيار الثاني “البنعلية””، فضلا عن الانقسامات الكبيرة التي عصفت بالاتجاهين نتيجة للمسائل التي تشعبت عن هذه المسألة والاختلافات التي ترتبت عليها.([19])
وترتبط أهمية هذا التصعيد بالتوقيت الذي جاء فيه؛ إذ يأتي بالتزامن مع مساعي القيادة الحالية للتنظيم الظهور بمظهر القوة، وهو ما عبرت عنه مجموعة الهجمات التي شنها التنظيم مؤخرًا، فضلًا عن الفيلم الوثائقي الأخير الذي نشره تنظيم داعش بعنوان “النهاية والبداية” وهو الوثائقي الذي حمل دلالات عديدة عكسها الاسم نفسه، على رأسها بطبيعة الحال إيصال رسالة بأن التنظيم عائد بقوة.([20])
الانتقال من الخلافة المكانية إلى الخلافة الافتراضية في استراتيجية الهاشمي
يحاول “الخليفة” أبو إبراهيم الهاشمي القرشي إعادة بناء التنظيم، ومواجهة الانقسامات والتغلب عليها، ولكن التحديات التي تواجهه متعددة كمقتل البغدادي، وانهيار التنظيم مكانياً؛ وانقساماته الأيديولوجية بين تيارات متباينة؛ ومقتل أغلبية مؤسسيه إثر حملة التحالف الدولي؛ وانحسار ما تبقّى من عناصره في بوادي سوريا والعراق.
أمام هذه التحولات يعمل القرشي على فرض رؤيته الأيديولوجية بالقوة، وتغيير الاستراتيجية بالتخلي عن “الخلافة المكانية” والتحول إلى تنظيم أيديولوجي شبكي (افتراضي)، يتشكل من تنظيمات قُطرية وإقليمية وخلايا، تمارس ما يسمى “حرب الاستنزاف”، ليأتي بعدها رسم استراتيجية جديدة تتناسب مع وضع التنظيم الحالي، الذي فقد التمكين في الأرض، ومن ثَمَّ بدأ إعادة الهيكلة معتمدًا استراتيجية أمنية عسكرية تعتمد على السرية، تتناسب مع ظروف المرحلة الجديدة التي يمر بها التنظيم، خاصة في مناطق وجوده التقليدية في سوريا والعراق، هذا بالإضافة إلى بعض الخطوات الأخرى.([21])
وبالتالي، يمكن القول: يرتكز البناء الأيديولوجي لتنظيم الدولة (داعش) على موروث عنفي تعسفي مثخن بالجراح، ولّدته أحداث تاريخية وأخرى معاصرة يتداخل فيها التمرد والرفض والانتقام. وتأتي مسألة التحكيم بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان في العام 37 هـ كأبرز تلك الأحداث دمويةً وأكثرِها تأثيراً، التي لا ينفك تنظيم الدولة يستحضرها ويستذكر خطابها التعبوي الباعثَ للتمرد، ممثَّلاً بتكفير المسلمين، وقتل الأطفال والنساء، وقتال الجماعات الجهادية السلفية الأخرى للاستحواذ القسري على السلطة.
البناء الهيكلي لتنظيم داعش من البناء الأول إلى الثالث
مرّ تنظيم داعش بمراحل عدة، أولها مرحلة (أبو مصعب الزرقاوي) حيث كان التنظيم تابعاً لتنظيم القاعدة، ويعمل تحت اسم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. وحين قتِل الزرقاوي يوم 7 جزيران/يونيو 2006 اختير أبو عمر البغدادي أميرًا للتنظيم، كما اختير أبو حمزة المهاجر أو عبد المنعم عزّ بدوي الذي ينحدر من محافظة الشرقية بمصر، نائبًا له ووزيرًا للدفاع في التنظيم. وقد أعلن البغدادي، آنذاك، عن تأسيس الدولة الإسلامية في العراق، ليبدأ البناء الأول للتنظيم، الذي انتهى بمقتل الرجلين يوم 18 نيسان/ إبريل 2010، لتبدأ المرحلة الثانية حيث تولى أبو بكر البغدادي قيادة التنظيم، وأعلن الخلافة، لتنتهي هذه المرحلة بمقتله يوم27 ت1/أكتوبر 2019.([22])
يعدُّ تنظيم الدولة الإسلامية من أكثر التنظيمات الجهادية تطورًا على صعيد تماسك الهيكلة التنظيمية والصلابة الإيديولوجية، فقد شكّل ذروة تطور غير مألوفة في نشاط الجماعات “الجهادية” العالمية، وبدت هيكلته وأيديولوجيته مبتكرة في العديد من خصائصها واستراتيجياتها.([23])
بعد أن تمكّن التنظيم من السيطرة على الموصل وأعلن الخلافة، عمد إلى إعادة هيكلته التنظيمية من خلال إنشاء الوزارات والمجالس والمؤسسات، في خطوة مدروسة لقيام كيان بديل بعد إسقاط النظام السياسي القائم في المناطق التي استولى عليها. و”تعتمد البنية التنظيمية لـ “الدولة” على هيكلية هرمية يعدُّ “الخليفة” رأسها، ويُشرف إشرافًا مباشرًا على “المجالس”، وهي تسمية استخدمها أبو بكر البغدادي عوضًا عن تسمية الوزارات التي اعتمدها سلفه أبو عمر البغدادي، وتعدُّ “المجالس” المفاصل الأساسية لتنظيم الدولة التي تشكِّل “القيادة المركزية”، ويتمتع البغدادي بصلاحيات واسعة في تعيين وعزل رؤساء المجالس بعد أخذ رأي “مجلس الشورى”، الذي تبدو استشارته معلِمة وغير ملزمة؛ فالقرار الأخير والفصل النهائي بعد التداول للبغدادي، إبراهيم عواد إبراهيم البدري السامرائي، وهو عراقي الأصل، وبفضل سلطاته “الدينية” الواسعة يتحكم في سائر القضايا الاستراتيجية؛ فهو صاحب “الأمر والنهي” في معظم القرارات الحاسمة”([24])
على صعيد التقسيم الإداري اعتمد تنظيم الدولة مناطق تقسيم نفوذه إلى وحدات ٍإدارية يطُلقَ عليها اسم “ولايات”، وهي التسمية الإسلامية التاريخية للجغرافيا السكانية، ويتولى مسؤولية “الولايات” مجموعة من الأمراء، وهي التسمية المتداولة في التراث السياسي الإسلامي التاريخي. وقد قام التنظيم بتدشين مجموعة من الولايات الي تقع ضمن دائرة سيطرته في العراق وسوريا، وأنشأ ولايات مشتركة بين الإقليمين، أما ولايات العراق فهي: ولاية صلاح الدين، ولاية الأنبار، ولاية كركوك، ولاية نينوى، ولاية الفلوجة، ولاية بغداد، ولاية الجزيرة، ولاية دجلة. أما ولايات سورية، فهي ولاية حمص، ولاية حلب، ولاية الخير (دير الزور)، ولاية البركة (الحسكة)، ولاية البادية، ولاية الرقة، ولاية حماة، ولاية دمشق. وقد أسس التنظيم ولاية الفرات وهي ولاية مشتركة تضم مدينة البوكمال السورية ومدينة القائم العراقية والقرى المجاورة لهما.([25])
وتقُسم “الولايات” التابعة للدولة الإسلامية إلى “قواطع”، وتضم المدن، وفق تسمياتها المعُتمدة قبل سيطرة التنظيم عليها، فولاية حلب عل سبيل المثال تنقسم إلى “قاطعين” هما “قاطع منبج” وتتبع له مدن منبج وجرابلس ومسكنة، و”قاطع الباب” وتتبع له مدينتا الباب ودير حافر، ويمثل السلطة العليا في كل “ولاية” مسؤول يعيِّنه تنظيم الدولة يحمل لقب “والي”، ويعاونه مجموعة من المسؤولين يحملون صفة “أمير”، أمثال “الأمير العسكري”، و”الأمير الشرعي” الذي يرأس “الهيئة الشرعية”، والأمير الأمني فيما يعدُّ “أمير القاطع” السلطة الأعلى في كل “قاطع”، ويعاون كذلك مجموعة من الأمراء في المجال “العسكري والشرعي والأمني”؛ الأمر الذي يسري ويتُبعَ في المدن كافة، ويشرف “الولاة” ومعاونوهم من “الأمراء” عل “أمراء القواطع” ومعاونيهم، ويشرف هؤلاء، بدورهم على “أمراء المدن” ومعاونيهم.([26])
الهاشمي والبناء الثالث
بعد مقتل أبي بكر البغدادي في ديسمبر/كانون الأول عام 2019م، ومن قبله هزيمة التنظيم في سوريا والعراق مكانياً، “ظل التنظيم قائماً وملتزماً بتكتيكات حرب “النكاية” أو المناكفة لكل الأنظمة التي لا يرضى عنها، وقد بدأ بالفعل في مرحلة جديدة من التّجميع والتجنيد والاستنزاف تمهيداً للعودة، وهذا لم يتم من فراغ، بل من خلال خطة محكمة تمّ فيها مقاومة الصعوبات التي واجهته عقب مقتل أبي بكر البغدادي، وأعاد البناء والهيكلة لأجهزته المتعددة، لتتغير خارطة تموضعه، وينتقل من التمركز إلى الانتشار والتمدد وحروب الاستنزاف.([27])
استراتيجية العمل الجديدة لدى داعش
ترتكز استراتيجيته الجديدة على ما يلي:
- انتهاج أسلوب المبادرة والمبادأة، أي اختيار المكان والزمان للقيام بعمليات إرهابية نوعية أكثر عنفا، تزهق العدد الأكبر من الأرواح.
- الانتقال من دولة الخلافة الواقعية إلى مرحلة الدولة الافتراضية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتسخيرها لخدمة “التنظيم”، في محاولة لإعادة التنظيم وبث الروح المعنوية من جديد، وتعيين ولاة وأمراء عوضًا عن الذين قتلوا في المعارك وعن الهاربين.
- الدعوة إلى توحيد الحركة الجهادية تحت زعامة الهاشمي في محاولة منه للإمساك بإدارة التنظيم، ورأب صدع الانشقاقات الأيديولوجية.
- والركيزة الأخيرة تخصّ كل الذين تعجّلوا في إعلان النصر على “داعش”، في أن المعركة لم تضع أوزارها بعد، وأن الذي تغير هو شكل الصراع ووسائله وربما ساحاته، بيد أنّ التنظيم “باق” ومستمر.
آليات الاستقطاب (التجنيد)
خلال أقل من عقد على ولادة تنظيم “الدولة” برزت ماكينته الإعلامية كجيش موازٍ أو رديفٍ لعسكر التنظيم، متوغلاً في العالم، وَفْق خطة إعلامية تحقق طموحات مؤسسيه التي رسمت تفاصيلها “الطفــرة الحقيقيــة والكبــرى التــي أحدثهــا تنظيــم داعــش وكانــت علــى مســتوى الدعايــة العالميــة والقــدرة الهائلــة علــى التجنيــد والتحــول فــي نظريــة العمــل مـن الجانـب النخبـوي إلـى الجانـب الجماهيـري، ومــن الطــرق الاصطفائية المعقــدة إلــى الســريعة فــي التجنيــد والتخطيــط للعمليــات، ومــن الأهــداف المحــددة والمقيــدة إلــى قائمــة واســعة مــن الأهــداف، ومــن التخطيــط المنظــم إلــى العمــل الفــردي المنفلــت. وثمــة عوامــل متعــددة لا عامــل واحــد يقــف وراء الكفــاءة فــي التجنيــد غيــر المســبوقة علــى صعيــد الجماعــات الإرهابيــة.([28])
ومن أبرز هذه العوامل:
العامل السياسي (السعار الطائفي):
إن فشل الأنظمة السياسية في سورية والعراق ولبنان وسواها من بلدان الشرق الأوسط في بناء الدولة الوطنية، أوجد الأرض الخصبة المشبعة بالأفكار الصلبة المتشددة، فاستوعب تنظيم “الدولة” آلاف الشباب في صفوفه لمواجهة الحرب الطائفية التي أعلنها نظاما الحكم في دمشق وبغداد برعاية إيرانية، و”أصبحت “الطائفية” كلمة مفتاحية أساسية في حرف طبائع الصراع وأداة فعالة تستخدمها الأنظمة والجماعات لتحقيق أهداف إيديولوجية وسياسية. فقد عمل نظام الأسد منذ البداية على ترويج خطاب التخويف الطائفي لتحويل مسار الصراع من ثورة ضد فساد واستبداد النظام إلى صراع طائفي بين الأكثرية السنية والأقليات المسيحية والعلوية والدرزية، لجلب الدعم الإيراني الشيعي، كما استثمرت القوى السلفية الجهادية على اختلاف مسمياتها موضوعة الطائفية في توصيف نزاعها وطبيعة حربها ضد النظام.([29])
وفي هذا السياق غذّى نوري المالكي رئيس حكومة العراق الأسبق حينذاك الروح الطائفية، ففي إحدى خطاباته أعلن بأن ما يحدث من مواجهة بين “الحشد الشيعي” وتنظيم الدولة “داعش” هو أن الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، والحسين لم ينته، وما يزال موجودًا، والمواجهة بين أنصار يزيد وأنصار الحسين قائمة، فالجريمة التي ارتكبت بحق الحسين لم تنته، لقد أعدوا العدة لاستهداف زائري مقام الحسين، وتخريب أجواء الزيارة.([30]) وهذا أحد أهم أسباب استقطاب الشباب للارتماء في حضن التنظيم.
العامل الاقتصادي
أسفرت سياسات الدولة بطبائعها الريعية الفاسدة، وأنظمتها النيو ليبرالية الرثة عن انهيار الطبقة الوسطى، وغياب الشفافية وهيمنة المحسوبية وفقدان المساواة، الأمر الذي أدى إلى انعدام الفرص الاقتصادية وضعف نظم الرعاية الاجتماعية التي توفرها الدولة، وعلى المواطنين العرب اللجوء إلى أطراف أخرى بديلة عن الدولة والقطاعات الاقتصادية القانونية.
وحين نفذت الدول العربية برامج التحرير الاقتصادي، فوضت أنظمة الرعاية الاجتماعية القائمة وألغت ضمانات التوظيف، في القطاع العام من دون تقديم بدائل. ولم تعزز الحكومات العربية الاستثمارات في القطاعات الإنتاجية، ولم تولد اقتصاداتها العدد الكافي من الوظائف المطلوبة ولا النوعية الضرورية. والواقع إن أعلى مستويات البطالة تُسجل اليوم في صفوف الأشخاص الحائزين على شهادات التعليم العالي.([31])
وبذلك استغل تنظيم داعش رغبة أفراد الفئات المهمشة في الانتقام من المجتمع، وخاصة الذين لم يحصلوا على فرصة للتعليم، ولم يتمكنوا من إيجاد وظائف، وفوق ذلك يفقدون أسرهم، حيث تفتقر الكثير من المناطق التي يقطنون بها لروح المجتمع. ومن ثم، يجد الشباب هذه الجماعات المتطرفة التي تفتح لهم ذراعيها وتقدم لهم كياناً يمكّنهم من الانتماء إليه والارتباط به، وتشعرهم بالقبول وبروح الجماعة، وتزرع بداخلهم شعور الثقة بالذات، والأهمية والتميز. فتكون النتيجة أن تلك الفئات المهمشة والمضطهدة يصبح انتماؤها إلى المعتدي، وتصبح عدوانية في مواجهة المجتمع الذي تراه عنيفاً، وبالتالي يحاكون المعتدي الذي ينتمون إليه.([32])
عوامل الفشل وفرص الانبعاث
يمكن النظر إلى عوامل فشل التنظيم وما حققه من مكاسب وما يمتلكه حاليًا من نقاط قوة ومكامن ضعف على النحو التالي:
سياسياً، بعد إعلان دولته في العام 2014م مصحوبًا بخطاب معادٍ لكل دول العالم، دخل التنظيم في صراع مفتوح مع دول الجوار، ومع مجموعة الدول الفاعلة دوليًا، والتي تمكنت من تشكيل تحالف عسكري دولي لمحاربته، اعتمادًا على دول إقليمية تحركها مصالح متشابكة، يستغلها التنظيم حاليًا كعامل من عوامل انبعاثه.
عسكرياً، تمكّن التنظيم بعد سيطرته على مساحات جغرافية شاسعة في العراق وسورية، من فرض إرادته وسلطته وقوانينه في مجتمع رزح طوال نصف قرن تحت نير الفقر وغلاء الأسعار وتدني مستوى المعيشة، وإلغاء مشاركته في الحياة السياسية، وما يتصل بذلك من ملاحقات أمنية، وسار التنظيم على ذات المشهد الدراماتيكي الإقصائي وذلك بالتخلص من القادة العسكريين وناشطي الثورة المدنيين في سورية.
وأما فصائل الجيش الحر والمجاميع القبلية التي تصدت له؛ فقد تعرضت لمذابح جماعية، وانهارت أمام مقاتلي التنظيم، بينما سلمت بعضها دون قتال، واختصر التنظيم احتكار السلاح بجنوده الذين يصولون ويجولون ممارسين أعمالًا سيادية بالقوة المفرطة. بعد أن تخلص التنظيم من خصومه المحليين. ولكن العمليات العسكرية الجوية والبرية للتحالف الدولي أفقدته العشرات من قادته، وبات ذلك من أبرز الأسباب الرئيسة لانكماشه وتراجعه ميدانيًا.
اجتماعياً، بعد تحوله إلى سلطة “دولة” بدأت تواجهه مشكلات اجتماعية كبيرة إثر إطلاق جملة من القوانين، ومن يخالفها يلاقي عقوبة بحسب نوع المخالفة، لذلك تجد دومًا الأهالي يتعرضون في الأسواق العامة لعقوبة الجلد التي تبدأ بسبب التدخين إلى حمل السلاح إلى نقد سلوكية العناصر، وبات يعتمد أسلوب القوة لترهيب الناس وإخضاعهم لسلطانه، وكانت أكبر المشاكل التي واجهته، مشكلة الأقليات الدينية والطائفية، وبذلك فإن أسلوب التنظيم في ممارسة السلطة، وحجم المظالم التي ارتكبها ونفور الحاضنة الشعبية منه جراء هذه الممارسة، حولت المناطق الخاضعة لسيطرته إلى أشد المناطق كراهية له ما أفقده عنصر تمدده الأهم بعد خسارة الحاضنة الأهلية.([33])
اقتصاديًا، افتقد التنظيم لموارده المالية المتنوعة بعد خسارته مراكز الطاقة التي لم يتبقَّ منها إلا تجارته مع نظام الأسد وإيران في البادية السورية، كما فقد كل المعابر الحدودية مع تركيا والأردن والعراق، ومع خسارة خطوط إمداده التي كان يسيطر عليها، انعكس ذلك سلبًا على تحركاته الميدانية.
فرص الانبعاث
واجه تنظيم داعش عقب مقتل أبي بكر البغدادي تحديات وصعوبات؛ هددت وحدته بعد القضاء على خلافته المكانية، وهو ما حاول خليفته الجديد أبو إبراهيم الهاشمي القرشي مواجهتها باستراتيجية جديدة، للانبعاث من جديد وفق الظروف التالية:
الظروف السياسية: إحــدى أهــم الفرص فــي ترســيم معالــم مستقبل تنظيم داعـش، أن الأسباب والشــروط التــي تقــف وراء انتشــاره وصعــوده مركّبــة ومعقـّـدة، ففــي العراق وسورية تمثل الأزمة الســنية مفتاحــًا رئيســًا لفهــم ســبب قــوة التنظيــم وتجــذره، فــي مواجهــة النفــوذ الإيراني المتنامــي بعــد احتلال العــراق 2003 إذ اســتغل التنظيــم مشــاعر الغضــب والتهميــش لــدى الســنة لتجنيــد الآلاف، واســتقطب القيــادات الســابقة فــي الجيــش العراقــي وحــزب البعــث فحــدث التــزاوج بيــن الطرفيــن الفاعليــن الســنيين الغاضبيــن والإيديولوجيا الجهاديــة العالميــة بنســخة أبــي مصعــب الزرقــاوي. كمــا أكــدت تجــارب الجماعــات الجهاديــة الراديكاليــة المتطرفــة أن هزيمتهــا العســكرية أو مقتــل قياداتهــا لا يعنــي بالضــرورة نهايــة التنظيــم وفكــره الدينــي.([34])
كما أن مواقف الأطراف في التحالفات والتكتلات الإقليمية والدولية، مثلما كانت أحد أهم أسباب هزيمة التنظيم هي ذاتها تعطي للتنظيم فرصة لانبعاثه، فمـن المعـروف أن هزيمته جاءت بتواطؤ الجميع: الأمريكيين والــروس والإيرانيين والأتراك والحكومــات المحليــة والأكراد، “فكانـت المفارقـات مثلًا فـي العـراق أن الطائــرات الأميركية تقصــف مــن الجــو وقاســم ســليماني قائــد فيلــق القــدس الإيراني، يقاتل تحت المظلة الأمريكية على الأرض، وهو ذاته قتـل بقصـف صاروخـي أميركـي بدايــة العــام 2020، فالجميــع اتفقــوا علــى إنهــاء دولــة داعــش، لكــن السياســات نفســها عــادت إلــى الاختلاف والصــراع فــي كل مــن العــراق وســورية، فالتوتــر الإيراني/الأميركي شــديد، والعلاقات الروســية/التركيــة فــي سـورية مضطربـة، والأكراد والأتراك، مـا يعنـي العـودة إلـى الظـروف والشـروط السـابقة التـي اســتثمرتها داعــش وســاهمت فــي صعــودها. لا يعنــي ذلــك بالضــرورة تكــرار التجربــة، لكنــه يعنــي إعطــاء التنظيــم الفرصــة بدرجــة أفضـل لإعادة الهيكلـة والتكيّـف والنظـر فـي اســتراتيجياته القادمــة”([35])
ظروف استراتيجية، متعلقة بالتحالف الدولي والإقليمي، واستغلالها في تفسير هزيمته العسكرية وتوظيفها طائفيًا لدغدغة مشاعر المهمشين والمحبطين الغاضبين من السلطات الاستبدادية في المنطقة في محاولة استقطابهم وتجنيدهم.
إرث التنظيم الأيديولوجي ممثلاً بـ “أشبال الخلافة” وهم جيل من الأطفال السوريين والعراقيين وغيرهم من دول أخرى، خضعوا على مدار أعوام لعمليات أدلجة وتدريب عسكري، ويقبع الآلاف منهم في معتقلات الهول أو معسكرات اعتقال أخرى دون أن تجد الدول والمنظمات المعنية بمكافحة الإرهاب حلولًا مناسبة لإعادة تأهيل هذا الجيل والاهتمام بمآلاته المستقبلية.
التوصية
لا يمكن الحديث عن انهيار تنظيم الدولة بعد هزيمته العسكرية، رغم مؤشرات اندحاره، فطالما بقيت الأسباب التي أنجبت التنظيم قائمة، كأحد محركات الصراع في المنطقة، والمتمثلة في تصاعد حدة (السعار الطائفي) الذي تغذيه الدول الدينية كإيران والتنظيمات الراديكالية الإسلامية، واستمرار بقاء الأنظمة الديكتاتورية في سدة الحكم مع كل جرائمها الشنيعة، وتغليب الغرب مصالحه الخاصة على مصالح الشعوب الأخرى. بات الفصل في الصراع القائم تتحكم به القوة، لا إجراءات العدالة في وقت تراجعت فيه سلطة ما يسمى بالشرعية الدولية. من هنا، ستبقى المنطقة أشبه ببراميل من البارود يمكن أن تنفجر تباعًا، مع انبعاث تنظيم داعش من جديد، أو ولادة تنظيم آخر، سوف يكون تنظيم “داعش” قياسًا له، ربما، أكثر رحمة وأقل تطرفًا.
هوامش
[1] ـ جبهة النصرة من التأسيس إلى التشكيلات المتعاقبة، الدور والآفاق في الحرب السورية” مركز مينا لدراسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، رابط الكتروني
[2] ـ شفيق شقير “الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية“، مركز الجزيرة للدراسات، رابط الكتروني
[3] ـ أبو القاسم حاج حمد، “الحاكمية”، بيروت: دار الساقي، ط1، 2010م، ص:39.
[4] ـ المرجع السابق.
[5] ـ سيد قطب، “في ظلال القرآن”، القاهرة: دار الشروق، الطبعة الشرعية الثلاثون، (1422ﻫ/2001م)، ج3، ص:1433.
[6] ـ المرجع السابق، ص:1435.
[7] ـ محمد يتيم “الحاكمية الإلهية وسيادة الأمة. تمحيص وتدقيق”
[8] ـ المرجع السابق، ص:1433.
[9] ـ محمد بن سعيد بن سالم القحطاني، “الولاء والبراء في الإسلام من مفاهيم عقيدة السلف”، القاهرة: المكتبة التوفيقية، ط7، 2014م، ص106.
[10] ـ حسن أبو رمان “هكذا تشكّلت “إيديولوجيا التوحّش”، العربي الجديد، الرابط الالكتروني https://www.alaraby.co.uk/
[11] ـ حسن حسن، “طائفية تنظيم الدولة الإسلامية: الجذور الإيديولوجية والسياق السياسي”، الرابط الالكتروني https://carnegie-mec.org/2016/06/13/ar-pub-63756
[12] ـ “تنظيم “الدولة الإسلامية”: النشأة والتأثير والمستقبل”، مركز الجزيرة للدراسات، ص (32). الرابط الالكتروني https://studies.aljazeera.net/ar/ebooks/book-1230
[13] ـ أبو عبد الله المهاجر، “مسائل من فقه الجهاد، ص: (34، 38، 271، 409).
[14] ـ الخطيب معتز، (“تنظيم الدولة الإسلامية”: البنية الفكرية وتعقيدات الواقع)، مركز الجزيرة للدراسات، الرابط الالكتروني: https://studies.aljazeera.net/ar/files/isil/2014/11/2014112355523312655.html
[15] ـ د. أبو رمان، محمد “هكذا تشكّلت “إيديولوجيا التوحّش”، العربي الجديد، الرابط الالكتروني https://www.alaraby.co.uk/
[16] ـ أبو بكر ناجي (إدارة التوحش” أخطر مرحلة ستمر بها الأمة) ص (31، 32).
[17] ـ المرجع السابق.
[18] ـ د. أبو رمان، محمد، “هكذا تشكّلت “إيديولوجيا التوحّش”، العربي الجديد، الرابط الإلكتروني https://www.alaraby.co.uk/
[19] ـ “مؤسسة التراث العلمي” نموذجا.. تحذير من “الأفكار الأكثر عنفا” لانشقاقات داعش”، قناة الحرة، الرابط الالكتروني: https://www.alhurra.com/arabic-and-international/2021/03/30
[20] ـ “تصاعد الاختلافات والانشقاقات داخل تنظيم داعش. الرسائل وأبرز الدلالات”، المرصد المصري، الرابط الإلكتروني: https://marsad.ecsstudies.com/51454/
[21] ـ “داعش من التمكين إلى الانتشار. البناء الثالث”، تريندز، الرابط الإلكتروني: https://trendsresearch.org/ar/research
[22] ـ المرجع السابق.
[23] ـ تنظيم الدولة ما بعد البغدادي”، الجزيرة نت، الرابط الإلكتروني: https://www.aljazeera.net/opinions/2019/10/30/
[24] ـ “البناء الهيكلي لتنظيم الدولة الإسلامية”، مركز الجزيرة للدراسات، الرابط الالكتروني: https://studies.aljazeera.net/ar/files/isil/2014/11/2014112363816513973.html
[25] ـ حسن أبو هنية، “الجهادية العربية؛ اندماج الأبعاد: النكاية والتمكين بين ‘ الدولة الإسلامية ‘ و ‘ قاعدة الجهاد”، المركز العربي للدراسات، الرابط الالكتروني: https://books.google.com/books?id=LhWLDwAAQBAJ&pg=RA1-PT139&lpg=RA1-PT139&dq
[26] ـ “البناء الهيكلي لتنظيم الدولة الإسلامية”، مركز الجزيرة للدراسات، الرابط الإلكتروني: https://studies.aljazeera.net/ar/files/isil/2014/11/2014112363816513973.html
[27] ـ “داعش من التمكين إلى الانتشار. البناء الثالث”، تريندز، الرابط الإلكتروني: https://trendsresearch.org/ar/research
[28] ـ د. أبو رمان، محمد، “مسـتقبل داعـش: عوامـل القـوة والضعـف … ديناميكيـات “الخلافة الافتراضية” وفجـوة اسـتراتيجيات مكافحـة الإرهاب”، الرابط الإلكتروني: http://library.fes.de/pdf-files/bueros/amman/16942.pdf
[29] ـ هنية، أبو حسن، “الجهادية العربية: اندماج الأبعاد -النكاية والتمكين بين “الدولة الإسلامية” و “قاعدة الجهاد”، المركز العربي للأبحاث والدراسات، الرابط الإلكتروني: https://books.google.com/books?id=LhWLDwAAQBAJ&pg=RA1-PT322&lpg=RA1-PT322&dq
[30] ـ المصطفى، تركي، “تنظيم “الدولة”. أسباب التمدد وعوامل الانكماش”، بلدي نيوز، الرابط الإلكتروني: https://www.baladi-news.com/ar/articles/22182/
[31] ـ هنية، أبو حسن، “جاذبية تنظيم الدولة”: نظريات الاستقطاب”، مؤسسة فريدريش إيربت، الرابط الإلكتروني: http://library.fes.de/pdf-files/bueros/amman/12553-20160728.pdf
[32] ـ هاني هنري، “تحليل سيكولوجية الإرهابيين وسبب انضمام الشباب إلى الجماعات الإرهابية”، الجامعة الأميركية بالقاهرة، الرابط الإلكتروني: https://www.aucegypt.edu/index.php/ar/node/2448
[33] ـ المصطفى، تركي، “تنظيم “الدولة”.. أسباب التمدد وعوامل الانكماش”، بلدي نيوز، الرابط الإلكتروني: https://www.baladi-news.com/ar/articles/22182/
[34] ـ د. أبو رمان، محمد، “مسـتقبل داعـش: عوامـل القـوة والضعـف … ديناميكيـات “الخلافة الافتراضية” وفجـوة اسـتراتيجيات مكافحـة الإرهاب”، الرابط الإلكتروني: http://library.fes.de/pdf-files/bueros/amman/16942.pdf
[35] ـ المرجع السابق.
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.