الدين والعلمانية وما بينهما
عرف التاريخ منذ القدم أناساً أرقّهم ظلم الإنسان لأخيه الإنسان وعملوا قدر استطاعتهم من أجل تلطيف ذلك الظلم أو تخفيفه, وقد انقسموا إلى تيارين رئيسين.
تيار رأى أن تنظيم هذا الكون بهذه الدرجة الرفيعة يقف وراءه مهندس يشرف ويسهر على هذا التنظيم هو الله تعالى الذي خلق الإنسان بطبيعة ذات نفس بشرية تنوس بين الخير والشر. وقد كان الله يرسل رسله لهداية البشر وحضهم على فعل الخير عندما يحتدم الصراع بين أهل الخير وأهل الشّر, الأديان كلها ورسلها كلهم دعوا إلى خلق إنسان تطّهر قلبه من الآثام وحب الشهوات يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
تيار ثان فسّر الصراع ضمن قوانين موضوعية لها حركتها الخاصة التي أحالت الصراع بين الإنسان والطبيعة إلى المرتبة الثانية فيما حّل في المرتبة الأولى الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان. إن وعينا لهذه القوانين يُسهل علينا دفعها من أجل تلطيف الصراع وخدمة الإنسان في النهاية.
يتفق التياران في الغاية وهي العمل من أجل الإنسان المضطهَد على الأرض، ويختلفان في الوسيلة.
عُرف التياران تاريخياً باسم أنصار الدين وأنصار العلمانية. لكن لماذا اصطدما ببعضهما بدلاً من أن يتنافسا من أجل خدمة مشروعهما المشترك القائم على خدمة الإنسان وتخفيف الظلم عنه؟
نستعرض هنا ما جرى لأكبر دينين وأكثرهما انتشاراً وهما المسيحية والإسلام، وما جرى للعلمانية بعد الدين.
مسيرة الدين المسيحي
قام الدين المسيحي في البداية على هذا المبدأ ((الحق أقول لكم أنه يعسر أن يدخل غني إلى ملكوت السموات وأقول لكم أيضاً إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله))(1) وقد كان يعقوب بالوضوح نفسه في قوله: ((هلّم الآن أيها الأغنياء، ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة، غناكم قد تهرأ, وثيابكم قد أكلها العث، ذهبكم وفضتكم قد صدئا، وصدؤهما أكل لحومكم كنار، قد كثرتم في الأيام الأخيرة، هو ذا أجرة الفعلة الذين حصدوا حقولكم المبخوسة منكم تصرخ، وصراخ الحاصدين قد دخل إلى أذني رب الجنود. أما اختار الله فقراء هذا العالم ورثة الملكوت))(2).
ثلاثة قرون صبر فيها المسيحيون الأوائل على أنواع التعذيب والعزل والملاحقة والاضطهاد كلها وصمدوا صموداً أسطوريا رفضواً فيه الخضوع لقوانين الدولة الرومانية وفي مقدمتها إحراق البخور أمام تمثال الإمبراطور وعبادته لأنه يجسِّد إرادة الآلهة في الأرض.
صُلب المسيح على خشبة وُدقّت المسامير في أطرافه، وأعدم بعده بطرس وبولس، ولكن الدعوة المسيحية استمرت وسط ملاحقة واضطهاد أساقفتها ((وتوفي أسقف أورشليم وأنطاكية في السجن وأعدم أسقف روما وطولوز عام 250 م وألقي كثير من المسيحيين الرومان في غيابة الجب، وقطعت رؤوس بعضهم ومات كثير منهم على قوائم الإحراق وألقي عدد منهم إلى الوحوش في حفلات الأعياد))(3) ولكن ذلك لم يمنع انتشار المسيحية بوصفها تنظيماً على الأرض موازياً للدولة الرومانية له وجوده الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والديني.
لكن الإمبراطور قسطنطين وجد في النهاية أن من الحكمة اعتناق الدين المسيحي وجعله الدين الرسمي للدولة حتى يجري التأثير فيه من داخله بعد أن عجزت الدولة عن التأثير فيه من خارجه، وفعلاً اعتنق المسيحية عام 323م وجعل الدين المسيحي ديناً رسمياً للدولة، وبدأ بالعمل الجاد من أجل تكييف الدين بما يخدم الفئة القليلة المستغِلة في المجتمع، من أجل ذلك دعا إلى عقد المجمع المسكوني الشهير في التاريخ عام 325 م وعُقِد تحت إشرافه في نيقية –ازنيق الحالية– في آسيا الصغرى، وفيه جرى اعتماد الأناجيل الأربعة –متى، مرقس، لوقا، يوحنا– وأحرقت عشرات الأناجيل الأخرى، وخرج بتعالم مسيحية عالمية (كاثوليكية) تخدم الدولة والكنيسة معاً, وكل من لم يتقيد بها عُد هرطوقيا يجب معاقبته في الأرض قبل السماء.
منذ ذلك التاريخ بدأ التحول في تاريخ الكنيسة لتصل في النهاية إلى عكس ما انطلقت منه على الصعد كلها.
- فعلى الصعيد التنظيمي لم يعد هم الكنيسة من أدنى رتبة فيها إلى أعلاها -رأس الهرم الجالس على الكرسي الرسولي- سوى جمع المال وبأي طريقة كانت بما فيها بيع المراتب الدينية وشراؤها.
- وعلى الصعيد الأيديولوجي أصبحت الكنيسة الداعم الأساس لحق الملوك الإلهي في السلطة.
- وعلى الصعيد السياسي محاكم تفتيش تحرق المخالفين لتعاليمها أحياء كما جرى للطبيب ورجل الدين الإسباني مايكل سرفانتس عام 1553م.
مسيرة الدين الإسلامي
بعد المسيح بستة قرون ظهر نبي آخر في جزيرة العرب هو محمد بن عبد الله، كان هّمه الإنسان –مثل المسيح- سواء كان عربياً أم أعجمياً وشعاره تمكين المستضعفين في الأرض، وقد آمن به نفر من الفقراء ولقوا تعذيباً كبيراً من خصومهم مثل بلال الحبشي وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر وأبي ذر الغفاري، ولكن دعوتهم نجحت قبل وفاة نبيهم بزمن أقصر كثيراً من زمن انتصار الدعوة المسيحية، ما دفع المشركين إلى اعتناق الإسلام من أجل التأثير فيه من داخله بعد أن عجزوا عن التأثير فيه من خارجه، وفعل أبو سفيان ما فعل قبله الإمبراطور قسطنطين، وصبر أبناؤه حتى واتتهم الرياح وحولوا الإسلام من نظام الشورى إلى نظام الملك العضوض، وأحاطوا أنفسهم بالفقهاء وكتاب السيرة المدافعين عن الخليفة بالروح نفسها التي دافع فيها الأساقفة عن الحق الإلهي للملوك.
حصل ذلك كله بمساعدة قلة فاسدة ذكية ومثقفة استطاعت تفسير تعاليم الدينين وتحويرها بما يخدم مصلحتها الخاصة، هؤلاء معروفون تاريخياً لدى المؤمنين الحقيقيين باسم المنافقين، ومع ما فعلوه كله بقي من الدين المسيحي والدين الإسلامي قيم تحض على فعل الخير وتنهى عن الشر وتجعل رفع الظلم والاضطهاد عن الناس عملاً محبباً ومقرباً إلى الله تعالى.
مسيرة العلمانية
تبلورت العلمانية في أوروبا عبر قرن كامل سمي قرن الأنوار دعا فلاسفته وناشطوه كلهم إلى حضارة كونية تقوم على العقل وتجير مكتشفاته العلمية كلها بما يخدم الإنسان في الأرض، وقد اصطدمت بالدين المسيحي الذي كانت كنيسته مدافعة عن الحق الإلهي للملوك آنذاك ومن خلال معركة قاسية وشرسة تجسدت في الثورة الفرنسية انتصر العلمانيون على أنصار الدين وشنقوا الملك في فرنسا وفصلوا الدين عن الدولة بشكل كامل.
ولكن أوروبا خانت أنوارها بعد أن سال لعابها على خيرات مستعمراتها وحوّلت منجزات العقل البشري كلها في النهاية لخدمة حفنة من أغنيائها حتى وصلنا إلى الحضارة الاستهلاكية الحالية فيها ذات البعد الأحادي الواحد القائم على جمع المال بأي طريقة أو وسيلة بعد أن استُبعِد الجانب القيمي الذي دعت إليه العلمانية والدين معا.
لم تكن علمانية الاشتراكيين أفضل من علمانية أوروبا فقد سحبت مفهوماتها عن الدين إلى البلدان الاشتراكية سحباً ميكانيكيا واعتبرت الدين أفيون الشعوب وحاصرت وضيقت على الدينين في كل مكان فانتهى الأمر بتلك البلدان إلى حضارة استهلاكية هّمها جمع المال بأي ثمن وبطريقة اسوأ من طريقة أوروبا في جمعه.
عرفت العلمانية أيضاً انتهازيين وازى دورهم دور المنافقين في الأديان أطلق عليهم اسم مساحي الجوخ وفسّروا وزّوروا تعاليم العلمانية بما يخدمهم هم وأسيادهم.
المضحك المبكي في الموضوع هو قدرة الممسكين بزمام التطور الاجتماعي على إشعال فتنة بين التيارين بحيث أنساهما قضيتهما المشتركة وهو الإنسان وقد لعب المنافقون والانتهازيون دوراً لا يستهان به في إذكاء تلك الفتنة.
لم يعد يرى المؤمنون بالفكر المادي سوى أنه فكر من دون قيم، والماديون لا أخلاق لديهم ولا يهمهم سوى المادة وهي التي تحكم سلوكهم كله، في المقابل لم يرَ الفكر المادي بالدين سوى جانبه الإيماني الذي نفذت منه الطبقات المالكة لتخدير وعي عامة الناس والإبقاء على تخلفها وجهلها، فالفكر المادي يستند ((إلى النظرة العلمية بدل الدينية الخرافية إلى شؤون الكون والطبيعة على العموم ويؤثر الكلام في علم الفلك على الكلام القرآني حول التكوير، والكلام في الجغرافيا الطبيعية على الكلام حول جبل ق والأخذ بالاعتبار العقلي بدل الاعتبار الإيماني والخرافي في الأمور كالمعراج والطوفان وانقلاب العصي أفاع، والمشي على الماء، وإحياء الموتى، وشق البحر وانفلاق الكواكب والنجوم.))(4).
وهكذا بدل أن يتعاون المؤمنون والعلمانيون من أجل إعلاء شأن الأغلبية العظمى من الناس على الأرض، وتمكينهم من دفع الظلم والاستغلال عنهم من ظالميهم وهم حفنة من إخوتهم في الإنسانية، انصرفوا إلى غير غايتهم، وسهّلوا بوعي أو بغير وعي، الوصول إلى كوكب حالي يعيش فيه حفنة من هذا الجنس تستأثر بخيرات الطبيعة لا يهمها سوى مصالحها حتى ولو أدى ذلك إلى موت الملايين جوعاً وتلوث الهواء والماء وهما عصبا الحياة الحساس.
عصرنا الحالي تدار فيه قريتنا الكونية بطريقة واحدة هي طريقة تأمين مصالح تلك الفئة القليلة في المجتمع بحجة الحداثة والتطور التقني الملائم لشركاتها فوق القومية. الشركة لها هدف واحد هو زيادة ثرواتها حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير حياة البشر كمستهلكين لإنتاجها, الشركة معنية بزيادة ثرواتها فقط، أما مصلحة المجتمع والانطلاق من مصالحه وقيمه معا فذلك لا يعنيها أبداً.
لا بد من وضع حد لهذا الجنون الرأسمالي المتوحش بإلزامه على الأقل في الجمع بين المصالح والقيم محافظة على حياتنا المشتركة.
وإذا كانت حاجتنا إلى العلمانيين وعقولهم النيرة التي تشرح لنا خطر هذا الطريق في السياسة والاقتصاد والبيئة, فإن المؤمنين لديهم كثيراً من القيم الإنسانية التي دعت إليها الأديان كلها, والتاريخ قدّم لنا كثيراً من المناضلين سواء كانوا رجال دين أم علمانيين قبل أن ينجح رأس المال بإغراء فئة قليلة من الجهتين تركت قيمها ولحقت مصالحها الخاصة.
ما أحوجنا إلى طاقة المؤمنين الروحية وطاقة العلمانيين المادية من أجل إعلاء قيمة الإنسان على هذا الكوكب ليحلق بهما كطائر يحتاج إلى جناحيه معاً.
مسيرة العلمانية في العالم العربي
مؤسف القول إن العلمانيين العرب لم ينطلقوا من واقعهم بل حاولوا سحب تجربة العلمانيين -سواء في أوروبا أم في الدول الاشتراكية- سحباً ميكانيكياً ليطبقوها على واقعنا فأرادوا إقصاء الدين عن السياسة وفصله عن الدولة وأهملوا كلياً قيمه وأهميتها في المجتمع، مع أن السائد في عالمنا هو الدين الإسلامي بخصوصيته المعروفة.
يختلف الدين الإسلامي عن بقية الأديان بكونه -كما يقول عنه فقهاؤه- ديناً ودنيا، يحض الدين الإسلامي معتنقه صراحة على التدخل في الشؤون الدنيوية لمصلحة العامة وليس لمصلحة القلة من الناس. البلدان الإسلامية لا تحتاج إلى فصل الدين عن الدولة بقدر ما تحتاج إلى فصل الدولة عن الدين، إلى ترك الدين يتحرك ضمن فضائه الخاص الذي يحض على القيم النبيلة والأخلاق الحميدة ومساعدة الملهوف ونصرة المظلوم.
هنا تبرز أهمية الدين الإسلامي ليس للدول الإسلامية فقط بل للعالم أيضاً، الدين الإسلامي في جوهره دين السلام وعنوانه –السلام عليكم- والسلام والإسلام يلتقيان في توفير الطمأنينة، ونبي الإسلام حامل راية السلام وهو يّحدث عن نفسه فيقول: –إنما أنا رحمة مهداة– ويحدث القرآن عن رسالته فيقول:
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (الأنبياء: 107).
وتحية المسلمين التي تؤلف القلوب وتربط الإنسان بأخيه الإنسان هي السلام، والإسلام في الجانب الدنيوي سبق مفكري الغرب بقرون في فهمه للعقد الاجتماعي بين الناس، ووثيقة المدينة بين المشركين والمسلمين واليهود تكاد تكون أول عقد اجتماعي ينطلق من مكونات المجتمع ويراعي وجودها على الأرض. الإسلام أيضاً سبق أوروبا في دعوته إلى الليبرالية:
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (فاطر: 18).
لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (البقرة: 256).
ربما كان من أعمق من أشار إلى خصوصية الدين الإسلامي المفكر الليبرالي جون ستيوارت ميل ((أن آداب المسيحية -كما يدعونها- قد اجتمعت فيها صفات ردة الفعل كلها وهي في معظمها عبارة عن احتجاج على الوثنية، فهي تطلب للناس كمالاً سلبياً أكثر منه إيجابياً، وتدعو إلى التخلي عن الرذائل أكثر ما تدعوهم إلى التحلي بالفضائل، وتخوفهم من الشر أكثر مما تحضهم على الخير، وإذا تأملت في وصاياها وجدت النهي متغلباً على الأمر والزجر متفوقاً على الندب، والترهيب مبرزاً على الترغيب، وقد دفعها الاشمئزاز من الفسق والفجور إلى تمجيد الزهد والرهبنة، وإذا أنعمت النظر في آداب المسيحية هذه رأيت قوامها الطاعة العمياء، فهي تحض أتباعها على الإذعان لكل سلطة قائمة، والخضوع لكل سلطان موجود، حقيقة هي لا توصيهم بتنفيذ أوامر السلطان إن كانت تخالفه نصوص الدين، لكنها تأمرهم بالاستسلام والإذعان وتنهاهم عن الخروج والعصيان، مهما أصابهم من الأذى ولحقهم من العدوان، وها نحن نقرأ في آداب الإسلام، لا في آداب المسيحية، هذه الكلمة الجامعة:
كل وال يستكفي عاملاً عملاً وفي ولايته من هو أقوم به وأكفأ منه، فقد خان عهد الله وخليفته))(5).
الدين الإسلامي يعتبر الفقراء جزءاً من الله تعالى وهو جزء منهم وعمل المؤمن من أجل الفقراء يقربه من ربه كما تقربه عبادته وصلواته له، الدين الإسلامي هو أول من اعترض على رأس المال المتوحش بتحريمه الربا، الدين الإسلامي جعل جزءاً من أموال الأغنياء حقاً شرعياً للسائل والمحروم، لماذا ننكر على معتنقيه العمل السياسي من أجل قيمه؟ وبطريقة يستفيد منها المجتمع وتتناسب مع فهمه لتغير الأمصار بتغير الأحوال.
للعالم العربي تجربة رائدة نحن بحاجة إليها الآن واستخلاص العبر والدروس منها قّدمها لنا الشيخ علي عبد الرازق في مصر.
كتب الشيخ علي عبد الرازق كتيبه الصغير –الإسلام وأصول الحكم– عام 1925. سبعون صفحة فيها من الجهد والعمق والعبقرية والإشراق ما قّل نظيره.
كان غرض الكتاب سياسياً بامتياز ليخدم الشيخ علي وأنصاره في المعركة الحامية بين السلفيين المصريين المدعومين من الملك فؤاد في الداخل والمحافظين في خارج مصر بمن فيهم بريطانيا الطامحة بتجيير منصب الخلافة لمصلحتها بعد انهيار الخلافة العثمانية. لم يكن بحثاً أكاديمياً وإنما كان بالدرجة الأولى وقبل كل شيء جهداً سياسياً في معركة سياسية حامية، بل ضاربة وقائمة على قدم وساق، كما كان تحدياً لعرش وملك بكل ما وراءهما من قوى وإمكانات، وكان مناوأة لقطاعات عريضة محافظة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، وفوق ذلك كله أحد العوامل التي أفسدت على الاستعمار البريطاني في مصر والشرق الإسلامي النجاح والاستفادة من لعبة الخلافة.
يميز شيخنا في بحثه بين ولاية الرسول وولاية الحاكم ((ولاية الرسول على قومه ولاية روحية, منشؤها إيمان القلب وخضوعه خضوعاً صادقاً تاماً يتبعه خضوع الجسم, وولاية الحاكم ولاية مادية, تعتمد إخضاع الجسم من غير أن يكون لها بالقلوب اتصال, تلك ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه, وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض. تلك للدين وهذه للدنيا. تلك لله وهذه للناس, تلك زعامة دينية, وهذه زعامة سياسية, ويا بعد ما بين السياسة والدين))(6).
استنادا إلى هذه الرؤية يقدم الشيخ علي رؤيته في موضوع الخلافة عند المسلمين قائلاً:
((الواقع المحسوس الذي يؤيده العقل, ويشهد به التاريخ قديماً وحديثاً أن شعائر الله تعالى ومظاهر دينه الكريم لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة. ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء ولو شئنا لقلنا أكثر من ذلك فإنما كانت الخلافة ولم تزل نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد)).
كانت نقطة الضعف الأساسية في الكتاب هي عدم فهمه لخصوصية الدين الإسلامي واعتباره كباقي الأديان رسالة من أجل إصلاح النوع البشري، والرسالة بشكل عام سواء جاءت من السماء أم من الأرض تقدم رؤية عريضة للإصلاح وتترك الخوض في آلية العمل من أجل ذلك، ربما يصح ذلك على الأديان السماوية كلها إلا الدين الإسلامي. رسول الإسلام كان همه الأول هو الحكم، هو السياسة، هو الثورة الاجتماعية وليس الإصلاح فقط -أي القبض على السلطة كمقدمة للتغيير الاجتماعي- أي إن الرسالة كانت لخدمة السياسة, تلك المفارقة في الإسلام جعلت كل فريق قادراً على تقديم الأدلة من الكتاب والسنة التي تدعم وجهة نظره، الآيات والأحاديث كلها التي جهد شيخنا ليقدمها لقرائه كون الإسلام رسالة لاحكماً -صحيحة ودقيقة وقاطعة في إجابتها- ولكن المأساة أن الطرف الآخر وهو فريق العلماء رد عليه بأدلة من الكتاب والسنة بمنتهى الشفافية والوضوح وهي قاطعة في دلالتها بصواب حجتهم مثل قولهم له في المحكمة: ماذا يعمل الشيخ في مثل قوله تعالى
إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ (سورة النساء: 105).
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ (سورة المائدة: 49).
بعد صدور الكتاب مباشرة انعقدت هيئة كبار العلماء في الأزهر في آب/ أغسطس 1925 برئاسة الشيخ محمد ابو الفضل شيخ الجامع الأزهر وعضوية أربعة وعشرين من زملاء الشيخ علي وقد وجهت الهيئة إليه سبع تهم، وحكموا عليه بالإجماع بأنه عمل عملاً مشيناً جزاؤه محو اسمه من سجلات الجامع الأزهر وطرده من وظيفته وقطع مرتباته في أي جهة كانت، وعدم أهليته للقيام بأي وظيفة عمومية دينية كانت أو غير دينية.
وهكذا بدلاً من أن تساعده بريطانيا وحركات التحرر تركوه وحيداً في مواجهة المتزمتين فعزل وانزوى وقضى ما تبقى من حياته حزيناً بائساً كئيباً كأنه بعير أجرب في مجتمعه.
هي تجربة مرة أليمة دروسها واضحة لا لبس فيها وهي عدم ترك ذلك الدين للمتزمتين، بل مواجهتهم من داخله.
واقع الحال في سوريا الآن بعد ثماني سنوات على انطلاق ثورتها
ما كتبته سابقاً كله هو من أجل الوصول إلى واقعنا المر الحالي بين الإسلاميين والعلمانيين. ربما أكثر ما يقهرني هو طليعتنا المثقفة الكلاسيكية بشقيها الإسلامي والعلماني التي لم ترتقِ إلى مصاف تضحيات شعبها حتى الآن وإصراره على طلب حريته وكرامته وما تزال كما كانت قبل الثورة وبعدها.
العلمانيون في هذه الأيام يعزفون على وتر حاجة بلادنا إلى فصل الدين عن الدولة وإلى إقصاء الدين عن السياسة بعد أن ركب ثورتنا المتطرفون الإسلاميون، وروابطهم العقلانية كلها تظن أن خذلان الثورة من قبل المتطرفين الإسلاميين أكد صحة وجهة نظرهم وهي فصل الدين عن الدولة وإقصاء الدين الإسلامي عن السياسة وحصره في الجانب الروحي جانب العبادات، وهم مدعومون في سوريا مادياً ومعنوياً وبشكل خاص من مركز الأبحاث ودراسة السياسات الذي يرأسه الفلسطيني عزمي بشارة. أما من قال ويقول بدولة مدنية ديمقراطية فهو أبله لأنه يروج لشعار ملتبس مركزه كلمة مدنية هي من بنات أفكار الإخوان المسلمين ولا يعتد بدفاع أمثالي عن أن كلمة مدنية هي قديمة قدم التاريخ وقبل الإخوان المسلمين كثيراً، هي من أيام غرناطة وتعني إبعاد العسكر عن السياسة وحصرهم في مجالهم العسكري، تعني أيضاً عقداً اجتماعياً بين مكونات المجتمع لا يستثني أحداً بمن فيهم الأحزاب الدينية شريطة نبذها العنف والاعتراف بالآخر والتقيد بالدستور الذي يصاغ من قبل المتعاقدين.
ليس الإسلاميون أقل سوءاً من العلمانيين -الذين يرفعون شعار الدين لله والوطن للجميع- فلسان حالهم يقول: ماذا قدم العلمانيون للثورة؟ لقد انتظروا حتى نسقط النظام بسلاحنا لنهديهم الدولة كي يقودوها. وهم ما يزالون كما كانوا بالأمس يحاولون عزل العلمانيين بالعزف على وتر جماهيرنا العفوية المتدينة كونهم ملحدين لايحللون ولا يحرمون، وهذا هو الائتلاف الواقع تحت هيمنتهم يرفض أمينه العام عبد الله الفهد الاستجابة لطلب العلمانيين فيه بالوقوف دقيقة صمت على روح المناضل العلماني الذي قدّم جسده وروحه من أجل ثورة أولع بها حتى نقي عظمه, والحجة أنه كافر.
خاتمة
أحببت أن أختم هذه الدراسة بحادثة واقعية ربما تخدمها أكثر من كل التنظير عن الإسلام والعلمانية لمن يعنيه بحق دفع بلادنا من فضاء الاستبداد إلى فضاء الديمقراطية.
في السابع من كانون الأول/ ديسمبر عام 2007 التقيت بالمهندس نزار نجار عضو اللجنة المركزية لحزب الإخوان المسلمين في سوريا على هامش الاجتماع الأول للمجلس الوطني لإعلان دمشق في بيت رياض سيف، وكان كل منا يعرف الآخر من خلال فضاء الإنترنت، بادرني بالسؤال عن منتدى الحوار الثقافي الذي يعقد أغلب جلساته في بيتي, وكم شخص يحضره؟ قلت له بحسب الحال بين العشرة والأربعين شخصاً.
رّد قائلاً:
- أنا في كل يوم جمعة يكون أمامي أكثر من خمسائة شخص، هذا هو شعبكم تعالوا وتعرفوا إليه من خلالنا.
- كلامك صحيح ولكن ذلك يحتاج إلى اتفاق بين الطرفين، العلمانيون يتعهدون للإسلاميين أن يشرحوا لجماهيرهم أن الدين ما يزال له دور في المجتمع, وأنّ بلدنا يحتاج كي ينهض إلى الطاقة الروحية والمادية معاً، وعلى الإسلاميين أن يتعهدوا للعلمانيين بالكف عن محاصرتهم عبر زعبرتهم عن مجتمع الربوبية وإفهام جماهيرهم بأن لهم شركاء في الوطن لا يؤمنون بيوم النشور ولا بيوم القيامة وعلينا أن نحاسبهم في الأرض على سلوكهم تجاه الوطن ونترك حسابهم عن إيمانهم لربهم في يوم القيامة.
إن هذه المعارك الدائرة على الأرض أو على فضاء الفيس بوك لا تشير إلى أن الجهتين قد استوعبوا ما جرى في بلدهم وهم ماضون في غيهم مع كل أسف.
عزائي بان شباب الجيل الصاعد من الجهتين سيستوعبون الدرس ويعملون معاً في المستقبل ضمن عقد اجتماعي جديد في ما بينهم يتنافسون فيه معاً مما يؤدي إلى عزل المتطرفين من الجهتين.
هوامش
- إنجيل متى، الإصحاح التاسع عشر، الآية 23- 24.
- قصة الحضارة، وول ديورانت، ج11 ص279.
- قصة الحضارة، وول ديورانت، ج11 ص 377.
- دكتور عزيز العظمة، العلمانية تحت المجهر، ص 156.
- الإسلام وأصول الحكم، علي عبد الرازق، دراسة ووثائق بقلم محمد عمارة ص 8.
- المرجع السابق ص 136.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.