أعاد حافظ الأسد الطائفة العلوية إلى عشائرها الأولى ووّزع المناصب والمواقع الأمنية بينها مستغلاً فقرها الاقتصادي وبحث أبنائها عن مصدر رزق, ترافق ذلك مع تشكيلات عسكرية طائفية البنية مثل الحرس الجمهوري وسرايا الدفاع وسرايا الصراع وإطلاق يدها في المس برقاب البشر والاقتصاد, هكذا تحول الجيش لأبناء الطائفة من مصدر عيش إلى مصدر ثروة, وبخاصة بالنسبة إلى قيادات تلك التشكيلات الجديدة لنشهد في مسقط رأس كل رمز إمارة إقطاعية عسكرية وقصوراً وخدماً مارس فيها الضباط السطوة والعبودية على أبناء جلدتهم وتحولوا إلى شركاء في دورة الاقتصاد والمال.
تناقش هذه الورقة ما فعله آل الأسد بالطائفة مع مرور على تاريخيها؛ وصولاً إلى سبل حل للانقسامات العمودية بين الطائفة والمجتمع السوري نتيجة وحشية الأسد في الثورة السورية واستخدام الطائفة في تلك الوحشية ورهنها له.
المدخل
جبال المنطقة الساحلية وعرة المسالك وفقيرة زراعياً وإنتاج سهلها من الحبوب محدود قياساً بالسهول الداخلية مثل سهل حوران والجزيرة، وهي ممتدة من عكار جنوباً إلى طوروس شمالاً. لهذه الأسباب شكّلت تلك الجبال منطقة نائية ومنفى بالنسبة إلى مراكز الحكم في المشرق العربي، لجأ إليها المطلوبون من الحكومات آنذاك.
هرب إلى تلك الجبال كثيرون من أنصار علي منذ أن خسروا المعركة في صفين اتقاء للقمع الشديد الذي نزل بهم من الأمويين, اشتدت الهجرة بعد انشقاق العلويين عن الشيعة الإثني عشرية بسبب خلافهم حول باب الإمام (لكل إمام عند الشيعة باب هو الرئيس الدنيوي للطائفة في حين يبقى الإمام هو الرئيس الروحي، وكان كل رئيس يعين بابه قبل وفاته).
غاب الإمام الثاني عشر الحسن العسكري بصورة مفاجئة من دون أن يعين باباً له, اعتبر العلويون أن باب الإمام الحادي عشر الحسن العسكري أبي شعيب محمد بن نصير البصري النميري الموجود على قيد الحياة هو باب الإمام الثاني عشر.
(وبما أن محمد بن نصير كان أكبر مرجع ديني لأتباع الإمام فإنهم اتبعوه، ومن هنا أطلقت عليهم تسمية النصيريين نسبة إليه ومفردها نصيري، وعندما جاؤوا وأقاموا في جبال المنطقة الساحلية في سوريا أطلق على هذه الجبال اسم جبال النصيرية)(2).
لم يّقصر العباسيون بعد الأمويين في قمع معارضيهم -هم والحكومات الإسلامية كلها التي تلتهم سواء كانوا عرباً أم كرداً أم أتراكاً أم مماليكاً- ومنهم العلويون, لا بل ربما زاد قمعهم على يد الحكومات الإسلامية غير العربية ليثبتوا للعرب ولاءهم للدين الإسلامي الذي أنجبته تلك الأمة وهم عنها غرباء, أما العلويون في تلك الجبال فهم كلهم عرب أقحاح, وقد امتاز العرب بالمحافظة على أنسابهم ضمن قبائل وعشائر وبطون وأفخاذ وعائلات, وكل عشيرة من عشائرهم لها نسب معروف ينتهي إلى أحد العشائر العربية القديمة كالغساسنة والتنوخيين والسنجاريين وغيرهم. وإلى جانب نسب العشيرة يعرف القيمون عليها كيف هاجرت إلى المنطقة ومتى. يصح ذلك على عشيرة الخياطين والحدادين والرشاونة والقراحلة والمتاولة والنميلاتية والمحرزية….إلخ.
انتهى اضطهاد العلويين في سوريا تقريباً مع رحيل العثمانيين عن بلادنا, وساهم فيه امتناع العلويين عن تأييد الدويلة العلوية التي أنشأها المستعمر الجديد عام 1925، واشتراكهم مع إخوانهم السوريين في الثورة السورية ودحر الاحتلال الفرنسي، فقد أبلوا بلاء حسناً في بلادهم بقيادة الشيخ صالح العلي وتعاونوا ونسّقوا مع الثوار في باقي المناطق مثل إبراهيم هنانو ومحمد الأشمر وسلطان باشا الأطرش وغيرهم حتى استقلت سوريا عام 1947, ومن ثم شارك العلويون في نهضة بلادهم ولم يعرف أبداً عن أي مضايقة لهم بسبب معتقداتهم وطقوسهم الدينية, وإن كانت قراهم قد تعرّضت للتهميش في تلك المرحلة, فقد كان ذلك جزءاً من تهميش الإقطاع للريف واستغلاله للفلاحين, وكان بين العلويين إقطاعيون أيضا كخلق الله كلهم آنذاك.
تجدر الإشارة هنا إلى أن سكان تلك الجبال في الساحل لم يرتاحوا يوما لتسميتهم بالنصيرية، ورأوا فيها ظلماً لهم ولتاريخهم، فالأولى بهم أن ينسبوا إلى إمامهم الكبير الإمام علي وليس إلى إمام آخر استلم زمام قيادتهم السياسية في مرحلة معينة كالنصيري، وهم يرون فيها محاولة من خصومهم للنيل منهم وإخراجهم من الدين الإسلامي, وقد كان العلوي وما يزال ينفر من هذه التسمية ويجد فيها شتيمة, وقد زالت تلك التسمية عنهم مع تسمية الدويلة بالعلوية على أيام فرنسا وإطلاق اسم جبال العلويين رسمياً على جبال الساحل بدلاً من جبال النصيرية.
عاش العلويون منذ الاستقلال وحتى “ثورة آذار” في مناطقهم وقراهم بوصفهم جزءاً من النسيج السوري في المستوى الاجتماعي والسياسي والديني.
في المستوى الاجتماعي
تمّيزت حياة العلويين في تلك القرى بعادات وتقاليد إيجابية ذات طابع تحرري ممزوج بتعاطف عميق مع كل مضطهد في الحياة ربما سببه اضطهادهم القديم على مّر التاريخ، لم يعرف في تلك القرى أي تعصب تجاه المختلف عنهم، ولم يسبق أن اشتكى أي موظف سني خدم في تلك القرى طوال مرحلة الخمسينيات من أي معاملة سيئة أو محاولة عزل وإقصاء له بسبب طائفته، وقد كان كثير منهم يسكن هو وعائلته في تلك القرى، سواء كان موظفاً تابعاً لشركة التبغ (مراسل) أم لدائرة الأحراج في الدولة (ورديان) أو لدائرة جباية الضرائب (جابي) أو لوزارة التعليم (معلم).
في المستوى السياسي
وصل كثيرون منهم إلى أعلى مناصب في الدولة استناداً إلى كفاءته وليس إلى طائفته مثل عزيز عبد الكريم الذي أصبح وزيراً للداخلية ومحمد سليمان الأحمد وزيراً للصحة وعزيز هواش محافظاً لدمشق.
موقع الطائفة العلوية من الدين الإسلامي
ربما كانت ظاهرة الدين –وما تفّرع عنها في كل دين من طوائف وفرق ومذاهب- من أعقد القضايا التي تواجه الباحثين حتى الآن. رسول المسلمين وآخر الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام هو الوحيد من بين الرسل الذي نجحت دعوته وهو على قيد الحياة وأصبح نبياً وزعيماً سياسياً في الوقت نفسه. وقد تصّدى للجانب السياسي بعمق لا يقل عن عمق الجانب الروحي لرسالته.
إن وثيقة المدينة التي نُظِمت بإشرافه تكاد تكون عقداً اجتماعياً مكتوباً بين مكونات سكانها سبق دعوة روسو والمفكرين الغربيين بقرون للعمل على أساسه, وثيقة المدينة هي دستور مكتوب يحدد التعايش بين المسلمين والمشركين وبين اليهود وبين المهاجرين والأنصار, وتعتبر بحق أول دستور مدني ينظم الحياة بين الناس على أساسه وتتكون من 47 بنداً مكتوباً.
لكن ذلك الخط السياسي القائم على العقل داخل الإسلام لم يستمر سوى مدّة قصيرة بعد وفاة الرسول لينتهي حكم الشورى في ما بينهم ونعود إلى حكم السلالات وحقها الإلهي في الحكم داخل الديار الإسلامية من الأمويين إلى العباسيين إلى المماليك والعثمانيين.. إلخ.
لم تسلك الدول الإسلامية منذ عهد معاوية وحتى الآن سلوك نبيها في تنظيم حياة الناس استناداً إلى وثائق تُنظم على الأرض, بل استند حكامها جميعا إلى حقهم الإلهي في تنظيم حياة الناس بمعزل عنهم, وقمعوا معارضيهم بشدة, ما دفع المقموعين إلى طريق القلب بدلاً من طريق العقل في تمثل الدين الإسلامي, فأنتج ذلك الطريق التصوف وتأويل المعتقدات بين باطن وظاهر، وولدت من رحم الإسلام طوائف لها عادات وتقاليد وطقوس مختلفة.
على هذه الأرضية يجب النظر إلى الطائفة العلوية بوصفها فرقة باطنية تتبع المذهب الجعفري الإمامي في الإسلام وما فيها من عادات وطقوس وتعاليم باطنية تحجب عن المرأة وغير الراشدين، وتعاليم ظاهرية للجميع، إضافة إلى مغالاتهم في حب إمامهم علي بن أبي طالب ورفعه إلى مستوى القداسة وتفضيله على غيره من العالمين.
العلويون في سوريا ككل العلويين في العالم الإسلامي فرقة دينية من فرق الشيعة، يشتركون مع المسلمين في ديانة التوحيد والأخذ بأركان الإسلام الخمسة، وكل محاولة لتكفيرهم أو إخراجهم من هذا الدين باطلة ولا تعدو كونها صراع بين المذاهب والفرق الإسلامية التي تعتبر كل واحدة منها أن دينها الدين الحنيف، والآخرون ضالون عن الدين. يقول أحد مشايخ العلويين المعاصرين وهو الشيخ عبد الرحمن الخير: (إن كل علوي إمامي يشهد إمام الله في سره وعلانيته بأن الدين عند الله الإسلام وأن من يتبع غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه. ومن لا يدين بهذا القول فالعلويون يبرؤون منه وهو منهم بريء)(1).
مارس العلويون طقوسهم الدينية بحرية كاملة في تلك المرحلة وكان لهم أعيادهم واحتفالاتهم فيها علناً مثل عيد الغدير وعيد الرابع، إذ تعقد حلقات الدبكة في كل قرية أو في تجمع لتلك القرى. ولعيد الرابع حكاية طريفة تدل على تعلقهم بوطنهم، فهو عيد من أصل فارسي يسمى عيد شم النسيم يوافق الرابع من نيسان في التقويم الشرقي والسابع عشر من نيسان في الثقويم الغربي، أي إنه تصادف مع يوم الجلاء الذي يحتفل به السوريون فأصبح عندهم عيداً قومياً ودينياً. ومن هنا استمد أهميته لتعقد فيه حلقات الدبكة على أنغام الطبل والزمر والأراجيح وليشتهر مكانان للاحتفال به هما مكان السخابة الواقعة في منتصف الطريق العام بين جبلة وبانياس, ومكان الشيخ مقبل في قرية ربيعة داخل ريف حماه، ليحضره كثيرون من أبناء سنة جبلة وبانياس وحماه وبناتها، ولينتظره الشباب والصبايا سنوياً ليتعارفوا، ولم تحصل طوال سنوات الاحتفال أي حادثة مخلة بالأمن, فقط حادثة مشهورة جرت في إحدى الأراجيح (كان اسمها الشعبي القلّيبة) أمسك مقعد الأرجوحة وهي تدور بشعر إحدى الصبايا وكاد يسلخه عن رأسها قبل أن تتوقف الأرجوحة عن الدوران لتنقل الفتاة إلى مستشفى جبلة وتفارق الحياة, ولينفض العيد في تلك السنة حزيناً.
ظل الاحتفال بعيد الرابع بتلك الطريقة الجميلة حتى حرب حزيران عام 1967وعام 1968 قاطعت الجماهير تلك الاحتفالات عفوياً، إذ لم يحضر إليها إلا عدد قليل في تلك السنة، أما ما تلاها من السنين فلم يحضر أحد وظل الأمر كذلك حتى حدوث حرب تشرين عام 1973. حاول رموز الحركة التصحيحية في منطقة الساحل إحياء الاحتفالات بالعيد بعد حرب تشرين “التحريرية” وفعلاً تجاوب كثيرون مع الدعوة، ولكنها لم تستمر بسبب وجود السلاح بكثافة بين كثير من الجنود المدججين بها تزّين خصورهم كالمسدسات والقنابل اليدوية وخصوصاً جنود سرايا الدفاع والوحدات الخاصة، كان سلوك تلك العناصر وملاحقة الصبايا حتى بيوتهم مقدمة لما عرف في الساحل السوري بظاهرة الشبيحة.
حزب البعث والعلويون في الساحل السوري
عرف القرن العشرون طريقين من التطور الرأسمالي. طريق راكم فيه الرأسماليون ثرواتهم على قاعدة من الثروة إلى السلطة كما جرى في أوروبا وأمريكا والدول التي تحكم عبر صناديق الاقتراع. اما الطريق الآخر فهو طريق اليسار الذي نحن بصدده.
طريق اليسار الذي ركب موجة ثورات القرن العشرين وانقلاباتها العسكرية أصبح واضحاً لكل من يريد أن يستعمل عقله, المسار واحد تقريباً في كل بلدان الديمقراطية الشعبية التي شهدت مرحلتان. مرحلة صعود أعادت توزيع الدخل بين الطبقات الاجتماعية مثل الإصلاح الزراعي والتأميم، وفي تلك المرحلة ازدهرت تلك الدول وازدهر اقتصادها نسبياً تحت يافطة: التحويل الاشتراكي في تلك البلدان وفلسفتها القائمة على أن التحويل يجب أن يعتمد على مصلحة الطبقات الاجتماعية وليس على وعيها. الجماهير جاهلة ولا تعرف مصلحتها والطليعة المثقفة تعرفها أكثر منها. من هنا التقت تلك الفلسفة مع النخبة في المجتمع التي دعمت الانقلاب واعتمدت عليها بوصفه أقلية في وجه الأكثرية. الدول التي سلكت هذه الطريق كلها اعتمدت اعتماداً رئيساً على الأقليات التي اضُطهِدت تاريخياً من الأكثرية سواء كانت دينية أم قومية أم إثنية.
ترافقت تلك الأيديولوجيا مع قمع شديد معمم من أجهزة أمنية تسلطت على كل من يرفض طريق السلطة الجديد. وهو ما مّهد للمرحلة الثانية: مرحلة الهبوط وسرقة الدولة ونهبها العجيب، ليبدأ أولئك الثوار “الاشتراكيون” مشوارهم في النهب وليراكموا ثروات هائلة نلمسها في البلدان كلها التي سميت حركات تحرر أو دولاً اشتراكية وهي الآن في القرن الواحد والعشرين جميعها تحكم عبر مافيا تسود فيها القيم الرأسمالية المتوحشة أكثر من البلدان الرأسمالية التي كانت محط انتقاداتهم في السابق.
ان اعتماد تلك الطريق على النخبة جعل حكومات الاشتراكيين تواجه أكثرية المجتمع. وهذا ما جرى لحزب البعث في سوريا.
ثلاثة عوامل رئيسة أدت بأبناء الطائفة العلوية إلى الانتساب إلى حزب البعث وغيره من الأحزاب اليسارية
الأول: سكنهم في جبال فقيرة بتربتها ومياهها، هذا الفقر دفع الشباب نحو العلم والجيش بوصفه وظيفة تدر دخلاً ثابتاً كانت تعبر عنه مواويل الصبايا في الحقول:
بدي عسكري بدي عسكري كل يوم والثاني بيقبض مصاري
وساعدهم في ذلك مرحلة الاستقلال ودورهم الجديد في البلاد بعد أن شاركوا فيه بقيادة الشيخ صالح العلي وما تلاه من حكم مدني ديمقراطي وّفر للعلويين الذهاب إلى الجيش بكل حرية في حين عزف عنه أبناء المدن لصعوبة حياة الجيش وخشونتها.
الثاني: الاضطهاد التاريخي الذي تعرضوا له وحرمانهم الطويل من الاستفادة من مؤسسات الدولة، وها هي الأحزاب العلمانية تطرح قيم التحرر والمساواة وحقهم مثل غيرهم في الوصول إلى أعلى قيادة في الدولة.
الثالث: تعاليم طائفتهم الدينية التي هي أقرب إلى تعاليم فيها كثير من الجهل والتخلف والإغراق في الطرق الصوفية التي لا تصمد أمام العقل في عصرنا الحالي.
وهكذا عندما بدأت مرحلة الانحدار الذي قادها الأسد بحركته التصحيحية وجد نفسه وجهاً لوجه مع أبناء تلك الطائفة المسيطرين على مفاصل الجيش وحزب البعث معاً، ما أوحى إليه بالاستفادة من الطائفة لخدمة مشروعه في تحويل سوريا إلى جمهورية عائلية فبدأ بالعمل مع أخيه في الجيش والأجهزة وحزب البعث.
أعاد الأسد الطائفة إلى عشائرها الأولى ووّزع المناصب والمواقع الأمنية بينها مستغلاً فقرها الاقتصادي وبحث أبنائها عن مصدر رزق, ترافق ذلك مع تشكيلات عسكرية طائفية البنية مثل الحرس الجمهوري وسرايا الدفاع وسرايا الصراع وإطلاق يدها في المس برقاب البشر والاقتصاد, هكذا تحول الجيش لأبناء الطائفة من مصدر عيش إلى مصدر ثروة, وبخاصة بالنسبة إلى قيادات تلك التشكيلات الجديدة لنشهد في مسقط رأس كل رمز إمارة إقطاعية عسكرية وقصوراً وخدماً مارس فيها الضباط السطوة والعبودية على أبناء جلدتهم وتحولوا إلى شركاء في دورة الاقتصاد والمال.
ربما كانت دراسة أحد دكاترة جامعة دمشق أصدق دراسة عن تحول الطائفة، جاء فيها (عمل النظام على تجهيل أبناء الطائفة وتدمير ثقافتهم السياسية، يعرف كثير من أبناء الطائفة أن مستوى التعليم في الطائفة انخفض بتأثير الدعوات المستمرة للشباب بالتطوع في الجيش حيث كانت الإغراءات تقدم للشباب برواتب جيدة وامتيازات (سرايا الدفاع سرايا الصراع) لا تقاوم، حتى جاء يوم وقد فرغت المدارس الثانوية من طلابها. هذه هي بعض الخدمات التي قدمها النظام للطائفة: تحويل الشباب إلى عسكر يتراكمون في منطقة الـ 86 وعش الورور وغيرها من الحارات المهملة والضائعة في دمشق. وهؤلاء الآن جميعهم يشكلون طبقة مسحوقة فقيرة معدمة لا حول لها ولا قوة وهم كما يسميهم ماركس حثالة البروليتاريا ونسميها حثالة عسكر النظام الذين فقدوا كرامتهم وحريتهم وتعرضوا لكل أشكال الامتهان والاستغلال والقهر في مؤسساتهم العسكرية. إن إحدى الكوارث الكبرى للطائفة أن النظام عسكرها أي فرغها من أهل الفكر والثقافة والمعرفة. لقد كانت هذه العسكرة أحد المصائب الكبرى لأبناء الطائفة العلوية الفقيرة.
إن وجود نسب كبيرة من أبناء الطائفة في الجيش قصة قديمة ترتبط بأوضاع هذه الطائفة. فأبناء الطائفة العلوية من الفلاحين الفقراء جداً ليس لهم شأن بالصناعة والتجارة أراضيهم فقيرة وقليلة ونظراً إلى هذا الوضع شكل الجيش منذ عهد العثمانيين ثم في عهد الفرنسيين ثم في العهد الوطني مصدر رزق لهم. فالعلويون لشدة فقرهم ينتسبون إلى الجيش ويعيشون من خلال الخدمة فيه ومع الزمن تحول الجيش بحكم العادة والفقر إلى مصدر حيوي من مصادر الرزق والتعيش والتطوع في الجيش أمر مرفوض في أكثر الأحيان من قبل سكان المدن وأهل الحرف والتجارة فالجيش هو عمل من لا عمل له. وهذا استمر في عهد الأسد مع بعض التشجيع فأبناء الطائفة العلوية عندما يتطوعون في الجيش يتطوعون ليس من أجل حماية النظام وليس ارتباطاً بالنظام بل يتطوعون من أجل ضمان عيشهم. ولكن النظام السياسي استغل هذه الظاهرة فجَّيشهم في وحدات عسكرية شديدة الولاء ضمن عمليات غسل دماغ مستمرة تؤله الرئيس وأسرته.)(3).
المضحك المبكي في ذلك التحول هو رموز من منبت طبقي فقير ومعدم أيضا كانت كلها متحمسة مثل قائدها الأسد لحزب البعث وللتحرر وللفقراء, فإذ بهم جميعاً ينسلخون عن ماضيهم وتاريخهم ليصبحوا مثل رموز الإقطاع وربما اسوأ ما عرفته الطائفة.
نكتفي بمثال واحد يكاد يكون نموذجياً: إنه قائد القوى الجوية السابق محمد الخولي، محمد الخولي ابن فلاح فقير معدم من قرية الحصنان في بيت ياشوط من ريف جبلة, لم يتمكن أبوه من تعليمه ونيله الشهادة الثانوية من ثانوية جبلة إلا بصعوبة اضطرته في بعض السنين إلى أن يدور على الفلاحين في القرى المجاورة من أجل مساعدة تمكنه من الاستمرار في إرسال المصروفات اللازمة إلى ابنه في مدينة جبلة لإكمال دراسته.
نال محمد الخولي الشهادة الثانوية وأصبح بفضلها قائداً لجهاز أمن المخابرات الجوية، ومن ثم جمع في مدّة قصيرة ثروة محترمة مكنّته من بناء قصر منيف محل بيته العتيق في القرية جعل سطحه مهبطاً لطيارته وأحاطه بأسوار عزلته عن بيوت الفلاحين التي بقيت على حالها, وفي إحدى السنين بعد حرب تشرين جاء بطائرته إلى القرية صيفاً وكانت حقول الفلاحين مملوءة بمحصول أوراق التبغ المشكوكة في خيوط وموزعة في الحقول حتى تجف, لكن مراوح الطائرة بعثرتها وأتلفتها. حاول الفلاحون الحصول على تعويض منه فصّدهم ورفض دفع قرش واحد لهم، ما دفع بعضهم إلى الذهاب إلى جبلة وإقامة دعوى عليه في السرايا.
المأساة أن كثيراً من أبناء البعث الذين كان فقرهم مدقعاً واغتنوا من خلال نهب الدولة سلكوا السلوك نفسه مع جيرانهم وربما أبشع في حين كان أبناء العائلات الوسطى من حزب البعث أرحم بجيرانهم مثل عائلات الخطيب وعيد وماخوس، ذلك السلوك الذي شهدته شخصياً أوحىإ لي بان مشعل التاريخ هو الطبقة الوسطى وليس الطبقة العاملة وحلفاءها من الطبقات الشعبية التي كانت تقولها الكتب الماركسية.
آل الأسد سبب صعود الطائفة وهبوطها
ربما أضافت التجربة السورية بعداً لم يعرفه غيرها. ففي روسيا البلد الأم كان رمز مرحلة الصعود هو لينين, أما مرحلة الهبوط فقد لزمها رمز جديد هو ستالين، وفي مصر كان رمز مرحلة الصعود هو عبد الناصر وقد لزم مرحلة الهبوط رمز آخر هو السادات. أما في سوريا وعند العلويين فقد قاد مرحلة الصعود والهبوط شخص واحد هو حافظ الأسد.
حافظ الأسد المناضل في حزب البعث منذ أن كان طالباً في ثانوية جول جمال, والمتحمس جداً لقيم العدالة والتحرر والتقدم في بلاده انقلب على مبادئه تحت مغريات كرسي السلطة التي وصل إليها لتصبح فلسفته الجديدة –الإمساك بالسلطة مهما كان الثمن– يروى عن وفد شعبي زار حافظ الأسد لتهنئته بالسلامة –بعد محاولة اغتياله في أوائل الثمانينيات– سماعهم منه قوله: التاريخ صراع على السلطة والله لن أترك السلطة ما دام فيّ عرق ينبض لو لم يبق في سوريا حجر فوق حجر.
حافظ الأسد ابن الحزب التحرري قاد تحويل سوريا إلى جمهورية وراثية، من دون أن يرف له جفن, ليظهر في ذلك التحول تخلف الشرق بأبشع صوره. إن صراع حافظ مع أخيه رفعت لم يصل إلى مرحلة كسر العظم إلّا بعد مرضه وظهور أخيه رفعت طامحاً في الخلافة وتحويل الوراثة إلى نسله ليرث السلطة ابنه دريد بدلاً من باسل، هنا هّب حافظ بعد شفائه من مرضه ليبدو وكأنه فلاح متخلف مستعد لقتل أخيه من أجل شبر أرض يريد أن يورثه لابنه وليس لابن أخيه. ليكمل بعد التخلص من أخيه مشواره الذي بدأه معه على قاعدة توريث السلطة من الأب إلى الابن وليس من الأخ إلى الأخ.
بداية ونهاية
انقلبت تلك المرحلة على العلويين في سوريا من حلم إلى كابوس تحوّلوا فيه من نسيج اجتماعي سوري يحوي كثيراً من قيم التحرر والتضامن والتعاضد والتسامح والانفتاح على الآخر الذي يسير ضمن الاتجاه الإيجابي لحركة التاريخ, إلى مناطق تسودها قيم المصلحة الخاصة والاستفادة من الامتيازات السلطوية التي منحت إليهم, لتظهر فيها عادات التشبيح والزعرنة وكل ما هو فاسد وقد أصبح هّم أبنائها المحافظة على مكاسبهم السلطوية بأي ثمن، هكذا كان حالهم عندما انطلقت شرارة الثورة السورية وكان همهم وما يزال المحافظة على مكاسبهم الجديدة.
إنه مكر التاريخ الذي مشى في تلك المرحلة -ليس في سوريا, بل البلدان المسماة بلدان الديمقراطية الشعبية كلها– على رأسه بدلاً من أن يمشي على قدميه، وأسوأ ما بقي منه حس انتهازي تشّكل مع انحدار “الثوار الاشتراكيين” في مرحلة نهبهم للدولة وجمع ثروتهم على قاعدة من السلطة إلى الثروة بعكس طريق خصومهم من الثروة إلى السلطة الذي لم يشهد ذلك القدر من الانحطاط لأنه تطّلب بعض الجد والاجتهاد في جمع الثروة.
محنة الطائفة العلوية الحالية تنبع من مكر التاريخ هذا الذي حّولهم إلى عصا بيد النظام، والآن وقد أصبح الكوكب موّحداً وضمن سوق واحدة يطلق عليها قرية كونية، انتهى فيها ذلك الطريق الاشتراكي وأصبحت القاعدة هي الانطلاق من مكونات المجتمع من الأسفل إلى الأعلى، فإن محنة الطائفة لن تنتهي إلا بعودتهم ليشاركوا في بناء مجتمعهم بما يؤهلهم حجمهم في هذا النسيج الذي لا يتجاوز 13 في المئة وهو ما يعني فقدان امتيازاتهم السلطوية وهم لا يستطيعون تصور ذلك.
محنة الطائفة كبيرة جداً ويجب النظر إليهم بعين الشفقة والرحمة ومساعدتهم لتجاوز محنتهم ولكن أفعال الإسلاميين المتطرفين وأفعال النظام زادت الطين بلّات فتعقّد الوضع أكثر.
يحضرني هنا قول للشيخ صالح العلي فيه إشراق وعبقرية ورؤية ثاقبة لما يحصل حالياً في سوريا ذكره حفيده المحامي عيسى إبراهيم قال فيه لوفد زار الشيخ صالح من وجهاء الجبل لتهنئته بجلاء الفرنسيين بعد عودته من حفل تقليده وسام استحقاق قلّده إياه رئيس الجمهورية السورية شكري القوتلي (رّد الشيخ على من بادروه بالقول لقد فهمنا رفضك سابقاً للدولة العلوية، ولكننا لم نفهم رفضك عرض ديغول بتسلم الدولة السورية، خصوصاً وأنت ترى وضع العلويين الآن وفقرهم. أجاب: في ظل وعي سياسي غير كاف فالأغلبية ستكون دينية لا سياسية. أي إن أقلية دينية أو عنصرية أو حزبية لن تتمكن من قيادة سوريا باعتبارها لا تمثل أغلبية من مجموع السوريين، ومن ثم لن تستطيع النهوض بسوريا, وفي حال جرى ذلك سيكون حكم الأقلية مرهوناً بالدعم من القوى الخارجية لكي يتمكن في الاستمرار, ما يضعف الأقلية ويضعها في مواجهة الأكثرية ويجعل سوريا مرهونة للخارج وفي حالة ضعف وتداع)(4).
خاتمة
والآن وبعد أن تحّولت سوريا إلى ساحة صراع إقليمي وعالمي لا أحد يدرك نتائجه ونهاياته، وإمام إصرار الشعب السوري على نيل حريته وعدم العودة إلى حظيرة العبودية فإنني أرى أن الطائفة على مفترق طرق, وأنا واحد من أبنائها انحدرت منها وأعرف وضعها أكثر من غيري ومن حرصي عليها وعلى مكونات الشعب السوري كلها أرى أن اللجوء إلى استحضار عفن الماضي الطائفي وتوظيفه سياسياً والعزف على مشاعر وتقاليد ومظلوميات تاريخية قد يعرقل حركة التاريخ ولكنه لا يستطيع أن يوقفها إلى الأبد، يحز في نفسي هنا أن أجد جزءاً كبيراً من علمانيي الطائفة العلوية لا يخجلون من المجاهرة بحلم الدويلة بحجة استحالة العيش مع أبناء الطائفة السنية (المحافظة، الرجعية المتعصبة).
إنني أظن أن منطق العصر سيدفع بالنهاية المكونات السورية كلها إلى بناء دولة عادلة تقف على مسافة واحدة من الجميع، وأن الزمن الذي أفرز حكومات اعتمدت على أقليات قد ولّى، وقد آن الأوان لتتخلى هذه الطائفة عن مشروعاتها الطائفية السلطوية وأن تشارك في إكمال طريق سوريا الديمقراطي الذي بدأ في الخمسينات من القرن المنصرم. ومع إدراكي لخطورة المرحلة الانتقالية وما قد تشهده من ردات فعل متباينة وانتقامات، إلا أنني أرى أن التقليل من الخسارات والانتكاسات يكون بالمشاركة بقوة في بناء سوريا المستقبل إلى جانب المكونات الأخرى وإدراك أن السنة كطائفة هي أم الصبي، والسنة تاريخياً في سوريا لم يضطهدوا غيرهم من الأقليات، وقد تميزوا بالوسطية والاعتدال، وعلى العلويين وغيرهم من الأقليات الإقلاع عن التفكير بحمايتهم عن طريق النظام أو عن طريق شيعة إيران أو عن طريق قيصر روسيا.
ما يحمي الطائفة العلوية من وجهة نظري هو المشاركة بقوة في دحر الاستبداد أولاً ودحر الغزاة ثانياً. هذه هي الطريق التي تنقذ الطائفة وتنقذ الوطن وتنقل سوريا إلى فضاء الديمقراطية، وهذه هي الضمانة لمستقبلهم ولتطورهم المادي والروحي.
مراجع
- من مقدمة للشيخ عبد الرحمن الخير لكتاب عارف الطويل عن العلويين.
- تاريخ العلويين وأنسابهم، المحامي محمد خوندة، ص 32.
- الطائفة العلوية في قفص الاتهام، د أسعد وطفى، منشورة في موقع الشيخ صالح العلي.
- تفاصيل وأحداث مجهولة عن الشيخ صالح العلي والثورة السورية رواها حفيده المحامي عيسى إبراهيم في مقابلة معه نشرت في جريدة الأنباء الإلكترونية في 1/7/2017.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.