تناقش هذه الدراسة ثقافة الانتحار التي كنا نصفق لها ولم ندرك مخاطرها إلا بعد ظاهرة داعش المتوحشة؛ هذه الثقافة بدأت عندما أراد بعض المشايخ نسب العمليات الانتحارية إلى الإسلام ذاته، في محاولة منهم لإيجاد أصل شرعي لهذه العمليات لتسويغها، ظناً منهم أنها السلاح الأمثل، الذي سيحقق النصر ويعيد إلى الحركات الإسلامية منزلتها في الوصول إلى الصدارة في الأمة الإسلامية، لذلك نرى أن موقف العلماء الذين أباحوا العمليات الانتحارية قد بُني على افتراض مفاده أن هذه العمليات ستغير مجريات (السياسة) لا الواقع، نناقش الفكرة من خلال ما يأتي:
- العمليات الانتحارية معضلة ثقافية في العلاقة مع الآخر.
- ترويج ثقافة الانتحار في الإعلام.
- لماذا نسبوها إلى الإسلام؟.
- فتاوى تحت الطلب.
- المشهد الفلسطيني واستحضار الثقافة.
- العمليات الانتحارية والغرب.
- كيف جاءت العمليات الانتحارية؟.
- إيران أول من ابتدع فكرة العمليات الانتحارية في حربها مع العراق.
- تزوير أدلة تاريخية لشرعنة العمليات الانتحارية.
- خطوات صناعة الانتحاريين.
- ما الحل؟
المدخل
مع أن العرب لم يكونوا أول من صنع فكرة العمليات الانتحارية، لكن هناك بالفعل مسؤولية تاريخية خطرة تقع على عاتق بعض الدعاة وعلماء الدين العرب، والتيارات الإسلامية المختلفة التي أسست لوجود فكرة العمليات الانتحارية*، أو حاولت الربط بين القضايا السياسية أو الاحتلال أو مفهوم المقاومة وجواز تلك العمليات، وجاءت بعض المراجعات في الفتاوى(1) لتعمل على تضييق هذا الباب، خصوصاً فتوى الشيخ يوسف القرضاوي الذي خصصها بمنطق الضرورة للفلسطينيين، ولكن هذا التخصيص لم يكن ليثني كثيراً من المنظمات الجهادية خارج فلسطين، فقد وجدت نفسها تعيش منطق الضرورة أيضاً، وهكذا كانت الأمة الإسلامية أمام مفارقة تاريخية، فهناك من أراد الاجتهاد باستصدار فتوى تسوغ أمراً بدأ بالحدوث داخل فلسطين، لكنها فتحت بفتواها تلك نار جهنم على عموم العالم الإسلامي، فتجربة العمليات الانتحارية في فلسطين كانت عقب انتشار هذه العمليات في لبنان، على أيدي حزب الله وحركة أمل إضافة إلى قوى اليسار اللبناني، والمقصود هنا بالعمليات الانتحارية، هو ليس تلك المجموعات القتالية التي تدخل مناطق الأعداء وتشتبك داخلها، لأن تلك العمليات قد تنتهي بموت الأشخاص أو أسرهم، بمعنى أن احتمال البقاء قائم، ولكن ما نقصده في العمليات الانتحارية، هو قيام شخص بتفجير نفسه لقتل الآخرين، بمعنى أن احتمال النجاة معدوم.
العمليات الانتحارية معضلة ثقافية في العلاقة مع الآخر
ما بعد ذلك، لقد بتنا أمام معضلة حقيقية، وهي مسألة صوغ مفهوم العمليات الانتحارية، لكي تصبح جزءاً من عموم هذه الثقافة، حتى باتت فكرة العملية الانتحارية تمر في بعض وسائل الإعلام العربية بوصفها عملاً بطولياً مميزاً، ما يعني أننا بتنا أمام أزمة ثقافية خطرة، لم ندرك معناها إلا بعد 11 أيلول، وما أعقبه من ظاهرة فوبيا الإسلام ثم ظهور تنظيم داعش في سوريا والعراق وتمدده خارج الجغرافيا العربية.
هذا التنظيم الذي استخدم جنون العمليات الانتحارية ورعبها في نطاق واسع، وبالطبع لم يكن داعش مبتكراً لهذه العمليات، إلا أنه أسس بناءه هذا على الذين سبقوه، مثل تنظيم القاعدة، الذي استخدم العمليات الانتحارية في أفغانستان وغيرها، وكانت المأساة الكبرى هي وجود جمهرة كبيرة من العلماء كانت قد أباحت فكرة العمليات الانتحارية.
لقد كانت حقبة صعبة، فكثير من الأحزاب والحركات السياسية في شرق المتوسط بات تريد الانتحاري الخاص بها، لكي تقوم بتعليق صورته على الجدران، وتحتفل به في مناسباتها الوطنية، ففي لبنان بدءاً من حركة أمل وحزب الله، وصولاً إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي والشيوعي وغيره. يضاف إلى ذلك المشهد الفلسطيني وظهور عمليات حركة حماس والجهاد الإسلامي الانتحارية التي لاقت رواجاً ودعماً كبيراً من الدعاة والمشايخ ودور الفتوى، وحتى الآن لا يجرؤ أحد على استخدام كلمة (الانتحاري) في كل من فلسطين ولبنان، بينما هناك ثقافة تتعامل مع هذا المشهد على أنه عمل بطولي مميز ورأت أن (العمليات الاستشهادية) ليست محض خيار مباح شرعًا، ولكنها جهاد مارسه المؤمنون بالله منذ فجر التاريخ البشري، بحسب المصدر(2).
ترويج ثقافة الانتحار في الإعلام
برزت خطورة هذه الثقافة، عندما وصل الأمر إلى ظهور برامج ومؤلفات وفضائيات مخصصة لمخاطبة الطفل، مثل (قناة طيور الجنة) المحسوبة على تيارات إسلامية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، كانت تلك القناة قد أطلقت في السنوات السابقة برامج وأغاني للأطفال، ومن الأمثلة، أغنية (لما نستشهد بنروح الجنة)(3) فقد تسللت هذه الأغنية إلى آذان الأطفال العرب، ونشأ جيل يستمع إلى هذه الأغنية التي تحمل معاني في غاية الخطورة على عقول الأطفال، فالطفل في سنوات عمره الأولى الذي استمع إلى كلمات مضمونها (أن الحصول على الشهادة هو غاية) ماذا أبقينا له من ثقافة بعد ذلك، فعندما يكبر هذا الطفل، وحال تعرضه لأول صدمة مجتمعية تواجهه في سن المراهقة، يستحضر في ذاكرته فكرة الانتحار، لأنه يظن أن الحياة مختصرة، هي ما بين الولادة والجنة، والفاصل بينهما هو الموت، وبهذه الثقافة، يصبح مفهوم الموت محض لحظات فاصلة قبيل الانتقال إلى الحياة الثانية.
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون. (4)
هذه الآية تتحدث عن تكريم الشهداء وحسن منزلتهم، استخدامها في غير مكانها سوف يبدو جلياً وواضحاً، عندما يستخدمها شيوخ المساجد مادة يومية، تُطلق عبر الدروس اليومية في المساجد أو عبر الفضائيات، وبالطبع هناك في (يوتيوب)(5) آلاف المشاهد الحية التي توثق هذه الصورة، بينما لم يكن مطلوباً من الأمة بتاتاً أن تخاطب المدنيين بهذا الأمر، إذ إنه حتى في العصر النبوي، أو العصور الإسلامية اللاحقة، كان الخطاب التحريضي على الجهاد في ميدان المعركة فقط، ولم يكن يشمل المدنيين.
عموماً، لقد بتنا أمام ثقافة من نوع غريب، مدعومة بوسائل إعلامية واسعة الانتشار، ويقف خلف هذه الثقافة قسم مهم من علماء الدين، ويتبعهم جيش من العاملين في قطاع الإعلام الذين ينقلون صورة الإجلال والإكبار لكل من يقدم على فكرة العمليات الانتحارية، وهو ما أدخلنا بالفعل في المتاهة، وإذا كانت الصدمة بظهور داعش سبباً في تراجع بعضهم عن فتواهم حول إباحة العمليات الانتحارية، لكن الدم والإثم والكارثة ما تزال مستمرة.
لماذا نسبوها إلى الإسلام؟
بدأت المأساة الفعلية عندما أراد العلماء والمشايخ نسب العمليات الانتحارية إلى الإسلام ذاته، في محاولة منهم إلى إيجاد أصل شرعي لهذه العمليات لأجل تسويغها، ظناً منهم أنها السلاح الأمثل، الذي سيحقق النصر ويعيد إلى الحركات الإسلامية منزلتها في الوصول إلى الصدارة في الأمة الإسلامية، لذلك إن موقف العلماء الذين أباحوا العمليات الانتحارية سنراه قد بُني على افتراض مفاده أن هذه العمليات ستغير مجريات (السياسة) لا الواقع، ظناً منهم أن دعم الحركات الإسلامية التي تتبنى فكرة العمل الانتحاري بهذه الفتاوى، سيعيد رسم أمجاد غابرة، ولكنهم أخطؤوا، ووضعوا الإسلام في مواجهة مع الغرب، بعدما حمّلوا الإسلام ذاته، تبعات لم يكن هناك من أحد يتبناها بالمطلق طوال القرون الماضية، وهي أمور لا أحد يستطيع قبولها في هذا العصر أو غيره، وفي تقديري إن القلق في المجتمعات الغربية ظهر بالفعل حال تشريع بعض الفقهاء المشهورين لفكرة العمليات الانتحارية، وخصوصاً أن الغرب بدأ يتلقى هذه الصدمات، ما بعد 11 أيلول.
لهذا، إن ما قيل في مسألة تشريع القيام بالعمليات الانتحارية، وإطلاق تسمية (العمليات الاستشهادية) عليها، كان كله علامة فارقة في الفكر الإسلامي المعاصر في مواجهة نفسه أولاً، لأن المجتمعات الإسلامية تعاني اليوم هذه الأزمة، يضاف إلى ذلك أن المسلمين باتوا في مواجهته مع عموم الثقافة العالمية، وليس الغربية فقط، وبات عليهم إقناع العالم بهذا التناقض العجيب، فكيف يمكن للإسلام أن يبيح العمليات الانتحارية، وكيف يمكن له أن يعود في أذهان الناس دين سلام؟
في المستوى الداخلي، بات واقع الأمة الإسلامية أمام نقطة تحول جوهرية في مسألة الفتوى المتعلقة بتشريع قتل الإنسان لنفسه بذرائع ومسوّغات سياسية، بل وحثه على القيام بذلك، ووصفه بأنه غاية مهمة لأجل استمرار الحياة، وأن هذه الغاية يُبنى عليها من العمل الإيجابي ما لا يبنى على غيرها، ثم تلت ذلك مسألة الغوص لاستحضار الفتوى من عمق التراث الإسلامي، من أجل تسويغ فتاوى تخدم قضايا معاصرة، وكانت تلك إشكالية في القضايا الشرعية والقانونية، والعلم والبيئة والحياة المعاصرة في هذا الكون.
فتاوى تحت الطلب
اعتبر الدكتور يوسف القرضاوي أن العمليات الانتحارية من أعظم أنواع الجهاد في سبيل الله. وشدد على أنها فدائية بطولية استشهادية، وهي أبعد ما تكون عن الانتحار، (6) وجاء ذلك في معرض رده على مفتي المملكة السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ بأن طريقة قتل النفس بين الأعداء أو ما يسمى بالطرائق الانتحارية لا أعلم لها وجهاً شرعياً ولا أنها من الجهاد في سبيل الله وأخشى أن تكون من قتل النفس. المصدر نفسه. نقلاً عن الشرق الأوسط.
وفي ما بعد أعاد المفتي العام للسعودية تأكيد ذلك بقوله: إن من يفجر نفسه بالأحزمة الناسفة “مجرم عجل بنفسه لنار جهنم” (7).
الأصل في الفتاوى التي أجازت العمليات الانتحارية أنها جاءت لخدمة جماعات إسلامية بعينها، كانت بحاجة إلى هذه الفتوى، لأجل القيام بعمليات عسكرية كان يتعذر عليها القيام بها، وأرادت تلك الجماعات استثمار هذه الأعمال من أجل الصعود السياسي، ولفت انتباه شباب الأمة إليها، ومن ثم زيادة الإقبال عليها، وهو ما زاد بالفعل من شعبية هذه الجماعات، وأيضاً ما ساهم في توريط علماء ومشايخ، في تأييد هذه الفتاوى التي لم تأت أصلاً بسبب حاجة الأمة الإسلامية إليها، وإنما جاءت لكي تخدم فكرة، كانت تريد هذه الجماعات منها، أن تصبح عنوان الأمة، ونقطة استقطاب شبابه، ومن ثم إن الأصل في الفتوى ارتكز على قاعدة ليست أصيلة في الشريعة الإسلامية ولا على قاعدة الحاجة إلى هذه الفتوى، إنما جرى استحداث قاعدة طارئة، صنعتها المصالح السياسية، وهكذا ظهرت هذه الفتوى.
لم تتوقف المسألة عند الشيخ القرضاوي، أو غيره، بل انطلق عبر السنة عشرات المشايخ، وكان أغلب تلك الفتاوى مسجلة عبر البث الفضائي، بحيث وصلت إلى أكبر قدر من الناس، وكان ذلك بالطبع وسط أجواء من الحماسة، التي كانت تتردد من داخل فلسطين ولبنان، وكانت بعض وسائل الإعلام العربية تقدم وصايا الانتحاريين بما يزيد من حجم التعاطف مع هذه القضية.
الصورة داخل المشهد الفلسطيني
في حوار لـ خالد مشعل على قناة الجزيرة(8) وورداً على سؤال أحمد منصور معد البرنامج حول العمليات (الاستشهادية) يقول خالد مشعل: هناك إقبال غير محدود كما وصفت “التايمز” اللندنية …. استعرضت ميزان القوى بين الفلسطينيين والصهاينة،.. وجدت أن الميزان العسكري كله لمصلحة الصهاينة في الطائرات والدبابات والمدفعية والسلاح والقوات النظامية،.. الشيء الوحيد اللي تفرد به الفلسطينيون عدد لا محدود من الاستشهاديين.
بهذه المفارقة إذاً يصف خالد مشعل معادلة العمليات الانتحارية على الأرض، وهو في ذلك اللقاء المتلفز اعتبر أيضاً أن الدعم لفكرة الاستشهاديين هو من الشارع الفلسطيني والعربي، فالمسألة تبدو هنا محض معادلة سياسية وعسكرية معاً، وحتى في استعراضه لوصف صحيفة التايمز للحدث، فهو لم يدرك مغزى رسالة التايمز اللندنية.
عموماً، كان يجب أن يدرك خالد مشعل أن العمليات الانتحارية في لبنان، أو أفغانستان، كان العالم يقرؤها بصورة مختلفة، إذ كان يسود مشهد غياب الدولة في ذلك الوقت، ما يعني أن الفوضى قد ينشأ عنها ما لا يمكن منعه في حينه، ولكن في الحالة الفلسطينية كان الأمر مختلفاً تماماً، فهناك محاولة سياسية تديرها السلطة الفلسطينية من خلال زعيمها ياسر عرفات آنذاك، وهذه المحاولة سواء كانت ناجحة أم فاشلة، فهي في ذلك الوقت ومن خلال هذه العمليات الانتحارية، كانت تعمل على تغيير صورة الغرب للقضية الفلسطينية، وحول إمكانية السلطة الوليدة في الوقوف على الأرض وصناعة (منطق الدولة) وهذا من جانب، وأما الجانب الآخر، فإن وجود العمليات الانتحارية في فلسطين تحديداً، وتقديم الشعب الفلسطيني على أنه مجموعة من الانتحاريين الذين ينتظرون الدور للقيام بعمليات انتحارية بحسب وصف خالد مشعل في المقابلة ذاتها، ذلك كله أساء ليس فقط إلى الفلسطينيين، بل هو نقل المشهد العام برمته من مرحلة التعاطف مع الشعوب العربية بسبب قضية فلسطين، إلى مرحلة جديدة تقوم على الشك، ولهذا فإن العمليات الانتحارية في فلسطين، كانت سبباً في دخول الشك إلى عموم العقل الغربي، الذي بدأ يتعامل مع المشهد الفلسطيني بصورة من الشك والقلق.
فارق كبير بين الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجارة، التي جذبت العالم إليها وتعاطف معها، والتحولات السياسية الخطرة التي أعقبت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، عندما نقلتها كل من حركة حماس والجهاد الإسلامي نحو مواجهة جديدة، وعناوين جديدة للساحة الفلسطينية، فالحشد الفلسطيني حول حماس والجهاد الإسلامي، كان مقدمة لانتقال فكرة الإسلام السياسي الفلسطيني والعربي نحو مشهد جديد، هو ذلك المشهد المقبل، الذي انعكس سلباً على القضية الفلسطينية برمتها.
ما بعد الانتفاضة الثانية، كان هناك صعود للحركة الإسلامية الفلسطينية، وكانت انتخابات وغير ذلك، لكنه ذلك الصعود نحو الهاوية، وهو ما نشاهده الآن، فالسلطة تعاني، وغزة محاصرة، والأفق الفلسطيني محدود، ولكن، ماذا أنجزت العمليات الانتحارية في المعادلة العسكرية بين الفلسطينيين وإسرائيل؟
عام 2009 ناقشت جامعة بيرزيت (9) رسالة ماجستير للطالبة الفلسطينية (سميرة فخري الحموز) وكان عنوان الدراسة (العمليات التفجيرية وأثرها على انتفاضة الأقصى) وقد استعرضت الدراسة جملة من الآراء الفلسطينية، ولعل أبرزها كان موقف العميد ماجد فرج، مدير الاستخبارات العسكرية في الضفة الغربية آنذاك إذ قال: إن إسرائيل استطاعت استغلال هذه العمليات تحديداً بعد أحداث 11 أيلول لتشويه صورة النضال الفلسطيني أمام المجتمع الدولي، الذي أخذ يتعامل مع الطرف الفلسطيني بوصفه طرفاً إرهابياً وليس شريكا في عملية السلم والمفاوضات، ما أعطى إسرائيل تبريراً كافياً لاستخدام القوة العسكرية في تدمير مؤسسات السلطة وبناها التحتية وفي حصارها للرئيس عرفات، والقيام بعملية السور الواقي والاجتياحات المتكررة والاغتيالات والاعتقالات وبناء جدار الفصل العنصري ومصادرة الأراضي وبناء المستوطنات. من هنا يرى أن العمليات التفجيرية التي قامت بها كل من حماس والجهاد السلمي كانت لأهداف سياسية وليست نضالية، إذ كانت تهدف وبشكل أساسي إلى إلغاء المفاوضات وإسقاط اتفاق أوسلو، وإثبات أن السلطة الوطنية بزعامة الرئيس ياسر عرفات عاجزة عن السيطرة على الوضاع، وأن على العالم أن يتحدث مع حماس التي طرحت نفسها وما زالت بديلا ِلـ(م.ت.ف) .انتهى الاقتباس*
العمليات الانتحارية والغرب
لقد كانت القضية الفلسطينية نقطة إجماع عربية، وكان التعاطف من حكومات العالم وشعوبه يزداد يومياً، ولكن بعد ذلك، ومن خلال سياسة العمليات الانتحارية، ثم مسألة تسويقها في المستويات الشرعية والإعلامية، باتت هناك صورة ضبابية شاملة حول عموم الإسلام ذاته، ساهمت فيها منظمة القاعدة المتطرفة عبر 11 أيلول، وهنا كانت مرحلة من الاضطراب في العقل العالمي، الذي بات يحتاج إلى إعادة فهم المسوغات الدينية التي أطلقها عدد من الدعاة إلى هذه العمليات، وتسببت في أزمة لدى شعوب العالم، إضافة إلى الشعوب الإسلامية ذاتها، لأن صورة العمليات الانتحارية لم تكن موجودة مسبقاً في أذهان العالم الإسلامي.
اليوم باتت صورة المجتمعات العربية والإسلامية في الغرب، هي الأسوأ منذ عقود، فلم نعد في أعين الأجانب محض أمم متأخرة عن سلم النهوض الاجتماعي فحسب، ولم تعد مشكلة مجتمعاتنا هي الديمقراطية وعدم نجاح هذه التجربة في بلادنا، بل الأمر تعدى ذلك كله، اليوم باتت صورة المسلم في الغرب، أنه يمثل خطراً على الإنسانية جمعاء، فهو في نظر بعضهم ذلك الانسان الذي لا يستطيع الاندماج أو قبول العيش في المجتمعات الغربية، ومن ثم سرعان ما يتحول هذا الإنسان إلى كائن متطرف محب للموت ومعادٍ للإنسانية.
وهو الإنسان الذي يرتكب الفعل الانتحاري، ولا يميز بين طفل وعجوز، وهو الذي لا يتحلى بالإنسانية المطلوبة التي يميل إليها كل إنسان بطبعه، وبذلك باتت صورة المهاجر العربي والمسلم في الغرب صورة مشوهة، يعانيها المهاجرون الجدد، والطلبة، وحتى الذين وصلوا إلى الغرب منذ عقود طويلة.
صحيح أن هناك قسماً كبيراً من الشعوب الأجنبية تفهموا أحداث 11 أيلول، وأدركوا أنها من أفعال قوى متطرفة مخالفة في فكرها للأغلبية الساحقة من المسلمين، لكن ظهور تنظيم داعش من رحم تلك الجماعة، وإقدامه على صناعة أبشع أنواع التطرف، أعاد الموضوع برمته إلى الواجهة، وبات يطرح أسئلة عن إمكان تجديد ثوب التطرف وإعادة إنتاجه لنفسه من جديد، يضاف هذا إلى أن داعش قد تعمدت اختراق جمهور المسلمين الموجودين في الغرب، وقامت بجذبهم إليها للالتحاق بها كمقاتلين، وجعلت بعضهم يرتكب جريمته بمنتهى الوحشية داخل الدول الغربية، وهو ما جعل نقطة التحول هذه تسير في غير مصلحة المسلمين في الغرب الذين باتت فكرة (الإسلام فوبيا) تؤرق حياتهم بشكل يومي في الغرب.
أوروبا، تعيش اليوم على وقع أزمات اللاجئين التي أدت إلى فوز اليمين الشعبوي في أكثر من بلد، كان آخرها إيطاليا، وهو ما بات يتجسد في حالة من الكره للاجئين القادمين من مناطق الصراعات في الشرق الأوسط. وتأتي ألمانيا على وجه الخصوص التي استقبلت مئات الآلاف اللاجئين السوريين منذ عام 2015، لكنها عام 2016 سجلت 3500 جريمة اعتداء ضد اللاجئين وعام 2017 سجلت 2219 هجوماً على اللاجئين بحسب أرقام رسمية كشفها الموقع الرسمي لقناة DW الألمانية تم توثيقها بتاريخ 28 شباط فبراير 2017 من قبل مجموعة فونكه الإعلامية. (10) وهو ما بات ينذر بتحولات فكرية وثقافية تدفع باتجاه حالة من الكره تجاه العرب والمسلمين*، وهو ما سينعكس سلباً في مستقبل التطور والوعي ومستقبل نهضة البلدان العربية والإسلامية التي قد تجد نفسها في حالة عزلة اجتماعية لدى كثير من المجتمعات الغربية.
كيف جاءت العمليات الانتحارية
تتميز الهجمات الانتحارية بأنها سلاح خطر قادر على اختراق الحواجز الأمنية والتحصينات (11) والوصول إلى أهداف صعبة وبخاصة داخل المدن، ويستغل من يديرون هذه العمليات نوعاً من الأشخاص ذوي الأعمار الصغيرة، تكون ثقافتهم بطبيعة الحال محدودة ومتدنية، وعادة لا يكون الاختيار مصادفة. فالانتحاريون أنواع عدة، بعضهم لجؤوا إلى جماعات مقاتلة بفعل أوضاع قاهرة دفعتم إلى ذلك، ما بات معروفاً بظاهرة تجنيد الأطفال. بعض منهم انفصلوا كلياً أو جزئياً عن عائلاتهم نتيجة تلك الأوضاع، وغالباً تكون أسرية يجري التكتم عليها من أصحابها، وبعضهم أطفال، إذ بحسب تقرير نشرته اليونيسيف يجري تجنيد آلاف الفتيان والفتيات في القوات المسلحة الحكومية والجماعات المتمردة للعمل كمقاتلين وطهاة وحمالين.. ويجري تجنيد عدد منهم قسراً، على الرغم من أن بعضهم ينضمون نتيجة ضغوط اقتصادية أو اجتماعية أو أمنية. وهو التقرير الذي أعاد تأكيد الدراسة الشهيرة التي نشرتها الأمم المتحدة في وقت سابق، المعروفة باسم تقرير ماشيل (12) وهو دراسة (أجرتها السيدة غراسا ماشيل عام 1996) ذكرت فيه إن الأطفال المرتبطين بالقوات المسلحة أو الجماعات المسلحة يتعرضون لعنف هائل – ويضطرون غالباً إلى مشاهدة أعمال العنف وارتكابها ويتعرضون للإيذاء أو الاستغلال أو الإصابة أو حتى القتل. ويحرمهم هذا الوضع من حقوقهم، ويصاحبه غالباً عواقب جسدية ونفسية قاسية(13).
فمسألة (الاستغلال) هي النقطة الجوهرية التي تعتمد عليها الجماعات المسلحة، إذ تعمد إلى صوغ برامج خاصة تسيطر من خلالها على عقول الصغار، الذين في أغلبهم لا يعرفون معنى الحرب، ويظنون أن البطولة هي مسألة إيجابية خارقة، وأن إقدامهم على الدخول في الحرب هو عمل إيجابي، ونتيجة المتغيرات التي يمرون بها يمكن أن يتحولوا إلى انتحاريين خطرين جداً، خصوصاً أنهم أطفال يمكنهم النفاذ إلى أي منطقة من دون إبداء الشكوك حولهم.
هناك كثير من هذه الظواهر، كانت إحداها لأب داعشي أرسل طفلتة 7 سنوات إلى تنفيذ عملية انتحارية في منطقة تحت سيطرة النظام في دمشق، (14) مع أن هذا الفعل جرت قراءته في حينها أنه استغلال مبرمج وقد يكون متفق عليه بين الأب والنظام، إلا أن القصة كلها تقف في دائرة الاستغلال، ولاحقاً عندما عرضت وسائل التواصل الاجتماعي الحديث الأخير بين الاب وابنته الذي سجل بحضور الأم ووجود شخص آخر لم يظهر في الفيلم، وهو الذي كان يؤدي وظيفة المصور، هنا كان الحديث مثيراً وغريباً، فهو يسوغ فعلته حتى لا تقع الطفلة مستقبلاً ضحية الاغتصاب. هنا مفارقة مهمة، فهناك فرق كبير بين إنسانة تقرر الانتحار للفرار من الاغتصاب، وطفلة يخبرونها أن عليها أن تنتحر حتى تتخلص من الاغتصاب، وفي الحالين كلتاهما هناك إشكالية، لأن القيام بفعل غير طبيعي نتيجة فعل غير طبيعي يقع في حينه هو أمر مختلف عن تكريس تعليم الطفل ثقافة الموت بوصفها حلاً، أو خياراً لما يمكن أن يقع عليه من فعل غير طبيعي أو غير سوي.
الحادثة الثانية كانت لأب من داعش أرسل طفله 11عاماً لتنفيذ مهمة انتحارية في ريف حلب الشمالي في شباط 2016 ونشر الأب صورة له وهو يعلم ابنه الطفل قيادة السيارة لأجل هذه المهمة اللاإنسانية، وهو ما شكل صدمة للمجتمع السوري، والعربي الذي لم يعرف وحشية بهذا القدر، فكيف يمكن للأب أن يضحي بابنه أو ابنته وكم هو واقع تحت سيطرة أولئك الإرهابيين القتلة.
إيران أول من مارس العمليات الانتحارية
ولكن، هنا السؤال الأبرز، فمن أين جاءت فكرة تحويل الأطفال إلى انتحاريين؟ إنها ليست فكرة عربية بل جاءت من إيران، وبحسب ما نشره موقع روسيا اليوم في (21-7-2017) يقول فيه أول عملية انتحارية (15) وقعت في منطقة الشرق الأوسط كانت في 30 تشرين الأول عام 1980، ونفذها صبي إيراني يبلغ من العمر 13 عاماً، إذ هاجم دبابة عراقية في مدينة خرمشهر جنوب غرب إيران، بعد أن لف قنبلة يدوية على وسطه، وتسلل تحت الدبابة وتسببت العملية الانتحارية في إعطابها.
دعونا نتوقف هنا ونسأل؟ ما حاجة دولة كبيرة مثل إيران إلى مشاركة الأطفال في الحروب، ثم ما هي هذه الثقافة التي يجري إرساؤها عبر زراعة فكرة الانتحار في عقول الأطفال، ولذلك سوف نرى في ما بعد دور حزب الله في تجنيد الأطفال وإرسالهم إلى الموت، وكذلك الحوثيين، وبعض المليشيا الطائفية في العراق، فهذا كله يجعلنا نرجع إلى نقطة الانطلاق، إنها فكرة جاءت من إيران.
أدلة تراثية تستخدم تدليساً لمشروعية العمليات الانتحارية
كما أشرنا في البداية، فإذا كانت العمليات الانتحارية مستحدثة، فمن أين ستاتي الفتوى التي ستلائم هذا الحدث؟ هنا معضلة الدعاة والمشايخ، الذين يصطدمون بواقع جديد، فتبدأ مسألة البحث في بطون الكتب لاستخراج نص يستندون إليه في فتاواهم، ومع ذلك بقيت معضلة العمليات الانتحارية فريدة من نوعها، وبقيت مصادر الفتاوى التي جرى الاستناد إليها ذات إشكالية كبيرة.
الفتوى الأولى هي التي جاءت تستند إلى ما يعرف في كتب الحديث والتفسير بحكاية فتى سورة البروج(16) وهي بحسب ما وردت في مختلف كتب الصحاح، وهو شاب كان يعيش في قديم الزمن، وقد اختلف على مكانه، بين اليمن والجزيرة العربية وغيرها، ومختصر قصته أن ملكاً كان يدعي الألوهية أراد أن يقتل ذلك الغلام المؤمن بوحدانية الله لكي يتخلص منه، وبعدما فشل الملك في محاولاته لقتل ذلك الغلام، قال الغلام للملك، إن بمقدوره قتله اذا استجاب لشرط واحد، والشرط هو أن يجمع الملك الناس، وأن يحمل رمحاً ويقول قبل إطلاقه على الغلام كلمات (باسم الله رب الغلام) وأخبره الغلام أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن للملك أن يتخلص بها منه، وعند سماع الملك كلام الغلام، قرر فعل ذلك، وجمع الناس، وقال أمامهم باسم الله رب الغلام وأطلق السهم فمات الغلام.
الحكمة من هذه القصة، أن الملك الذي كان يدعي الألوهية، وجد نفسه مجبراً على الاعتراف أمام الناس أن هناك رباً آخر، هو رب الغلام، وهي قصة طويلة تنتهي بقتل الملك للغلام ولكل من آمن مع الغلام.
الملاحظ في هذه الحكاية، أن هذا الغلام ضحى بنفسه لأجل أن يؤمن الناس بالدين الجديد الذي كان يعتنقه وأن يظهر للناس اعترافاً صريحا من الملك أن هناك إلهاً هو رب هذا الغلام، وأن الملك يقف عاجزاً أمام رب هذا الغلام. لكن الملاحظ أن هذا الغلام لم يقم هو بقتل نفسه ولا بقتل الآخرين معه، وهنا المفارقة المهمة، فكيف يمكن الاستشهاد بقصة شخص لم يقتل أحداً، وكيف يمكن اعتبارها دليلاً على جواز العمليات الانتحارية التي تحدث اليوم؟.
الحكاية الثانية التي استند إليها أصحاب الفتاوى هي قصة البراء بن مالك، وهو صحابي روت كتب السير أن أحد الحصون في معركة اليمامة استعصى فتحه على جيش المسلمين، فاقترح البراء بن مالك عليهم أن يقذفوه إلى داخل سور ذلك الحصن إذ سيقوم بنفسه بفتح بوابة ذلك الحصن (17) وهذا ما فعلوه.
هنا جرى الاستدلال بالحادثة أن ذلك الصحابي ألقى بنفسه إلى الموت، وكان بمنزلة استشهادي محتمل، ولكنه طبعاً لم يمت، بل نجح في فتح الباب لذلك الحصن. ولو أردنا أن نجري مداخلة منطقية، فأين هو العمل الانتحاري؟
هذا أولا، وثانيا، هناك مسألة جوهرية، أن أبواب الحصون عادة ما تكون سميكة وقوية جداً، وتحتاج إلى رجل قوي حتى يتمكن فتح البوابة، لأنها عادة تكون بوابة كبيرة لأجل دخول العربات والخيول، ولو افترضنا جدلاً أن هذا الرجل أصيب لحظة قذفه إلى داخل الحصن، فمن المستحيل عليه القيام بفتح تلك البوابة.
ما أردته هنا هو الآتي: إن هذا الرجل كان في معركة، واقترح قذفه إلى داخل سور تلك القلعة بطريقة لا نعلمها، وهذه الطريقة عملياً أوصلته سالما إلى داخل القلعة، ولو كان غير ذلك لما تمكن فتح تلك البوابة، ثم إن ما فعله هذا الرجل، أنه مارس فعلاً هجومياً كأي فعل عسكري في ميدان المعركة، لكنه قام بفعل مميز، نحن لا نستطيع الجزم بتفاصيله، لكن ما قام به هذا الرجل في تلك المعركة لا ينتمي مطلقاً إلى فكرة العمليات الانتحارية، التي هي قيام شخص بقتل نفسه، وبقتل الآخرين في اللحظة نفسها، فكيف يمكن أن يستدل الفقهاء بهذه الحادثة على التشريع بجواز فكرة العمليات الانتحارية.
السؤال الأهم هنا، كيف يمكن أن نحضر هاتين القصتين من التراث الإسلامي القديم، ونعدهما تأصيلاً صريحاً، يجيز ارتكاب العمليات الانتحارية؟
نحن بالفعل أمام معضلة ومأساة في صناعة فتوى خطرة جداً، نتج منها مئات وآلاف القتلى، وما يزال باب القتل يومياً يجري عبر بوابة العمليات الانتحارية، وعبر تلك الذرائع، وهكذا افتتحت إيران قصة العمليات الانتحارية، ثم تنافس علماء السنة على تبني الفكرة ومحاولة تأصيلها، ظناً منهم أنها سلاح العصر الأمثل.
خطوات صناعة الانتحاري
الانتحار واليأس متلازمان، فالمنتحر وصل إلى نتيجة أن حياته باتت عدمية غير ذات جدوى، فهل يمكن أن يتسبب الخطاب الديني في إيصال اليأس إلى أصحاب بعض القلوب؟
والإجابة أن هذا موجود بالفعل، فالمأساة تكمن في بنية الخطاب الديني الذي يُقدّم إلى الناس عبر وسائل الإعلام، فهو خطاب يعزز الإحباط واليأس، ويتحايل على مفهوم المغفرة التي يجري تصوير الحصول عليها بأنها من أصعب الأمور، وهو بالضبط مفتاح صناعة الجهاديين الذين يسلبهم بعض المشايخ فرصة الأمل، إذ يصورون الإسلام وكأنه يغلق عليهم باب المغفرة، وأن عليهم البحث عن طريق آخر للمغفرة، وهو ما سيجدونه سهلاً حال الانتماء إلى الحركات الجهادية التي تفتح لهم أبواب الجهاد. فالمغفرة في الإسلام سهلة المنال، والحديث الذي رواه ابن ماجة (التائب من الذنب كمن لا ذنب له) هو حديث واضح المعاني(18) لا لبس فيه، غير أن هناك ثقافة نشأت في بيوتنا أو مدارسنا تتمثل في طريقة فهمنا للعقاب، وطريقة فهمنا لرب العالمين، فعندما يدخل الطفل في سنوات الوعي الأولى، يبدأ الأهل يحدثون الطفل عن النار التي سيحرقه الله بها إن هو ارتكب الأخطاء، وعندما ينتقل إلى المدرسة، يخبره الأستاذ عن نار جهنم، وعندما يذهب إلى المسجد يخبرونه عن عذاب القبر، وهذه طريقة عجيبة غريبة منتشرة في عموم البلاد الإسلامية، إذ يبدأ الإنسان حياته بين النار وعذاب القبر، وتختفي تماماً تعاليم الإسلام الأساسية التي تتحدث عن محبة الله لعباده، وكرمه على بني الإنسان.
في المساجد تجد ظاهرة غريبة، عندما يقوم المشايخ بحجب الآيات القرآنية التي تتحدث عن الرحمة عن الشباب، بذريعة أن ذلك يترك التهاون في أنفسهم، وبمقابل ذلك تجري عملية تعليم الأطفال كل ما يتعلق بالخوف والرعب من رب العالمين بدلاً من تعليمهم حب خالقهم، وحب هذا الإله العظيم وكرمه، وهي معادلة غاية في الدقة.
في وقت سابق بثت على مواقع التواصل الاجتماعي أحد الفيديوهات المصورة في مدارس قطاع غزة الابتدائية، ويتضمن قيام بعض المشايخ بعمل ما أسموه (استتابة للأطفال) إذ يحدثونهم عن العذاب يوم القيامة، فيقوم الأطفال بالبكاء والانهيار على الأرض خوفاً من نار جهنم وخوفاً من غضب الله عليهم، تلك الواقعة التي صُوِّرت في قطاع غزة، هي مع الأسف ظاهرة موجودة، يظن بعض المشايخ أنهم من خلال بث فكرة الخوف والرعب في عقول الأطفال سينجحون في جعلهم يلتزمون دينياً بالصورة المطلوبة.
وهنا السؤال الأهم، فما الذي ارتكبه الأطفال من أخطاء تستوجب الاستتابة؟
بالفعل إنِّه لأمر عجيب، ولكن وباختصار، نحن بالفعل نعيش في مجتمعات تمتلك مشكلة في العلاقة مع الله، فبدلاً من توجيه الأطفال إلى خالقهم بمعاني الحب والثقة، يجري توجيه الأطفال نحو خالقهم وفق حالة من القلق والخوف، وهو ما يخلق جيلاً فاقداً للثقة بنفسه، فيبدأ الإنسان بالظن أنه ذاهب إلى جهنم لا محالة، وهو شعور غريب، يقوم بتعزيزه أغلب مشايخ الأمة، من خلال دروسهم ومواعظهم عبر الفضائيات، إذ يقومون بتعقيد مشهد المغفرة في عقول الشباب، وهكذا عندما يكبر الشباب يبدأ شعور اليأس بالتسلل إلى أنفسهم، وعندما يتمكن اليأس من المغفرة من قلوبهم، تقوم المنظمات الجهادية باستقطابهم، وتقدم لهم الحل السحري للتوبة، وهو تنفيذ العملية الانتحارية، وبهذه الطريقة يشعر هؤلاء الشباب بأنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح، لأن الاستشهاد في نظرهم هو فقط الذي يمنع عنهم المساءلة يوم القيامة، ومن ثم يريحهم من أعباء الهموم الدنيوية.
صناعة الانتحاري في عدد من المجتمعات الإسلامية مسألة تشترك فيها الأسرة، والمسجد والتلفزيون، فمن خلال برامج الدعوة الدينية يعمل المشايخ على إغلاق باب الرحمة في أعين الشباب الصغار، خصوصاً في بداية عملية الوعي السلوكي للإنسان، وهي مرحلة يقع خلالها الشباب، بشكل طبيعي، في كثير من المشكلات أو الأخطاء ما يستوجب الوقوف إلى جانبهم، لكن ما يحدث هو العكس تماماً، إذ يبحث هؤلاء الصغار عن الغفران فلا يجدونه، وهنا يلتقطهم المتطرفون، الذين يختصرون عليهم الطريق بدفعهم نحو الموت، واتخاذ قرار الانتحار.
الخطوة التالية من صناعة الانتحاريين تبدأ بإقناعهم بفكرة قتل المدنيين، من خلال إقناعهم المدنيين هم شركاء مع حكوماتهم لأنهم يدفعون الضرائب، وهي فتوى بن لادن الشهيرة، التي بُثت عبر مؤسسة سحاب المعروفة، ثم يجري إقناعهم بأنَّ الأطفال الذين سيموتون نتيجة لاستهدافهم سيذهبون إلى الجنة معهم وبذلك لن تكون أمام الانتحاري أي مشكلة أمام الله، وبهذا التأهيل النفسي يخرج هذا الشاب في أجواء من الراحة النفسية، معتقداً أنه خارج من الإثم، وأنه ذاهب إلى الشهادة التي هي نقطة مفصلية في ثقافة الحركات الجهادية، إذ إنها تعدّ أن الأصل في المسائل كلها هو مسألة الجهاد، وأن غاية الجهاد تحقيق الشهادة إذا تعذر تحقيق النصر، وبهذه المعادلة تدفع الحركات الجهادية الإنسان المدني إلى طريق الموت وهي مطمئنة، بعدما تكون قد أوصدت طرائق الحياة كلها في وجهه.
الانتحاريون نوعان، القسم الأول منهم، هو الانتحاري القادم من الدول التي تشهد صراعات دموية، وأخطار هؤلاء على المدنيين محدودة، لأنهم غالباً ينفذون عملياتهم في أماكن الصراع، وهم يتوافرون بكثرة في مناطق الصراع، ولذلك أسباب عدة، منها الاضطهاد السياسي والاجتماعي. فهناك قسم كبير من الانتحاريين هم من الأيتام الذين فقدوا عائلاتهم ولم يجدوا عائلة تحتضنهم، أو من الذين تقطعت بهم السبل ولا حيلة للخروج، ولا يعلم الناس عن حالهم شيئاً.
الخطر الأكبر هو من الانتحاريين القادمين من الدول المستقرة، مثل أوروبا وأمريكا وروسيا وغيرها، فهؤلاء يملكون جوازات سفر، ويتمكنون من التنقل بحرية بين الدول، ومخاطر هؤلاء محصورة على المدنيين كما حدث في فرنسا وبلجيكا، هؤلاء ينتمون إلى نوع من الإرهاب الذكي، وهو إرهاب منظم، يوازي بقدراته الاستخبارية واللوجستية مستويات الأجهزة الاستخبارية المنظمة وهؤلاء غالباً لا يستطيعون الوصول إلى الأهداف الحيوية في البلاد، لذلك يستهدفون المدنيين مباشرة، وعموماً فالانتحاري واحد، وهو يعاني أصلاً أزمة اجتماعية أو نفسية أو غير ذلك، ولكن هناك من يأتي ويستغل ضعف بنية هذا الشخص النفسية ويعمل على استغلاله وتحويله إلى قاتل دموي.
ما الحل؟
على العالم الإسلامي اليوم وقبل الغد أن يعتذر إلى البشرية جمعاء وأولهم المسلمين، وهذا الاعتذار ملزم به أولئك الدعاة الذين صنعوا تلك الفتاوى وأجازوا تلك العمليات الانتحارية، وعليهم الإقرار أن تلك الفتاوى لا أصل لها ولا دلائل على صحتها في العقيدة الإسلامية، وعليهم الإقرار أيضاً أن هذه الفتاوى جاءت لأغراض سياسية لا غير.
المسألة الثانية تبدأ باختيار نوع الدعاة، وهذا يتطلب وضع الفضائيات والمساجد كافة تحت مسؤوليات الدولة، لأنَّ هذا الفكر التكفيري ينتشر بسرعة بسبب الأوضاع السياسية المعقدة، ويعمل على صناعة العداء بين الشعوب غير الإسلامية والمسلمين، ويعمل على تغذية فكرة اقتتال المسلمين بعضهم ببعض. لقد آن الأوان لأن يكون الدعاة جميعهم في بلاد المسلمين وفي الدول الأجنبية أيضاً تحت الرقابة.
علينا أن نفهم أن الإنسان بطبعه وتكوينه يلجأ إلى البحث عن المغفرة، فالناس في القرون الوسطى كانت تذهب إلى الكنيسة وتدفع المال كي تشتري صكوك الغفران، وتدخل إلى جنة الله، وبعد ذلك انتقد العالم كله عمل تلك الكنائس، فلماذا لا ننتقد نحن اليوم بعض الدول التي ترسل دعاة وظيفتهم إغلاق باب المغفرة في وجوه الشباب، ما يدفعهم إلى البحث عن باب آخر إذ يلجؤون إلى الجماعات الجهادية التي تقاتلنا بهم.
الانتحاريون صناعة لا طبع ولا دين، والمسؤول عنها، قسم كبير من الدعاة وهذا مرئي وملموس، ويكفينا ما نشاهده.
وهنا أودُّ التذكير بمسألة تاريخية مهمة، ففي عام 1096 عندما وجهت الجيوش الأوروبية نحو الجنوب المسلم وهي في جوهرها حروب اقتصادية أطلق الأوروبيون وكهنتهم عليها اسم الحروب الصليبية، وهي التي تحدث عنها الكاتب الروسي “ميخائيل زابوروف”(19) إذ يقول: إنه حدثت في تلك الحقبة انتهاكات لم تعرفها البشرية من قبل، ويستغرب الكاتب أن كتب التاريخ الإسلامي لم تذكر تلك الانتهاكات بتاتاً، ويستغرب مسألة ثانية، وهي أن المسلمين في ذلك الوقت لم يستخدموا بتاتاً مصطلح الحروب الصليبية، بل استخدموا بدلاً منه مصطلح حروب الفرنجة.
في تقديري هذه هي المأثرة التي قامت بها شعوب شرق المتوسط التي كانت في تلك المرحلة تقاتل الغزاة، ويومها دارت المعركة من الأناضول إلى بلاد الشام وحتى الموصل. فهذه الشعوب رفضت أن تكتب حكايات القتل والإجرام الذي حدث مع أنها فاقت قدرة العقول على التحمل، والسبب في ذلك هو أنهم كانوا لا يريدون للأجيال اللاحقة أن تعيش على الأحقاد، فمسحوا تلك الذكريات من كتبهم بينما الذين دوّنوا تلك الحقبة هم رحالة غربيون فقط رافقوا تلك الحملات.
وأما رفض المسلمين استخدام كلمة الحروب الصليبية، فهو لأنهم في ذلك الوقت كانوا يرفضون فكرة الحروب الدينية، لأنهم لا يريدون استغلال الدين في الحياة كما هو اليوم.
لقد انتهى زمن الحروب الدينية، لقد انتهى ولا مجال لعودته، فنحن في زمن الدولة، ولسنا في زمن صراع الإمبراطوريات، وهذا ما يجهله كثيرون من خطباء المساجد.
المراجع
- كتاب فقه الجهاد للدكتور يوسف القرضاوي.
- موقع (إسلام ويب) العمليات الاستشهادية دراسة فقهية 6/7/2002.
- (أغنية لما نستشهد بنروح الجنة) إنتاج قناة طيور الجنة.
- الآية 169 في سورة عمران.
- مجموعة تسجيلات مرئيات على موقع يوتيوب.
- الجزيرة نت 12/4/2001.
- الموقع الرسمي لقناة DW الألمانية نقلاً عن صحيفة الحياة 12/1/ 2013.
- برنامج بلا حدود في 15/5/2002 قناة الجزيرة مع الإعلامي أحمد منصور.
- جامعة بيرزيت، رسالة ماجستير للطالبة الفلسطينية (سميرة فخري الحموز).
- الموقع الرسمي لقناة DW الألمانية
- الموقع الرسمي لقناة روسيا اليوم 22/5/2016.
- أخبار الأمم المتحدة، تقرير في 18/10/2007.
- المصدر السابق.
- فرانس24: 16/12/2016.
- الموقع الرسمي لقناة روسيا اليوم في 21/7/2017.
- صحيح مسلم والبخاري.
- كتاب: الإصابة في تمييز الصحابة، صحيفة الجزيرة العدد 13357 ومصادر أخرى.
- حديث شريف رواه ابن ماجة وحسنه الألباني.
- كتاب الصليبيون في الشرق، ميخائيل زابوروف
هذه الدراسة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.