العنف السياسي مصطلح ملطف للتعبير عن الصراع على السلطة، إما للحصول عليها، أو الاحتفاظ بها. وهو قديم قدم نشوء المجتمعات البشرية، وفي الوقت الذي تخلصت فيه أوروبا من تلك العاهة السلوكية بعد حروب دامية راح ضحيتها ملايين البشر، بقي الشرق العربي يعدها وسيلته المفضلة للوصول إلى السلطة أو المحافظة عليها؛ وما الربيع العربي في انحراف مساراته إلا تعبير عن تلك الحالة.
وإذا كانت الأنظمة العربية قد مارست العنف السياسي بأشكاله غير الإنسانية كلها، فكذلك التنظيمات الإسلامية الراديكالية قد مارسته وتمارسه لاستعادة حقها الموهوم في قيادة المجتمع سياسياً من خلال رؤية تعتمد تفسيراً يلوي عنق النص لاستعادة هذا الحق السليب من عسكرتارية استبدادية أو علمانية مشوهة راديكالية تجاه التيار الإسلامي. فمنذ سقوط الخلافة الإسلامية حتى يومنا هذا، والعنف السياسي حاصل بين هؤلاء الفرقاء، ليتخذ أشكالاً مختلفة تعتمد الدين مرجعاً للوصول إلى السلطة، أو المحافظة عليها.
ولكن: حينما نتحدث عن العنف السياسي عند الإسلاميين، أتساءل هل مارس المسلمون هذا السلوك ابتداء أم أنه مورس عليهم؟
لو عدنا إلى بداية الرسالة، سنلحظ أنه مورس عليهم، فلما جهر الرسول صلى الله عليه وسلم برسالته في مكة، أدركت القيادة المركزية في دار الندوة، أن محمداً برسالته سيسحب البساط من تحتها، ليجردها من امتيازاتها كلها؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، لذا قررت أن تقف ضده بشدة، وقد كان معلوماً بأن الرسول الكريم، لما وجد صدَّهم عن رسالته، لم يقهرهم عليها، إنما طالبهم بالحرية في عرض رسالته على المجتمع قائلاً: خلو بيني وبين الناس.[1]
لكن قيادة دار الندوة، أدركت الأمور ومآلاتها، وأن المستضعفين وجدوا في تلك الرسالة ملاذاً روحياً وخلاصاً من القهر والاستعباد، وسينضمون إلى محمد، فبعد أن فشلت محاولات الترغيب والترهيب كلها، أجمعوا على استخدام العنف السياسي بأقبح صوره من خلال قرارهم باغتيال الرسول في بيته، فخرج مهاجراً إلى المدينة.[2]
المسلمون يمارسون العنف السياسي في ما بينهم
لمّا تمكن المسلمون من قيادة جزيرة العرب بوساطة العقد الاجتماعي المسمى تاريخياً (صحيفة المدينة) بدأت بذور العنف السياسي تظهر بين المسلمين أنفسهم من خلال اغتيال عثمان، الذي أسس اغتياله لصراع سياسي على السلطة، ما تزال آثاره واضحة في ثقافتنا وسلوكنا حتى يومنا هذا.
قسمت عملية الاغتيال هذه المجتمع المسلم مذاك العهد حتى اللحظة عمودياً لتولد صراعاً سياسياً على الإسلام لا من أجله، فقد بدأ ما بين معاوية وعلي، إلا أن ذيوله الدموية نراها واضحة في الثورة السورية، لتحرفها عن مسارها، وتدخلها في نفق مظلم، الخاسر الأكبر فيه الإسلام والمسلمون. ويدفع الثمن فيه الشعب السوري الذي وجد نفسه يقدم أبناءه قرابين لمعركة لم يخرج من أجلها، ولا يريد التضحية لها.
الصراع على الإسلام قضية سياسية وليست دينية
هذا الصراع الذي بدأ بين معاوية وعلي لم يكن دينياً قط، بل كان سياسياً بامتياز وجد له أباءً مؤسسين حولوه من دائرة السياسة إلى دائرة الأيديولوجية الدينية، فجرت منهجة أفكاره ومنحها بعداً عقدياً، حتى غدا لكل فريق مفهومه الخاص لتأويل آي القرآن، نال قداسة عند المؤسسة الدينية والمجتمع، أكثر من القرآن ذاته، واختلقوا له نصوصاً نبوية، ليضيفوا إليه بعداً دينياً، يحرِّم على العامة الخروج عنه، ويبذل الغالي والنفيس لتحقيقه في الواقع.
ولا يتحدث أحد اليوم بأن الصراع سياسي، إنما يهرع كل طرف لاستحضار التأويل الديني والنصوص المختلقة ليمنحه بعداً إلهياً، يسبغ مشروعية العنف السياسي لهذا الطرف أو ذاك. ليبكي الإسلام أبناءه الذين يسترخصون دماءهم، ويدمرون أوطانهم، وتتخلف مجتمعاتهم، لأجل قضية ليست قضيته، إنما السلطة مرادها وليس الدين.
تجلى مظهر هذا الصراع في الثورة السورية، الذي استطاع الخبثاء أن يحرفوها عن مسارها وهدفها، من ثورة لأجل الحرية والكرامة ضد استبداد لم يعرف التاريخ أشد منه قسوة، إلى صراع طائفي بين مشروع فارسي استخدم الشيعة والتشيع وسيلة، ومشروع تدميري فوضوي توحشي (داعش مثاله)، استخدم مصطلح الخلافة وتطبيق الشريعة وسيلة لوصوله إلى السلطة، ولعمري كلاهما كاذب آفاق بحق الإسلام والإنسانية وحرية الشعوب. اعتمد الفريقان في تحقيق مشروعهما السياسي على نص غير صحيح، يتحدث عن الفرقة الناجية، ليقسم الأمة شيعاً وأحزاباً كل حزب بما لديهم مجانين.
ولوعدنا إلى التاريخ الإسلامي سنجد أن العنف السياسي، حضر مرة أخرى من خلال الصراع الأموي العباسي، الذي انتهى بإبادة الطرف الأموي بطريقة لا إنسانية، كانت السلطة هي الهدف، والعنف وسيلتها، وكان الحق الإلهي المزعوم يمنحها المشروعية، فباسم الانتقام لآل البيت وعودة الحق إليهم جرت تصفية الجناح الأموي، وسرعان ما ألحق العباسيون في تلك التصفية آل البيت أنفسهم، حتى لا يبقى أحد ينافسهم على السلطة.
حدثان في التاريخ جعلا العنف السياسي مشروعاً
الحدث الأول
لو بحثنا تاريخياً في تلك الأزمة بعيداً من العاطفة، يمكن اعتبار اللحظة التي انتصر فيها الإمام أحمد بن حنبل على خصومه من المعتزلة، هي بداية عزل العقل عن ميدان البحث والتحليل، وتفرد النصوصية السلفية في ساحة التنظير السياسي.
إن لحظة انتصار الإمام أحمد بن حنبل لحظة عظيمة لا شك في هذا، لأن المعتزلة سلكوا طريقاً خاطئاً في عرض أفكارهم، تمثل في قهر الناس عليها، مستغلين قربهم من السلطة. ولكن لو دققنا في ذلك الانتصار، لوجدنا أنه يؤرخ للحظة انهزام العقلانية في الفكر الإسلامي.[3]
إذ جرى استثمار انتصار الإمام أحمد خطأً، حيث طغى التيار النصوصي، وهيمن أهل النقل على المعرفة الدينية، حتى أن القرنين الثالث والرابع الهجريين، كانا قرني أهل الحديث بامتياز، وغدت العملية العقلانية في التعامل مع النص الديني وفلسفة المعرفة الدينية، ينظر إليها وكأنها هرطقة، يُراد منها هدم الدين.
وما يزال حتى يومنا هذا طالب العلم التقليدي ينظر إلى الفلسفة والفلاسفة وآرائهم بشك وريبة، ليعتبرهم زنادقة. ولم تستطع مدرسة الأشاعرة -التي اتخذت خط الوسطية والمصالحة ما بين المدرستين: مدرسة النصوصيين والمعتزلة بمسمى مدرسة أهل الكلام- حتى يومنا هذا أن تسجل انتصاراً حقيقياً للعقلانية، لغلبة مفهومات التصوف وتخرصاته عليها من جهة، ومن جهة أخرى لكونها غدت المشرَّع والداعم الحقيقي للأنظمة المستبدة بذريعة الخوف من الفتنة.
هذا الانتصار لمدرسة ابن حنبل، فرّخ اليوم المدرسة السلفية الجهادية، التي لا ترى إلا العنف والعنف فقط، سبيلاً للوصول إلى هدفها السياسي، بذريعة استعادة الخلافة، ما زاد الأمة ابتعاداً عن الرشد، والدخول في دوامة العنف السياسي ذي العنوان الديني، وديننا الحنيف بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.
الحدث الثاني
أما الحدث الثاني فقد جرى بعد سيطرة المماليك (الذين مثلوا آنذاك مدرسة العنف السياسي عسكرياً) على الخليفة القادر بالله (381ــــ423هـ) حتى أصبح لعبة بين أيديهم، وأصدر أمراً سلطانياً سُمي تاريخياً بالاعتقاد القادري حرَّم المقولات العقلانية وعلم الكلام وفكرة العدل والتوحيد، فسيطرت السلفية النصوصية مرة أخرى. ولو بحثنا في المرسوم القادري، لوجدنا خلفه بعداً سياسياً، إذ قام فقهاء الاستبداد باستنهاض نصوص خارج سياقها لخدمة الاستبداد المملوكي المسيطر على مقدرات المجتمع، وعندما تتقدم العسكرة في المجتمع، تتأخر العقلانية.
تأطير الفقهاء للعنف السياسي وشرعنته
جاء القرن الخامس الهجري، ليشهد تأطيراً للعنف السياسي في المحافظة على السلطة من خلال الماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) الذي أعدُّه فتوى شرعية لكل مستبد باستئصال مخالفيه بذريعة السياسة الشرعية، وعليه اعتمد الشيخ البوطي في كتابه (الجهاد) بحرمة الخروج على ولي الأمر حتى ولو جلد ظهرك وأخذ مالك، وكذلك الشيخ ناصر الدين الألباني في كثير من فتاواه التي تحرم الخروج على الحاكم، ليتأسس في ما بعد تيار (الجامية)[4] الذي أصبح يحمل اسم تيار(المدخلية) الذي يحرم نهائياً الخروج على الحاكم مهما فعل وبات لهذا التيار أنصاره في الخليج وما يزال يتنامى في المغرب العربي تنامياً مثيراً للتساؤل.[5]
العنف السياسي الإسلاموي المعاصر
لا شك في أن أشهر من مارس العنف السياسي من الإسلامويين المعاصرين هو الجناح الرديكالي في تنظيم الإخوان المسلمين المسمى (التنظيم الخاص أو السري)[6] وعلى الرغم من أن غاية إنشائه كانت محاربة الإنكليز إلا أنه بعد خلافات الإخوان مع حكومة النقراشي باشا الذي أصدر أمراً بحلِّ الجماعة واعتبرها جماعة محظورة في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 1948 استُخدم العنف السياسي في تصفية خصوم الداخل؛ فقام التنظيم السري باغتيال النقراشي في 28 ديسمبر/ كانون الأول 1948.[7]
لكن مجيء سيد قطب في نهاية الخمسينات ونشوب الخلاف مع عبد الناصر وابتداعه لمفهوم الحاكمية لمآرب سياسية؛ جعلته يؤدلج العنف السياسي ليصبح (قطب) الأب الروحي للتنظيمات المتشددة كلها في ما بعد؛ واستطاع عبد الناصر القضاء على هذا التيار الراديكالي في الإخوان؛ في حين بقي التنظيم وإنْ كان محظوراً. لكن؛ بمجيء السادات بعد عبد الناصر واستخدامه للتيار الإسلامي لضرب التيار الشيوعي ظهرت (الجماعة الإسلامية) المؤمنة بالعنف السياسي سبيلاً للتغيير، لتشهد مصر في الثمانينات والتسعينات عنفاً إسلاموياً سياسياً دموياً من خلال اغتيال الرئيس السادات في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1981 ثم قاموا بسلسلة اغتيالات لمسؤولين مصريين مثل رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب المصري؛ كما أن الجماعة متهمة بمحاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995حتى ظهرت فكرة المراجعات لتلك الجماعة؛ حينما أعلنت وقف العنف عام 1997.[8]
قبل الجماعة الإسلامية كانت هناك جماعة (التكفير والهجرة) التي قيل عنها إنها أحد الانشقاقات عن الإخوان الرافضين للعنف؛ وهي جماعة مؤمنة بالعنف السياسي وبدموية؛ ظهرت في السجون بعد اعتقالات سنة 1965 وهي من أكثر الجماعات راديكالية في العنف السياسي. من أهم قادتها ماهر زناتي وشكري مصطفى؛ وأكبر جرائمهم اغتيال الشيخ محمد حسين الذهبي؛ ولديهم أيديولوجيا تدعو إلى العجب والدهشة.[9]
كذلك شهدت سوريا في نهاية السبعينات حتى مطلع الثمانينات عنفاً سياسياً بين نظام الأسد الأب وتنظيم الإخوان المسلمين الذي أسسه الشيخ مروان حديد (1934-1976) منذ منتصف الستينات الذي ظهر في قيادة التحرك في مدينة حماة منذ عام 1962، نشط في بناء الخلايا الإسلامية في حماة، ونجحت السلطة في احتواء الموقف وإنهاء الاضطراب، وأعاد البناء بتنظيم قوة ضاربة سرية عام 1965، أطلق عليها اسم “كتائب محمد”، وكان يعمل على هامش حركة الإخوان المسلمين في سوريا ببناء خلايا جهادية ضم كل منها 10 إلى 12 عضواً.[10]
وفي عام 1975، اعتقله النظام السوري، وتدهور وضعه الصحي نتيجة لذلك، ونقل إلى المستشفى، وبقي حتى توفي في يونيو/ حزيران عام 1976.
بعد ذلك شرع الإخوان المسلمون بتفعيل اللجان العسكرية التي كانوا قد أسسوها بعد نيسان 1979، وبدؤوا بإعداد أنصارهم في الجيش السوري، وفتحوا باب التطوع للجهاد في سوريا لاستقطاب الشباب المقاتلين من أنحاء العالم كلها، وأعلنوا في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 1980 قيام “الجبهة الإسلامية لإنقاذ سوريا”. وصدر بيان عن تشكيل الجبهة بعنوان “الثورة الإسلامية في سوريا ومنهاجها” وكان ذلك إعلان رسمي صريح عن تحول جماعة الإخوان المسلمين إلى فكرة العنف لينتهي العنف السياسي في سوريا بانتصار لنظام الأسد بعد مذبحة حماة في 2 فبراير/ شباط عام 1982 وهزيمة ساحقة لتنظيم الإخوان.[11]
لكن ظاهرة الأفغان العرب (السلفية الجهادية) كانت أوضح مظاهر تجلي العنف السياسي الإسلامي وهي إحدى ولادات الفكر الإخواني؛ أسسها الشيخ عبد الله عزام الذي كان على صلة بمروان حديد، مؤسس العنف السياسي السوري. وتأثر عزام بفكره القائم على تأسيس “الطليعة الجهادية التي تقوم في جوهرها على فكرة قلة مجاهدة تقود المعركة وتعمم الثورة، وهي الأساس ذاته الذي قامت عليه فكرة “قاعدة الجهاد” (تنظيم القاعدة)[12].
وازداد عنف القاعدة السياسي خصوصاً عند تسلم أسامة بن لادن تنظيم القاعدة بعد مقتل عبد الله عزام. وقد ذكرت والدة أسامة بن لادن في أول ظهور إعلامي لها تأثر ولدها بأفكار عزام الإخوانية الراديكالية. فقاد تنظيم القاعدة (السلفية الجهادية) بزعامة بن لادن والظواهري ظاهرة العنف السياسي بشكل صارخ؛ ولكن هذه المرة مع طرفين:
الأول: هو الأنظمة التي اختلف الأفغان العرب بعد عودتهم إلى بلادهم معها.
الثاني: فتحوا معركتهم مع الغرب كله وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية؛ فكانت تفجيراتهم الإرهابية الشهيرة بدءاً من تفجيري نيروبي ودار السلام عام 1998 مروراً بعمليتهم الأشهر(أحداث 11 سبتمبر/ أيلول) وتفجيرات لندن ومدريد عام 2004 إلخ.
على الرغم من الضربات الموجعة لتنظيم القاعدة بعد إعلان الولايات المتحدة وحلفائها الحرب عليهم عام 2001 في أفغانستان التي انتهت تقريباً باغتيال بن لادن إلا أن السلفية الجهادية التي تتخذ من العنف السياسي سبيلاً وحيداً لها مع خصومها؛ عادت وانبعثت مرة أخرى في العراق بعد غزوه من قبل الإدارة الأمريكية عام 2003 من خلال تنظيم القاعدة فرع العراق بقيادة أبي مصعب الزرقاوي.
أبو مصعب الزرقاوي بنى شبكته وتنظيمه، أيديولوجياً وفكرياً وفقهياً، على أسس تتجاوز الجهاد التضامني ومنطق حروب “النكاية”، وهي الاستراتيجيات التي حكمت التجربة الأفغانية، ثم أيديولوجيا القاعدة في مرحلتها الجديدة، وبدلاً من ذلك تأسست رؤية الزرقاوي الأيديولوجية على إدارة التوحش وتحقيق التمكين، ولذلك توجهت اختياراته الاستراتيجية نحو طروحات أبي بكر ناجي في كتابه “إدارة التوحش” أخطر مرحلة تمر بها الأمة، وهي المرحلة الجهادية الانتقالية التي تفصل بين بناء (شوكة النكاية) والوصول إلى (شوكة التمكين). أما على الصعيد الفقهي اعتمد الزرقاوي على مرجعية شيخه أبي عبد الله المهاجر الذي كان له الأثر المباشر في عقيدته القتالية ونهجه الفقهي، وخصوصاً المسائل المتعلقة بأولوية قتال العدول القريب المتمثل في المرتدين من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة.[13]
جاء الربيع العربي ليجد دعاة العنف السياسي من الإسلامويين فيه مرتعاً خصباً لهم؛ ساندهم في البداية مزاج شعبوي حاقد على سلوكات الأنظمة الاستبدادية التي لم ترعَ في الشعوب المنتفضة إلّاً ولا ذمة؛ وقمعتها بوحشية (سوريا وليبيا واليمن مثالاً) فانبعثت من جديد ظاهرة العنف السياسي من خلال عسكرة الحراك الجماهيري؛ وجرِّه باتجاهات كانت وبالاً على مجتمعاتها؛ لتكتمل ظاهرة العنف السياسي إسلاموياً بسوريا من خلال ظهور حركات تؤمن بالعنف سبيلاً وحيداً للتغيير السياسي كأحرار الشام وأخواتها ثم جبهة النصرة وهي جناح القاعدة في سوريا لتكتمل ظاهرة العنف بشكلها المتوحش عبر تنظيم (داعش) الدموي.
وتبقى سلوكات الاستبداد في المنطقة العربية ورفضه لأي تغيير ديمقراطي الباعث الحقيقي للعنف السياسي؛ فبكتمه للحريات وغياب العدالة الاجتماعية ستجد مثل هذه التنظيمات مسوّغاً شعبوياً يُسَهِّل عملية انبعاثها في كل أزمة تمر بها مجتمعاتنا؛ ليبقى الاستبداد علة العلل؛ وأهم المحرضات على ولادة العنف السياسي؛ ومقابل العنف السياسي لمثل هذه الجماعات المتطرفة ولدت ظاهرة (المدخلية) التي أشرنا إليها سابقاً في هذا البحث.
إنّ استخدام العنف بوصفه استراتيجية لهذه التنظيمات الراديكالية قام على اعتقاد أن العنف هو السلاح الأمثل الذي سيعيد لها مكانتها في المجتمع فتصل إلى السلطة على افتراض خاطئ يقول: إن العنف سيغير مجرى الحياة السياسية فيوصلهم إلى سدة السلطة. لكن عنفهم هذا جعلهم يخسرون الحاضن الاجتماعي الذي كفر بهم وبمشروعاتهم السلطوية وبكل ما يمت إلى الإسلام السياسي بصلة.
بدعتان شرعيتان سوّغتا العنف السياسي
بعد أن فقدت الأمة رشدها، وأسس فقهاء الاستبداد لمشروعية الملك العضوض الذي بات المرجع التاريخي والديني والسياسي، لتفريخ الاستبداد وهيمنة الحاكم على السلطة مدى الحياة. جاؤوا ببدعتين سياسيتين، تسوغان العنف السياسي، الدين في مقاصده منها براء:
الأولى: تقول بوجوب طاعة الحاكم ولو جلد ظهرك وسلب مالك
استدلوا على تلك البدعة في ما نسبوه إلى النبي زوراً وبهتاناً أنه قال في رواية مسلم في صحيحه: يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لَا يَهْتَدُونَ بِهُدَايَ وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ قَالَ قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلْأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ.
وعلماء الحديث طعنوا بسند، علاوة على أن متنه متعارض مع خط العدل والحرية والعدالة الاجتماعية، تحديداً في هذه الزيادة القائلة بطاعة الحاكم ولو جلد ظهرك وأخذ مالك. وفقهاء الأمس بدلاً من أن يؤسسوا نظاماً سياسياً يقوم على العدل والحرية وتداول السلطة، ليسد الذريعة أمام تفشي الاستبداد الذي جاء الإسلام لمقاومته ومنعه ووأده، وأن يوضحوا بأن الحاكم مفوض من المجتمع تفويضاً مقيداً بمصالح المجتمع، متى ما خرج الحاكم عنه عُزِل؛ شرعنوا العنف السياسي للمستبد الحاكم من خلال هذا الحديث[14].
والثانية: اعتبار الشورى مُعلمة لا مُلزمة
هذا يعني منح الحاكم حق الاستبداد بالرأي والتفرد باتخاذ القرار، وإباحة استخدام العنف السياسي ضد مخالفيه. وجعل الشورى تمثيلية لا طائل منها، وتلك بدعة فقهية تساعد على ولادة الاستبداد وتضخمه، فالشورى إن لم تكن مُلزمة فلا قيمة لها ولا لأهلها.
لقد دفعنا ثمن تلك المقولة الغبية وخصوصاً في عصرنا هذا عندما جاءت الأنظمة العسكرتارية الحديثة ومارست الدكتاتورية، واعتمدت في محاججتها للديمقراطيين هذه المقولة الخبيثة، والأخطر أن تلك المقولة مع البدعة الأولى باتت منهجاً مقدساً لا يجوز الخروج عليها في صفوف التنظيمات الإسلاموية التي جعلت من طاعة الأمير شيئاً مقدساً، وباسم محاربة الاستبداد العلماني فرّخنا استبداً دينياً يمنح الأمير سلطات واسعة.
ختاماً
نحتاج كثيراً إلى مراجعات حقيقية للفكر السياسي الإسلامي بمدارسه كلها، وقد آن الأوان لنعترف أن تلك المدارس التراثية لم تعد صالحة اليوم في دولة المواطنة المنشودة والدولة المعاصرة الحديثة، وعلينا أن نبتكر مفهوماً سياسياً ينتمي إلى الواقع المعاصر الذي نعيشه، ويعتمد مقاصد الإسلام الإنسانية والأخلاقية مرجعاً.
فالأوطان تبنى بالتشاركية لا بالقطيعة، والعنف يعقد المشكلات ولا يحلها، والديمقراطية دواء لنا لا داء. لا نريد عنفا تنتصر في نهايته الديمقراطية، لأننا لا نريد العنف ذاته، فهل يمكن الوصول إلى ديمقراطية من دون عنف؟.
إن كثيراً من الديمقراطيات دفعت دماً للوصول إلى حالة مستقرة، ولكن هل نحن محكومون قدرياً بإعادة التجارب.
إن الديمقراطية تحقق السلم الأهلي وتقضي على ظاهرة العنف السياسي، وتضمن ممارسة السياسة أسلوباً متحضراً في إدارة شؤون المجتمع وحل مشكلاته وتناقضاته، وإقامة نظام سياسي يقوم على الحوار والتفاهم، وتداول السلطة، ونبذ العنف بصوره كلها، والاحتكام إلى نتيجة الانتخابات النزيهة، وهذا يتطلب ثقافة ديمقراطية قبل الديمقراطية ذاتها.
إذا كان الربيع العربي قد نجح بإطاحة بعض المستبدين، إلا أن سمعة الإسلام كانت الخاسر الأكبر، ففي الحالة السورية، خسر الإسلام السياسي صدقيته التي مثلها زوراً وبهتاناً تنظيم داعش وكذلك الإخوان المسلمون، ما جعل المجتمع ينفر من الإسلامويين، ولا يثق فيهم، ويراهم استبداداً بديلاً من الاستبداد الأسدي بثوب ديني. فالعنف السياسي مولد للاستبداد ومعطل للتنمية وقاهر للإبداع ويقود البلد إلى الخراب والدمار واسألوا السوريين.
الهوامش
[1] حديث رواه البخاري.
[2] للتوسع في أسباب الهجرة إلى المدينة راجع البداية والنهاية لابن كثير وتاريخ الأمم والملوك للطبري وسيرة ابن هشام.
[3] راجع فصول ما سُمي تاريخياً بفتنة خلق القرآن في كتب التاريخ كلها، وإنني أرى أن فتنة خلق القرآن ذات عمق سياسي ابتعد كثير من المؤرخين عن الاهتمام به، وأبدع المفكر محمد عابد الجابري في بيانه وتثويره بكتابه (محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد).
[4] السلفية الجامية تطلق على شعبة من شعب التيار السلفي تتميز بخواص كثيرة أهمها العداء لأي توجه سياسي مناوئ للسلطة انطلاقاً مما يعتقدون أنه منهج السلف في السمع والطاعة وحرمة الخروج على الحاكم جرياً على مذهب الحنابلة الذين يحرمون الخروج على الحاكم الجائر وإن خالف في هذا بعض الحنابلة مثل ابن رجب الحنبلي وأبو الوفاء علي بن عقيل وأبو الفرج بن الجوزي وعبد الرحمن بن رزين الذين يرون مشروعية الخروج علاوة على أبي حنيفة والشافعي ومالك وابن حزم الذين يجيزون الخروج على الحكام الظلمة. كان سبب ظهور هذا التيار اعتداء صدام حسين على الكويت وحشده لجيوشه على حدود المملكة العربية السعودية فأفتى العلماء وعلى رأسهم الشيخ عبد العزيز بن باز بجواز الاستعانة بالكفار لدفع المعتدي ولحماية الدين والدولة من شره. فلم يكن إلا أن كثيراً من الأحزاب عارضت العلماء واتهمتهم بالباطل ورفضت هذه الفتوى فكان الشيخ محمد أمان الجامي من أبرز العلماء الذين تصدوا بالرد على الأحزاب والجماعات التي رفضت هذه الفتوى واعترضت عليها. ولهذا ينسب إليه هذا التيار.
[5] المدخلية: نسبة إلى إمامهم ربيع المدخلي، أو حزب التجريح اشتقاقًا من كلمة الجرح ومعناها عند علماء الحديث: الطعن بالشخص. وهم من غلاة السلطان. والتيار المدخلي تيار سياسي يقوم أساسه المنهجي على رفض الطائفية والفرقة والتحزب وهي بالتحديد تصنف ضمن التيارات السلفية، من أدبيات المداخلة الأساسية ومذهبهم عدم جواز معارضة الحاكم مطلقاً، وعدم إبداء النصيحة له في العلن، وتعتبر ذلك أصلاً من أصول عقيدة أهل السنة والجماعة، ومخالفة هذا الأصل يعتبر خروجاً على الحاكم المسلم في مذهبهم.
يتميز التيار المدخلي عن غيره من التيارات في اعتباره أن الجماعة المسلمة هي الدولة والسلطان، ومن هذا الأصل والمنطلق تشن هجومها الحاد على الجماعات الإسلامية والحزبية لأنها ضد مفهوم الجماعة -في رأيهم- ومن ثم فهم خوارج ومبتدعة في الدين، تجب معاداتهم ومحاربتهم ويجوز قتلهم. فالهدف الرئيس عند المداخلة يتمثل في إنهاء الفرقة في الأمة والتفافها حول سلطانها.
[6] التنظيم السري: نظام عسكري أسسته الجماعة عام 1940 وهدفه بحسب محمد مهدي عاكف “إعداد نخبة منتقاة من الإخوان المسلمين للقيام بمهمات خاصة والتدريب على العمليات العسكرية ضد العدو الخارجي ومحو الأمية العسكرية للشعب المصري في ذلك الوقت، إذ كان كل فرد يمكنه دفع عشرين جنيهًا ليستطيع التخلص من الخدمة العسكرية. وبحسب محمود عبد الحليم في كتابه الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ قام النظام الخاص من أجل “محاربة المحتل الإنكليزي داخل القطر المصري والتصدي للمخطط الصهيوني اليهودي لاحتلال فلسطين” وكان من أشهر أعضائه: جمال عبد الناصر وخالد محيي الدين العضوين في مجلس قيادة الثورة وفق شهادة خالد محيي الدين نفسه وقد انضما إلى النظام الخاص عام 1943 وفق رواية أحمد رائف.
[7] بعد حل جماعة الإخوان المسلمين في 8 كانون الأول/ ديسمبر 1948، اغتيل رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي في 28 كانون الأول/ ديسمبر 1948 في القاهرة. وكان القاتل متخفياً في زي أحد ضباط الشرطة وقام بتحية النقراشي حينما هم بركوب المصعد أفرغ فيه ثلاث رصاصات في ظهره. تبين أن وراء الجريمة النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين إذ اعتقل القاتل الرئيسي وهو “عبد المجيد أحمد حسن” الذي اعترف بقتله لأن النقراشي أصدر قراراً بحل جماعة الإخوان المسلمين، وتبين من التحقيقات وجود شركاء له في الجريمة من الجماعة، وقد أصدر حسن البنا عقب هذا الحدث بياناً استنكر فيها الحادث و”تبرأ” من فاعليه بعنوان “ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين”. ليحكم على المتهم الرئيسي بالإعدام شنقاً وعلى شركائه بالسجن مدى الحياة. وفي كتاب حقيقة التنظيم الخاص لمؤلفه محمود الصباغ أحد أعضاء التنظيم الخاص برر اغتيال النقراشي بأنه كان دفاعاً عن فلسطين.
[8] الجماعة الإسلامية: جماعة دعوية نشأت في الجامعات المصرية في أوائل السبعينيات من القرن العشرين تدعو إلى “الجهاد” لإقامة “الدولة الإسلامية” وإعادة “المسلمين إلى التمسك بدينهم وتحكيم شرع الله”، ثم الانطلاق لإعادة “الخلافة الإسلامية من جديد” إلا أنها تختلف عن جماعات الجهاد من حيث الهيكل التنظيمي وأسلوب الدعوة والعمل إضافة إلى بعض الأفكار والمعتقدات. وتنتشر بشكل خاص في محافظات الصعيد وبالتحديد أسيوط والمنيا وسوهاج. استخدمت الجماعة القتال في مصر ضد رموز السلطة وقوات الأمن المصري طوال مدّة الثمانينيات ومراحل متقطعة من التسعينيات لكن بعد ضربات أمنية متلاحقة من قبل الأمن المصري الذي شمل اعتقال أعضائها معظمهم وضرب قواعدها، فإن الجماعة حالياً ليست ذات أي وجود يذكر ومؤخراً صدر تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية وضع مصر في المرتبة الثالثة على قائمة الدول الأشد مكافحة للإرهاب والأكثر خطراً على الإرهابيين.
[9] جماعة التكفير والهجرة: أو جماعة المسلمين كما سمت نفسها هي جماعة نشأت داخل السجون المصرية بعد اعتقالات 1965 في بادئ الأمر وبعد إطلاق سراح أفرادها تبلورت أفكارها وكثر أتباعها في صعيد مصر وبين طلبة الجامعات بخاصة، وأدبياتهم بتكفير الحكام بإطلاق لعدم حكمهم بشرع الله وتكفر المحكومين لرضاهم بهم وتكفر العلماء لعدم تكفيرهم أولئك الحكام، والهجرة هي العنصر الثاني في تفكير الجماعة ويقصد بها اعتزال المجتمع الجاهلي عزلة مكانية وعزلة شعورية وتتمثل في اعتزال معابد الجاهلية -يقصد بها المساجد تحت حكم العلمانيين- ووجوب التوقف والتبين بالنسبة إلى آحاد المسلمين إضافة إلى إشاعة مفهوم الحد الأدنى من الإسلام.
[10] كمال ديب: “تاريخ سورية المعاصر”، دار النهار، الطبعة الأولى، بيروت، 2011، (ص548).
[11] كتاب المسبار الشهري، الكتاب الثاني والثلاثون، الإخوان المسلمون في سوريا، مجموعة باحثين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، أغسطس/ آب 2009، (ص252).
[12] كتاب المسبار الشهري، الكتاب الثاني والثلاثون، الإخوان المسلمون في سوريا، مجموعة باحثين، مركز المسبار للدراسات والبحوث، الطبعة الأولى، أغسطس/ آب 2009، ص(257).
[13] راجع دراسة ويسألونك عن السلفية، بسام سفر، مرصد مينا للبحوث والدراسات.
[14] ضعف بعض علماء الحديث هذا الحديث وبعضهم الآخر حقق الزيادة القائلة بجلد الظهر وأخذ المال وأكد بطلانها وأنها أُلحقت بالحديث وليست منه، وكثير من الفقهاء والمحدثين المعاصرين أكدوا أن الزيادة التي فيها (تسمع وتطيع للأمير) إلى آخر الفقرة أنها ضعيفة مرسلة وقد ضعفها الدارقطني في الإلزامات والتتبع وقال إنها مرسلة.
هذه الدراسة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.