ارتفع التصعيد في أزمة الحدود – مؤخرًا – بين الخرطوم وأديس أبابا، تصعيد خطير لأزمة جعلت الأمر بين البلدين، كما لو كان نذيرا للحرب.. بعد حشد كبير للجيش السوداني على الحدود، وقيام رئيس مجلس السيادة السوداني “عبد الفتاح البرهان”، بصحبة ضباط هيئة العمليات ومدير المخابرات العسكرية، بزيارة غير عادية لمنطقة “القضارف” العسكرية، حيث توجد منطقة “الفشقة” محل الخلاف بين البلدين.
ومن الفشقة، كرر “البرهان” أن القوات المسلحة، لن تسمح بأي تعد على الأراضي السودانية، ولن تتراجع عن حماية حدود البلاد.
عودة بعد عقود
أعاد الجيش السوداني انتشاره بالمنطقة الحدودية المتنازع عليها نهاية آذار / مارس الماضي، بعد غياب ربع قرن تقريبًا، بهدف السيطرة على التوترات والأنشطة الإجرامية التي تحدث بالمنطقة من وقت لآخر، وكذلك ضمن الإجراءات الاحترازية التي تتخذها حكومة السودان في مواجهة فيروس كورونا المستجد.
مزايا وأطماع
تتمتع منطقة “الفشقة” بمزايا عديدة تجعلها دائما محل أطماع خارجية لا سيما في ظل غياب أمني حدودي لسنوات تعادل ربع قرن.
أرض خصبة تروى بأنهار عذبة.. وتتساقط عليها الأمطار في الخريف، كما وتشتهر بإنتاج الصمغ العربي والقطن والذرة والسمسم إلى جانب الخضروات والفواكه.
وقد ساهم موقعها كونها محاطة بالأنهار من مختلف الجوانب فيما عدا الخط الحدودي المشترك بين السودان وإثيوبيا، في إغراء الطرف الإثيوبي بالدخول إليها والاستفادة منها ومن خيراتها.
معاناة ومطالب
يعاني عدد من السودانيين من الهجمات المتكررة التي تشنها عصابات نشطة على المنطقة الحدودية مع إثيوبيا، كما ويعاني سكان المنطقة من تسلل المزارعين الإثيوبيين الذين كانوا يعملون بطريقة بدائية أول الأمر قبل أن يدخلوا ومعهم آليات زراعية حديثة، لم تفلح معها اعتراضات الأهالي، حيث استمر استغلالهم للأراضي السودانية والتوغل فيها لسنوات طويلة قبل البدء في ترسيم الحدود عام 2013 (وهو الترسيم الذي لم تنفذه أو تلتزم به إثيوبيا).
مؤخرًا.. طالب سودانيو منطقة “الفشقة” بضرورة حل هذه المشكلة مع زيادة نشاط العصابات بالمنطقة ومهاجمة سكان قرى “الفشقة” وإجبارهم على مغادرة بيوتهم وأراضيهم حتى اضطروا لإصدار بيان للتحذير من الظاهرة واضطرارهم للاحتشاد إذا لم تتدخل السلطات الحكومية بالسودان لحمايتهم بعد أن أصبح سكان الفشقة بين ناري العصابات والمزارعين الإثيوبيين الذين يهدفون للاستيلاء على أراضيهم الزراعية.
البدايات
تعود جذور الأزمة لعقود بعيدة، فتاريخ الخلاف على منطقة “الفشقة” يرجع للقرن التاسع عشر، والذي كان قد انتهى إلى حل قانوني دبلوماسي بتوقيع معاهدة أديس أبابا في أيار /مايو 1902 والتي تم بمقتضاها ترسيم الحدود الشرقية للسودان مع إثيوبيا ما أدى إلى حدوث استقرار مؤقت؛ سرعان ما تجدد بعده الخلاف عندما قامت مجموعة من المزارعين الإثيوبيين بتجاوز حدود بلادهم والدخول إلى الأراضي السودانية والقيام بزراعة المنطقة الحدودية المعروفة بخصوبتها والتابعة للسودان.. ليعود الوضع لنقطة الخلاف القديمة.
وحصل التصعيد الأكبر بين البلدين، حول هذه المنطقة في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك عام 1993 حينما قامت إثيوبيا بالسيطرة على المنطقة مجددًا.
تجدد المواجهات
رغم التصريحات الرسمية لمسؤولي البلدين الحريصة على تسوية النزاع الحدودي عام 2013، إلا أن الخلاف تجدد ثانية عام 2014 لدرجة الاشتعال بعد أن قتلت قوة إثيوبية مجهولة جنديًا سودانيًا بالمنطقة الحدودية بين البلدين لتقوم القوات السودانية بالرد على مصدر النيران.
عام 2016، تم الإعلان عن عملية ترسيم 725 كم من الحدود بواسطة لجنة فنية معنية تحت مظلة تعاون ثنائي مشترك من السودان وإثيوبيا لمواجهة أنشطة العصابات المعروفة باستغلالها للخلافات الحدودية في تلك المنطقة.
وفي تلك الأثناء تم التأكيد على أن “الفشقة” منطقة سودانية تبلغ مساحتها 250 كم مربع.. إلا أن إثيوبيا ورغم اعترافها رسميًا بالسيادة السودانية على “الفشقة” لكنها تسمح للمزارعين الإثيوبيين بالزراعة في المنطقة بما يتناقض مع الموقف الرسمي.
الوضع الراهن
مع سخونة الأحداث بالفشقة، واستمرار مشاكلها خلال عقود طويلة، بما أنذر بانفجار كبير في الأزمة الأخيرة، لكن تعاطي القيادتين السودانية والإثيوبية مع الأزمة في إطار علاقات جوار عاقلة وهادئة، ساهم في سرعة السيطرة على الأمر واحتواء الخلاف.
وقوبل احتشاد القوات المسلحة السودانية على الحدود مع إثيوبيا، بتفهم “إثيوبي” هادئ للموقف وسرعة بديهة في محاولة منه للتهدئة، للحيلولة دون تصعيد سوداني عسكري، مع قبول المفاوضات لتسوية الخلاف بشكل ودي والإتفاق على خطة تعود بموجبها قوات البلدين لحدودها الدولية في غضون أسبوعين وذلك بعد استقبال السودان لرئيس الأركان الإثيوبي مبعوث أبي أحمد لمناقشة وضع العلامات الحدودية واحتواء الخلاف.
أبعاد متداخلة
خطا البلدان مؤخرًا، خطوات عملية في البدء بعمليات ترسيم الخط الفاصل بين البلدين ووضع العلامات الحدودية، في وقت تدرس فيه إثيوبيا كيفية التعامل مع الموقف السوداني الجديد من نزاع “سد النهضة”، الذي تميل فيه الخرطوم لصالح القاهرة.. ما يفسر جزئيًا محاولة الاحتواء الإثيوبية.
كما وشهدت الخرطوم زيارات متتالية لكل من وزير الري ورئيس المخابرات المصريين، أعقبتها في اليوم التالي مباشرة زيارة لرئيس هيئة الأركان الإثيوبي الجنرال آدم محمد. حيث أحيطت زيارة المسؤولين المصريين بالتكتم، ورجح مراقبون حينها أن يكون الهدف “كسب السودان” للجانب المصري.
وكان رئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك، صرح قبل أيام بعيد لقائه كلا من وزير الري محمد عبد العاطي ورئيس المخابرات عباس كامل المصريين بالخرطوم، أن بلاده متمسكة بمرجعية مسار واشنطن الخاص بقواعد الملء والتشغيل لسد النهضة، وإعلان المبادئ الموقع بين رؤساء الدول الثلاث في الخرطوم 2015. وتعد تصريحات حمدوك تغيراً في الموقف السوداني تجاه مفاوضات سد النهضة الجارية بواسطة واشنطن.
مصدر إثيوبي صرّح لصحيفة “الشرق الأوسط” قبل أيام، أن زيارة رئيس هيئة الأركان، يهدف جزء منها لمعالجة النزاع بين البلدين على منطقة “الفشقة” السودانية الخصيبة، التي استولت عليها قوات محسوبة على حكومة إقليم “أمهرا” الإثيوبي، بعد أن طردت المزارعين السودانيين، في عهد نظام المخلوع عمر البشير.
المصدر، أكد أن رئيس الأركان الإثيوبي اتفق مع المسؤولين السودانيين على خطة تعود بموجبها قوات البلدين لحدودها الدولية في غضون أسبوعين، على أن تباشر لجان ترسيم الحدود وضع العلامات الحدودية على الفور..
خلاصة الموقف أن الخلاف على “الفشقة” نموذج متكرر لخلافات حدودية متشابهة، يحاول آبي أحمد استثماره لكسب السودان في مواجهة مصر في الخلاف المائي.