الكاتب: أحمد عبد الله
الفوضى الناتجة عن أحداث مخططة مسبقاً، بإشراف أطراف محددين، مجهولي الهوية غالباً؛ نتيجتها تنعكس إيجاباً على محرّكيها من القوى المهيمنة عالمياً. هذا باختصار ما يعنيه اصطلاح نظرية “الفوضى الخلّاقة” أو “الفوضى البنّاءة” أو التدمير البنّاء”، النظرية التي تصدّر انتشارها الألفية الثالثة من دون منازع.
تجدر الإشارة إلى أن تاريخ إطلاق هذا الاصطلاح قد سبق انتشاره بأكثر من مئة عام، وبالتحديد عام 1902 حين ذكره المؤرخ الأمريكي (تاير ماهان) لأول مرة، ليتوسّع الأمريكي (مايكل ليدين) في شرح النظرية عقب أحداث 11 أيلول/ سبتمبر، فوصفها بالـ “الهدم البنّاء”، ويعني هدم كل ما هو قائم وتدميره، ثم إعادة البناء بما يتلاءم ومصلحة القوى العظمى([1])، صاحبة السيادة والقرارات النافذة، وبالطبع المقصود بها الولايات المتحدة الأمريكية وحليفاتها بالدرجة الأولى.
إلى هنا، حافظت النظرية على كونها محض فكرة قابلة للتطبيق والتمدد فور توفّر المتغيرات السياسية والاجتماعية الملائمة، على الرغم من ظهور مؤشرها الأول المتمثل بأحداث سبتمبر المسجّل في أول عام من الألفية الجديدة ومسؤولية تنظيم القاعدة وزعيمها آنذاك “أسامة بن لادن” عن تنفيذها، ثم الالتفات نحو غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين بعد تمهيدٍ استمر أكثر من عشر سنوات، بدأ مع عملية “عاصفة الصحراء” 1991 وإخراج الجيش العراقي من الكويت؛ لتتمكن الولايات المتحدة خلال تلك السنوات إضعاف البلد عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، ومن ثم الانقضاض عليه بحجة أسلحة الدمار الشامل وترسانة صدام الكيماوية، التي لم يوجد لها أثر سوى في خطاب جورج بوش الابن ليلة إعلانه الحرب.
إلا أن اصطلاح “الفوضى الخلاقة” التصق بصورته النظرية، ومعناه التطبيقي، وبعده الجيوسياسي، بوزيرة الخارجية الأمريكية، مستشارة الأمن القومي لاحقاً، (كوندوليزا رايس)، عرّابة غزو العراق وخريطة “الشرق الأوسط الجديد”.
الفوضى وعناصر التطبيق
ما يثير الدهشة، هو تبنّي الجماعات “الإسلامية” المتشددة لفكرة النظرية وتطبيقها، بل شكّلت تلك الجماعات العنصر الرئيس في صناعة الفوضى على الرغم من معرفتها المسبقة باستهدافها للمجتمعات الإسلامية –بحسب رايس- وبأهدافها القريبة والبعيدة منذ اللحظة التي أعادت فيها (رايس) طرح اصطلاح “الفوضى الخلاقة” مجدداً خلال حديث خاص لصحيفة “واشنطن بوست” عام 2005، شارحة للعالم وقتذاك، بكل وضوح ومباشرة، بأنها تتناول انتقال الدول العربية و”الإسلامية” من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، معلنة أن الولايات المتحدة ستلجأ إلى نشر الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط، في سبيل إشاعة الديمقراطية([2]).
العراق والفوضى الأولى
لم يكن سقوط بغداد في التاسع من نيسان 2003، وتوغل أمريكا وقوى التحالف في العراق، من جنوبه إلى أقصى شماله، سوى بداية انطلاق الفوضى المرسومة في منطقة الشرق الأوسط، العربية تحديداً؛ وتحدّدت في ذلك الحين العناصر الرئيسة الفاعلة فيها، ألا وهي العناصر الإسلامية المتشددة، المتمثلة بتنظيم القاعدة وتفريخاته؛ ذلك التنظيم الذي نقل نشاطه، بصورة ما يزال يلفّها كثير من الشك والغموض، من وسط أفغانستان، عبر إيران، إلى وسط العراق (في المنطقة التي أطلق عليها لاحقاً “المثلث السنّي”، ليقترن مصطلح “سنّي” بالإرهاب القاعدي في العراق، ثم ليشمل “السنّة” في بقية الدول).
أطلق على فرع القاعدة في العراق مسمى “الجهاد والتوحيد في بلاد الرافدين”، وتزعّمه الأردني الجهادي القادم من أفغانستان “أبو مصعب الزرقاوي” الذي جمع حوله عناصر من الجيش العراقي القديم وأعضاء في حزب البعث هناك؛ إضافة إلى جهاديين آخرين قدموا من دول عدّة، لا سيما من الأراضي السورية، بالتزامن مع بدء الهجوم الأمريكي في 20 آذار/ مارس 2003، واستمر دخولهم كذلك عقب السيطرة الكاملة للأمريكان؛ وجرى ذلك بعلم السلطات السورية، بل بمساندتها وإشرافها، من خلال عناصر في المخابرات جنّدتهم في بعض مساجد المدن السورية بصفة خطباء وأئمة لتحريض الشباب وإرسالهم إلى “الجهاد” ضد الاحتلال الأمريكي في العراق؛ ومن بين أكثر الخطباء المجندين، لمع نجم محمود قول أغاسي (أبي القعقاع السوري) الذي اتخذ من جامع “العلاء الحضرمي” في حي “الصاخور” الشعبي في مدينة حلب منبراً لطرح منهجه الجهادي ضد الأمريكان، “الصليبيين الجدد” كما كان يسميهم.
وأكّد العقيد المتقاعد من المخابرات العسكرية السورية إبراهيم البيطار (أبو إياد) أن أبا القعقاع كان على ارتباط واتصال وثيق بالأجهزة الأمنية السورية التي قال إنها استخدمته نقطة تجميع للشباب من ذوي التوجهات الجهادية([3]).
إضافة إلى الخطب الحماسية التي شحن من خلالها عقول مريديه وعواطفهم ضد أمريكا والغرب، أدار “أبو القعقاع” معسكرات تدريبية جهادية داخل الجامع وخارجه، على مرأى فروع الأمن السورية ومسمعها، وانتشرت أيضاً تسجيلات خطبه الدورية بمسمى “إصدارات غرباء الشام”. ليتمكّن بعدها من إرسال مئات الجهاديين إلى العراق، ومن بينهم تلميذه “أبو محمد الجولاني” الزعيم الحالي لجبهة النصرة.
بعد معرفة الاستخبارات الأمريكية بأمر أولئك الجهاديين، اتهمت النظام السوري بتسهيل عبورهم إلى العراق وأمرته بالتعاون معها لمنعهم من العبور وملاحقتهم والقضاء عليهم. ولتبرئة ساحته، قام النظام بالقبض على كل من استطاع العودة حياً من العراق، وقوائم أسمائهم موجودة مسبقاً عند أجهزة المخابرات السورية من خلال “أبي القعقاع” نفسه الذي كان يمدّها تباعاً بأسماء كل من يزجّ به إلى “الجهاد” في العراقي.
وفي يوم السابع والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر 2007، اغتيل أبو القعقاع على يد المخابرات السورية [4]، بعد انتهاء مهمته التي رُسمت له؛ وهذا الأسلوب مارسه النظام السوري مع أغلب من استخدمهم لتنفيذ خططه من عملاء وضباط ورجال دين، خوفاً من انفضاح أمره أمام المجتمع الدولي. وقبل متابعة الحديث عن تطورات المشهد الجهادي وانعكاساته اللاحقة على الفوضى السورية والشرق الأوسط، سننتقل أولاً لرصد ثورات الشعوب العربية ضمن ما أطلق عليه “الربيع العربي” وتقاطع مجريات أحداثها مع خريطة طريق الفوضى في المنطقة.
الربيع العربي على مفترق الفوضى
قامت الثورة في تونس في نهاية عام 2010 لتتوّج بهرب رئيسها السابق “زين العابدين بن علي”؛ ولعل اندلاعها الذي سبق بقية ثورات الربيع العربي، وسرعة أحداثها، وموقعها الذي يخرجها من دائرة “الشرق الأوسط” ذو المركزية المرتبطة بتنظيمات الإسلام السياسي تاريخياً، واصطفاف الجيش التونسي مع الشعب الثائر؛ ذلك كله حال دون مرور قطار الفوضى عبر أراضيها.
وحين انتقلت الثورة إلى مصر، لم تستطع الفوضى أيضاً إيجاد محطّة تمكّنها المكوث طويلاً آنذاك، لأسباب تتشابه إلى حدّ ما لما حصل في تونس، كسرعة أحداثها واصطفاف الجيش إلى جانب ثوار ميدان التحرير؛ ولأسباب أخرى مرتبطة بطبيعة الشعب المصري وتركيبته الاجتماعية ذات الطابع الديني والثقافي المتقارب على الرغم من دخول فئة “البلطجية” الساحة لإفشال الحراك وقمعه.
في النتيجة، أعلن “حسني مبارك” تنحيه عن السلطة، لتنتقل مصر بعد ذلك إلى مرحلة جديدة كان للفوضى فيها أثر واضح هذه المرة؛ هذا الأثر تجلّى في انهيار أقدم تيارات الإسلام السياسي وأوسعها انتشاراً، ونقصد حركة “الإخوان المسلمين” في مصر، الحركة التي نشأت في البلد نفسه منذ ما يقارب 90 عاماً، واستطاعت الاستمرار والانتشار على الرغم من الانتكاسات التي مرت بها خلال حكومات العسكر المتتالية، كما تمكّنت فرض تمثيلها السياسي في المجالس النيابية والوزارات المصرية، إضافة إلى امتلاكها عدداً من المؤسسات الاقتصادية والخدمية داخل مصر وفي دول العالم معظمها.
إلا أن الإخوان، لم يتخلوا عن حلمهم السياسي الأعلى، المتمثل في إدارة نظام الحكم في الدولة، شأنهم شأن أغلب الأحزاب والتيارات السياسية والإسلامية؛ فشكّل الإخوان حزباً سياسياً (الحرية والعدالة) أرادوا من خلاله إخفاء الصبغة الدينية عن الحركة وتنسيب أعضاء جدد من خارجها؛ فتمكنوا خوض الانتخابات الرئاسية ثم الفوز بها، ليصبح “محمد مرسي” أول رئيس مصري يصل عن طريق الانتخابات إلى سدة الحكم.
ونتيجة ضعفٍ في قراءة المشهد السياسي المحيط، وقصر نظرٍ في فهم العلاقات الدولية المعقّدة، لم يدرك الإخوان بأن ذلك المنصب الذي حصلوا عليه وذاقوا حلاوته بضعة أشهر، لم يكن سوى مصيدة نصبها لهم الغرب الذي ضحّى بحليفه المصري (حامي اتفاق كامب ديفيد) ولن يقبل إلا ببديل شبيه به؛ الغرب الحليف التاريخي لدول الخليج الكبرى المناهضة لنهج الإخوان المسلمين المتقارب مع إيران، والغرب الذي لن يسمح لحليف حركة “حماس” التاريخي أن يحكم شبراً واحداً في دولة حدودية مع “إسرائيل”.
إلا أن الأمور لم تستتب بانقلاب السيسي على الإخوان وزج رموزهم في السجون، فالتدهور الاقتصادي المستمر والمتسارع، والتذمّر المتنامي في الشارع المصري، ينذر باتساع حجم الفوضى مستقبلاً.
ليبيا على خط الفوضى
سارت الأمور أمريكيّاً في ليبيا وفق مبدأ القيادة من الخلف، فكان الأوروبيّون رأس الحربة في إنهاء “القذافي” كشخصٍ إشكالي، وتفكيك نظامه ذي الخلطة العجائبية، لتدخل بعدها البلاد في حالة فوضى على الرغم من تمكّن قوى المعارضة الليبية من تشكيل جسم سياسي مؤقت (المجلس الانتقالي) مؤلّف من شخصيات اعتبارية نخبوية حازت نسبياً على ثقة الشعب الليبي؛ إلا أن الصراع ما لبث أن اندلع ثانية ما بين القبائل وأصحاب المصالح الجهويّة والفئوية والمناطقية. وأبرز طرفي الصراع: العسكر والحرس القديم الذي عاد ليسيطر على المشهد السياسي متمثلاً بـ “حفتر”؛ والتيارات المتشددة التي انتقلت، بقدرة قادر، من فوضى الشرق المستعر إلى الأراضي الليبية متمثلة في “داعش”، ليحرص الطرفان على ديمومة المرحلة المخصصة لعصر الفوضى.
اليمن
لم يخطر في بال اليمنيين حين خرجوا في تظاهراتهم المليونية ضد “علي عبد الله صالح”، بأن اليمن “السعيد” والفقير سيتحوّل إلى فوضى حزينة بفعل مصالح الدول الإقليمية والكبرى في هذا البلد.
وأكثر ما أدهش تلك الدول حقيقةً، هو تمسّك ثوّار اليمن بخيار الحراك السلمي وعدم الانجرار إلى العسكرة على الرغم من اشتراك فرق الجيش الموالية لصالح في قمع الحراك؛ ومن المعروف أن السلاح الخفيف والمتوسط منتشر انتشاراً واسعاً بين قبائل اليمن ومناطقه منذ ما قبل الثورة، إلا أن ذلك لم يدفعهم إلى استخدامه ضد قوات نظام صالح، تاركين خيار الصدام العسكري بيد فرق الجيش والضباط المنشقين عن النظام من أبناء القبائل الأخرى.
وبعد الاستهداف الذي أدّى إلى تعرّض صالح لحروق خطرة وتوجهه إلى العاصمة السعودية الرياض للمعالجة، ثم توقيعه مع المعارضة على اتفاق “مبادرة دول مجلس التعاون الخليجي” تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، وافق صالح بموجبه على انتقال صلاحياته إلى نائبه “عبد ربه هادي” مقابل ضمانات بعدم ملاحقته قضائياً؛ لاحت أمام اليمنيين بوادر حلّ سياسي يحول بينهم وبين انجرار البلاد إلى الفوضى المرسومة لها.
بعد توقيعه للمبادرة، سافر صالح لتلقي العلاج في الولايات المتحدة الأمريكية، ليعود بعدها إلى اليمن ويتنصّل من المبادرة الخليجية، متحالفاً مع الحوثيين المدعومين إيرانياً الذين سيطروا على العاصمة صنعاء، لتدخل البلاد في نفق الفوضى (الإلزامي) بصبغته الطائفية، ولتجرّ معها دول الإقليم، وأولها السعودية التي أعلنت الحرب على الحوثي ضمن ما يسمى “عاصفة الحزم” في آذار/ مارس 2015؛ تلك الحرب التي تمكنت السعودية تحديد بدايتها ويبدو بأنها فقدت التحكّم بتحديد نهايتها، ما أوقعها هي الأخرى على سكّة الفوضى.
سوريا تدجين الفوضى وتمددها
على الرغم من معاصرة الثورة السورية لأحداث ثورتي ليبيا واليمن، إلا أن إعلان انطلاقتها جاء متأخراً قليلاً عن انطلاقتهما، وهذا ما دعانا إلى كتابة فصل الفوضى السوري في آخر الفصول. وسنتابع تطورات الأحداث التي توقفنا عندها في البداية، لرسم الملامح الكاملة للصورة في أدقّ تفاصيلها، ما يشكّل فهماً صحيحاً في قراءتنا للواقع الحالي.
تمكّن النظام السوري إلقاء القبض على عدد كبير من تلاميذ “أبي القعقاع”، ومريديه والمتأثرين بخطبه معظمهم، بعد عودتهم من “الجهاد” في الأراضي العراقية، وأغلبهم قُبض عليهم قبل اغتيال أبي القعقاع عام 2007، كما أسلفنا؛ فأودعهم النظام في سجن “صيدنايا” سيئ السمعة، لتبدأ بعد ذلك عملية التحضير “المبرمجة” التي مهدت بدورها لمرحلة البلبلة “المنشودة”.
ضم ذلك السجن بين جدرانه أطياف وتيارات المعارضة السياسية كلها لنظام الأسدين، الأب والابن، منذ تشييده في نهاية ثمانينيات القرن المنصرم؛ فكان يُزجّ فيه باليساريين واليمينيين من الأحزاب العلمانية والقومية، إضافة إلى منتمي الأحزاب والحركات الإسلامية السياسية والسلفية الجهادية.
وبصورة غير مباشرة، حرص النظام على خلق حالة من التشنّج والنفور المستمر بين أفراد الفريقين من جهة، وبين أفراد التيارات ضمن الفريق الواحد من جهة أخرى، لتسهل سيطرته عليهم جميعاً.
وعلى الرغم من العداء المتجذّر بين النظام السوري والتيارات الإسلامية بسبب موقفه العدائي التاريخي من “الإخوان المسلمين” وأحداث الثمانينات المرة، إلا أنه كان يُقرّب السجناء الإسلاميين، على التيارات الأخرى في سياسته المتّبعة داخل السجن، وغالباً ما كان يقف في صفّهم إذا ما حصل صدام بين المجموعتين؛ فمنحهم حرية ممارسة طقوس العبادة، وإقامة الصلوات الجماعية، وقراءة القرآن وكتب الفقه والسيرة، والاستماع إلى أجهزة “المذياع” التي كانت حيازتها ممنوعة داخل المهاجع؛ وكانوا يتبادلون الأحاديث والمناقشات في الأمور الدينية والفقهية بأدقّ تفاصيلها.
تلك “المزايا الإيجابية” التي توفّرت للإسلاميين، لا تغطّي مطلقاً الإجراءات السلبية التي مورست عليهم من قبل النظام، والمتمثّل في إدارة السجن القمعية داخله، وخارجه في محكمة “أمن الدولة” المهيمنة، بالاشتراك مع الفروع الأمنية، على مصير السجناء المجهول في ظل غياب المحاكمات وأصولها القضائية المعروفة، ما جعلهم ينتظرون معجزة ما، تخلّصهم من جحيمهم المزمن؛ فجاءت الإشارة الأولى مع صباح يوم الخامس من تموز/ يوليو 2008، حين أعلن الإسلاميون العصيان على إدارة السجن متذرعين بسوء تصرف العناصر أثناء حملة تفتيش فجائية؛ تمكّن خلالها المحتجون من احتجاز ضباط وعناصر، لينتهي العصيان بتحرير الأخيرين، وسقوط قتلى في صفوف الإسلاميين، ولم يُحدد عددهم نتيجة التعتيم على الحدث؛ فجرى بذلك قمع التمرّد الذي يعتبر الأول من نوعه، ولم يتكرر منذ ذلك الحين.
بعد حادثة العصيان، غيّر النظام من سياسته السابقة مع الإسلاميين، فراح يضيّق بشدة على جماعاتهم، ووضعهم تحت المراقبة الدقيقة، وضاعف عدد السجانين، وعزّز سيطرته على السجن بوساطة عسكريين تابعين للفرقة الرابعة التي يرأسها ماهر الأسد الذين جرى بوساطتهم إنهاء العصيان بعد فتحهم نيران بنادقهم على منفذيه.
استمر الحال على ما هو عليه في سجن صيدنايا، واستطاع النظام خلال الفترة الممتدة بين العصيان ومنتصف عام 2011 تأهيل جيل جديد من السجناء الإسلاميين نتيجة تبنّيه لسياسة البطش والتنكيل، ليغدو منهجهم الفكري أكثر تشدداً وتطرّفاً من ذي قبل، تحضيراً للمرحلة المقبلة من مراحل تمدد الفوضى.
الأسد واجتراح معجزة الخراب
فوجئ السوريون، على اختلاف ميولهم ومواقفهم من الثورة، بمرسوم العفو الرئاسي الذي أصدره بشار الأسد بعد انقضاء ما يقرب من شهرين ونصف على اندلاع الثورة، وبالتحديد في 31/5/2011، ليشمل ذلك العفو إطلاق سراح ما يقارب 300 من “جهاديي” العراق المعتقلين في سجن صيدنايا، أغلبهم كانوا من أتباع أبي القعقاع، إضافة إلى عدد من أعضاء التيارات الإسلامية الأخرى كالإخوان المسلمين وحزب “التوحيد” وحزب “التحرير الإسلامي” وغيرهم. فكان ذلك المرسوم بمنزلة المعجزة المستحيلة التي كانوا ينتظرون حدوثها، ولم تكن لتحصل لولا اندلاع الثورة.
في تلك الأثناء، كانت التظاهرات السلمية تعم المدن السورية كلها تقريباً، وعلى الرغم من اشتراك الأجهزة الأمنية وجيش النظام في قمع المحتجين بالحديد والنار إلا أن خيار التسلّح لم يكن مطروحاً لدى أغلب الثوار، بل كان مرفوضاً بشكل قطعي؛ وكان الثوار يأملون من المجتمع الدولي أن يتدخّل عسكرياً لوقف آلة الحرب كما حصل في ليبيا على سبيل المثال.
وعلى الرغم من المؤشرات كلها التي تؤكّد استمرار النظام بتمسكه بالخيار الأمني لقمع الاحتجاجات، وغلوّه الواضح في التنكيل والتقتيل، إلا أن المجتمع الدولي لم يحرك ساكناً واكتفى بعبارات الشجب والتنديد والاستنكار في الوقت الذي كانت دبابات النظام وجيشه وعناصر أمنه يتوزعون عند مداخل المدن وبين حاراتها وشوارعها في مشهدٍ ينذر بخرابٍ مقبل لا محال. من بين المطلق سراحهم نتيجة مرسوم العفو الأسدي، برزت أسماء ثلاثة من الإسلاميين سيكون لهم الدور البارز في انتقال الثورة من حراكها السلمي ومفهوماتها المدنية إلى مرحلة الحراك العسكري والمفهومات الإسلاموية.
هؤلاء الثلاثة هم: زهران علوش، قائد “لواء الإسلام” الذي بويع في ما بعد قائداً لـ”جيش الإسلام”؛ وحسّان عبّود (الملقّب بأبي عبد الله الحموي)، قائد “حركة أحرار الشام”؛ وعيسى الشيخ، قائد “لواء صقور الإسلام”. وقبل أن يتمكّن أولئك إعلان تشكيلهم للفصائل وتزعّمها الذي امتد بين نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 وتموز/ يوليو 2012، كانت الساحة آنذاك تتبع للجيش الحر الذي بدأ يتشكّل من الضباط والعسكريين المنشقين عن نظام الأسد، نذكر منهم الملازم عبد الرزاق طلاس والرائد حسين الهرموش والعقيد رياض الأسعد، وتشكّل كذلك من أبناء المدن الثائرة ضد النظام.
لم تكن فصائل الجيش الحر وقتذاك تتبع لحزب أو تيار إسلامي ما، بل كان أغلب أفرادها من المزيج السوري المتعدد الثقافات والميول، ومن المعتدلين دينياً معظمهم؛ كما شهدت تلك المرحلة تشكيل فصائل ضمت أفراداً من الديانة المسيحية ومن أبناء الطوائف الدرزية والعلوية والإسماعيلية. وعلى الرغم من ذلك أطلقت على فصائل الجيش الحر معظمها مسميات ذات طابع إسلامي، تبيّن لاحقاً بأن الأطراف الممّولة لها كانت تشترط تلك الأسماء مقابل التمويل.
حين ذاك، لم يكن بإمكان زعماء التشكيلات اللاحقة إعلان برامجهم الإسلاموية بالشكل الصريح إلى أن استتب لهم الأمر بعد استهداف قادة الجيش الحر وأفراده معظمهم من قبل طائرات النظام وعناصر مخابراته؛ إضافة إلى وقف تمويل من بقي منهم، واقتصار ذلك التمويل على التشكيلات الإسلاموية الحديثة، ما دفع عدداً من أفراد الجيش الحر إلى الانضمام إلى صفوف تلك التشكيلات، وفريقاً آخر آثر اعتزال القتال والنزوح إلى الدول المجاورة أو التوجه تهريباً إلى الدول الأوروبية.
وتزامن مع انطلاقة نشاط التشكيلات الثلاثة السابقة، إعلان تشكيل أحد أهم المشاركين وأخطرهم اليوم في فوضى الحرب السورية “جبهة النصرة لأهل الشام” الذراع السوري لتنظيم القاعدة، بزعامة “الجولاني” تلميذ “أبي القعقاع” الذي عاد في آب/ أغسطس 2011 من العراق بعد نشاطه هناك مع زعيم تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق” آنداك “أبي بكر البغدادي” وقبله مع “الزرقاوي”. والجولاني هذا، كان أيضاً ممّن أُفرج عنهم وخرجوا من السجن، ولكن هذه المرة كان على يد الأمريكان الذين أطلقوه من سجن “بوكا” العراقي عام 2008. فأعلن الجولاني تشكيله السوري في 24 كانون الثاني/ يناير 2012.
وبسيطرة تلك التشكيلات العسكرية على ساحة الصراع السوري، وطرحها لبرامجها السياسية الدينية على العلن، نجح النظام أخيراً في إثبات نظريته التي طالما أوهم بها العالم منذ أيام الحراك الأول، حين ادعى بأن حربه على السوريين هي حرب ضد “الإرهاب”، ما يبيح له المشاركة في تطبيق نظرية الفوضى والاستفادة من نتائجها اللاحقة.
ولعل أكثر العناصر التي تبنّت مفهوم النظرية وكرّستها وحرصت على المشاركة في تنفيذها وانتشار خرابها ليشمل أوسع بقعة جغرافية، هو تنظيم “داعش”؛ ذلك التنظيم الذي أشرف بنفسه، وبقناعة تامة، على تطبيق الفوضى، عقائدياً وعسكرياً واجتماعياً. إذ تبنى التنظيم نظريةً تتطابق كلياً مع مفهوم “الفوضى الخلاقة”، والمطروحة في كتاب “إدارة التوحّش” لمؤلفه المجهول الهوية “أبي بكر ناجي”، ولا نستبعد أن يكون مصدر هذا الكتاب هو المصدر ذاته المحرّك لـ “الفوضى الخلاقة”، فهما يكمّلان بعضهما، لا سيما أن الأخيرة تستند في تنفيذ مخططها الجنوني إلى عنصر الإسلام المتشدد لخلق شرق أوسط جديد.
ومع تدخّل إيران وميليشياتها الطائفية العراقية واللبنانية والأفغانية تدخلاً سافراً ومعلناً في الحرب ضد السوريين إلى جانب النظام، غدت الساحة السورية نموذجاً مثالياً خلّاقاً لمفهوم الفوضى العام.
هامش:
إنّ تناولنا لتيارات الإسلام المتشددة ومسؤوليتها المباشرة والرئيسة في نشر الفوضى السورية، لا ينفي مطلقاً مسؤولية الأطراف الأخرى المتمثلة بالتشكيلات والتنظيمات العسكرية أو المؤسسات السياسية الأخرى على اختلاف ميولها وقومياتها؛ فعلى الرغم من الاختلاف الجذري في الجوانب جميعها؛ الفكرية والعقائدية والسياسية بين الفريقين، إلا أن الأطراف الأخيرة راحت تمارس تطرّفاً في مفهوماتها لمواجهة التطرّف الديني؛ وهذا شكل آخر من أشكال الفوضى التي تستهدف المنطقة.
أما في مستوى الدول الإقليمية الأخرى في الشرق الأوسط، فنلاحظ حضور الفوضى قد هيمن على شكل التحالفات الدولية والعلاقات السياسية والتحوّلات الداخلية، مثالٌ على ذلك القطيعة والعداء بين السعودية ودول خليجية أخرى مع دولة قطر وتحوّل الأخيرة صوب إيران؛ وأيضاً التحالف التركي مع العدويين التاريخيين، روسيا وإيران؛ أضف إلى ذلك، التحوّل الكلّي الذي طرأ على نظام الدولة السعودية ومنهجها الفكري والعقائدي على يد ولي العهد محمد بن سلمان. ولعل من أكثر الأمثلة دلالة على حجم الفوضى الحاصلة، هو التغيّر الملحوظ في نظرة شعوب الشرق الأوسط عموماً تجاه “إسرائيل”.
ختاماً.
هل كانت ثورات الربيع العربي أداة لتنفيذ مفهوم الفوضى؟ ثم ما هو شكل “البناء” الذي سيلي تلك الفوضى؟
ببساطة شديدة، لم تكن ثورات الشعوب في البلاد العربية مخططاً لها في كواليس الاستخبارات الأمريكية أو الغربية عموماً، وإنما كان ردّ الأنظمة المستهدفة عليها، والأطراف الفاعلة فيها، يدار من قبلهم؛ ولمسنا ذلك من خلال ما حصل لأنظمة دول الربيع العربي، وما يحصل فيها الآن.
ولا شك في أن الشعوب الثائرة تتحمل جزءاً من المسؤولية، لا سيما في تعاطيها مع الأطراف المشاركة بالفوضى القائمة؛ فبدل اعترافها بخطورة تلك الأطراف راحت تسوّغ سلوكها وتجمّل جرائمها المرتكبة بحق الآخر، فتتحول بذلك إلى أداة جديدة من أدوات الفوضى بدل أن تكون أداةً للبناء المقبل.
يجب على تلك الشعوب أن تسلّم اليوم بحقيقة هزيمتها، لذا، لزام عليها تحمّل النتائج؛ وإن أرادت صناعة التغيير المنشود، فعليها التفكير ملياً بآلية بناء ذهنيةٍ جديدة تختلف عن تلك التي ابتلعتها دوّامة الفوضى.
المراجع:
[1] – صحيفة إيلاف، مقال بعنوان “قانون الفوضى الخلاقة” للكاتب عامر الحسيني، 22/9/2016.
[2] – موقع روسيا اليوم، مقال بعنوان “كوندوليزا رايس ما هكذا تنشر الفوضى الخلاقة” للكاتب رائد كشكية، 11/10/205.
[3] – ذكر العقيد حديثه هذا من خلال حلقة بعنوان “أبو القعقاع داعية المخابرات السورية” في برنامج “الصندوق الأسود” بقناة الجزيرة/ 26/11/2015.
[4] – صحيفة العرب اللندنية، مقال لإبراهيم الجبين بعنوان “أبو القعقاع راسبوتين المجاهد الذي تلقفته المخابرات السورية”، 24/9/ 2013. حيث يذكر الكاتب الذي كان أجرى لقاء مع أبي القعقاع قبيل اغتياله، بأن الأخير أخبره مراراً بأنه مستهدف من قبل المخابرات السورية.
هذه المادّة تعبّر عن وجهة نظر الكاتب، وليس بالضرورة أن تعبّر عن رأي المرصد.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال افريقيا الإعلامي.