لولا صعوبة ما يواجهون وقساوة ما يعيشون، لما غامر الكثير من اللاجئين بالتوجه إلى أوروبا رغم إغلاق الحدود
إن صعوبة المعيشة والطموح بمستوى أعلى للحياة، عامل مهم ومحفز قوي دفع الكثير من اللاجئين في تركيا والذين يقارب عددهم الأربعة ملايين شخص وفق تقديرات متنوعة، عبر السنوات الماضية وصولًا للأزمة الأخيرة، إلى السعي وبذل المال بل والحياة للوصول لدولة أوروبية (وتحديداً من دول أوروبا الغربية)
وإذا كان الهروب من بطش نظام مجرم في سورية التي يريد الأسد احتكارها لنفسه ولميليشياته ولمن باعهم البلاد من روس وإيرانيين، فصبوا أنواع العذاب وصنوف الموت على كل من طالب بحريته يوماً، بل تعدوا ذلك إلى محاولة تغيير خريطة المجتمع وغنى أفراده في سورية انطلاقًاً من أسس طائفية كانت محركاً أوليّاً للشعب وأغلبيته يوماً في خروجه على نظام حكمه بالحديد والنار.
الحال في تركيا مختلف، فطموح الكثير من اللاجئين السوريين باتخاذ تركيا محطة عبور إلى أوروبا، القارة العجوز التي تضخ في عروقها دماء شابة من لاجئي دول العالم يسهمون في الحفاظ على تفوق أوروبا ورفاهيتها، وتقدم هي لهم مستوى معيشي أفضل – وفقاً لما يراه أولئك المغادرون – فكان أن ساهم الموقع الجغرافي المتوسط لتركيا بجعلها منطقة عبور ضرورية لأغلب من يفكر باختراق الحدود الشرقية لأوروبا، وهذا ما كرره وأكده المسؤولون الأتراك عبر التأكيد أن بلادهم لن تتحول إلى دولة عبور، في إشارة لطموح كثير من لاجئي أفريقيا وآسيا.. بيد أن لللاجىء السوري قصة أخرى..
ألم ومعاناة وأطفال تتلوى ونساء تعاني وفقر مدقع وحصار شديد وموت يضرب هنا وهناك، هذا المشهد الذي قاساه أغلب السوريين، فاندفعوا بشكل غريزي للهروب من بطش الظالم، والهارب تتمثل خطته الأولى بالهروب دون تفاصيل أو مفاضلة، الهروب والنجاة بالحياة ممن يسعى لسلبها بعد أن سلب كل ما سواها، هرباً من الأسد الذي مسح الديار وصادر الأموال وسجن الرجال وأراد حرق البلد كله لكرسيه فقط.
وبحكم الجغرافيا والحدود الطويلة والجوار المباشر بين تركيا وسورية.. نزاح مئات الآلاف من السوريين إلى الأراضي التركية، بعضهم تابع مباشرة إلى أوروبا، وبعضهم فضل البقاء معتبراً إياه مرحلة مؤقتة ولا بد من عودة قريبة للديار، ساعده في ذلك قرب العادات الاجتماعية والدين وبعض التسهيلات الحكومية حينها، مع تكدس جالية ضخمة خففت عنه مرارة الغربة، واقتصاد تركي كان قويّاً نشطاً في مراحل اللجوء الأولى.
تغيرت المخططات، واقتنع الكثير من مهجري سورية أن الرحلة طويلة والعودة المنتظرة للوطن قد تستغرق سنوات في ظل التخاذل الدولي الذي باعهم كلاماً وتنديداً دون خطوات فعلية، فلا منطقة آمنة في سورية تؤوي النازحين والهاربين، ولا قوات ردع تمنع ظلم الأسد وميليشيات إيران، ولا حظر جوي يبعد الطيران الروسي والأسدي من قصف ما يشاء.
الإشكالية الأكبر في نظر الكثير من السوريين في تركيا، هي قضية عدم الاستقرار، فالوضع القلق زاد من معاناة الكثير، هل يحملون صفة لاجىء، ما هي حقوقهم الفعلية، ما هو مستقبلهم ومستقبل أولادهم في تلك البلاد، يضاف لذلك موجات الصراع في الساحة الداخلية التركية التي جعلت من السوريين ورقة يتقاذفها كل طرف ويحاول من خلالها تحقيق انتصار انتخابي وسيطرة جماهيرية عبر إثارة أزمة السوريين وتواجدهم وما إلى ذلك، مما زاد من الوحشة النفسية التي عاناها السوري وجدد طموح البعض في بلاد تمنحه حقوقاً أعلى واستقبالاً أفضل وفرص عمل ومعيشة ودخل مغاير، ولعل هذا ما يفسر رفض البعض – عبر المقابلات ووسائل التواصل – لما أسماه حياة العمل والنوم المكررة في تركيا، فالاقتصاد هناك نامي، ولا يزال يتأثر بأي هزة سياسية أو اجتماعية أو صراع دولي، فلم يستكمل شروط انتقاله لمرحلة الاقتصادات الكبرى المستقرة، وإن دخل ضمن العشرين الكبار.
تحركت جموع المهاجرين صوب الحدود الأوروبية، التي أغلقت أبوابها في وجه اللاجئين، رافضة استخدامهم كورقة ضغط سياسية تركيّة ضد أوروبا في صراع أنقرة و موسكو، يضاف لذلك البعد الاجتماعي الداخلي في بلدان القارة وما تسببت به أزمة الهجرة من صعود الشعبويين وتيارات اليمين بشكل يهدد مكتسبات الاتحاد الأوروبي الأخيرة خلال عقود خلت، دون أن نهمل ما قادت له من نزاع أوروبي أوروبي حدا ببعض الدول لمغادرة التكتل الأوروبي نفسه، وحالة بريطانيا ماثلة للعيان.
وفي كل تقاطعات المشاهد وأسبابه وغاياته، بقي اللاجىء السوري الخاسر الأكبر، دون وطن ودون مستقبل واضح ودون معرفة أين ستمضي به الأيام.