الملخص التنفيذي:
تحاول هذه الدراسة رصد الكلمات والمصطلحات غير العربية (المُعَرّبة) الموجودة في القرآن الكريم؛ التي أصبحت نتيجة القراءة القرآنية؛ وسماع الأذن العربية لها مُعْرَبة! إذ ترصد هذه الورقة أصل تلك الكلمات باللغات الأخرى؛ وهذا أمر لا يقدح في عروبة القرآن؛ بل يمد جسوراً مع الآخر للتلاقي على كلمة سواء.
وعندما تقرأ المفردات والمصطلحات في القاموس الأكادي غالباً ما تفهم معنى تلك الكلمات باللغة العربية! فاللغات الحضارية القديمة في شرقنا البائس؛ كلها من أسرة واحدة، واللغة العربية آخر اللغات السامية، ولسان آخر حضارة في هذا الشرق البائس؛ وهي الحضارة الإسلامية، وبالتالي فهي استطاعت أن تحتوي على كثير من مفردات اللغات الحضارية التي سبقتها؛ حتى أصبحت وعاءً لكل اللغات السامية التي سبقتها حضارياً. ولذلك وقفنا عند علاقة لغة القرآن بالسريانية.
ومن أهداف هذه الورقة أيضاً العمل على مكافحة التطرف والعنف التي تستخدمه التنظيمات الإسلاموية المتطرفة في مفهوم حور العين لدفع أبنائنا للتضحية بأرواحهم من أجل الحصول عليهنَّ؛ وممارسة الجنس معهم في الجنة. فتوضح معنى اللسان العربي قرآنياً. كل ذلك نناقشه من خلال المحاور التالية:
- المدخل
- هل في القرآن كلمات غير عربية؟
- العلاقة بين العربية والسريانية!
- أمثلة على وجود كلمات ومصطلحات غير عربية في القرآن!
- الأحرف المقطعة في القرآن الكريم!
- حور العين وعلاقتها بالتطرف والإرهاب!
- أسماء الملائكة والأنبياء والمدن والبلاد المذكورة في القرآن؛ هل هي عربية؟
- كلمات غير عربية ومن لغات مختلفة مذكورة في القرآن!
- هل كُتِبَت نسخة القرآن الأولى بالعربية؟
- كيف نفهم قوله تعالى (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)؟
- النتيجة
المدخل:
لا يوجد مسلم يشك في عربية القرآن؛ ولا كونه نزل على قوم كانوا في ذروة فصاحتهم؛ ولكن لا داعي لهذا العناد بأن كل ما ذُكِر في القرآن من كلمات ومصطلحات هي عربية الجذر والأصل! ولقد أشار إلى وجود كلمات أعجمية من قبلُ أئمة كبار من السابقين؛ لهم وزنهم ومؤلفاتهم في تراثنا؛ سنذكر بعضهم في ثنايا حديثنا؛ ولأننا نحب لغتنا الجميلة؛ لا نرى الموضوع يقدح في عروبة القرآن إطلاقاً؛ بل يمكن عدّه من دلائل النبوة.
ولا بد من أن ننوه بأنه لا توجد لغة في العالم؛ قديماً وحديثاً؛ مستقلة بذاتها؛ ولم تتأثر باللغات المجاورة لجغرافيتها؛ لأسباب مختلفة؛ وهذا ما نشهده اليوم في مجتمعات العالم كله.
هل في القرآن كلمات غير عربية؟
بداية كلمة قرآن ليست عربية، اختلف أهل اللغة فيها عند بحثهم لها عن مصدر عربي، ([1]) وهذا الاختلاف في أهم كلمة إسلامية، يدل على عدم عربيتها، فكلمة قرآن مشتقّة من «قِريانا» وهو مصطلح سرياني للطقوس أو “الليتورجيا” liturgy السريانية والذي يعني «كتاب الفصول lectionary»، أي كتاب القراءات الطقسيّة. ([2])
عودة للسؤال: هل في القرآن كلمات غير عربية؟
اخْتُلف السابقون في الإجابة على هذا السؤال إلى ثلاث اتجاهات:
الأول: عروبي: يرى بأن اللغة العربية هي أصل اللغات؛ وأمُّ اللغات العالمية كلها؛ ولا وجود لكلمات غير عربية فيه؛ ومن القدامى من ادعى ذلك؛ وأُطلق عليهم “أهل التوقيف” وزعموا أنها اللغة الأم التي تفرعت منها اللغات الأخرى، وأن لها الفضل على سائر اللغات، ويحشدون لذلك حججاً من التراث الديني والأدبي، ومن ذلك أن العربية هبة من الله، كما قالوا؛ وعلى رأسهم ابن فارس: “اعلم أن لغة العرب توقيف، ودليل ذلك قوله جل ثناؤه: (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا)، وأنها لغة القرآن، ولغة آدم الإنسان الأول، ولغة أهل الجنة”.
لكن يبدو أن هذه الحجج لم تعد كافية لأنها لا تقوم على أساس قوي؛ إذ لا دليل على أن اللغة العربية هبة من الله؛ وأنها توقيفية؛ فقد اختلف اللغويون والمتكلمون قديماً في هذا الأمر، منهم مَن ذهب إلى أن اللغة اصطلاح لا توقيف، ومنهم مَن توقف في ذلك؛ لعدم وجود دليل واضح يؤيد إحدى وجهتَي النظر، وهو موقف “ابن جني”.
ولا دليل على أن آدم تكلم اللغة العربية، ولا على أنها لغة أهل الجنة. وهو ما أكده ابن حزم بقوله: لا نص ولا إجماع في ذلك. وكشف ابن حزم ثغرة في الاستدلال بالآية العاشرة من سورة يونس على أن العربية لغة أهل الجنة؛ إذ يمكن بنفس المنطق الاستدلال بالآيات التي تصور حوار المعذبين بجهنم على أنها لغة أهل النار. ([3])
لكن “أهل التوقيف” يرون بأن وجود كلمات أعجمية؛ لا ينسجم مع التحدي الإلهي لهم بأن يأتوا بمثله؛ وعلى رأس أصحاب هذا الرأي الإمام الشافعي، والباقلاني، وابن فارس، وغيرهم. وقد اعتمدوا رأيَّ الشافعي في كتابه الرسالة: لا يحيط باللغة إلا نبي. ([4])
الفريق الثاني: يقرُّ بوجود كلمات غير عربية في القرآن؛ ولكنها قليلة جداً؛ ولا تخرجه عن عربيته؛ ومن أصحاب هذا الاتجاه: ابن أبي شيبة؛ والثعالبي؛ وابن النقيب؛ والسيوطي؛ وغيرهم.
لكن اللغة مثلها مثل الكائن الحي خاضعة للتطور والتبدل ودخول مصطلحات جديدة عليها؛ لذا تموت فيها كلمات ومصطلحات؛ وتولد أخرى بدليل عدد الكلمات العربية في المعاجم؛ مقابل عدد الكلمات المستخدمة. وبذا قال بعض مؤرخي اللغات.
ولقد كانت اللغة السريانية هي لغة العلم والعالم لقرون عديدة؛ ولكون القرآن نزل آنذاك؛ ولانبهار العالم برسالة الإسلام؛ وامتداد الدين الإسلامي جغرافياً؛ أخذت اللغة القرآنية مكان اللغة السريانية، لتصبح ولقرون عديدة العربية لغة العلم والعالم؛ كما اللغة الإنجليزية اليوم.
وإذا كانت البحوث المعاصرة تؤكد وجود كلمات غير عربية؛ عندما نردها إلى أصلها من اللغات الأخرى؛ يظهر معناها بشكل جلي؛ مما يسهل لقارئ القرآن فهمه وتدبره. فإن من أئمة التراث من تحدث عن هذه المسألة دون حرج منهم الإمام جلال الدين السيوطي (849 هـ/1445م ـ911 هـ/1505م) في كتابه المخصص لهذا الباب (المهذب فيما وقع في القرآن من المعرب) وأبو الحسن علي المسعودي (283 هـ ــ 346 هـ/896 ـــ 957 م) في كتابه الشهير (مروج الذهب ومعادن الجوهر) وأبو العباس القلقشندي المتوفى سنة (821هـ 1418م) في كتابه (صبح الأعشى في صناعة الإنشا) ومن المعاصرين الدكتور إبراهيم السامرائي. في كتابه (فقه اللغة المقارن) والدكتور أنيس فريحة في كتابه (وفي اللغة العربية) وكذلك كتاب (اللهجات العربية الغربية القديمة) لـ CHAIM RABIN.
هناك فريق ثالث مال إلى التوفيق بين الرأيين السابقين؛ إذ قال: إن بعض الكلمات أصولها أعجمية؛ ولكن بتداولها عربيًا تم تعريبها؛ وعندما نزل القرآن بمثل هذه الكلمات لم تستنكر ذلك قريش. من هذا الاتجاه: أبو منصور الجواليغي في كتاب (المعرب من كلام العرب على حرف المعجم) ومن المعاصرين من كتب في هذا الشأن الدكتور “محمد سيد علي بلاسي” في كتابه (المُعرب في القرآن الكريم) والأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه (مداخل إعجاز القرآن) وغيرهم كثير.
ويقول ابن عطية النحوي والمفسر الأندلسي في هذا الأمر بتفسيره الشهير (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز): إن هذه الكلمات وقعت نتيجة أن العرب العاربة؛ خالطوا أقوامًا أعاجم نتيجة أسفارهم؛ فعلقت هذه الكلمات في لغتهم؛ واستعملها العرب في أشعارهم؛ ثم نزل القرآن بها.
العلاقة بين العربية والسريانية!
العلاقة بين اللغة العربية والسريانية والعبرية؛ لا ينكرها إلا من لم يدرس اللغات. وحول هذا يقول ابن حزم في (الإحكام في أصول الأحكام) عن العلاقة بينهم: “الذي وقفنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية التي هي لغة ربيعة ومضر لا لغة حِمير. ([5]) لغةٌ واحدة تبدلت مساكنُ أهلِها، فحدث فيها جرش؛ كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي. فمن تدبر العربية والعبرية والسريانية، أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان، ومجاورة الأمم؛ وأنها لغة واحدة في الأصل”. ([6])
ووافق ابنَ حزم اللغويُ المعاصر رمضان عبد التواب في كتابه (اللغة العبرية/فصول في فقه العربية) وكذلك اللغوي الألماني “هاينر زيتلين” في كتابه (أصول اللغات السامية).
ويقول الدكتور شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي: وقد ظلت السريانية بلهجاتها المختلفة لغة حيةً في الشرق الأوسط إلى أن جاء الإسلام؛ فقضت عليها وعلى لهجاتها لغة القرآن، وإن ظلت معروفة في بعض البيئات. ([7])
وكانت الآرامية/ السريانية قد انتشرت انتشاراً واسعاً؛ وعَمَّ استعمالها في مناطق شاسعة، امتَدَ من بلاد الصين شرقاً حتى جنوب مصر، فأصبحت آنذاك لغة عالمية، واللغة السريانية؛ هي اندماج اللغتين الآرامية والأكادية بكيان واحد؛ حصل ذلك في عهد الإمبراطورية الآشورية عندما استقبلت كثيراً من الآراميين للضرورة الاستراتيجية في أراضيها التاريخية؛ فحدث اندماج كبير بينهما؛ حينذاك تخلت الإمبراطورية الآشورية عن الحرف المسماري التاريخي مقابل الحرف الآرامي لسهولته.
حتى أن المستشرق الفرنسي “آرنست رينان” قال فيها: إنَّ الآرامية في القرن السادس قبل الميلاد، طمست كل اللغات التي سبقتها؛ وأصبحت اللغة الأولى، خلال أحد عشر قَرناً، والمُعبّر الأول للعقلية السامية. ([8])
لكن بظهور الخلافات اللاهوتية في الكنيسة حول طبيعة المسيح، ما بعد القرن الثالث الميلادي، انقسمت الكنائس إلى قسمين رئيسيين، عُرِفا فيما بَعد بالنساطرة واليعاقبة. فَبَرزَت هُناك سريانية شرقية مصدرها لهجة “نصيبين”، فكانت لغة العبادات الدينية للمناطق التي تتبع الكنيسة النسطورية أو المشرقية في شرق العراق، ثم السريانية الغربية ذات اللهجة الرهاوية، كلغة لكنائس السريان اليعاقبة؛ أو الارثوذكس والملكيين في العراق وبلاد الشام.
واستطاع السريان نقل الفلسفة الإغريقية لشعوب تلك المناطق؛ وكان لهم دور في تعلم العرب بمجالات مختلفة، إذ كانت السريانية لغة العرب المستعربة من القحطانيين وأبناء إسماعيل. وساهمت في أوزان الأفعال العربية، مثل ملكوت، وصلوة (بالسريانية: ملكوثا، صلوثا) وعن طريقها دخلت الى العربية مفردات كثيرة.
واستفاد أبناء الجزيرة العربية من الناتج الثقافي والحضاري القادم من بلاد العراق والشام الناطقة بالسريانية، لتبقى السريانية لغة أهل تلك البلاد بعد الفتوحات الإسلامية لها لنحو قرن؛ حتى غلبتها اللغة القرآنية بحسب رأي الدكتور شوقي ضيف في تاريخ الأدب العربي كما ذكرنا آنفاً.
والخطان العربيان في الكتابة كانا النسخ والكوفي، استُخدم الأول للمعاملات، أمَّا الثاني فقد استُخدِمَ لكتابة القرآن، قيل بأنهما مقتبسة من السريان الذين كان لديهم الخط النسخي المدور، والمزوي (الكوفي) المسمى (السطرنجيلي)، الذي كانوا يكتبون به نُسَخ الكتاب المقدس. ومازال هذا الأثر للغة السريان بالقرآن؛ إذ أسقطوا أحياناً ألف الفاعل بالخط القرآني مثل: رحمان تُكْتب رحمن، ومساكين تُكتب مسكين، واليتامى تُكتب يتمى، ومساجد تُكتب مسجد. وهناك كلمات أخرى في هذا الباب كلها يُحذف منها الألف تقليداً للخط السرياني! وكذلك حُذفت ياء المتكلم، كما في كتابة “يا ربِّ” عوضاً عن “يا ربي”. ([9])
فريق من الباحثين باللسانيات يقول: هناك تشابه كبير بين العربية والسريانية والعبرية؛ فكلَها تنتمي الى أصل واحد وهو الكنعانية كما أسلفنا. وهناك فريق آخر يخالف ذلك. لكن الفراهيدي في كتابه «العين» تحدث عن العلاقة بين العربية والكنعانية مؤكداً بأن الكنعانيين كانوا يتكلمون بلغة تضارع العربية.
فيما يلي بعض الكلمات السريانية التي نستخدمها بلهجتنا السورية المحكية،
- بالعربي (يد): بالعامية (إيد) من السريانية (إيدو- ܐܝܕܐ)
- بالعربي (متى): بالعامية (إيمتى) من السريانية (إيماث – ܐܡܬܝ)
- بالعربي (تمايل): بالعامية (اتغندر) من السريانية (إثغاندار – ܐܬܓܢܕܪ)
- بالعربي (طفل): بالعامية (بُوبّو) من السريانية (بوبو – ܒܳܒܳܐ)
- بالعربي (فتل): بالعامية (برم) من السريانية ( بورمو – ܒܘܪܡܐ)
- بالعربي (بائع الخضار): بالعامية (بقّال) من السريانية (باقولو – ܒܰܩܳܠܐ)
- بالعربي (ضفر الشعر): بالعامية (جدّل) من السريانية (جْذال – ܓܕܰܠ)
- بالعربي (في الداخل): بالعامية (جُوّا) من السريانية (جَاو – ܓܘ)
- بالعربي (حفرة): بالعامية (جورة) من السريانية (جورتو – ܓܘܪܬܐ)
- بالعربي (سبّح): بالعامية (هلّل) من السريانية (هالِل – ܗܠܶܠ). ([10])
أمثلة على وجود كلمات ومصطلحات غير عربية في القرآن!
لا بد من إثبات الرأي الذي ذهبنا إليه من خلال تاريخ ومراجع وقواميس اللغة؛ بأن القرآن الكريم يحتوي على كلمات ومصطلحات غير عربية (معربة) ولهذا سنقسم هذا الباب إلى فروع متعددة؛ كل فرع نأتي من خلاله بالأدلة على صوابية رأينا؛ دون أن نجزم بأن رأينا هو صواب مطلق.
الأحرف المقطعة في القرآن الكريم!
“بقي تفسير الأحرف المقطعة الذي قدمه المفسرون القدامى والمعاصرون مبهمًا غير واضح ولا مقنع؛ حتى استطاع مستشرقان أوروبيان أن يفسرا معناها بشكل مقنع عندما أخضعوها في الترجمة للغات أخرى؛ وهما البروفيسور الألماني (جيرد بوين) أستاذ اللغات السامية القديمة. ([11]) والبروفيسور (غابرين صوما) المتخصص باللغات السامية. ([12]) وبغض النظر عما قالاه في أصل النسخة القرآنية ولا نوافقهما عليه؛ إلا أنهما في مسألة الأحرف المقطعة؛ ما توصلا إليه مقنع إلى حٍّد كبير، حيث بيّن كل منهما أن أصل الأحرف المقطعة لا يمكن فهمه إلا من خلال اللغة السريانية القديمة، وقد ضربا أمثلة في ذلك؛ نذكر بعضها:
- الم: تعني بالسريانية (صمتًا لبدء التلاوة) وهذا متناسب مع الآيات التي تليها في سورة البقرة.
- الر: تعني بالسريانية (تأمل أو تدبر) وهو متناسب مع الآيات في بداية سورة يوسف.
- كهيعص: وتعني بالسريانية (هكذا يعظ) وهو متناسب مع الآيات التي تليها في سورة مريم.
- طه: وتعني (يا رجل) وكذلك متناسب مع الآيات التالية وقد سبقهما بذلك الطبري شيخ المفسرين.
وعندما نأخذ بهذه المعاني في تأويل الأحرف المقطعة نجدها متناسقة ومعقولة مع سياق الآيات التي تليها؛ بالنظر إلى ما قيل في تأويلها عند المفسرين السابقين والمعاصرين.
حيث قال السابقون والمعاصرون حول الأحرف المقطعة وبحسب المدارس التي ينتمون إليها؛ آراء متناقضة، فمثلًا مدرسة المتطهرين قالت عن الأحرف المقطعة بأن الله أعلم بمراده من ذلك.
وفريق الأثر قال: هي أسماء السور التي بدأت بها كما جاء في بعض الآثار.
وأما اللغويون فقالوا: لو نزعنا الأحرف المكررة من المقطعة سيبقى (14) حرفاً وهي نصف أحرف العربية وهذا يعني أنه تحدٍ لغوي للعرب الذين كانوا في أوج لغتهم آنذاك.
فريق رابع قال: الأحرف تعني أسماء الله الحسنى فمثلاً (الم) تعني الله اللطيف المجيد.
وأما الفريق الخامس من مدرسة التفسير الإشاري قال: لو جمعنا الأحرف المقطعة ورتبناها من جديد تعطينا الجملة (نٌص حكيٌم له سٌر قاطع).
وهناك المدرسة الصوفية التي تقول بأن لكل حرف رقمًا؛ وبذلك قالوا إنّ معنى كلمة (طه) بداية سورة (طه) الطاء تساوي خمسة بحساب الأرقام والهاء تسعة وبذلك يكون معنى (طه) أي القمر ليلة يكون بدرًا.
وهناك التأويل السياسي كما عند الجعفرية؛ حيث أولوها تأويلًا سياسيًا وأسقطوه على الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.
ومن الواضح أن تلكم التأويلات فيها تمحل واضح وتأويل بعيد عن المعنى بين المتطهرين الذين قالوا بأن الله أعلم بمراده من تلك الأحرف المقطعة؛ وبين من أراد أن يحل لغزها؟! فذهب بها مذاهب؛ التمحلُ فيها واضٌح جلي.
لكننا نجد أن ما ذهب إليه (جيرد بوين) و(غابرين صوما) مقنع من حيث السياق؛ ويحلُّ لنا لغز هذه الأحرف المقطعة، مع يقيننا بأن العرب (مشركين ومؤمنين) قد فهموا المراد منها عندما نزلت؛ بدليل أنهم لم يعترضوا عليها؛ ولو كانت غير مفهومة لديهم؛ لقالوا: يا محمد قد قلتَ بأن قرآنك بلسان عربي مبين؛ وهذه الأحرف لم نفهم معناها؟ أو لسأله الصحابة عن معناها لو لم يفهموها. وهذا لم يحدث إطلاقًا.
وما يجعلنا نرى هذا التفسير للأحرف المقطعة لـ(بوين وصوما) مهمًا حتى الآن على الأقل؛ أنّ علماء اللغة العربية قالوا: إن هناك تشابهًا كبيرًا بين اللغة العربية والسريانية. دون أن يجدوا في قولهم حرجًا. وإن كان (بوين وصوما) ذهبا إلى أشياء لا يمكن لمسلم أن يقبلها؛ ولكن هذا لا يعني أن ندع ما هو مقنع ومفيد فيما طرحا”. ([13])
حور العين وعلاقتها بالتطرف والإرهاب!
لم أقتنع يوماً بما يصرخ به الوعاظ في تفسير الحور العين لترغيب الناس بالإيمان جنسياً؛ ولدفع الشباب إلى حتفهم بالإسراع إلى عمليات قتالية/انتحارية للفوز بالحوريات. ولم أقتنع أبداً أن مكافأة الإيمان بالجنة تكون جنسية! فبرأي أنّ جنة الله ﷻ ليست مرتعاً جنسياً؛ إنما الجنة بحسب اعتقادي هي كمال المعرفة، وفيها الحقيقة، لا محل للجنس؛ ولا مكان للدعارة الشرعية فيها.
كما أنّ الإنسان (امرأة أو رجل) في الجنة يبقى بأحسن صورة؛ ولا يتبدل بهرم أو مرض أو عمر. فمن معاني الحور؛ التبدل والتغيير؛ يقول تعالى: (إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ) أي لا يتغير حاله. وفي لسان العرب: الحَوْرُ: الرجوع عن الشيء وإِلى الشيء.
وعندما قالوا تراثياً بأنّ نساء الجنة هنَّ الحوريات شديدات البياض والجمال. هذا وصف عنصري؛ والله ﷻ ليس عنصرياً. ألا يحق لنا السؤال: أين السمراوات؟
والآية التي يستدلون بها (وَكَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ) الدخان: 54. هناك قراءة أخرى لها بالراء لا بالزاي؛ (روحناهم) أي رفهناهم في مكان في فاكهة وماء وخضرة دائمة، وكلمة (بِحُورٍ عِينٍ) الباء بالسريانية: (بين) أما (حور) فهو العنب الأبيض، وكلمة (عين) حسب السريانية هي عين الماء؛ أو نبع الماء عند عرائش العنب.
فحور عين هي المكان الذي تتوفر فيه كل أسباب الراحة والسعادة النفسية الدائمة؛ ولم يدخله؛ أو يرهُ أحد من قبل.
وما ذهب إليه جلُّ المفسرين القدامى والمعاصرين ودعاة الإرهاب والتطرف؛ فإنه يتهافت تماماً؛ لعدم وجود جواب لديهم حول ما للنساء المؤمنات في الجنة؛ ـــ وهذا التفسير الجنسي يصور الله ﷻ منحازاً للذكور حاشاه ــــ وهذا ما لا جواب عليه عندهم!
لذلك نقول لهم: توقفوا عن إرسال أبنائنا إلى الموت بحجة الفوز بالحوريات. ([14])
أسماء الملائكة والأنبياء والمدن والبلاد المذكورة في القرآن؛ هل هي عربية؟
ومن الأدلة الجلية على وجود كلمات غير عربية في القرآن؛ أسماء الملائكة المذكورة فيه؛ فهي أسماء غير عربية إطلاقاً؛ قال عنها أئمة اللغة بأنها أسماء أعجمية! فقد ذُكِر جبريل بالقرآن مرتين؛ ومعنى اسم جبرائيل بالعبرية والآرامية «رجل الله»، أو «قوة الله» أو «جبروت الله» وميكائيل: ذُكِر مرة واحدة؛ يُكتب بالكاف في العبرية، ويُنطق بالخاء (ميخائيل) لاعتلال ما قبلها، وعلماء العبرية يقولون بأنه اسم مركب من ثلاثة أجزاء يتكون: مي ــ كا ــ إيل. أي مَنْ كالله على التعجب لا على الاستفهام. ([15])
وكذلك اسم (هاروت وماروت) اللذين ذُكرا في سورة البقرة. ولم يقل أحد بأنها أسماء عربية.
وكذلك أسماء الأنبياء والرسل؛ وشخصيات في عهد إبراهيم مثل (آزر) وأخرى في عهد موسى مثل (السامري وفرعون وهامان وقارون والنبي هارون) و(طالوت وجالوت) في عهد داود. فتلك الأسماء قطعاً ليست عربية، ولا تنتمي لجذور عربية.
وأما البلاد والمدن التي ذُكرت في القرآن فكذلك ليست بعربية مثل (مصر) و(بابل) و(إرم ذات العماد). وكونها باتت مألوفة للأذن العربية عند نطقها؛ فهذا لا يعني أنها ذات جذر عربي.
كلمات غير عربية ومن لغات مختلفة مذكورة في القرآن!
صنَّف بعض الكتّاب من الاتجاه الثالث المذكور آنفًا عدد الكلمات الأعجمية فـ(الكرماني) بكتابه (المعرب في القرآن) حول الموضوع أحصى (124) كلمة أعجمية تم تعريبها. منها على سبيل المثال لا الحصر:
كلمة الأسباط باللغة التي كان يتكلم بها أبناء يعقوب تعني القبائل. وكلمة أواب: المسبِّح بالحبشية. ودَرَسْتَ: أي القراءة بالعبرانية. وسجيل: الحجر الطيني بالفارسية. وسيناء: الحُسن بالنبطية. وصُرهُنَّ: شققهنَّ بالنبطية. وطوبى: اسم الجنة بالأوردية. وعدن: الأعناب والكرم بالسريانية. والقسطاس: الميزان بلغة الروم. والقسيس: الرجل العَدِل التقي بالرومية. والقيوم: الذي لا ينام بالسريانية. ويثرب: الله موجود بالسريانية.
أما مكة فهي الأرض المنخفضة. وليِّنة: النخلة بلغة يهود يثرب. والوَزَر: الجبل بلغة حمير. ويحور: الرجوع بلغة الحبشة. ومناص: فرار بالنبطية. ومرقوم: مكتوب بالعبرية.
وطفقا: قصدا بالرومية. وقنطار: مُلئ جلد الثور ذهباً بالسريانية. كَفّر عنا: امحُ عنا بالنبطية. كفلين: ضعفين بالحبشية. كُورت: غُوّرت بالفارسية. مناص: فرار بالنبطية. المُهل: عكر الزيت بلغة البربر. نون: دواة الحبر. كتاب مرقوم: أي مكتوب بالعبرية. وكان راءهم ملكٌ: أي أمامهم بالنبطية. منسأة: عصا بالحبشية.
مقاليد السموات: مفاتيح بالفارسية. اليم: البحر بالسريانية. شطر: تلقاء بلغة الحبشة. يس(ياسين): يا رجل بالحبشية.
هل كُتِبَت نسخة القرآن الأولى بالعربية؟
عثر باحثون في جامعة “برمنغهام” على مخطوطة لصفحات من القرآن مكتوبة على قطع من جلد الغنم أو الماعز، عند فحصها بتقنية الكربون المشع، تبين أن عمرها يبلغ نحو 1379 عاماً، وهو ما قد يجعلها من أقدم نسخ القرآن في العالم. وقالت مديرة المجموعات الخاصة في الجامعة “سوزان ورال”: إن الباحثين لم يكن “يخطر ببالهم أبداً” أن الوثيقة قديمة إلى هذا الحد.
وقد بقيت المخطوطة في مكتبة الجامعة مدة قرن! لم يلتفت إليها أحد. وهي جزء من مجموعة وجدها القس العراقي الكلداني (ألفونس منغنا) دون أن يعرف أحد أنها من أقدم نسخ القرآن في العالم.
وحدد الفحص عمر المخطوطة بدقة تصل إلى 95%، كما حدد الفحص بأن المخطوطة يعود تاريخ كتابتها إلى الفترة ما بين 568 و645 ميلادي.
ويقول البروفسور “ديفيد توماس” المختص في المسيحية والإسلام إن “هذه النصوص قد تعيدنا إلى السنوات الأولى من صدر الإسلام”. وأضاف: العمر التقديري لمخطوط برمنغهام يوضح أنه من المحتمل جداً أن كاتبه قد عاش في زمن النبي محمد”. ويعرفه؛ وربما رآه واستمع إلى حديثه، وربما كان مقرباً منه على ما يبدو.
وأضاف: “أن هذه الصفحات قريبة جداً من القرآن الذي نقرأه اليوم، وهو ما يدعم فكرة أن القرآن لم يعرف إلا تغييراً طفيفاً، أو أنه لم يطرأ عليه أي تغيير، وهذه المخطوطة بالنسبة لأهل برمنغهام ” كنز لا مثيل له”. ([16])
لكن وقع خلاف بين خبراء المخطوطات حول الخط المكتوب به هذه المخطوطات؛ فمنهم من ذهب إلى أن الخط المكتوب فيها هو الخط الحجازي. عارضه آخرون وقالوا: إنما هو الخط الكرشوني، وهو خط سرياني يُنْطَق بالعربية، فالخط الحجازي أو النبطي لم يكن ليتحمل كتابة النص القرآني، لأنه لم يمكن يتضمن جميع أحرف اللغة العربية، ومقصوراً على (15) حرفاً من أصل (28). ([17])
آخرون من خبراء السريانية قالوا: إن الخط المكتوبة هذه المخطوطات قريب جداً من الخط السرياني (الصرطو) ويسمى أيضاً “الرهاوي” أو “البسيط”. وأضافوا: إن الأبجدية (أبجد هوز حطي كلمن….إلخ) هي سريانية لا عربية؛ خصوصاً أن بعض اللغويين ذهب إلى أنّ العربية هي لهجة من لهجات السريانية. كما أن بحور الشعر العربي التي وضعها الفراهيدي مقتبسة من السريانية كما قيل، وضعها الشاعر السرياني “برديصان” بالقرن الثاني للميلاد؛ ودونها نظماً الشاعر “انطون التكريتي” بالقرن الثامن للميلاد.
هنا يبرز تساؤل مهم: كيف نفهم قوله تعالى (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ)؟
هناك آيات كثيرة أشارت إلى المصطلح (ع . ر . ب/ عربي) منها:
- كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. فصلت:٣
- وَهَٰذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا. الأحقاف:١٢
- بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ. الشعراء:١٩٥
معنى (قُرْآنًا عَرَبِيًّا) لا علاقة له باللغة وبالقومية. فالعبارة تعني قرآناً تاماً خالياً من النقص والعيب. فالجذر (ع ر ب) وبحسب سياقاته القرآنية؛ يأتي بمعنى الإبانة والايضاح؛ ولا علاقة له بقواميس اللغة.
بدليل الآية (إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا) (عُرُباً) بضم العين والراء وفتح الباء؛ هو وصف لحور العين بالتمام والخلو من كل نقص أو عيب. وليس وصفاً عرقياً؛ أو لصفة عرقية؛ كما ذهب إلى ذلك جلُّ المفسرين فأساءوا للمرأة العربية. لذلك جاء في القرآن: قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. الزمر:28. أي خالياً من النقص والخطأ.
وتقول العرب: عَرِبَ الْمَاءُ: صَفا. مَاءٌ عَرِبٌ: صَافٍ.
والمنهج العلمي في علم اللسانيات؛ عندما نواجه مصطلحاً قرآنياً لا أصل له بالعربية، نبحث عنه في الآرامية السريانية والعبرية، واللغتان العربية والعبرية من اشتقاقات الآرامية والسريانية، ومن السريانية أخذ العرب بحورَ الشعر وطوروها. فنظم الشعر وإبداعاته مسألة سريانية؛ وليست عربية. وفي كتاب (كيف نشأت اللغة في المجتمع البشري؟) لخليل عبد الله هناك فصل بعنوان الدراسة المقارنة؛ جاء بأمثلةٍ كثيرةٍ على تشابه المصطلحاتِ بين العربيةِ واللغاتِ الأخرى. وفي علم اللسانيات؛ تتبدل الأحرف من لهجة ولغة إلى أخرى؛ كما يتبدل مكانُ الحرفِ في الكلمةِ ذاتِها. أمثلة:(شانئك) قراءة ابن عباس بالعبرية شِنيك، وبالسريانية سانئك؛ وتعني كارهَك. وحرف الثاء بالعربية يقابله الشين بالعبرية أمثلة على ذلك: (ثلاثة/شلوش) (ثمانية/شموني) (ثعلب/شُعال) (ثور/شور) إلخ….
وبالتالي يُخطئ كثير من المسلمين حين يعتقدون أن المعنى في هذه الآيات قومي أو لغوي؛ وهذا ليس صوابًا؛ فاللسان العربي المبين يعني أنّ لغة آلية المخاطبة وأسلوب الإفهام الذي جاء به القرآن الكريم خالية من كل عيب ونقص؛ ولا تعني البعد القومي أو العرقي؛ وأما(عَرَبَ) فسياقها القرآني لم يتعلق بالبشر؛ بل بالمعنى البلاغي، وكثير من المفردات الأعجمية كانت مستخدمة لديهم نتيجة تلاقحهم مع الشعوب الأخرى؛ وتم تعريبها وفُهِم معناها.
وبعض التفاسير التي قالت بأن المقصود بها اللغة العربية. السياق قرآنياً يخالفها؛ وأما الاحتجاج بالقواميس العربية؛ فنقول: لا يمكن للقاموس أن يكون حجة على القرآن! بل القرآن حجة على القاموس.
وعندما يقول تعالى: إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. الزخرف:٣
لا يعني أنه قبل نزول على الأمين محمد كان مكتوبًا بالعربية؟ لكن يعني بأن وجوده المسبق قبل النزول غير مدرك الصيغة والكيفية بالنسبة لنا؛ ولما نزل جعله الله بلغة العرب؛ فالجعل هو التحويل. حيث نقول اليوم الصناعات التحويلية أي التغيير في مآل المادة لنجعل منها مادة أخرى. وحول هذا المعنى يقول الجرجاني: الألفاظ خادمة للمعاني، وإن المعاني هي المالكة سياستُها.
فاللسان العربي لا يعني العرق أو القومية؛ رغم استعمالها اليوم قوميًا على هذا النحو، وبالتالي حينما نجد تفسيرًا يقارب الحقيقة والعقل لا داعي للخوف كون القائل ليس بمسلم؛ ورسولنا يقول: الحكمة ضالة المؤمن أنَّا وجدها فهو أحق بها.
فقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. يوسف:٢. أي قرآناً كاملاً شاملاً تامّاً مفصّلاً؛ لا عوج فيه؛ وخالياً من أيِّ العيب أو النقص، ولا تعني لغة العرب؛ هو بلغتهم من حيث الشكل؛ فقفلة الآية (لعلكم تتقون) تؤكد أن المسألة لا تتعلق بعرق أو دم؛ إنما اتقوا في عالمية هذه الرسالة التي كلفتم بها.
فلو قلنا بأن العربية هي اللغة تحديداً؛ ماذا نفعل في الآية القائلة: وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا. الرعد:37
فهل المطلوب أن يكون الحكم السلطوي في كل مكان عربي؟ إنما سياق آية الحكم؛ يوضح بأن الأحكام القرآنية كاملة لا نقص ولا عيب فيها؛ حتى أننا وجدنا مراكز غربية تتحدث عن تطبيق تعاليم الشريعة في دول غير عربية ولا مسلمة؛ وتتقدم على دولة مسلمة! مثل إيرلندا، الدنمارك، لوكسمبورج، السويد، وغيرهم. ([18]) فلا علاقة للحكم باللغة؛ إنما خلو التشريع القرآني من أي عيب أو نقص؛ فحكم الله بالمحرمات حكم كاملاً نافعاً للبشرية كلها.
ولو ذهبنا إلى المعنى القومي للعربية تحديداً؛ سيفاجئنا القرآن بمسألة أخرى في هذا الباب تتمثل بالآية: وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ. التوبة:101. فكلمة الأعراب تكررت ذماً في القرآن (10) مرات؛ فماذا نفعل؟
كلمة الأعراب في الآية لا تعني البدو كما ذهبت جلُّ التفاسير؛ ولا تعني القومية أبداً؛ فالقرآن لا يُقَيّم المجتمعات بناءً على مواقعهم الجغرافية؛ إنما على سلوكهم وعقائدهم. خصوصاً أن كلمة (بدو) نفسها قد استخدمها القرآن في قصة يوسف عليه السلام: (وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ) ولا ترادف في القرآن، فكيف يغيرها هنا إلى الأعراب؟ ويقابل مفهوم عربي بمعنى الكمال والتمام والخلو من العيب والنقص قرآنياً، مفهوم أعجمي، التي تعاكسها في المعنى، فالتعبير القرآني لكلمة أعجمي؛ ليس ذا بعداً قومياً؛ إنما دلالة على عدم الكمال بدليل قوله تعالى:
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ. فصلت:44.
يقول الشيخ محمد الغزالي في روائعه: إن ألف التعدي الزائدة في كلمة الأعراب قد نقلت المعنى الى النقيض مثلما في (قسط وأقسط) قسط: ظلم. أقسط: عدل. وكذا عَرَبَ: تم وخلا من العيب. أعرب: نقص وشمله العيب. وهذه لغةً تسمى همزة الإزالة، فالأعراب مجموعة تتصف بصفة النقص في الدين والعقيدة. ([19])
فلو لم يتم تفصيل آياته تفصيلاً كاملاً تاماً خالياً من العيوب؛ لقالوا لو قال كذا. أو حكم في كذا. فالكمال والخلو من النقص هو ما يتّصف به القرآن الكريم ككتاب سماوي. كما أنّ من أئمة اللغة العربية والإسلام أعاجم؛ خدموا الإسلام والبشرية.
الخلاصة
نستطيع القول بعد هذا العرض المقتضب لهذا الموضوع القديم/ الجديد وما يثار حوله من معارك(دينكوشوتية) أن الشعوب قديمًا وحديثًا، عندما يتم اختراع أو إيجاد شيء ما؛ تكون لغة المخترع الأول ومصطلحه هو الأكثر شيوعًا كما يحدث اليوم في كلمات معاصرة كـ (كمبيوتر ــ موبايل ــ أنترنت…إلخ)، واللغات السامية خصيصًا كانت تستعير من بعضها المصطلحات؛ نتيجة تقارب تلك الشعوب والأقوام والتجارة والمصاهرة بينها؛ ومع مرور الزمن تصبح كأنها من أصل اللغة التي استعارتها. فالكلمة بغض النظر عن أصلها وجذرها هي مسألة تعبيرية.
وعندما تقرأ في القاموس الأكادي غالباً ما تفهم معنى تلك الكلمات باللغة العربية! فاللغات الحضارية القديمة في شرقنا البائس؛ كلها من أسرة واحدة، واللغة العربية آخر اللغات السامية، ولسان آخر حضارة في هذا الشرق البائس؛ وهي الحضارة الإسلامية، وبالتالي فهي استطاعت أن تحتوي على كثير من مفردات اللغات الحضارية التي سبقتها؛ حتى أصبحت وعاءً لكل اللغات السامية التي سبقتها حضارياً.
[1] ـ راجع في قواميس اللغة العربية اختلافها في أصل كلمة قرآن.
[2] ـ القس شربل صموئيل: أصل كلمتي “سورة” و”القرآن”. الناقد:
[3] ـ هل اللغة العربية أمُّ اللغات؟
[4] ـ الإمام الشافعي: الرسالة. ص:42.
[5] ـ وهم أبناء دير الزور والرقة والحسكة بسوريا؛ والرمادي بالعراق اليوم.
[6] ـ ابن حزم: الأحكام في أصول الأحكام. ج1.ص:30.
[7] ـ د. شوقي ضيف: تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي. دار المعارف بمصر 1960. ص:25.
[8] ـ السريان هم الآراميون بحسب التسمية التاريخية القديمة، فجميع الشعوب السامية القديمة في الهلال الخصيب بعد اعتناقهم للمسيحية أُطلق عليهم (السريان)، وأصبحت لفظة “سُورايا” أو “سوريايا” يقصد بها المسيحي المتحدث بالسريانية على حدٍ سواء. ومنهم: الآشوريون، الأكاديون، والكلدانيون وغيرهم.
[9] ـ راجع في ذلك كتاب تاريخ الدول السريان لابن العبري. وفقه اللغة المقارن، د. ابراهيم السامرائي.
[10] ـ هذه الكلمات مختارة من قاموس الألفاظ السريانية في اللهجة اللبنانية؛ للمؤلف ايليا عيسى.
[11] ـ راجع: البروفيسور الألماني (جيرد بوين) حيث ألف كتاباً صدر عام2000 بعنوان (آرامية القرآن: قراءة سريانية).
[12] ـ راجع: والبروفيسور (غابرين صوما) المتخصص باللغات السامية؛ وقد كتب كتاباً صدر عام 2006 بعنوان (القرآن الذي أسيء تفسيره).
[13] ـ أحمد الرمح: القرآن الكريم واللغات الأخرى!
[14] ـ نشيد حور العين تناديني:
ماذا تفعل معك حور العين في الجنة في أول لقاء لك معها:
الفرق بين امرأة الدنيا وحور العين بالجنة:
[15] ـ العلم الأعجمي في القرآن: أحمد أبو الخير. وأستاذ ولاء الشاذلي.
[16] ـ شون كوغلان:
[17] باحث مغربي: هذه خلاصة تدقيقي في أقدم نسخ القرآن ـ
[18] ـ راجع حول ذلك هذا التقرير:
[19] ـ راجع كتاب من روائع الشيخ محمد الغزالي. وهو كتاب جمع ما كتبه الغزالي من مقالات في الصحف والمجلات؛ وحمل هذا الاسم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي للمؤلف شخصياً ولا تعكس بالضرورة رأي مركز أبحاث مينا.
جميع حقوق النشر محفوظة لصالح مركز أبحاث مينا.