ملخص تنفيذي:
مذ قُعّدت اللغة على يد أئمتها الأُول، لم تتم إعادة النظر بهذه القواعد، رغم المحاولات الكثيرة التي تطرح رؤى نقدية لنظام النحو العربي، لكن معظم هذه الرؤى لم تخرج عن عباءة أئمة اللغة، هذه محاولة قد تكون كغيرها، لكن كاتبها يزعم أنها محاولة اهتدت إلى الأساس الذي يمكن له_ إذا تهيئت له إمكانات وشروط المتابعة_ أن يشكل الفضاء العام أو لنقل إن يفتح الأفق لبداية حقيقية لمعاودة النظر في تقعيد اللغة وفق روح العصر.
المدخل
الفصل الأول: اللغة العربية الفصيحة واللهجات
أولًا: مفهوم الفصحى واللهجات قبيل الإسلام وفي صدر الإسلام
ثانيًا: صعود الفصحى كلهجة معيارية لا تنفي تنوع اللهجات
ثانيًا: تقديس الفصحى وتحولها إلى معيار نابذ ونافي للتنوع
الفصل الثاني: اللغة وموروثها
أولًا: مصادر اللغة ومراجعها
ثانيًا: واقع اللغة الحالي ودور الموروث فيه
الفصل الثالث: نظرة في النحو والصرف
أولًا: في الجملة الاسمية
ثانيًا: الزمن بين النحو واللغة
الفصل الرابع: نظام الكتابة العربي
الفصل الخامس: اللغة وقواميسها
المدخل:
لا مشكلة في بنية اللغة العربية، فهي كأية لغة أخرى قادرة على القيام بجميع وظائفها، المشكلة تكمن في العلوم التي تتفرع عنها، مثل علم النحو والصرف والبلاغة، وفي النظم والعلوم المرتبطة بها، مثل نظام الكتابة العربي وعلوم الكلام المختلفة، هذا يعني أن اللغة نفسها لا تحتاج إلى مراجعة أو نقد أو تصحيح؛ بل لا يمكن إجراء هذه العمليات عليها بشكل قبلي، بمعنى أن بنية اللغة لا يمكن أن نجري عليها أي تعديل قبل أن يكون هذا التعديل قد حصل فعلًا فيها وأصبح واقعًا متداولًا، فيأتي دور اللغوي بعد ذلك لقوننة وتشريع هذا التعديل أو الانزياح الحاصل، إذن هذه الورقة لا تدعي_ ولا تسعى إلى_ المساس ببنية اللغة، لكنها جادة في السعي إلى التأسيس لتقعيد معاصر.
تنطلق هذه الورقة من مجموعة فرضيات، يمكن إثبات بعضها بالدليل القاطع، أما بعضها الآخر فقد يكون إثباته صعبًا لأسباب كثيرة منها أن وجوده في المراجع اللغوية كان عابرًا غير واضح، وكان هناك ما يشبه التوافق بين المؤرخين لذكره بهذه الطريقة (غير الواضحة)؛ ولأن المزاج العام الآن لا يستسيغه، فالمزاج العام لا يستسيغ أن نقول له إن اللغة العربية الفصحى لم تكن لغة محكية إطلاقًا، لم تكن لغة العامة والناس، لم تكن لغة التداول، فهي في كل تاريخها كانت كما هي الآن، لغة الكتابة والتأليف والقرآن والشعر، أما الحياة فنحن نعيشها بلهجاتنا ولا نستخدم الفصحى في تداولاتنا اليومية.
أسئلة هذه الورقة الأساسية هي: إذا كانت اللغة هي أداة الفكر ومحتواه، فكيف يمكن للفكر أن يكون اقتحاميًا في لغة تستحضر موروثها دومًا؟ وكيف يمكن لهذه اللغة أن تقطع مع موروثها؟
كانت اللهجات مورد ومصدر لغوي مهم وأساسي للنحاة في عصر التقعيد، فهل اللهجات اليوم هي كذلك؟
مازال مصدر اللغة (نحويًا وصرفيًا وبلاغيًا) موروثها والقرآن، فهل اللغة الآن تصدر عن الموروث والقرآن؟
هل اللغة العربية بخير كواقع قائم الآن؟
هذه الأسئلة لم تطرح بشكل مباشر في الورقة، لكنها كانت الهاجس والموجه والمحرض في العمل عليها، ولابد لي أن ألفت عناية القارئ الكريم إلى أن هذه الورقة هي حلقة ملخصة ومكثفة من مجموعة مسودات يجري العمل عليها كرؤية لغوية نقدية للغة العربية.
الفصل الأول: اللغة العربية الفصيحة واللهجات
أولًا: اللغة العربية الفصحى واللهجات قبيل وفي صدر الإسلام:
لم يكن ثمة صفة للغة تصفها بأنها فصحى قبيل وفي صدر الإسلام، كان هناك صفة للأفراد، فيقولون فلان فصيح، أما اللغة فكانت تنسب للقبائل؛ فيقولون لغة تميم ولغة هوازن الخ. ويقصدون بذلك ما نقصده اليوم بكلمة لهجة، ومرادف اللغة حينها كان كلمة لسان فيقولون لسانه عربي أي لغته عربية، وتركيب (لسانه عربي ولغته من تميم) يعني أنه يتحدث بلغة عربية حسب لهجة تميم.
أما وصف الفرد بالفصيح فهو يعني أن لسانه (لغته) مفهومة تمامًا، ولا يعني أنه يتحدث حسب معايير الفصحى التي نعرفها اليوم. وقد ورد في لسان العرب في مادة فصح ما يفيد هذا ([1])
حيث تطرق لكل معاني فصح التي تفيد البيان والتوضيح وإزالة العجمة أي الغموض.
ولأن مراجع اللغة تشير إلى أن الرسول الكريم هو سيد الفصاحة لذا سنعتمد هنا على لسان الرسول لنبين دلالات كلمة فصحى ووصف فصيح، وسنعتمد على ما جمعه الباحث إبراهيم الجبين في بحثه المعنون ب (لهجة محمد) حيث يشير البحث إلى ما يلي:
- لم يكن محمد(ﷺ) يلفظ الهمزة، بل كان يتخفف منها ([2])
- كان محمد(ﷺ) ينطق القاف كافًا (جيم مصرية) ([3])
- كان ﷺ يكسر همزة المضارع مع أن الواجب فتحها ([4])
- كان ﷺ يميل لفظ الألف المقصورة فيلفظها بين الألف والياء ([5])
- كان ﷺ يلفظ التاء المربوطة ألفًا (كان يسكنها، بل كان يسكن أواخر الكلمات كلها)
- كما تخبرنا كتب التاريخ والمراجع اللغوية والفقهية أنه كان يجيز للقبائل أن تقرأ القرآن بلهجاتها.
فإذا اعتمدنا على أن لهجة النبي هي معيار الفصاحة في صدر الإسلام فهذا يعني أن فصحتهم في زمانهم غير فصحتنا في زماننا، ونحن عندما نتحدث عن لهجة النبي ﷺ فإننا نتحدث أيضًا عن لهجة قريش ومعها منطقة الحجاز بالكامل، وإذا قارنا مقارنة سريعة بين لهجة الحجاز في صدر الإسلام ولهجتها الآن سنجد أن اللكنة العامة لم تتغير، وأن طريقة لفظ الكلمات لم تتغير، وأن الذي تغير هو بعض الكلمات، حيث أهملت كلمات وأُحييت كلمات دون حذف المهمل.
إذن لا يوجد معيار لفظي قواعدي للفصاحة قبيل وفي صدر الإسلام، إنما المعيار هو الوضوح والبيان، فطالما أن الكلام واضح ومفهوم فهو فصيح، هذا لا يعني أن العرب لم تكن تميز الفصيح والأفصح، لكنها كانت تتخفف من التكلف في الفصاحة اللفظية الشكلية، وتسعى باتجاه فصاحة المعنى والتراكيب، أي أنهم كانوا يتخففون من لفظ الحركات بشكل تفصيلي على كل حرف، لكنهم كانوا يسعون دومًا إلى تراكيب لغوية معبرة وقوية وهذا هو معيار الفصاحة في ذاك الزمن، الفصاحة تعني تراكيب لغوية معبرة وقوية وبمقدار المعنى، دون زيادة أو نقصان.
ثانيًا: صعود الفصحى كلهجة معيارية لا تنفي تنوع اللهجات:
إن تنوع اللهجات في صدر الإسلام كان يعتبره أئمة اللغة مجال غنى وثراء للغة، فعكفوا على جمع اللغة وكلماتها كما وردت عن لسان ناطقيها، لكن عملية الجمع هذه لم تكتمل إلا بعد عصر التدوين سنة 132 للهجرة، وحينها كان قد ظهر بدءًا من عهد معاوية بن أبي سفيان علم التجويد القرآني، وبالتالي ظهرت مع هذا العلم قراءة نموذجية مجودة للقرآن تعتمد أحكام التجويد ومخارج الحروف وطريقة نطق تميز بين الحروف المتشابهة وتعطيها حقها بالوضوح، ومن هنا جاءت تسمية هذا العلم بأنه علم التجويد، من الجود أي أجود قراءة، ونحن هنا لا نشير إلى القراءات العشر أو إلى إدخال المقامات الموسيقية فحسب، إنما نشير إلى تشكيل الكلمات وحروفها بطريقة مجودة (جيدة، فوق العادي، أفضل أو أجود من العادي) ونشير بشكل خاص إلى أحكام النون والميم وأحكام القلقة والتفخيم والترقيق والأل الشمسية والقمرية الخ.
إن ظهور هذا العلم أدى إلى انتشار نمط من تلاوة القرآن ساهم بالتأسيس للهجة معيارية؛ تطورت لتشكل الفصحى التي نعرفها، إن هذا العلم هو أول علم لغوي صوتي يقسّم حروف وأصوات اللغة إلى مجموعات صوتية؛ تتعلق بالإظهار والإدغام والقلب والإخفاء والترقيق والتفخيم والقلقة وما إلى ذلك، بالتالي هو علم ساهم مساهمة تأسيسية لظهور الشكل الأمثل للفظ الأحرف والأصوات، مما يعني أن أي قراءة لا تأخذ بهذا العلم هي قراءة دون الجيدة، فعكف أئمة اللغة والدين إلى تعلُّم هذه القراءة وتعليمها، ولا شك أنها تستحق كل هذا الجهد في تعلمها وتعليمها لما فيها من جمال ووضوح وسلامة نطق ولفظ وإزالة الملتبس، لقد ترافق اكتمال علم التجويد مع إتمام وإكمال عملية جمع اللغة، وهنا بدأ النحاة بعملية التقعيد التي شهدنا اكتمالها مع وبعد سيادة علم التجويد كطريقة سيدة لقراءة القرآن، وهنا بالضبط يكمن فضل القرآن على اللغة العربية، فالقرآن والاهتمام به هو الذي أدى لظهور اللغة العربية الفصحى، التي لم تكن موجودة (الفصحى كما نعرفها الآن) قبل القرآن وتجويده، وهنا لا بد أن نشير ونؤكد أن القرآن لم يقرأ بالفصحى التي نعرفها إلا بعد تولي معاوية الخلافة (بعد أن أصبحت دمشق عاصمة الخلافة) فقبل ذلك كان يقرأ ويتلى بلهجة القارئ ودون اتقان عملية التجويد، فنحن نزعم أن عملية التجويد جاءت إلى القرآن من خلال أحد القساوسة الدمشقيين الذي طلب من معاوية بداية أن يرفع الآذان على أحد المقامات الموسيقية ثم بعد ذلك تطور الأمر إلى قراءة القرآن كاملًا على المقامات الموسيقية لما لهذه القراءة من جماليات تشد السامع.
لا شك أن الرسول ﷺ كان يتلو القرآن بطريقة فيها شيء مما يمكن أن نسميه اليوم التنغيم، ليس تطريبًا، إنما تنغيم بمعنى إعطاء المدود حقها، وبمعنى إعطاء الحروف وضوحها، أي قراءة هادئة غير مستعجلة وغير متقطعة، وهي قراءة بزمن أطول قليلًا من زمن قراءة أي شيء آخر، ومن هنا قلنا التنغيم، فالتنغيم هنا لا يعني سوى الإيقاع الهادئ المتناغم مع المدود بشكل خاص، أما دخول المقامات فقد حصل لاحقًا بدءًا من زمن معاوية. وينسب للفراهيدي أنه أول من تحدث في علم التجويد وأنه هو واضع أسس هذا العلم.
ما يهمنا هنا هو أن الفصحى كلغة معيارية قياسية لم تظهر إلا بعد صدر الإسلام، وقد اكتملت مع الفراهيدي وتلميذه سيبويه، أي إننا لم نشهد قبل ذلك نموذجًا مكتملًا للفصحى يراعي تشكيل أحرف الكلمات إلا قبيل ومع بداية عصر التدوين 132 للهجرة مع أن بواكيرها ومقدماتها ظهرت مع القرآن، فالرسول كان يتلو القرآن بطريقة تختلف عن لهجة قريش، لكنه ومن جهة أخرى كان يجيز للقبائل أن تقرأ القرآن بلهجاتها، لكن حتى تلاوة الرسول للقرآن لم تكن هي نفسها الفصحى التي نعرفها. وفي هذه المرحلة لم يكن فقهاء اللغة يعتبرون اللغة الفصحى لهجة معيارية يقاس عليها صواب وخطأ اللهجات الأخرى، إنما كانوا يرونها أنها لهجة مجودة وأكثر جودًا من باقي اللهجات نظرًا لوضوحها ومراعاتها لحركات الأحرف وتمييز الأحرف بالنطق، فالقاف لم تعد بهذه اللهجة كافًا (جيم مصرية) وأصبحنا أمام لهجة سيدة في جمالها ووضوحها، لكنها لا تنفي باقي اللهجات إنما تأخذ منها مادتها اللغوية لتعيد إخراج هذه المادة بنغمة صوتية جميلة دون المساس بالجذر اللغوي لأنها تكتفي بتحريك الأحرف وفق نظام حركات مختلف عن تلك اللهجة.
ثالثًا: تقديس الفصحى وتحولها إلى معيار نابذ ونافي للتنوع:
بعد اكتمال عملية تقعيد اللغة ووضع قوانين الصرف وعلم العروض على يدي الفراهيدي، أصبحنا أمام لهجة مستحدثة منضبطة بقواعد وعلوم لغوية، هذه اللهجة وجدت في القرآن سندًا قويًا لها، كما وجدت في معظم اللهجات سندًا صرفيًا قويًا لها، وبعد جمع كلام العرب ووضع المعاجم وانتشار اللهجة الفصيحة شعرًا وتجويدًا، بدأ العرب بالتشكيك بلهجاتهم خصوصًا بعد أن تخوف أئمة اللغة من دخول العنصر غير العربي إلى تداول العربية، وهنا بدأت أول ملامح تقديس وتعظيم الفصحى على حساب اللهجات، ترافقت هذه الحالة مع النزعة القومية القبلية للأمويين، والنزعة الشعوبية القبلية للعباسيين، فكلاهما كانا يمجدان الفصحى على اعتبار أنها لهجة قريش، وكلاهما كانا بحاجة إلى ما يدعم تفوقهما وأحقيتهما بالخلافة، الأمويين أصحاب النزعة القومية العروبية يريدون لغة لكل العرب ويدفعون لاعتبار الفصحى لهجة قريش، والعباسيون يريدون إبراز تفوق القرشيين عبر ربط لهجتهم بترتيل القرآن.
في الفترة العثمانية أصيبت اللغة بموات، لم نشهد في هذه المرحلة لا شعرًا ولا تأليفًا في اللغة العربية (الفصحى)، ولأن العثمانيين كانوا يحكمون باسم الإسلام؛ لذلك لم يستطع العرب أن يشكلوا تيارًا تحرريًا فعالًا ضد العثمانيين إلا بعد ظهور القوميات وتبني القومية العربية، والدعوة القومية تحتاج لغة قومية؛ فكان ظهور الفصحى مجددًا عبر شعراء النهضة وكتابها، وحدثت في هذه الفترة عودة لكتب التراث لاستخراج العروبة واللغة العربية من كتب التراث، فتم إهمال كل ما يشير أو يدلل على تنوع اللهجات والتأكيد أو الإصرار على اللغة الواحدة، هذه العملية أدت إلى تنميط صورة نمطية للعربي ولغته وطريقة تداوله للغة، وأدت مع بعض أدلة تراثية إلى اعتبار اللهجات فساد ألسن، وهنا أصبحنا أمام نظرة منمًّطة مفادها: أن الفصحى كانت سائدة كلغة يومية تداولية لكن فساد الألسن أدى لظهور اللهجات، ومع الدعوات الأيديولوجية ومع صعود نمط للفصحى كلغة قومية بدأنا في تقديس الفصحى واعتبار اللهجات لهجات رذيلة أمام الفصحى، وتم إنتاج (الجيل الثاني) من اللغة الفصيحة لكن هذه المرة تم إنتاج اللغة استنادًا إلى تراثها وإلى بطون الكتب، لم يتم إنتاجها استنادًا لواقعها وغنى لهجاتها. فأصبحنا أمام لغة تستمد مشروعيتها من إرثها، وتتلقى ضربات تقويض هذه الشرعية من واقعها، وأمام هذا التناقض الخطير وبدل أن نعيد النظر في عصرنة اللغة وقواعدها تم الإصرار على ربطها بكل ما هو مقدس عند الناطقين بها وبالتالي تم رفعها إلى درجة التقديس مع ما تربط به اللغة من مقدسات كالقرآن والسنة.
الفصل الثاني: اللغة وموروثها
أولًا: مصادر اللغة ومراجعها:
عندما حدد الأئمة الأُولُ مصادر اللغة ممثلة بالقرآن والشعر الجاهلي أولًا، واستبعدوا النثر إلا مشهوره، واستبعدوا الاحتجاج بالحديث النبوي([6]) وجمعوا مادتهم اللغوية مما هو متداول على لسان العرب حتى منتصف القرن الثاني هجري (150) وهوما ترافق مع بداية عصر التدوين، عندما فعلوا ذلك كانوا يستندون إلى لغة حية، إلى واقع لغوي معاش، فمصادرهم هي واقع اللغة المتمثل بالشعر والكتاب الوحيد المدون هو القرآن، وكلام العرب الحي. أخذوا من هذه المصادر الحية كل ما توافق مع العلم الجديد الذي أسسوه، وأهملوا كل ما يخالفه ومن هنا نفسر إهمالهم للحديث النبوي، حيث أن الرسول كان يتحدث بلهجته التي أشرنا إليها أعلاه.
يجب القول هنا أن مصادر اللغة في ذلك العصر كانت مصادر حية، فالقرآن كان كتابًا ملهمًا عقائديًا وأخلاقيًا وروحيًا ولغويًا، ووقد ترافق صعود القرآن مع صعود الأمة والدولة، ومع صعود حضاري كان القرآن مفتاحه ومرجعه، لذلك كان كتابًا ملهمًا بحق، والشعر كان ومازال ديوان العرب، فالعرب لم تهتم بفن لغوي كما اهتمت بالشعر، كما أن عصر الاحتجاج المنتهي عام 150 في الحواضر ([7]) وعام 400 في البادية كان يعني أن مصادر اللغة هي أهلها ومتداولوها، لذلك حين بدأ النحاة في تقعيد اللغة كانوا ينكبون إلى العامة والشعراء ليأخذوا منهم اللغة، وكانوا يدققون على أصل الكلام والتراكيب (علم الصرف) ولم يدققوا على كيفية تحريك الكلمة أو إعراب أواخر الكلمات إلا عندما يريدون الاحتجاج لقاعدة نحوية. فمصادر اللغة العربية في عصر التقعيد هي مصادر حية حينها، بل تضج بالحياة.
ثانيًا: واقع اللغة الحالي ودور الموروث فيه:
قد يتفاجأ بعضكم إن قلت إن اللغة العربية الفصيحة الآن هي في أفضل مراحلها، ذلك أنه -في رأينا-لم يشهد تاريخ اللغة العربية الفصحى هذا الحضور لها في حياة العامة، ولا هذا الانتشار، كما أنه لم يشهد تاريخ اللغة هذا الكم من الإنتاج اللغوي (شعرًا وأدبًا وفلسفةً وترجمةً) باستثناء التأليف العلمي المتخصص، ولأن العصر الآن هو عصر العلم التخصصي لذلك نظن أن اللغة ليست بخير.
واقع اللغة كتداول واستخدام هو واقع متقدم على كل تاريخها، وذلك له عدة أسباب نذكر منها انتشار التعليم وانتشار وسائل الإعلام الناطقة بالفصحى وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي الخ؛ إن أقل معدل للتعامل اليومي لأي عربي مع الفصحى استماعًا أو تحدثًا أو قراءة أو كتابة قد يتجاوز نصف الساعة يوميًا وهذا لم يكن متاحًا للعربي العادي في أية مرحلة سابقة، حتى في مراحل زهو ونماء العربية. لكن يمكن أن نسأل هل هذا الواقع دليل عافية واستقرار؟
في حقيقة الأمر أن اللغة المعيارية (الفصحى) المستخدمة اليوم هي لغة قطعت في تراكيبها اللغوية وطريقة تعبيرها مع التراث، لم نعد بحاجة إلى اختيار تراكيب لغوية صعبة لنعبر عن فصاحة النص أو القول، لكننا مازلنا نحِنُّ لفصاحة القدماء ننبهر أمامها، قطعنا معهم تحت وقع ضغط الواقع المتطور، وما زلنا نتمنى أن نعيد إنتاجهم لأننا لم نتمكن من القطع مع التراث، مازلنا نقارن فصاحتنا بفصاحتهم، وتراكيبنا بتراكيبهم ونشير بإعجاب إلى تقدمهم علينا، وهذا لعمري أسوء ما نعانيه في التعامل مع اللغة، مازال نموذج اللغة الناصعة هو السلف وهذا ليس حكمًا موضوعيًا بقدر ما هو حكم عاطفي، حكم الحنين للماضي.
التراث مات في تراكيب اللغة الحية، مات في مفرداتها، لكنه حي في قواعدها، في نحوها، في مختلف علوم اللغة من بلاغة وبيان ونحو وخلاف ذلك من فنون وعلوم لغوية.
استطاعت اللغة لأنها كائن حي أن تنتج تراكيب وصياغات لغوية حية ومعاصرة، لكنها لم تستطع حتى الآن أن تقطع قطعًا نهائيًا مع موروثها، وذلك لعدة أسباب لعل أهمها أن اللغويين لم يقوموا حتى الآن بتحديث نظام النحو والصرف، ولأنهم (اللغويون) مازالوا يرون أن مصادر اللغة تكمن في عصر سابق ولا تكمن في واقعها الحي.
واقع اللغة كواقع أهلها، قوة العصر تدفعهم دفعًا للمعاصرة، وقوة التراث تتشبث بهم وتثقل كاهلهم، والحاصل هو انفصام خطير بين واقع متطور سريع الحركة والتغير، وبين قواعد ونحو ومصادر لا تخدم اللغة ولا أهلها.
لقد آن الأوان لنعيد النظر بعلمي النحو والصرف ونعيد الاعتبار لواقع اللغة الحي الذي يعتبر من انصع عصور اللغة استخدامًا وانتشارًا وانتاجًا لها، ويكفي أن نذكر مشاكل الترجمة لندرك مشكلة التعامل اللغوي على أساس علمي النحو والصرف في عملية ترجمة المصطلحات والمفاهيم، معظم المفاهيم والمصطلحات التي ترجمت لألفاظ عربية حملت ألفاظها العربية تاريخ دلالي عربي لا يتعلق بالمفهوم كما هو في لغته الأم، وهذا الأمر ليس أمرًا بسيطًا، أنه من أخطر الأمور التي يجب تداركها، فهو حتى الآن يسبب استحضار لتراث وموروث ميت قطعت معه الحضارة الإنسانية، يُستحضر إلى أحدث ميادين العلم والمعرفة، لا لأنه راهن ويخدم موضوعه، بل لأن اللغة مكرت فأحضرته، ومكر اللغة هو الضلال عن الحقيقة.
الفصل الثالث: نظرة في النحو والصرف
أولًا: في الجملة الاسمية:
عندما نقول: إن الجملة الاسمية تتكون من المبتدأ والخبر، وكلاهما اسمان، فإننا نلغي تضمين الزمن والحدث (أحدهما على الأقل) من معاني الجملة الاسمية، وهذا الإلغاء فيه مغالطة كبيرة، تناقض بنية الجملة الاسمية وتسطّحها لأنها تمنع عنها الدقة والحصر (حصر المعنى) وتجعلنا نتعامل مع جملة تضمنت الحدث والزمن حقًا، لكن لا تريدنا أن نعترف بهما.
الجملة الاسمية في اللغة العربية هي كل جملة بُدئت باسم (مبتدأ) حتى لو لم يكن خبره اسمًا ظاهرًا، فنحن نقول: (السماء تمطر) هذه جملة اسمية، السماء مبتدأ وجملة الفعل(تمطر) خبره، ونقول: (السماء ماطرة) مبتدأ وخبر. ولو قلنا: (تمطر السماء) لأصبحنا أمام جملة فعلية، والسبب أن كلمة السماء في الجملة الأولى سبقت الفعل فتعرب مبتدأ وفي جملة (تمطر السماء) تأخرت عن الفعل فتعرب فاعل، مع أنها في الجملتين هي فاعل من حيث المعنى، لا مشكلة حقيقية في هاتين الجملتين، المشكلة في الجملة الاسمية التي خبرها اسم ظاهر حسب تصنيف فقهاء اللغة، فجملة (السماء ماطرة) هي حسب تصنيف النحاة جملة اسمية، الخبر فيها اسم ظاهر هو:( ماطرة)، لكن هل كلمة ماطرة اسم حقاً؟
حسب فقهاء اللغة هي اسم لأنها تقبل التنوين وتقبل ال التعريف، ونقر هنا بقبول الخبر للتنوين ولنا فيه وجهة نظر سنوضحها بعد قليل، أما فيما يتعلق ب (أل) التعريف فلا تتصل بالخبر إلا في حالات نادرة جدًا ولم تعد تستعمل أي أن اللغة الحية الآن لا تستعمل الخبر المخصوص المحلى بأل التعريف كالتعبير المشهور (الدين النصيحة) إذن الخبر لا يقبل أل التعريف، وإذا قبلها كف عن كونه خبرًا وأصبح نعتًا، أي كف عن كونه عمدة وأصبح تابعًا, الخبر عمدة في الجملة الاسمية والنعت تابع في الجملتين الاسمية والفعلية، يمكننا أن نستحضر أي مثال وسنجد أن الخبر لا يقبل ال التعريف، والكلمة التي وقعت خبرًا قد تقبل ال التعريف في مواقع أخرى لكن لا تقبلها حين تكون في موقع الخبر.
هذا يعني أن أول صفات الاسم (ال التعريف) نُفيت عن كلمة ماطرة فإذا قلنا مثلًا (السماء الماطرة) فالسامع ينتظر منا أن نكمل لأن الجملة لم تكتمل بعمدتيها (المبتدأ والخبر) فكلمة الماطرة هنا أصبحت نعتًا والمستمع ينتظر الخبر في الجملة السابقة، يتوقع مثلًا أن نقول: (السماء الماطرة جميلة)، لأن ال التعريف عندما التحقت بها أخرجتها من موقع العمدة(الخبر) إلى موقع التابع (النعت). لكن ماذا عن التنوين؟؟ هل يمكن أن نعتبر التنوين هنا نون توكيد؟ لا شك أن التنوين يحمل معنى التوكيد (الصوتي على الأقل) ولو افترضنا أن نظام الكتابة العربي يعتمد رسمًا آخر للتنوين غير مضاعفة الحركة، فبدل أن نكتب ماطرةٌ بضمتين(تنوين) كتبنا ماطرتُنْ بضمة ونون ساكنة، الكلمة لفظيًا لم تختلف، فالتنوين حسب تعريف النحويين هو نون ساكنة قبلها ضمة إذا كان تنوين الضم، أو فتحة إذا كان تنوين النصب، أو كسرة إذا كان تنوين الجر، وبالتالي ما الفارق بين التنوين ونون التوكيد الخفيفة التي تتصل بالمضارع؟
لنسأل الآن السؤال التالي: هل هناك صيغ صرفية معينة يلتزم فيها الخبر؟ وما هي هذه الصيغ؟
إذا استحضرنا كل التراكيب التي نطلق عليها تسمية (جملة اسمية)، سنلاحظ أن الخبر لا يأتي إلا: إما اسم فاعل بصيغته العادية، أو بإحدى صيغ المبالغة لاسم الفاعل (بما في ذلك الصفة المشبهة باسم الفاعل)، أو اسم مفعول، أو إحدى صيغ المصدر.
كلمة ماطرة في المثال السابق هي صيغة صرفية لاسم الفاعل من الفعل الثلاثي مَطَرَ فهو ماطر وهي ماطرة، ولندقق الآن فيما تحمله هذه الصيغة من ميزات الفعل، فنحن نعلم أن الفعل يتميز بالدلالة على حدث وزمن معاً، وكلمة ماطرة دلت على حدث (المطر) وعلى زمن هو الزمن المستمر. لنلاحظ أيضًا أن فقهاء اللغة حين أطلقوا تسمية (مضارع) على الفعل المضارع، قالوا نسميه مضارعًا لمضارعته لاسم الفاعل أي لمشابهته لاسم الفاعل، أي أنهم لم يكونوا غافلين عن أن اسم الفاعل يتضمن معاني الفعل حقًا.
في جملة مثل: الرجلُ محمودٌ، كلمة محمود هنا وقعت موقع الخبر، وصيغتها الصرفية اسم مفعول، والمعنى المراد من الجملة هو: أن هناك كثيرون يحمدون الرجل، أي أن صيغة اسم المفعول هنا أفادت الفعل المبني للمجهول، على عكس اسم الفاعل التي تفيد الفعل المبني للمعلوم، ويصبح الرجل هنا بمقام نائب الفاعل لأن فعل الحمد يقع عليه فهو بالأساس مفعول به لكن لغياب الفاعل (أحد عمدتي الجملة الفعلية) ينوب المفعول به عنه ويأخذ محله الإعرابي (الرفع).
كذلك الأمر إذا كان الخبر بأحد صيغ المصدر، فعندما نقول: الموتُ حقٌ، فكلمة حق جاءت خبرًا بصيغة المصدر والمصدر كفعله يتضمن معنى الحدث لكن بزمن طلق يحتمل الماضي والحاضر والمستقبل وجميعهم معًا.
إن إلغاء الزمن والحدث كليهما أو أحدهما من دلالات الجملة الاسمية يجعلنا أمام جملة تشير إلى معنى ما، لكنها لا تحدده تمامًا لأننا نفترض سلفًا أنها فقدت أحد ركنيه على الأقل إما الزمن أو الحدث، لكن الحقيقة غير ذلك، فالجملة الاسمية تقوم بوظيفتها اللغوية على أكمل وجه، والمشكلة في التسمية وليست في البنية.
لا يمكن التقاط المعنى (أي شكل من أشكال المعنى، حتى تلك المعاني الأكثر تجريدًا) دون الزمن، فالزمن مكون أساسي من مكونات المعنى، ولأن الجملة الاسمية تدل على حدث بدون زمن، فهي إذن لا تؤدي دورها الوظيفي لغويًا حسب تعريفات النحاة، لكن الحقيقة أنها تؤدي معان واضحة وتقوم بدورها الوظيفي على أكمل وجه، فالمشكلة ليست في بنية الجملة الاسمية إنما في التسمية والتصنيف النحوي لها.
ثانياً: الزمن بين النحو واللغة:
في الزمن النحوي (الزمن كما يظهر في النحو):
ينفي الفقهاء ظهور الزمن إلا بالأفعال وبعض الكلمات التي تدل على الزمن مثل ساعة وشهر وصباح ومساء إلخ؛ وهي بمعظمها تندرج تحت تصنيف ظرف الزمان.
فهم ينفون نفيًا تامًا تعبير الأسماء أو احتوائها على الزمن، فالاسم بالتعريف هو كلمة تدل على معنى لا يحتوي حدثًا أو زمنًا، حتى تلك الأسماء التي تدل على حدث، فهي تدل على حدث لكن بدون الدلالة على الزمن كالمصادر فالمصدر بتعريفه أنه يدل على حدث لكن بدون زمن.
أزمنة الأفعال في النحو هي كما أسلفنا: ماض، حاضر، مستقبل فلا وجود لأزمنة تعبر عن مفاهيم الزمن الحديثة، فالنحو لا يرى الزمن المستمر (الزمن الدائري)، ولا يرى الزمن الطلق (الزمن الذي يتراكب ويتحد فيه الماضي والحاضر والمستقبل) فهل يمكن فعلًا أن نستخرج من اللغة صيغ قياسية تعبر عن الزمن المستمر والزمن الطلق.
الفكر الإسلامي في مرحلة التقعيد كان يقسم الزمن إلى حدين: الزمن في الحياة الدنيا، وهو زمن يتجه من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وصولًا لقيام الساعة. والزمن في الحياة الآخرة، وهو زمن أبدي سرمدي، وتعبير أبدي سرمدي هو تعبير لا يميز بين المستمر والطلق، يخلط المستمر بالطلق، فهو طلق ومستمر بآن معًا، وهذه الارتكازة في الفكر الإسلامي (دنيا، آخرة) هي بتقديرنا التي جعلت فقهاء اللغة لا يرون الصيغ القياسية والاشتقاقية للزمن المستمر والزمن الطلق فهما زمنان غير دنيويين حسب المعتقد الإسلامي وبما أننا ما زلنا نعيش على الأرض (الحياة الدنيا) فالزمن هو زمن أرضي يأتي من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل وصولًا إلى قيام الساعة التي فيها يتغير مفهوم الزمن.
والسؤال الآن: هل اللغة العربية تحتوي على صيغ اشتقاقية قياسية (يمكن القياس عليها) تعبر عن الزمن المستمر والزمن الطلق؟ ([8])
جوابي الشخصي عن هذا السؤال وبدون تردد: أجل يمكن!
الزمن اللغوي (الزمن كما يظهر في اللغة):
إن صيغ اسم الفاعل واسم المفعول ( وهي صيغ قياسية تمامًا) تعبر عن الزمن المستمر كما أن صيغ المبالغة من اسم الفاعل تعبر عن الزمن المستمر، وصيغ المصدر باختلافاتها (صريح وميمي ومؤول) تعبر عن الزمن الطلق، فنحن نقول: كاتب، لندلل عل حدث يحصل باستمرار هو حدث الكتابة، ونقول كتابة(مصدر كتب) لندلل على حدث زمنه طلق يتحد فيه الماضي بالحاضر بالمستقبل، فحدث الكتابة هي كتابة في الماضي وكتابة في الحاضر وكتابة في المستقبل وكتابة فيهم جميعًا معًا، وإذا تبين أنه ليس حدث كتابة لسبب من الأسباب (تبين خطأ ما يجب تصحيحه) فهو ليس كتابة في الماضي والحاضر والمستقبل، وهذه ميزة الزمن الطلق تستطيع تصحيح الماضي والمستقبل انطلاقًا من اللحظة الراهنة، واللحظة الراهنة في الزمن الطلق هي لحظة وهمية افتراضية لا يمكن تعيينها واقعيًا (حسيًا)، إن هذه المعاني للزمن الطلق تتضمنها صيغة المصدر لكن لم يُتح لأئمة اللغة التقاطها، فرحّلوها لزمن الآخرة دون أن يلتقطوها فعبروا عنا بتعبير السرمدي الأبدي.
في صيغة اسم الفاعل يقول فقهاء اللغة إنها صيغة تدل على صاحب الفعل، ويسكتون عن الفعل نفسه، وأنا اعترض على هذا السكوت، فصاحب الفعل لم تتم الدلالة إليه من خارج الفعل نفسه، فكلمة كاتب دلت على صاحب فعل الكتابة لكن بدلالة تكراره لفعل الكتابة، وإلا لما كانت الدلالة صحيحة أو كافية، فكلمة كاتب تدل على شخص يقوم بفعل الكتابة بشكل مستمر، قام به في الماضي ويقوم به في الحاضر وسيقوم به في المستقبل، والفرق بين الزمن المستمر والزمن الطلق أن المستمر لا يمكن أن نصحح ماضيه أو مستقبله, وهكذا الأمر في صيغة اسم المفعول التي تدل على استمرار وقوع الفعل على المعني بالكلام، فنقول مثلًا: فلان مذموم، أي أن فعل الذم يقع بشكل مستمر على فلان، وفلان هنا هو بموقع نائب الفاعل فهذا صيغة المبني للمجهول من المستمر.
لم يستطع فقهاء اللغة في عصر التقعيد أن يروا الزمن المستمر أو الزمن الطلق، ذلك أن الزمن المستمر هو تجاوز لمفهوم الزمن الخطي، فهو زمن دائري (تكراري) والزمن المطلق هو تجاوز للزمنين (الخطي والدائري) معًا، فهو لحظة تتركز فيها كل الأزمنة وتتحد لتعبر عن مطلق الزمن، فجاء النحو العربي بهذه الصيغة الموجودة والتي أصبحت صيغة مقيدة للغة وللفكر معًا، فاللغة هي أداة الفكر ومحتواه، والنحو هو شرع اللغة وقوانينها، والقوانين التي لا تتماشى مع واقع الحال وراهنية الفكر الإنساني هي قوانين يجب إعادة النظر فيها، إن المغالطة الخطيرة التي كشفها تطور العلوم اليوم تكمن في أن النحو يفصل بين الزمن والحدث (الفعل, الحركة) فعندما نعرف المصدر على أنه يعبر عن حدث بدون زمن، فهذه مغالطة لا يمكن السكوت عليها، لا يمكن فصل الزمن عن الحركة (الحدث، الفعل) فمناط الزمن هو الحركة، التحرك، الفعل، الحدث. وهذه المغالطة مردها بتقديري إلى مفهوم الزمن في الفكر الإسلامي في مرحلة التقعيد.
بقي أن ننوه أن الزمن في كل مرحلة من مراحل اللغة هو الزمن الموعى بدلالة هذه اللغة في تلك المرحلة، وليس الزمن الموضوعي، فالزمن الموضوعي خارج اللغة دومًا، والذي نجده في اللغة هو الزمن الموعى، بالتالي فإن الزمن في اللغة لا يمكن وعيه بدلالة اللغة وحدها، إنما بدلالة المنتج الفكري والعلمي الذي حققه العقل والفكر البشري، وعليه فإن الفقهاء استطاعوا التقاط الزمن وصيغه الاشتقاقية في اللغة بموجب ما وصل اليه الفكر بعصرهم. وهذا ما يجعلنا نسأل: إن الفكر البشري حقق قفزات متقدمة جدًا عما كان عليه في عصر التقعيد أفلا يدعونا هذا إلى إعادة النظر بالصيغ الاشتقاقية التي تعبر عن مفاهيم مختلفة ومعاصرة للزمن؟
الفصل الرابع: نظام الكتابة العربي
لم أجرؤ حتى الآن على القول بأننا بحاجة إلى نظام كتابة جديد، ذلك أنني ما زلت أراهن أن القطع مع التراث قد لا يحتاج إلى نظام كتابة جديد، خصوصًا أنني أحترم نظام الكتابة العربي جدًا وأرى أنه يحقق جملة شروط هي مطلوبة الآن أكثر من أي وقت، أهم هذه الشرط التي يحققها نظام الكتابة هي:
- يحترم علم الصرف ويرتبط به ارتباط وثيق.
- يحترم النظام اللفظي والصوتي للهجات قديمها وحديثها، فالأصوات التي لا تتغير بتغير اللهجة لها رسم ثابت، والأصوات والأحرف التي تتغير في اللهجات هي التي يتغير رسمها، كالتاء المربوطة والمنبسطة والهاء، الألف القائمة والمقصورة، والهمزة وتنوع كتابتها.
- لا يحترم علم النحو ولا يأبه به، فما زال العرب حتى الآن يكتبون دون تشكيل إلا بعض الكلمات التي يخشى اللبس فيها.
هذه بعض النقاط التي تجعلني حتى الآن أخشى من الدعوة لنظام كتابة جديد، مع أني أدرك تمام الإدراك أن اللغة لا يمكنها أن تتخلى عن موروثها إلا بنظام كتابة جديد، أو لنقل إن وجود نظام كتابة جديد قد يسهل ويسرع عملية قطع اللغة مع موروثها واعتمادها على واقعها الحي وعلى ما ستنتجه اللغة في مستقبلها.
الفصل الخامس: اللغة وسلطات قواميسها
يبدو أن القواميس اللغوية مسألة ضرورية لكل لغة، فهي تشكل -مبدأيًا-سلطة لغوية تحدد دلالة الكلمات بطريقة يقبل أهل اللغة الاحتكام إليها، هذا الاحتكام يتعلق بعلاقة الدال والمدلول حصرًا، فالقواميس اللغوية هي تدخل سلطوي أو مرجعي يحدد علاقة الدال بمدلوله، وهنا تكمن خطورة القواميس وتكمن ضرورتها، أي أن مرجعيتها أو سلطويتها على العلاقة بين الدال والمدلول هي مكمن خطورتها وضرورتها في آن. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا وقبل الدخول في إشكاليات الدال والمدلول هو: هل يمكن أن ننتج شكلًا آخر من أشكال السلطة اللغوية بحيث نتمكن من المحافظة على تواضع أهل اللغة على العلاقة بين الدال ومدلوله من جهة، ونسف هيمنة القاموس بوصفه مجالًا لتحنيط الكلام وتحنيط الدلالة من جهة أخرى؟
ولأننا سنتعامل مع فكرة القاموس فسنعفي أنفسنا من الخوض في اختلافات علماء اللغة حول العلاقة بين الدال والمدلول، وسنكتفي بتبني الرأي الوسط بين اختلافاتهم الواسعة لنقول إن العلاقة بين الدال والمدلول هي علاقة مواضعة، تواضع، بين أهل اللغة. خصوصًا أننا سنتعامل مع الجانب الميت من اللغة، أقصد القاموس، فالقواميس حتى الآن هي اللغة في زمن سابق، أو العلاقة بين الدال والمدلول في زمن سابق، أي ليس الآن وهنا، فهو على الأقل (حسب تواريخ انجاز القواميس وتاريخ انجاز أحدث قاموس) قبل سنوات، مما يعني أن السلطة اللغوية الكامنة في القاموس هي مرجعية حددت وقررت دلالة الكلام وكيفية استخدامه قبل واقع اللغة الحي الآن، وهذا يخرجنا من مقولة البنية وبالتالي يخرجنا من دوسوسير ويجعلنا نتعامل مع اللغة محملة ومحمولة على تاريخها من جهة، ويجعلنا نحتكم في طريقة التعبير الأنسب أو الأصح إلى نص ميت حنط الدلالة قبل سنوات وجعل من هذه الدلالة المحنطة حاكمًا بين مرسل الخطاب ومتلقيه، إذن نحن نرى أن علاقة التواضع بين الدال والمدلول هي التي تخدمنا هنا لأننا سنتعامل مع اللغة من خلال قواميسها، لا من خلال واقعها الحي، واللغة في القواميس هي بالضبط تحديد سلطوي أو مرجعي لما توافق عليه أهل هذه اللغة في العلاقة ما بين الدال والمدلول.
تخبرنا مقدمة معجم الدوحة التاريخي ([9]) أن أهل اللغة وعلماءها يرون أن تطور اللغة يعني فسادها، وهذه النظرة نجدها مبثوثة في معظم كتب التراث اللغوي ومراجع اللغة، وهذا يعني أن إحدى أهم مهام المعجم هو تثبيت نمط لغوي يعتبره علماء اللغة النمط الصحيح قبل فساد اللغة، وهذا يعطي للقاموس مهمة إضافية تزيد من خطورته، أو ربما هي مكمن الخطورة، المهمة التي تدعونا دومًا للتقيد والالتزام الصارم بلغة نموذجية تنتمي إلى عصر سالف انتهى وانقضى ولم يعد راهنًا.
والقاموس من جهة ثانية سلطة لغوية في تحديد أوجه صرف الكلمة، فالقاموس يبدأ بالجذر ثم ينتقل لنتعرف انزياحات المعنى أو الدلالة حسب اختلاف المبنى، فالجذر له دلالة ما، ثم كل زيادة في الأحرف(المبنى) تنزاح معها دلالة الجذر بحسب هذه الزيادة وبحسب طريقة الاستخدام أو تموضع الكلمة داخل الجملة.
والقاموس من جهة ثالثة هو سلطة على نبذ واستبعاد ما هو مهمل أو غير مستعمل من كلام أهل اللغة حسب تراتيب وتقالب الأحرف، فنحن نعلم أن القواميس مرتبة على أحرف الهجاء (بغض النظر عن طريقة الترتيب) وهذه العملية تتيح لنا أن نتعرف إلى تشكيلات لغوية غير مستعملة فعليًا، وتوافق الأحرف إحصائيًا يدلنا على إمكانية وجودها كجذور لغوية قابلة للاستعمال، لكن القاموس لا يسمح لنا بإدراجها في لغتنا لأن العرب القدماء لم يستعملوها.
إذن اجتمعت ثلاث سلطات (على الأقل) في قواميس اللغة، فهو سلطة على المعنى (العلاقة بين الدال والمدلول)، وهو سلطة على الصرف (أوجه الاشتقاقات الممكنة من الجذر اللغوي) وهو سلطة على توافيق الأحرف (منهجيته الأساسية في ترتيب الكلام والجذور اللغوية) والسؤال الآن: هل هذه السلط ضرورية للغة أو لأهلها؟ وإذا كانت كذلك، فهل هناك طريقة لتطوير هذه السلط وتحديثها بحيث تصبح سلطة تستند في قوتها السلطوية إلى روح العصر لا إلى الأموات؟
في الشق الأول من السؤال (ضرورة السلطة): بمتابعة بسيطة للنصوص المعاصرة (في آخر خمسين سنة) سنجد أن أي عربي نال قسطًا من التعليم يمكنه أن يقرأ أي نص دون الاستعانة بالقاموس، أي دون حضور لسلطة القاموس، دون الاحتكام لمرجعية هذه السلطة لفهم النص، لكن أي عربي، حتى لو كان قد نال أعلى درجات التعليم سيحتاج للقاموس عند قراءة مخطوطة قديمة، أو قصيدة جاهلية، أو القرآن، أو أي نص كُتب قبل مئتي سنة.
هذا يعني أن اللغة الحية، لغة الآن وهنا، اللغة الطازجة، لا تحتاج إلى سلطة من جنس سلطة القاموس، فالسلطة التي تسقط الحاجة إليها هي سلطة ساقطة حكمًا، أي أن اللغة الحية أسقطت القاموس موضوعيًا، وبالتالي أسقطت معه كل سلطاته، لكن بسبب تجاور النصوص التراثية مع النصوص المعاصرة نشعر دومًا بحاجتنا للقاموس، والحقيقة تقول إننا نحتاجه لمعرفة دلالات الكلمات المهجورة التي ما زال التراث يحثنا على إحيائها مع أن واقع اللغة قد هجرها وقطع معها.
أخيراً
يمكن أن نتوسع بأخذ نصوص كثيرة انتجت في آخر خمسين سنة، نصوص شعرية وأدبية وفكرية وعلمية وبمختلف أشكال الإنتاج اللغوي، وسنجد أننا نتوقف عند كلمات معينة هي التي تحتاج لتوضيحات، وعند التدقيق سنجد أن هذه الكلمات ما هي إلا كلمات حديثة تنقسم إلى شقين: في مجال الأدب هي كلمات إما متداولة لكن تم استخدامها بدلالة مختلفة عن دلالة استخدامها (انزياح دلالي) وهذا شأن الأدب عمومًا والشعر بشكل خاص، والانزياح الدلالي الحاصل هو انزياح يفسره النص، أي تكمن مرجعيته في النص وليس في القاموس، أي السلطة الفعلية القائمة هنا هي سلطة داخل النص وليس خارجه. أو في مجال العلوم المختلفة: وهنا الكلمات تكون مصطلحات تخص هذه العلوم، والقاموس لا سلطة له عليها، فالمصطلحات هي كلمات مفتاحية لعلم ما من العلوم، ولكل علم مصطلحاته، وبالتالي فلا سلطة للقاموس هنا أيضًا، السلطة هي للمنهجية التي يقوم عليها هذا العلم في تحديد مصطلحاته.
النص الحي والنص المتخصص أسقطا سلطة القاموس فيما يتعلق بعلاقة الدال والمدلول، التدقيق اللغوي الذي يخضع له النص قبل الطباعة والنشر أسقط سلطة القاموس الصرفية، كما أن اللغة الحية التي بنت النص أسقطت سلطة القاموس على ما هو مستعمل ومهمل من الكلام، فاللغة الحية هي الكلام المستعمل حكمًا.
كل إنتاج حي ومعاصر لأي شكل من أشكال الإنتاج اللغوي، هو تكريس فعلي لسقوط سلطة القاموس، بل سلطاته، لكن هل هذا يعني أن مفهوم السلطة على اللغة قد سقط؟
اللغة لغات، تتعدد بتعدد النصوص، فلكل نص لغته الخاصة التي يفرضها اتساقه مع موضوعه وغايته، مع عطشه وهاجسه، وبهذا تكون السلطة الفعلية على اللغة هي للنص وليست لسواه، فالنص هنا يصبح كون متكامل يسبح بعضه بعضًا، ويسعى جزؤه ليتكامل ويكتمل بكله، كما يسعى كله لينفصح ويتضح بجزئه، وهنا فقط أستطاع النص الحي أن يسقط سلطات اللغة الموجودة خارجه، ليمنح نفسه هذه السلطات ويمنح القارئ أو المتلقي مفاتيح الولوج إلى كون النص وفضائه العام.
اللغة لغات، وحصر سلطاتها في القاموس يعني أولاً أن النصوص مبتورة وقاصرة وناقصة لا تكتمل إلا بشرعية تأتيها من خارجها هي الشرعية التي تمنحها القواميس، على حين أن النصوص الحية تضرب بعرض الحائط كل القواميس وسلطاتها.
أما مسألة القاموس أو المعجم التاريخي، فنحن نرى أن المعجم التاريخي تبدأ ضرورة إنجازه عندما تستطيع اللغة أن تقطع مع موروثها وليس قبل ذلك، فالقواميس اللغوية الآن هي قواميس فوق تاريخية، لا تسمح للغة بأن تخضع للتطور التاريخي، وإذا أضفنا النظرة السائدة حتى الآن للغة وتطورها (تطور اللغة يعني فسادها) حينها يصبح القاموس التاريخي لغوًا فارغًا لا معنى له، كما أن فكرة القاموس التاريخي بدون لجنة مختصة دائمة الانعقاد تلتزم بنشرات دورية لتقرر الكلمات الجديدة التي دخلت إلى اللغة وتعتمدها كلغة صحيحة، وتقرر من جهة أخرى الكلمات التي تم هجرها أو ماتت في التداول وتحرم استخدامها، قاموس بدون هذه اللجنة هو شكل آخر من أشكال إنتاج السلطة الميتة التي تريد أن تحكم الحياة.
مراجع
1 – معجم لسان العرب: مادة فصح.
2 – إبراهيم الجبين: لغة محمد، دراسة من إصدارات مجلة أفق الالكترونية 2003 ص7 نسخة الكترونية.
6- عماد علي الخطيب: نقد فكرة الاحتجاج في التراث العربي – مجلة حوليات التراث العدد 11 عام 2011 ويمكن أيضًا الاطلاع على كتاب مهدي المخزومي مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو ص 79
7- عماد علي الخطيب: المصدر السابق
8-لم نحسم تسمية الزمن المستمر والزمن الطلق حتى الآن فنحن نستعمل المستمر للدلالة على مفهوم الزمن الدائري، والطلق للدلالة على مفهوم الزمن في فيزياء الكم (الزمن بعد انهيار نسيج الزمكان
9- https://www.dohadictionary.org/about-dictionary
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مركز أبحاث ودراسات مينا.