الصراعات المحتملة
وحدة الدراسات الاستراتيجية
تقدم هذه الورقة بصورة سهلة ومبسطة مطامع الدولة الفاعلة في الشأن السوري بعد أن ساهم كلٌ من المعارضة والنظام في دفع تلك الدول إلى التدخل في الشأن السوري، حتى وجدنا عدداً من الدول حاضرة بأشكال مختلفة على الأراضي السورية وذلك من خلال المحاور الآتية:
- الصراع على سوريا دولياً.
- مطامع إيران في سوريا.
- مستقبل إيران في سوريا.
- المطامع الإسرائيلية.
- الأهداف الروسية في سوريا.
- المطامع الروسية.
- المطامع التركية.
- مسار آستانة والدور التركي.
- الدور الأمريكي المعطل.
مقدمة
فتحَ الصراع السياسي والعسكري في سوريا إبان الثورة السورية أبواب خلخلة ركائز الدولة السورية بمجالاتها كلها، دفع هذا الصراع كثيراً من الدول إلى التدخل فيه من مقدمات سياسية مختلفة، ونتيجةً لتقلص هيمنة النظام على مساحات واسعة ومناطق متعددة من البلاد، أحسّ بخطر السقوط، وهذا ما دفعه إلى طلب التدخل العسكري المباشر من حلفائه، وفي مقدمتهم إيران وميليشياتها، ثمّ الروس.
هذا التدخل المباشر من حلفائه، فتح الباب لتدخلات مباشرة وغير مباشرة من دول أخرى بحججٍ مختلفة، منها “محاربة داعش”، ومنها دعم فصائل المعارضة المسلحة، من دون السماح لأي من طرفي الصراع بحسمه عسكرياً.
التدخلات العسكرية والسياسية في الساحة السورية ازدادت نتائجها السلبية في البلاد عموماً، لأنها ترافقت مع تراجع دور كل من النظام السوري ومعارضته العسكرية والسياسية المشتتة في السيطرة والهيمنة.
ولعلّ موقع البلاد الجغرافي لعب دوراً مهماً في استدعاء التدخلات الخارجية، فسوريا “ذات موقع جغرافي يتيح منفذاً على البحر الأبيض المتوسط للهيئات التي لا تملك منفذاً بحرياً وتبحث عن أسواق لمنتجاتها من الهيدروكربون، كما للدول التي تريد منفذاً على أوروبا من دون أن تضطر إلى المرور عبر تركيا”(1).
الصراع السوري الذي ما يزال مستمراً كشف أساساً غياب التنمية المستقلة في البلاد، وكشف هشاشة الاستقلال الوطني، وجمود الفكر والثقافة، من جهة ثانية كشف الطبيعة السياسية والاقتصادية للطبقة الحاكمة في البلاد، وهي طبقة لا تعتمد على تدعيم الإنتاج الصناعي والزراعي وتطويره، وإنما تعتمد على عمليات اقتصادية ذات طابع محدّد، وتحديداً في قطاعي السياحة والتجارة. التدخلات المباشرة أو غير المباشرة لكثير من الدول لعبت دوراً في كشف مطامع هذه الدول، ومعرفة خطر هذه المطامع على وحدة البلاد وسلامتها، وعلى رسم ملامح الدولة السورية المقبلة.
المطامع الإيرانية
بدأ الاهتمام الإيراني بالمنطقة العربية بالتعبير عن نفسه عبر تمكّن “آية الله الخميني” وجماعته السياسية من السيطرة على مقاليد الحكم في إيران بعد سقوط الشاه محمد رضا بهلوي عام 1979، ويمكن عدّ هذا الاهتمام مطمعاً إيرانياً يريد أن يستخدم أدوات الأيديولوجيا في السيطرة، فالنظام الإيراني الثيوقراطي يعتمد على أن “الأيديولوجيا السياسية التي اعتمدها الإمام الخميني الأساس في التوجه السياسي والاجتماعي، وأنّ هذه الأيديولوجيا سوف تبقى حيّةً في الفكر”(2).
إنّ إيران التي اعتمدت منذ بداية تسلم الخميني للحكم سياسة “تصدير الثورة ” كانت تريد أن تجد موطئ قدم لها في الإقليم وتحديداً في المنطقة العربية، وتفكّر أن “تلعب دوراً إقليمياً في المنطقة العربية بطريقة مباشرة، وغير مباشرة، وبوسائل مختلفة، هذا النفوذ والتدخل يثير إشكالات عدة، فإيران لديها أطماع قديمة في المنطقة، وتريد تحقيق (مشروعها الإسلامي) وتحقيق أهداف “الثورة الإسلامية”(3).
وإذا أردنا استعادة تاريخ أول علاقة بين نظام الخميني في إيران مع الدول العربية، سنجد أن هذه العلاقة بدأت مع نظام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد عشية سيطرة الخميني على السلطة، فسوريا هي البلد العربي الوحيد الذي أيّد “الثورة الإسلامية” التي كانت تريد أن تجد لها موطئ قدمٍ في العالم العربي وفّره لها حافظ الأسد. وتحديداً بعد أن وجد الأسد نفسه ضعيفاً بعد أن تخلّت عنه مصر التي كان يحكمها آنذاك أنور السادات ووقّعت مع دولة إسرائيل اتفاقيتي كامب ديفيد عام 1979.
إيران أرادت أن تنسج علاقات متشابكة في مجالات مختلفة مع سوريا آنذاك، ولعلّ العلاقة بينهما سمحت بتوطيد أسس تعاون سياسي -محوره مقاومة إسرائيل- واقتصادي وثقافي وسكاني بينهما. إنّ وجود مزارات دينية “مقام السيدة زينب ومقام السيدة رقية” ساهم في تعزيز السياحة والعلاقات الاقتصادية، ولعب دوراً مهماً في توفير فرص استثمار إيرانية في سوريا. هذه القاعدة من العلاقات جعلت إيران “تمتلك مصالح استراتيجية كبيرة في سوريا، وهي لم تتوانَ عن الدفاع عنها مالياً وعسكرياً، هذه المصالح تمتد إلى مجالات الطاقة، إذ وحده نظام صديق في دمشق يقدر أن يفسح المجال أمام إيران لتوسيع نطاق صادراتها من الغاز الطبيعي غرباً في حقبة ما بعد العقوبات”(4).
إنّ إيران التي استثمرت أموالاً كثيرة منذ بداية الثورة السورية لمصلحة النظام السوري، وساهمت بقوات عسكرية وميليشيات في دعم هذا النظام، كانت تريد من ذلك ليس حماية النظام فحسب، بل الهيمنة عليه وعلى قراراته وفق قاعدة تأثير ميدانية، تشمل تغييرات في بنية القوات المسلحة وفي البنية السكانية السورية، فإيران التي تعتمد مبدأ خطوط الدفاع الإقليمية تعتبر سوريا خطاً مهماً في هذه الاستراتيجية، ولذلك يمكن التفكير بدور إيراني متصاعدٍ أكثر “ومن المحتمل أن يتصاعد هذا الدور في المعادلة السورية في ظلّ الأوضاع الراهنة، لكون سوريا تمثّل حلقة رئيسة ضمن حلقات (الحزام المذهبي) المستهدف، وإعادة البناء الإمبراطوري الإيراني من جديد”(5). لقد أنشأت إيران قوى عسكرية واقتصادية موالية لها في سوريا، كانت من التبعية الطائفية السورية “الشيعة – العلويين” أو ميليشيات طائفية أتى بها لبنان والعراق وأفغانستان وغيرهم من الدول، وذلك لاستخدامها أوراقاً فاعلة في لحظات الحاجة إليها، هذه الحاجة المستندة إلى رؤية استراتيجية إيرانية محددة لتنفيذ خطة تغيير التركيبة الديموغرافية للشعب السوري، وهي أصلاً جزء من خطة “تصدير الثورة” التي اتبعها النظام الإيراني منذ هيمنته على السلطة في إيران.
مستقبل المطامع الإيرانية في سوريا
الإيرانيون ليسوا اللاعب الوحيد الإقليمي أو الدولي في الساحة السورية، فالتدخل الإيراني الذي بنى استراتيجيته في سوريا كان يعتمد على تحقيق مشروعه “الهلال الشيعي” الذي يربط طهران ببيروت ودمشق عبر بغداد برّياً. هذا الهلال يُراد منه أن يعيد إنتاج طريق تجارة دولية جديدة، تكون فيه إيران عقدة الوصل بين الغرب الأوروبي والشرق الآسيوي، وتكون الحلقة اللبنانية السورية والعراقية حلقات حماية لهذا الممر التجاري الدولي.
ولتعزيز هذا الممر التجاري يتطلب الأمر من إيران إحداث ركائز دفاعية ثابتة تحمي هذا الخط وترتبط به بعلاقات وثقى. لذلك لجأت إيران إلى سياسة الاعتماد على أمرين أساسيين “الاعتماد على الشيعة العرب بوصفهم ركائز للمشروع الإيراني، أو القيام بعمليات تشييع للسكان مستغلةً الأوضاع العسيرة للسكان السُنّة”. وهذا يترافق أساساً مع نفوذ قوات إيرانية وميليشيات شيعية على الأرض السورية، مع المحافظة على هوية النظام الشكلانية لتنفيذ المآرب الامبراطورية التي تخصّ ذهنية الثيوقراطية الإيرانية. وباعتبار أن الإيرانيين ليسوا اللاعبين الوحيدين في الساحة السورية بعد سلسلة التدخلات الإقليمية والدولية (الروسية – الأمريكية – التركية – الإسرائيلية) فإن الدور الإيراني المرسوم وفق الاستراتيجية الإيرانية يبدو أنه في طور صراع بين الأفول والثبات مع ترجيح واضحٍ للأفول بسبب الإصرار الإسرائيلي على منع وجود إيراني عسكري في الساحة السورية، والمقصود عسكرياً هنا هو وجود قوات الحرس الثوري، وقوات ميليشيات حزب الله اللبناني وباقي الفصائل العسكرية الشيعية القادمة من خارج الحدود.
إنّ المطامع الإيرانية في السيطرة على سوريا بوصفها حلقة من حلقات مشروعها الإمبراطوري يصطدم بعوامل كثيرة، منها غياب الحاضنة الشعبية الاجتماعية المؤيدة لإيران في سوريا، فالحاضنة العامة السورية لا تريد هيمنة إيرانية أو وجوداً إيرانياً فاعلاً. كذلك المطامع الإيرانية تتعارض بصورة أكيدة مع مطامع باقي الدول الفاعلة في الصراع السوري. وهذا احتمال يفتح بوابات صراع لاحقة، وإذا ما اعتمدت السياسة الأمريكية الجديدة بطاقمها (ترامب – بومبيو – بولتون) سياسة طرد إيران من الإقليم وتحميلها عبء التدهور الأمني والعسكري كله في المنطقة، فإن هذا الجهد الأمريكي ربما يتقاطع مع جهد إقليمي آخر “إسرائيلي – تركي” إضافة إلى الجهد الروسي، فيتفق الجهد كله على اعتبار الوجود الإيراني في سوريا يشكل خطراً على الجميع. إنّ قبول إيران بدور محدود في الساحة السورية يتناقض كلياً مع جوهر بنية النظام الإيراني المبنية على التوسع والهيمنة وبناء الإمبراطورية الإيرانية.
إسرائيل ومطمع الجولان
يمكن الحديث عن جملة مطامع إسرائيلية في سوريا، وتحديداً في الجولان المحتل، فإسرائيل تنظر إلى هذا البلد ليس من شرفة نظامه السياسي الحالية “النظام السوري الذي أسسه حافظ الأسد”، بل تنظر إلى المستقبل البعيد الذي قد يغير بنية المجتمع السوري السياسية والاقتصادية، ما يشكّل لاحقاً تهديداً جدّياً لوجود الدولة العبرية.
إن إسرائيل التي احتلت منطقة الجولان السوري إثر حرب حزيران عام 1967، عملت منذ البداية على تهويد المنطقة التي نزح منها أغلب سكانها، وقد اتخذت إسرائيل قراراً صادراً عن برلمانها “الكنيست” ينصُّ على ضمّ الجولان السوري المحتل إلى الدولة العبرية”(6). لكنّ مجلس الأمن الدولي رفض الإجراء الإسرائيلي واعتبره باطلاً، إذ أصدر المجلس القرار 497 في 17 ديسمبر/ كانون أول عام 1981(7).
إنّ إسرائيل ترى في الجولان السوري المحتل منطقة استراتيجية متعددة الوظائف، فالجولان منطقة مرتفعة تشرف على ثلاث دول متجاورة هي (لبنان – فلسطين – سوريا)، ومن ثم فالسيطرة عليها تعني سيطرة عسكرية وأمنية بامتياز. كذلك فإنّ غنى منطقة الجولان بالمياه العذبة الصالحة للشرب وللري الزراعي يجعلها هدفاً حيوياً ووجودياً للدولة العبرية. إنّ “الجولان هو الهدف البعيد على الرغم من أن سوريا حتى قبل سقوطها في مستنقع الحرب الأهلية كانت فاقدةً لأي قدرة عسكرية لشن حرب ضدّ إسرائيل بهدف استعادة هضبة الجولان المحتلة. إلا أنّ الدولة العبرية كانت تُدرك أن ذلك لن يرتب تغييراً في وضعها كأراضٍ محتلة وفقاً للقانون الدولي”(8).
إنّ مصلحة إسرائيل تتمثل في مطامعها بالسيطرة النهائية على منطقة الجولان، وسلخ هذه المنطقة عن وطنها الأم، ولكي يتحقق ذلك تسعى إسرائيل إلى إبقاء الحريق السوري مشتعلاً ضمن حدود ضبطه عسكرياً، وكذلك فالمطامع الإسرائيلية تتحدد بطرد الدولة العبرية لإيران وميليشياتها من هذه البلاد، وبمحاولة إبقاء المعادلة السياسية في سوريا معادلة غير مستقرة، من خلال تشجيع تقسيم البلاد، وإعادة إنتاج وحدتها عبر فدرالية تكون مهيّأة لعمليات صراع سياسي أو انفصالي عن البلاد. اهتمام إسرائيل يتركز على بقاء حدودها الشمالية آمنة، وعلى بقاء جارتها الشمالية “سوريا” بلداً ضعيفاً عاجزاً عن تهديد أمنها لاحقاً.
لكنّ إسرائيل لا تنظر إلى المنطقة العربية من خلال سوريا فحسب، بل هي تريد أن تكون قاطرة المنطقة الرئيسة، تتحكم باقتصاداتها وتطورها، من خلال مشروع طرحه ذات يوم الرئيس الإسرائيلي السابق شمعون بيريس(9).
المشروع المعني يربط المنطقة اقتصادياً بشبكة تحكمٍ رئيسة عبر التقانة المعلوماتية، وبما يخدم دور الريادة الإسرائيلية على كامل المنطقة، ولهذا تعمل إسرائيل على إخراج إيران من سوريا ولبنان لأنها تجد في هذا الوجود تهديداً استراتيجياً لمشروعها، ومن ثم لوجودها.
خطط تعمل عليها إسرائيل
عين إسرائيل لا تنام عن الصراع في سوريا، وهي تجنّد طاقاتها كلها الاستخباراتية والتجسسية لرصد كل تطور ولو بدا صغيراً في هذا البلد، وإسرائيل تفعل ذلك مع ممارسة ضغوط سياسية على حلفائها بغية عدم ترك هذه الساحة للعب قوى معادية، وتعمل إسرائيل على ذلك عبر خطط تهدف إلى جعل كل ما يلي صالحاً “لضمان الهدوء الأمني والاستقرار في الجبهة الشمالية، ومنع استقرار إيران السياسي والعسكري وأذرعها في سوريا، وتقليص تأثيرها في بلورة سوريا من الناحية الجغرافية والعسكرية، والمحافظة على تفاهمات استراتيجية وتنسيق عسكري مع روسيا..”(10).
الأهداف الروسية في سوريا
تبدو روسيا بصفتها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي دولةً منافحةً بقوة عن سلوك النظام السوري وبقائه حيال دوره الدموي في الصراع الدائر في البلاد، فالروس منذ بداية الثورة السورية لعبوا دوراً سلبياً حيال احتواء الاحتجاجات الشعبية التي كان سقفها الأول بضع إصلاحات ضرورية، كان بإمكان الروس في تلك المرحلة أن يضغطوا على النظام للاستجابة إلى بعض المطالب الشعبية، ولكنهم لم يفعلوا ذلك لحسابات سياسية خاصة بهم. فالروس لديهم نظام حكم شبيه بالنظام السوري وببنيته الأمنية، وهم لا يريدون تغييرات سياسية تأتي بقوى لا تجمعهم بها علاقة من قبل، تنسف علاقتهم التاريخية مع هذا النظام. إضافة إلى خوفهم من تحوّل هذا البلد إلى حليف جديد للغرب. المصالح العسكرية الروسية لا تنحصر بالجانب العسكري اللوجستي، وإنما تتعداه إلى اعتماد جيش النظام السوري على العقيدة العسكرية الروسية، من حيث التسليح والتدريب، إضافة إلى أن الروس ساهموا من قبل في بناء البنية التحتية السورية مثل السدود والخطوط الحديدية …إلخ. هذه العوامل جعلت روسيا تُمسكُ بالورقة السورية، وتمنع اتخاذ أي قرار دولي بحق نظام حكمها، وعليه فإن “أهم الدوافع وراء الموقف الروسي في مجلس الأمن وسواه من المحافل الدولية هو المصلحة الروسية في المتوسط، وكذلك ما اعتبرته روسيا خدعة تعرضت لها من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الحلف الأطلسي بشأن قرار مجلس الأمن في إجازة التدخل الإنساني في ليبيا”(11).
إن السياسة الروسية التي تدخلت بشكل مباشر وعملي في الصراع السوري في الربع الأخير من عام 2015 كانت تريد من تدخلها منع سقوط النظام السوري، والإمساك بالورقة السورية ورقة تفاوض سياسي مع الغرب، وللمحافظة على هذه الورقة استخدم الروس أسلوب “الصدمة النارية الكبرى” مع فصائل المعارضة في كل منطقة على حدة، بحيث تقوم قواتهم الجوية بقصف مدمّر لكل شيء في المنطقة التي توجد فيها هذه الفصائل، هذا الأمر نفذ في حلب ثم في حمص وفي الغوطة الشرقية، وإلى جانب أسلوب الصدمة النارية فتحوا الباب لمسار تفاوضٍ جانبي أطلقوا عليه اسم “مسار آستانة” الذي نتج منه ما سُميَ “مناطق خفض التصعيد والتوتر” الذي انضمت إليه تركيا وإيران. ويبدو أن مسار آستانة كانت الغاية منه اشتقاق مسار تفاوضي بديل عن مسار جنيف، المرتكز على القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي الخاصة بالصراع السوري. وأن خطوة “سوتشي” اللاحقة له كانت تذهب في هذا الاتجاه، وهو الأمر الذي يكشف أن الروس جادون في الإمساك بالورقة السورية لتحقيق أهداف متعددة من خلالها. إنّ “مصلحة روسيا هي في صمود سوريا وبقائها وانتصارها، وإلا خسرت موقعها في شرق المتوسط، ومن ثم ستخسر المشروع الأوراسي”(12)
المطامع الروسية في سوريا
الانخراط الروسي الكبير في الصراع السوري يُقرأ بصورة أخرى استثماراً سياسياً بطرائق متعددة، منها التدخل العسكري المباشر، ومنها فتح باب تصدير الأسلحة الروسية إلى منطقة الصراع، وكذلك توسيع النفوذ الروسي في هذا البلد مع تراجع نفوذ سلطته الحاكمة، التي دخلت صراعاً دامياً مع شعبها. ولكن لا يمكن للروس تحقيق أهدافهم، وكأنهم الطرف الوحيد في هذا الصراع إلى جانب النظام، فهم يدركون مغزى الوجود الإيراني الذي يشكل منافساً حقيقياً لمصالحهم في سوريا.
الانخراط الروسي في الصراع السوري حوّل الروس إلى طرف أساسي فيه، فهم يظنون “أن ضمان أمنهم الداخلي من المسلمين في بلادهم، وتوسيع اقتصادهم عبر الوصول إلى الشرق الأوسط، وتحسين وضعهم الجغرافي والسياسي على حساب الولايات المتحدة سيؤدي إلى تحسين موقع روسيا الجغرافي السياسي في الإقليم بعد الحرب السورية، خصوصاً بعد إرسالهم قوتهم الجوية إلى سوريا عام 2015(13). وهذه المعطيات مجتمعة تشكلّ أساساً للأهداف الروسية في سوريا.
إذاً يمكن القول إن المطامع الروسية ذات طبيعة سياسية استراتيجية وعسكرية اقتصادية في جوهرها، ويمكن فهم تحقيق هذه المطامع عبر تثبيت الوجود العسكري الروسي في قاعدتي طرطوس البحرية وحميميم الجوية، إذ تؤدي هاتان القاعدتان مهمة المحافظة على المصالح الروسية التي تنطوي على مطامع حقيقية تتعلق بنفوذ عسكري وسياسي في هذه المنطقة الاستراتيجية. لقد “بلغت استثمارات روسيا في سوريا عام 2009 حوالى عشرين مليار دولار، وأهم المجالات الاقتصادية المدنية التي كانت تخدم المصالح الروسية في سوريا هي مجالات التنقيب عن النفط والغاز وإنتاجهما، ( شركتا تاتنفت – سويوز فتغاز )(14).
إنّ التدخل الروسي القوي في الصراع السوري يمكننا أن نفهمه “ضربة استباقية لإحباط الترتيبات التي يظن الروس أن بعض الدول الإقليمية بدأت تجهّز لها في الميدان السوري، وتهدف تلك الضربة أيضاً إلى تثبيت وجود روسيا في القوة الدولية، وتبعث برسالة إلى القوى الإقليمية والدولية مفادها أنها لن تسمح لأحد بسحب البساط من تحت أرجلها”(15).
هذه السياسة الروسية هي محاولة جادة للإمساك بدفة الصراع في هذا البلد وتوجيهها بما يلائم المصالح الروسية الاستراتيجية الأمنية من دون تورطها في نزاعات طويلة الأجل تستنزف طاقاتها واقتصادها.
السياسة التركية نحو سوريا
تتمثل السياسة التركية بعد وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في أنقرة عام 2002 نقاطاً أساسية، أهمها أن تركيا ترغب في بناء سياستها في محيطها الجغرافي بطريقة أطلقت عليها “صفر مشاكل”، إذ إنها تتوسط ثلاث مناطق مهمة على الخريطة الدولية هي (منطقة الشرق الأوسط – منطقة البلقان – منطقة القوقاز) هذه المناطق تشكل عملياً عمقاً استراتيجياً للدولة التركية، ويمكن أن نسميه “مجالها الحيوي”. وبذلك فأنقرة مرتبطة مباشرة بمكانتها وسط هذه المنطقة، ولا يمكنها إهمال أي أحداث قد تنشأ فيها، ما يؤثر في استقرارها السياسي ونموها الاقتصادي عموماً.
حين تفجّرت الثورة السورية عام 2011 كانت علاقات تركيا بالنظام السوري علاقات متقدمة على كثير من الصُعد، وقد حاولت الحكومة التركية إقناع النظام السوري بالاستجابة إلى بعض مطالب المتظاهرين منعاً لتدهور الأوضاع، لكن النظام ضرب عرض الحائط بهذه النصائح، ما دفع الدولة التركية إلى تغيير موقفها منه.
إنّ من أسباب دعم تركيا للثورة السورية العامل الأيديولوجي، فالدولة التركية يهمها صعود التيار الإسلامي “الإخوان المسلمين” لقيادة اتجاهات الثورة السورية، لأنها تنتمي إلى الأيديولوجيا ذاتها الدينية والسياسية على الرغم من عدم تبنيها ذلك علناً، كذلك من أسباب دعم تركيا للثورة السورية رغبتها في الحصول على موقع “القوة الإقليمية الرائدة سريعاً”، ووجود حدود طويلة تمتد إلى طول 911 كم، إضافة إلى رغبتها في الاستفادة من الدعم الخارجي لثورات الربيع العربي “سياسة كسب المواقف”(16).
إنّ تدفق اللاجئين السوريين الكبير على الدولة التركية وضعها في حالة جديدة، تتعلق بمجريات الصراع السياسي في سوريا ونتائجه بعد التدخلات الإقليمية والدولية في هذا البلد. كانت ثمة عوامل متعددة تختفي خلف الموقف التركي الذي يترافق مع موقف إعلامي غير حقيقي، فالأتراك يخشون تنامي الدور الكردي في سوريا الذي يمثله حزب PYD وتأثيره في أمنهم القومي، لأن المشكلة الكردية داخل تركيا لم تجد بعد حلاً سياسياً حقيقياً يوقف النزاع المستمر منذ أكثر من ثلاثين عاماً بينهم وبين حزب PKK الكردي. “إنّ أنقرة تُعدُّ منطقة الشرق الأوسط منطقة نفوذ لها وتقوم انطلاقاً من ذلك بالتواصل مع النخب والشوارع العربية، فهي لا تحتاج إلى منافسين ولا سيما في البلدان الخارجية”(17).
لكن التدخلات الإقليمية والدولية في الصراع السوري جعل السياسة التركية سياسة حذرة، تعمل أنقرة على أن تجد فيها نقاط توازن دقيقة لها. ومع ذلك تُتهمُ السياسة التركية بأنها سياسة منحازة إلى جماعات إسلامية وفي مقدمتها جماعة “الإخوان المسلمين”.
سوريا مجال حيوي لتركيا
ينظر الأتراك إلى سوريا نظرة خاصة تختلف عن نظرتهم إلى باقي دول إقليم الشرق الأوسط، فسوريا تدخل وعبر التاريخ العثماني للدولة التركية في علاقة قربى وعلاقة دينية، إضافة إلى أن سوريا تشكل بوابة عبور حقيقية إلى تركيا نحو العالم العربي، ولهذا يهتم الأتراك ببناء هذه العلاقات بشكل وثيق. وتبقى رهانات السياسة التركية في سوريا تدور حول “كسب حلب بثقلها التاريخي والاجتماعي والاقتصادي ومركزها الجغرافي، ومنع تبلور القضية الكردية وتقدمها، وقد فشلت بسبب الطموحات الواسعة والرهانات العالية للحكومة التركية على استغلال الأزمة السورية لمصلحة الرؤية التوسعية للقيادة التركية”(18).
لقد اصطدمت سياسة أنقرة بمعوقات محلية وإقليمية ودولية كثيرة، كبحت المخططات التركية المرسومة وطموحات أردوغان الجامحة، وعلى رأسها تحكم لاعبين دوليين أكبر من تركيا بالساحة السورية، وصمود النظام بفضل الدعم الإيراني والروسي الهائل”(19).
إن دراسة السلوك التركي تجاه سوريا، وتحديداً بعد دخول القوات التركية إلى الأراضي السورية بعد عمليتي “درع الفرات وغصن الزيتون”، إضافة إلى إصرارها على طرد قسد من منبج، وسحق حزب PYD يكشف نيات تركية لا تتركز في سحق هذا الحزب الكردي فحسب، وإنما يكشف ترسيخ نفوذ سكاني سياسي عسكري في مناطق الشمال السوري بما فيها منطقة إدلب وفق تقاسم النفوذ الدولي الذي نشأ عن “مسار آستانة”.
الأتراك يجدون في سوريا بوابة حقيقية لإعادة إنتاج الدولة العثمانية الجديدة، وهم يعتمدون في ذلك على قوى ذات أيديولوجية ما قبل وطنية، ومن ثم فهم يساهمون في إبقاء حدّة الانقسامات الوطنية على حالها انطلاقاً من رؤيتهم الأيديولوجية الإسلاموية. إنّ خطر المطامع التركية في سوريا لا يختلف كثيراً عن خطر المطامع الإيرانية، لا بل يتفوق عليه بعامل الأيديولوجية، وهذا ما سعت إيران إلى أن تغيره عبر عمليات التهجير والتغيير الديموغرافي.
الدور الأمريكي المعطّل
أمام حالات التجاذب الإقليمية والدولية الجارية على سوريا لا ينبغي نسيان أمريكا التي لعبت دوراً مضللاً بالمعنى السياسي منذ تفجّر الصراع في سوريا. ويبدو أن الموقف الأمريكي ليس مرتكزاً بعد على رؤية استراتيجية تعتمد على توظيف الحلقة السورية ضمن معادلات الصراع التي تخوضها الولايات المتحدة في المنطقة أو في آسيا. فالتردد الأمريكي حيال رسم استراتيجية ذات ملامح حقيقية سمح للأدوار الإقليمية إضافة إلى الدور الروسي بدورٍ أوسع، ما قد يُفضي في مرحلة من المراحل إلى أن يجد الأمريكيون أنفسهم ضمن معادلات راجحة لقوى ذات أهداف متناقضة مع المصالح الأمريكية في هذا الإقليم المهم.
التراجع الأمريكي نسبياً أمام الضغط التركي يُنبئ بحسابات أمريكية جديدة بعدم ترك الورقة التركية الفاعلة سورياً بعيدة عن مجالات تفاهماتهم، ومن ثم محاولة تقليص الأثر الروسي في هذا الدور.
إن المطامع الإقليمية الدولية في سوريا ستبقى محور صراعات حالية ومقبلة ما لم تستطع قوى وطنية سورية إعادة النظر في استراتيجياتها السياسية السابقة حول طبيعة الصراع في سوريا وطرائق إدارته. وهذا يحتاج إلى زمن آخر لن يأتي قبل أن تستكمل دورة الصراع على سوريا أشواطها في هذا البلد، وُتنتجُ معادلةً سياسيةً قد تشكّل محور سياسات جديدة لإقليم الشرق الأوسط برمته.
المراجع
- مركز كارنيغي للشرق الأوسط – Carnegie
- المركز الديمقراطي العربي democraticac.de الاتجاهات العامة للمصالح الإيرانية 25/يوليو2016 – دينا محسن محمود عبده.
- المصدر السابق
- مركز كارنيغي للشرق الأوسط – Carnegie
- www.almowaten.net مطامع إيران في سوريا تتلاشى 6/8/2017
- عرب 48 arab 48 31/10/2010
- الجزيرة نت www.aljazeera.net 3/5/2016 الجولان المحتل – قرارات أممية وصمم إسرائيلي
- مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية acpss.ahram.org.eg سعيد عكاشة – مكاسب إسرائيل من الصراع في سوريا 29/مارس2016
- www.vetogate.com 28/10/2017
- الشرق الأوسط الجديد د. عمرو الديب
- الأخبار alakhbar.com داود خير الله دور العناصر الأجنبية في الأزمة السورية 4 نيسان 2012
- Arabic.sputniknews.com خفايا مشاريع إقليمية ودولية متضاربة في سوريا – سومر صالح ضيف حلقة 12 فبراير 2018
- www.alaraby.co.uk العربي الجديد- المعركة من أجل سوريا 27/7/2017 هاني الحوراني
- www.aljazeera.net المصالح الروسية في سوريا 13/2/2012 تقارير
- www.aljazeera.net الحرب الروسية في سوريا حدودها ومداها 4/10/2015
- democraticac.de السياسة التركية حيال الأزمة السورية 3 يونيو 2017 جلال السلمي
- Arabic.rt.com 20/2/2018
- www.alhayat.com الحياة – القضية الكردية في سياسة تركيا السورية – بدرخان علي
- المصدر السابق.
حقوق النشر والطبع ورقياً والكترونياً محفوظة لصالح مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإعلامي.