هيئة التحرير
تشهد الوقائع التي دارت في الحياة السياسية، أنها أدَّت في بعض الأحايين إلى ما هو غير منطقي، ولعلّ تحالف الأضداد بين (قلب تونس، والنهضة) تؤكد مرة أخرى أن للساسة حسابات أخرى، وأن إكراهات الفعل السياسي غالباً ما تقود السياسيين إلى ما لا يتفهمه عموم المواطنين، وحتى النخب المثقفة الذين يراهنون على أن تمضي الرياح كما تشتهي سفنهم، لكن ما لا يتفهمه الساسة في الوقت ذاته أن هذه التحالفات إن لم تعبر عن نبض الشارع هذا فسقوطه حتميّ، وبقائه واستمراره مجرد وقت. وهذا ما يعيد إلى الأذهان مرحلة الحملة الانتخابية التي تأسست في جزء منها على رفض كل حزب من الحزبين التعامل مع الآخر، ومن خلال هذا الطرح تَعمَّق الاصطفاف الشعبي والإعلامي مع هذا الطرف وذلك.
من هنا؛ لا يختلف اثنان في أن تحالف حركة «النهضة» مع حزب «قلب تونس»، وهو تحالف أملته إكراهات المشهد السياسي التونسي الجديد. ومما لا شك فيه أيضا هو أن هذا التحالف قد خيّب آمال كثير من التونسيين، سواءً من أنصار الحزب الأول أو الثاني، ولكنه بات أمراً واقعاً، ولكن ليس دائماً، وقد بدأ هذا التحالف يبرز للعيان منذ اللحظات الأولى الموالية للانتخابات التشريعية. إذ صوّت نواب «قلب تونس» إلى جانب نواب «النهضة» وائتلاف «الكرامة» لمصلحة، راشد الغنوشي، حتى يتبوأ رئاسة البرلمان الجديد. تلتها محطات أخرى أبرزها وآخرها إسقاط لائحة سحب الثقة من الغنوشي.
التاريخ يُعيد نفسه
وكانت الصورة متقاربة إلى حدّ كبير مع مناخات انتخابات 2014 التي كان عنوانها الأبرز، التناقض بين حزب «نداء تونس» الذي أسسه الرئيس الراحل، الباجي قائد السبسي، وحركة النهضة، وقد أظهرا تبايناً على مستوى البرامج والرؤى والأفكار، وحمي الوطيس بينهما في التصريحات، ولكنهما سرعان ما اختارا التوافق بعد اللقاء الشهير بين الشيخين. ومضت تونس في هذا النهج القائم على تحالف بين النهضة والنداء. وهنا نرى أن التاريخ يعيد نفسه اليوم.
والآن اختارت حركة النهضة فصل المسارات، ففي المسار البرلماني انقادت إلى التحالف مع غريم الأمس حزب قلب تونس ومع ائتلاف الكرامة من أجل رئاسة البرلمان. وبدأ التحالف يتجسد بوضوح من خلال العديد من المحطات الفاصلة والجلسات الهامة، وآخرها في جلسة التصويت على سحب الثقة من رئيس البرلمان و”النهضة” راشد الغنوشي.
الالتقاء بين النهضة وقلب تونس
حول هذا الموضوع، يقول النائب عن “النهضة” محمد القوماني، إن الالتقاء الذي حصل بين “النهضة” و”قلب تونس” كان منذ الجلسة الافتتاحية للبرلمان الحالي لاختيار رئيس له ونائبيه، إذ صوّت قلب تونس وائتلاف الكرامة إلى جانب “النهضة” وتم اختيار راشد الغنوشي رئيساً، كما صوّتت “النهضة” لاختيار سميرة الشواشي عن “قلب تونس” نائبة لرئيس البرلمان، مشيراً إلى أن هذا الالتقاء استمر وأثبتت الأشهر أن عوامل التقارب أكثر من التباعد.
واشار “القوماني” إلى أن العديد راهنوا على فك الارتباط محاولين خلق توترات بين الطرفين، لا سيما عندما شاركت “النهضة” في حكومة إلياس الفخفاخ، وتم إقصاء قلب تونس وزعموا أن لـ”النهضة” حصةٌ في الحكومة وأخرى في المعارضة، معتبراً أن المناورات فشلت وتعزز الالتقاء البرلماني بين “النهضة” و”قلب تونس” ومع “ائتلاف الكرامة” أيضاً. مبيناً أن التقارب ظهر في إسقاط لوائح تهدف إلى ارباك البرلمان ومنها لائحة رئيسة الحزب “الدستوري الحر” عبير موسي حول ما سمي رفض التدخل الخارجي في ليبيا، مضيفاً أن كل المحطات البرلمانية عززت التقارب والالتقاء بين الحزبين الأول والثاني في الانتخابات التشريعية.
ويعتبر التحالف بين “النهضة” و”قلب تونس” قديم وهو تحالف برلماني استراتيجي فرضته المصلحة المشتركة بين الحزبين. حيث لا أحد ينكر أن “قلب تونس” أوصل الغنوشي إلى رئاسة البرلمان وساهم في بقائه أيضاً. وحسب المعطيات المتوفرة، فإنه يتوقع أن يستمر هذا التحالف لا سيما إذا بقي الخطاب المعادي ” لقلب تونس”، فحركة النهضة هي تقريباً الحزب الوحيد الذي غيّر خطابه وموقفه من “قلب تونس” في حين حافظت بقية الأحزاب على عدائها لهذا الحزب، وعادة ما تغلب النزعة الثورية على خطاباتها. كما أن رئيس “قلب تونس” نبيل القروي يحتمي بـ”النهضة” فهي بمثابة صمام الأمان له، وبالتالي لن يتخلى عن تحالفه الاستراتيجي معها، كما أن “النهضة” بحاجة إلى هذه الكتلة البرلمانية وإلى أكبر عدد ممكن من النواب، وبالتالي فالمصلحة متبادلة. لكن ما قد يضرب هذا التحالف هي الاستقالات الممكنة من “قلب تونس” والرافضة لتصويت الحزب مع قرار بقاء الغنوشي في رئاسة البرلمان والتقارب مع “النهضة”، ولكن خلافاً لذلك وعلى المدى البعيد، فإن هذا التحالف مرشح ليستمر، لكن بحكم العداء للآخرين وليس بحكم قوته ومتانة أرضيته.
تحالف هجين ومشبوه
في المحصلة، فإن من البديهي القول إن السياسة تقوم على قواعد، أهمها أن لا صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، وأنه في السياسة العبرة بالنتائج على الأرض، باعتبار أنها فن إيجاد التوافقات والتسويات والمصالح المشتركة بين الخصوم، أي أنه من حق كل الأحزاب تغيير مواقفها حسب اللحظة السياسية، وهو ما تطلبه البراغماتية. لكن أن يكون مفاجئاً، وأن يصل إلى حد التغير 180 درجة، اي من العداوة مباشرة إلى التحالف، فلا يمكن أن يكون ذلك غير تحالف مشبوه، وهجين! تحركه الهواجس المشتركة من فتح ملفات الفساد المرتبطة بنبيل القروي، وملفات الإرهاب المتعلقة بحركة النهضة ورئيسها راشد الغنوشي.
يقال إن العلاقة بين الغنوشي ونبيل القروي، تعتبر استراتيجية، وكلمة «يقال» يمكن وضع تحتها إشارات استفهام عديدة، لأنها تجسدت في تحالف برلماني التقى على هدف الإطاحة بحكومة إلياس الفخفاخ، والاشتراك في معارضة الرئيس قيس سعيد. وينطلق الحزبان برؤية واحدة في المشاورات الحكومية مع رئيس الحكومة المكلف، هشام المشيشي، وفق ما أكده نور الدين البحيري، رئيس كتلة حركة النهضة، أي رؤية تعكس مدى ارتباط المصالح المتبادلة بين الإخوان والقروي.
تبادل الأحضان «المؤقتة»
تكشف المعادلة عن ذاتها، وتتجلى بوضوح أكثر حين يعي الجميع، أن رئيس حزب “قلب تونس”، ارتمى في أحضان حركة “النهضة” بحثاً عن الحماية القضائية، والاستفادة من نفوذ راشد الغنوشي، داخل بعض الدوائر القضائية.
لكن “القروي” لم يدرك أنه اختار الانتحار السياسي بتقاربه مع حركة “النهضة”، وهو ما عجل باستقالة 12 نائباً من كتلته البرلمانية. ولعل سلسلة الاستقالات ستتوالى في الأيام المقبلة بعد امتناع القروي عن سحب الثقة من راشد الغنوشي.
وقد استقالت كردة فعل على تقارب حركة (النهضة، وقلب تونس) النائبة ليليا بالليل، على إثر سقوط لائحة سحب الثقة من رئاسة راشد الغنوشي للبرلمان التونسي في 30 تموز/ يوليو الماضي. وقد بدأ حزب “قلب تونس” الذي فاز بـ38 مقعدا في التلاشي تدريجياً بعد خروج قيادات بارزة منه على غرار الكاتب عبد العزيز بالخوجة، والنائب حاتم المليكي، وفقدانه للمقاعد الأولى في استطلاعات الرأي. ما يعني أن تونس أمامها استحقاقات مهمة قد تغير من معادلاتها السياسية وتحالفاتها المؤقتة.